الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد

اشارة

نام كتاب: الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى

تاريخ وفات مؤلف: 1426 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 2

ناشر: مؤسسه انصاريان

تاريخ نشر: 1412 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

ملاحظات: شرح استدلالى عروة الوثقى سيد كاظم يزدى

الجزء الأول

[مقدمة التحقيق]

الإهداء

الى حجة اللّه. و خليفته، و بقية اللّه في أرضه، إلى من له الولاية المطلقة الإلهية، إلى ناشر لواء العدل، الى العدل المجسم الى الامام المهدي المنتظر، حجة بن الحسن العسكري، عجل اللّه فرجه الشريف و جعلني من كل مكروه فداه.

أقول بلسان الحال و المقال يٰا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنٰا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنٰا بِبِضٰاعَةٍ مُزْجٰاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنٰا إِنَّ اللّٰهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ «1».

تصدق علينا بالقبول. و ان تغمض عما فيه من الاشتباه و القصور و أوف لنا الكيل بان تشفع لنا عند اللّه تعالى شفاعة حسنة مقبولة.

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة و في كل ساعة وليا و حافظا و قائدا و ناصرا و دليلا، و عينا حتى تسكنه أرضك طوعا و تمتعه فيها طويلا اللهم اجعلني من أنصاره و أعوانه و الذابين عنه و المستشهدين بين يديه آمين يا رب العالمين.

المؤلف

______________________________

(1) يوسف 12: 88.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 7

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

كلمة المؤلف

الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين، و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الان الى قيام يوم الدين.

و بعد فمن منن اللّه تعالى على هذا العبد المفتاق الى ربه الغنى السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي ابن سماحة فقيه أهل البيت آية اللّه السيد مرتضى الحسيني اللنگرودي تغمده اللّه بغفرانه: ان وفقه للبحث و المذاكرة حول السفر النفيس و الكتاب المنيف، و هو كتاب العروة الوثقى، تصنيف فقيه عصره، و وحيد دهره سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس اللّه سره) فأستعين منه

تعالى و ابتهل اليه: ان يوفقني و يلهمني الصواب و أعوذ به تعالى: ان أضل، أو أضل من يحضر بحثي و مذاكرتى، و من يطالع ما يصدر منى، و يمثله قلمي القاصر.

و كان شروع البحث و المذاكرة يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الثاني من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و خمس و تسعين (1395) هجرية قمرية، في قم المحمية حرم أهل البيت. و عش آل محمد (عليهم السلام).

ثم انه بعد ما انتهينا في مباحثتا الأصولية إلى مبحث الاجتهاد و التقليد رأينا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 8

أولا: ان يجرى البحث على ما هو المتعارف لدى المشايخ في هذا البحث، و لكن بعد المشورة مع الأعزاء، و شركاء البحث تمايلوا الى جعل محور البحث فروع تقليد هذا الكتاب المستطاب لاشتماله على كثير من فروع التقليد المبتلى بها و جملة من مسائل الاحتياط، و لكن مع التعرض لبعض مسائل الاجتهاد التي لم يتعرض لها المصنف قدس لكون كتابه رسالة عملية.

فحمدت اللّه على هذه الموهبة فابتهل اليه حيث سهل لنا تجديد العهد بما أسلفناه، و تحريره، و تهذيبه، و اضافة ما بدئ، أو يبدوا إن شاء اللّه خلال البحث و المذاكرة، فإن وقع موقع القبول فهو من فضل اللّه تعالى يؤتيه من يشاء، و الا فمن قصور الباع و قلة البضاعة فإن كل إناء يترشح بما فيه، و المعروف بقدر المعرفة.

و على كل أسئله تعالى ان يمن علىّ بقبول حسن و يجعله ذريعة يرتقى بها لنيل بعض المقاصد و المطالب، و يجعله ذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم و سميته ب- الدر النضيد

في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد- انه خير موفق و معين.

قم المشرفة- محمد حسن المرتضوي اللنگرودي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 9

[مقدمة الماتن]

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على محمد خير خلقه و آله الطاهرين.

و بعد فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربه محمد كاظم الطباطبائي: هذه جملة مسائل مما تعم به البلوى (1)، و عليها الفتوى جمعت شتاتها، و أحصيت متفرقاتها عسى ان ينتفع بها إخواننا المؤمنون و يكون ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون، و اللّه ولى التوفيق.

______________________________

(1) أقول: و قد صار بعض مسائله في زماننا خارجة عن محل الابتلاء كالأحكام المتعلقة بالعبيد و الإماء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 10

..........

______________________________

أقول: و ليعلم ان بعض المسائل التي ذكرت في الكتاب المستطاب و ان كان مما يبتلى بها حال تصنيف الكتاب الا انه صار في زماننا خارجا عن محل الابتلاء، كالأحكام المتعلقة بالعبيد و الإماء المذكورة في كتاب النكاح و غيره.

ثم ان المسائل المبتلى بها ليست على نسق واحد، فان فيها ما يكون كثير الدوران و هو واضح إلى النهاية و منها ما يكون قليل الدوران نادرا جدا ملحقا بالعدم كبعض فروع العلم الإجمالي، و قسم ثالث متوسط بينهما يجده المتتبع في الفقه.

و لا يخفى انه لم يرد قدس بقوله و عليها الفتوى: الفتوى المقابل للاحتياط، و الاشكال، و التوقف، لأنه ليس له قدس سره و لا لغيره من الفقهاء، فتوى صريح في جميع المسائل و الفروع الفقهية فربما يناقشون في المسئلة و يشكل عليهم أمرها، و يتأملون فيها إلى ان يحتاطوا فيها، بل المراد:

ان المسائل المذكورة في كتابه الشريف معنونة بين الأصحاب و مطرح لانظارهم الشريفة.

و قوله قدس: جمعت شتاتها و أحصيت متفرقاتها: يشير الى تحمل المشاق في تدوينه و هو كذلك، و لعمر الحق ان كتابه هذا من أحسن ما صنف في بابه، حاو لفروع لا تجد كثيرا منها في كتب الأصحاب إلا بعد الفحص و التنقيب كيف لا؟!! و هو مصنف الفقيه المقدم في عصره فقيه أهل البيت رئيس الملة و الدين، و من خضع له الموافق و المخالف- و قد قيل في حق الكتاب و مصنفه: انه خير مصنف لخير مصنف.

وليته قدس يتم على منواله سائر أبواب الفقه، أو يتمه بعض المشايخ اللاحقة تتميما للفائدة، و من المؤسف جدا وقوع كتابه القيم ناقصا مقتصرا على بعض كتب الفقهية كما هو الشأن في كثير من الكتب الفقهية لأصحابنا المتأخرين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 11

..........

______________________________

و بالجملة قد أكب على كتابه القيم منذ تدوينه فحول العلماء، و أكابرهم فجعلوه محور ابحاثهم الفقهية و دراساتهم العميقة، و افكارهم القيمة، فمنهم من اكتفى بتدريسه و المذاكرة حوله، و منهم من علق عليه و تعرض لمواقع النظر بعنوان التعليقة و التحشية، و منهم من لم يكتف بذلك الى ان شرحه شرحا مختصرا مفيدا، أو مفصلا غير ممل، فجزاهم اللّه عن الإسلام و اهله خير الجزاء. اللهم متّعنا بانظارهم الشريفة و آرائهم السديدة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 13

[مسئلة 1- وجوب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط على المكلف في العبادات و المعاملات]

اشارة

مسئلة 1- يجب (1) على كل مكلف (2) في عباداته، و معاملاته (3) ان يكون مجتهدا، أو مقلدا، (4) أو محتاطا (5)

______________________________

(1) بحكم العقل الارتكازي.

(2) ملتفت.

(3) المراد بالمعاملة حيث تطلق قبال العبادة

معناها الأعم فتعم السياسيات و العاديات، فالمراد بها جميع ما لا يعلم حكمه من الأفعال، و التروك المبتلى بها عادة و لا يحتاج الى التقييد كما توهم.

(4) يعني في غير اليقينيات و الضروريات كما يصرح به في المسئلة السادسة.

(5) المراد بالاحتياط هنا الإتيان بجميع ما يعتبر دخله فعلا أو تركا فيكون في عرض الاجتهاد و التقليد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 14

..........

______________________________

أقول: المراد بالمكلف من وضع عليه قلم التكليف و هو العاقل البالغ فان العقل، و البلوغ معتبران في جميع التكاليف الشرعية.

يدل على ذلك مضافا الى نفى الخلاف بل الإجماع المستفيض بل المتواتر، بل اتفاق المسلمين: الكتاب العزيز، و السنة المستفيضة، بل المتواترة. و قد أورد شيخنا الحر العاملي (ره) في البابين- الثالث و الرابع- من أبواب مقدمات العبادات من كتاب الوسائل اخبارا يستفاد منها اشتراط العقل في تعلق التكليف، و في بعض أبواب الشهادة، و الوصايا، و الحجر، و ميراث الأزواج، و الوقوف، و الصدقات و مقدمات النكاح الى غير ذلك من الأبواب: اخبارا يستفاد منها اشتراط التكليف بالاحتلام، أو إنبات الشعر الخشن على العانة، أو إكمال الذكر خمس عشرة سنة، و الأنثى تسع سنين.

و قد تعرضنا حال البحث و المذاكرة للأخبار الواردة في المسئلة، و التوفيق بين متعارضاتها، أو الترجيح للمختار منها، و كلمات الأصحاب و ما هو المختار فيها.

البلوغ و علاماته

و كان يعجبني إيراد ما ألقيناه في مجلس المذاكرة في طليعة هذه الرسالة، و لكن حيث طال البحث بنا حولها فصارت رسالة في حد نفسها طوينا عنها كشحا لئلا يمل انظار المراجعين في هذا الكتاب، فان ساعدنا المجال نحررها و نجعلها في معرض الاستفادة إن شاء اللّه تعالى.

و

لكن بدا لنا بلحاظ ان ما لا يدرك كله لا يترك كله- إيراد حاصل ما أوردناه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 15

..........

______________________________

في تلك الرسالة فلعله لا تخلو عن فائدة و هو: ان المراد ببلوغ الإنسان بلوغ الحلم و الوصول الى حد النكاح، بسبب تكون المنى و تحرك الشهوة و النزوع الى الجماع و إنزال الماء الدافق الذي هو مبدء، خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربانية فيه، بل و في غيره لبقاء النوع، فالبلوغ كمال طبيعي للإنسان يبقى به النسل، و يقوى معه العقل، و هو حالة انتقال الأطفال من الصباوة إلى حد الكمال، و في سائر الحيوانات حالة طبيعية لبقاء النوع بل في النباتات أيضا حيث انها قد تكون قابلة لتوليد المثل و اثمار الثمرة في مدة معينة، و مثلها لا تكون مثمرة في تلك المدة.

و كيف كان فمن حصل له تلك الحالة حصل له البلوغ و يترتب عليه الآثار المترتبة على البلوغ و ان لم يصل الى السن المقرر شرعا فاذا قطع بعدم وصوله الى ذلك الكمال الطبيعي فلا يترتب عليه الآثار المترتبة على البلوغ و ان بلغ خمس عشر سنة فتأمل.

فالملاك كل الملاك في البلوغ هو حصول ذلك الكمال الطبيعي للطفل فمن حصل له ذلك يصير موضوعا للأحكام المرتبة على البالغ و من لم يحصل له ذلك و لو المرتبة النازلة فلا.

و حيث ان العلم بتحقق ذلك الكمال الطبيعي و حصوله للطفل، و من يكون هو بين أيديهم قلما يتفق الأبعد مضى مدة لا يستهان بها جعل الشارع الأقدس أمارات و علائم لتشخيص البلوغ.

فمنها: إنبات الشعر الخشن على العانة التي هي حول الذكر و القبل للذكر و الأنثى.

و

منها: خروج المنى- و هو الماء الذي يخلق منه الولد- من الموضع المعتاد مطلقا ذكرا كان أو أنثى، يقظة كان أو في المنام: و قد عبر عن خروج المني في اخبار الباب بالاحتلام.

و منها: إكمال الذكر خمس عشرة سنة، و إكمال الأنثى تسع سنين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 16

حكم العقل بلزوم إرسال الرسل و بيان الأحكام

______________________________

و على كل كما قرر في محله ان حكم العقل و قاعدة اللطف أوجب على اللّه سبحانه إرشاد العباد الى مرضاته و الفوز بلقائه بإرسال الرسل، و تبليغ الأحكام، و لئلا يكون للناس على اللّه حجة و قد أرسل رسلا مبشرين، و منذرين و كان أفضلهم و خاتمهم نبينا محمد بن عبد اللّه «صلوات عليه و آله و عليهم أجمعين» قال اللّه تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ «1».

و قد قام الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بأعباء الدين و نشر الأحكام، و تتميم مكارم الأخلاق طيلة حياته المقدسة المباركة الى ان خطب في حجة الوداع.

فقال فيما قال: يا ايها الناس و اللّه ما من شي ء يقربكم من الجنة و يباعدكم من النار الا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقربكم من النار و يباعدكم من الجنة الا و قد نهيتكم عنه إلخ «2».

و لم يكتف بذلك الا و قد نصب ابن عمه على بن أبي طالب صلوات اللّه و سلامه عليهما يوم الغدير قائدا للأمة و اماما مفترض الطاعة بعد مماته لئلا تقع الأمة الإسلامية في الحيرة و الضلالة بل يصلوا إلى أعلى مدارج النور و العظمة

فأمر صلوات اللّه عليه برجوعهم اليه- سلام اللّه عليه- في جميع شئونهم الفردية و الاجتماعية.

ثم انه (عليه السّلام) بإشارة و تعيين منه (صلوات اللّه عليه) نصب أئمة أهل البيت الأنثى عشر أئمة الهدى و أعلام التقى، و العروة الوثقى واحدا بعد واحد الى ان انتهى الأمر إلى الحجة بن الحسن العسكري، و بقية اللّه الأعظم عليه و على آبائه

______________________________

(1) الجمعة 62: 2.

(2) أصول الكافي باب الطاعة و التقوى ج 2 ص 74.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 17

..........

______________________________

الهداة المهديين أفضل صلوات المصليين، و جعلني من كل مكروه فداه اللهم عجل فرجه الشريف و اجعلني من أنصاره و أعوانه. فقاموا صلوات اللّه عليهم أجمعين بإحياء الشريعة و نشر الأحكام و بث العلوم حسبما اقتضته بقدرتهم و امكاناتهم حسبما قرر في محله.

وجوب التعرض للأحكام المجعولة

و بعد إتمام الحجة بإرسال الرسول الأعظم و نصب ولاة الأمر، صلوات اللّه عليهم أجمعين، و بيان معارف الدين و نشر أحكام الشريعة المقدسة ببركات أنفاسهم المقدسة، فلا بد للأمة الإسلامية من القيام بالوظيفة بامتثال ما وجب عليهم و الانزجار عما نهوا عنه لما تقرر في محله: من ان الناس غير مهملين و لم يتركوا سدى. فلا بد لهم من تحصيل المؤمّن و التعرض لتلك الأحكام، لان في ترك القيام بالوظيفة، و ترك التعرض لها احتمال الوقوع في الضرر المحتمل لو لم يكن مظنونا.

و حكم العقل بدفع الضرر المحتمل مما عليه غريزة كل حيوان فضلا عن الإنسان و لذا ترى ان الشاة مثلا بمجرد إحساس وجود الذئب، أو احتماله لا تبقى مكانها بل تفر و تتبعّد، و كذا كل حيوان إذا أحس الضرر على نفسه من ناحية يدفعه عنها

و هذا واضح لا سترة فيه.

أنحاء التعرض للأحكام المجعولة

و لا يخفى ان القيام بالوظيفة للاحكام المعلومة بالإجمال لا بد و ان يكون بأحد أمور:

الأول: العلم الوجداني كالاستماع من لفظ المعصوم عليه السّلام، أو قيام خبر متواتر أو خبر واحد محفوف بالقرائن القطعية و نحوها.

الثاني: العلم التعبدي و ما علم حجيته شرعا- سواء كانت حجة على الحكم الواقعي، و امارة كاشفة عنه، أو حجة في مرحلة الظاهر، و ناظرة إلى تعيين الوظيفة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 18

..........

______________________________

في ظرف الجهل و الشك في الواقع- و هذا حال الاجتهاد.

الثالث: الاستناد في أفعاله و تروكه الى قول الغير و نظره الذي علم حجيته- و لو بحكم العقل الارتكازى- و هذا هو التقليد.

الرابع: الإتيان بكل ما يحتمل وجوبه و ترك ما يحتمل حرمته و هذا هو الاحتياط.

وجوه حكم العقل بلزوم التعرض و بيان الفرق بينها

فظهر ان القيام بحكم العقل بدفع ضرر العقاب المحتمل بالنسبة إلى التكاليف المعلومة إجمالا في الشريعة المقدسة في غير الضروريات و القطعيات، اما بالاجتهاد أو التقليد، أو الاحتياط، فلا بد و ان يكون المكلف الملتفت اما مجتهدا أو مقلدا، أو محتاطا.

و قريب من قاعدة نفى الضرر ما يقال في مدرك ذلك: من ان حكم العقل بذلك من باب قانون العبودية و المولوية بلحاظ ان في مخالفة المولى خروجا عن رسم العبودية و يصير بذلك ظالما لمولاه و العقل مستقل بقبحه.

و بعبارة اخرى ان العقل بعد ثبوت المبدء و إرسال الرسل و تشريع الشريعة، و بعد عدم كون العبد مهملا يدرك و يذعن بان عدم التعرض لامتثال أوامره، و الانزجار عن نواهيه خروج عن زي الرقيّة و رسم العبودية، و هو ظلم يستحق بذلك الذم و المؤاخذة من قبل مولاه فلا بد له من التعرض

لها و ذلك بأحد الأمور المذكورة و لا يخفى ان نطاق دائرة هذا الوجه أضيق من نطاق دائرة دفع الضرر لان هذا مخصوص بمحيط العقلاء و أرباب العقول بخلاف القاعدة فإنها تعم سائر الحيوانات و قد يقرر وجوب التعرض للاحكام المعلومة إجمالا بالأمور المذكورة بمناط حكم العقل بوجوب شكر المنعم بلحاظ ان في ترك التعرض بما ذكر ترك لشكر المنعم على الإطلاق، و هو قبيح عقلا و يكون معرضا لزوال النعمة و نزول النقمة، و العقل كما يحكم بدفع الضرر فكذلك يحكم بوجوب شكر المنعم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 19

..........

______________________________

ربما يناقش في ذلك: بان حكم العقل بذلك ان كان بلحاظ ان ترك شكر المنعم مظنة زوال النعمة و نزول النقمة فيدخل تحت قاعدة نفى الضرر المحتمل فليست قاعدة مستقلة، و الا فليس للعقل حكم إلزامي بمناط وجوب شكر المنعم.

و على تقدير وجوب شكر المنعم فإنما هو في الجملة لعدم ما يدل على وجوب كل ما هو شكر للمنعم و بالنسبة إلى كل منعم فلا ينفع الاستدلال به.

و لكن يجاب بان ترك شكر المنعم و ان كان معرضا لزوال النعمة الا ان حكم العقل بقبحه ليس لدخوله تحت قاعدة نفي الضرر المحتمل بل هو مما يستقل به العقل و يرى ان ترك شكر المنعم الذي أعطاه أنواع النعم و المواهب بنفسه قبيح مستنكر خصوصا إذا كان في تركه الشكر، كفران النعمة فتدبر.

و العقل و ان كان لا يحكم بوجوب كل ما هو شكر للمنعم و انما يحكم بحسنه الا ان المقام من باب ما يجب فيه الشكر، و ذلك لان المكلف إذا رأى نعم اللّه الظاهرة و مواهبه الباطنة غير

المحدودة على شخص، يخضح له و يحكم عقله بلزوم شكره تعالى بل يرى ان ترك شكره تعالى يؤدى الى كفران النعمة. و من الواضح ان قيام العبد بوظائف العبودية من أعظم مصاديق شكر المنعم. و قد أشرنا ان ذلك لا يخلو عن واحد من الثلاثة فتدبر و اغتنم.

و ان شئت مزيد توضيح فنقول فرق بين المناطين فان مناط حكم العقل بدفع الضرر فطري جبلي ليس مختصا بالعقلاء و ذوي الألباب بل يعم سائر الحيوانات ضرورة ان الحيوان مهما أمكن يدفع عن نفسه الضرر الذي احسّه أو احتمله.

و لم يكن حكم العقل هذا مبنيا على مسئلة التحسين و التقبيح العقليين بخلاف مناط حكم العقل بوجوب شكر المنعم فإنه غير فطري و يكون مختصا بذوي العقول، و مبنيا على مسئلة التحسين و التقبيح العقليين.

فعلى هذا لا وجه لإرجاع حكم العقل بلزوم شكر المنعم الى حكمه بلزوم دفع الضرر بدعوى انه ليس همّ العقل الا التحذر و الاتقاء عن ضرر المخالفة و العقوبات

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 20

..........

______________________________

المترتبة عليها، و ذلك لما أشرنا من اختلاف المناطين جهة و موردا.

و مجرد انتهاء حكم العقل بوجوب شكر المنعم بنحو الى حكم العقل بدفع الضرر بلحاظ ان ترك شكر المنعم يمكن ان يؤدى الى الضرر لا يوجب ان يكون حكم العقل فيهما بملاك واحد.

المراد بالحكم العقلي الفطري

كما ان حكم العقل بامتناع اجتماع الضدين برأسه في عرض حكم العقل بامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما و ان أمكن إرجاعه إليه بنحو بلحاظ ان وجود أحد الضدين ان لم يمتنع اجتماعه مع الضد الأخر- إذا كانا ضدين لا ثالث لهما- فلا بد و ان يجتمع مع عدمه فيلزم اجتماع

النقيضين فتدبر.

ثم انه لا يخفى ان المراد بالفطرى هنا هو الذي جبّل عليه الإنسان بل سائر الحيوانات و ليس معناه ما اصطلح عليه في المعقول و لعله واضح لا يحتاج الى البيان.

و من العجيب مناقشة المحقق الأصفهاني (قدس سره) في ذلك حيث قال: ان الفطري المصطلح عليه في فنه هي القضية التي قياسها معها ككون الأربعة زوجا، لانقسامها الى متساويين و ما هو الفطري بهذا المعنى هو كون العلم نورا و كمالا للعاقلة في قبال الجهل لا لزوم التقليد عند الشارع و العقلاء، و لا نفس رفع الجهل بعلم العالم، و الفطري بمعنى الجبلة و الطبع هو شوق النفس الى كمال ذاتها، أو كمال قواها لا لزوم التقليد «1».

و حاصل الإيراد هو ان الفطري هي القضية التي تكون قياسها معها و لا يحتاج الى النظر و الاستدلال كزوجية الأربعة و واضح ان حكم العقل المزبور ليس كذلك.

و أنت خبير بأنه خروج عن طور البحث و مناقشة في الاصطلاح و لا شبهة في ان حكم العقل بلزوم رفع المضار الأخروية، أو المضار المهمة الدنيوية كتلف النفس، أو الأطراف مما جبّل عليه الإنسان بل كل حيوان فتدبر.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 21

..........

______________________________

و بالجملة ما افاده جمود على الاصطلاح الدارج عند أرباب المعقول، و تكلف و تعسف غير وجيه في إدخال مصطلحاتهم في العلوم المبتنية على الأفهام الساذجة العرفية غير المشوبة بالاصطلاحات. بداهة ان المراد بالفطرى هنا معناه العرفي، و هو الجبلي الارتكازي، ضرورة أن الاتقاء من الضرر ارتكازي لكل ذي شعور و درك من سائر الحيوانات فضلا عن الإنسان، فالمراد بالفطرى هنا قبال حكم العقل بالنسبة

إلى شكر المنعم غير المبنى على التحسين و التقبيح العقليين.

عدم اختصاص حكم العقل بصورة العلم الإجمالي

و لا يخفى ان حكم العقل بلزوم الاجتهاد، أو التقليد، أو الاحتياط ليس مخصوصا بما إذا كان للمكلف علم إجمالي بوجود تكاليف إلزامية. بل تعم حتى بعد انحلال العلم الإجمالي بالظفر بجملة منها بالاجتهاد، أو التقليد لما تقرر في محله:

من عدم جريان الأصل النافي للتكليف في الشبهات الحكمية بل مطلقا و لو في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، فمجرد احتمال التكليف الإلزامي يكفي في تنجزه و لا يصح له مخالفته إلا إذا كان هناك مؤمّن عقلي فتدبر.

فظهر بما ذكرنا ان حكم العقل بتنجز الأحكام الواقعية على كل مكلف: اما للعلم الإجمالي بها، أو لاحتمالها فيلزم الخروج عن عهدتها اما بالاجتهاد، أو التقليد أو الاحتياط.

ليست الأمور الثلاثة في عرض واحد موردا للتخيير

اشارة

ثم ان الاجتهاد و التقليد و الاحتياط ليست في عرض واحد موردا للتخيير لكل مكلف.

ضرورة أن العامي الفاقد لملكة الاجتهاد لا يمكنه الاجتهاد كما ان من اجتهد و عرف حكم المسئلة لا معنى لان يتعبد بنظر الغير- سواء كانت فتوى الغير مخالفة لما اجتهد أو موافقا- و ذلك واضح.

نعم الواجد لملكة الاستنباط إذا لم يستنبط فعلا ففي جواز تقليده للغير كلام فعن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 22

..........

______________________________

جملة من الأصحاب عدم جواز التقليد له بل يجب عليه الاجتهاد أو العمل بالاحتياط، و عن بعض التأمل في ذلك، و عن ثالث جواز التقليد له، و سنتعرض ما هو الحق عندنا فارتقب حتى حين.

و اما الاحتياط فهو في عرضهما بمعنى ان كلا من المجتهد و العامي مخير في أداء الوظيفة بين العمل بالاحتياط و بين الاجتهاد أو التقليد، و ان كانت كيفية احتياطهما متفاوتة لأن شأن العامي العارف بموارد الاحتياط هو الاحتياط في خصوص الفتاوى، و اما من

له ملكة الاجتهاد فيحتاط فيها و في غيرها كما ستتضح الحال عن قريب

توهم عدم كون الاحتياط في عرض الاجتهاد و التقليد و دفعه

ربما يتوهم ان الاحتياط في غير العبادات و فيها إذا لم يستلزم تكرار جملة العمل و ان كان حسنا و يحرز به الواقع ضرورة انه إذا شك في اعتبار تعدد الغسل في حصول طهارة الثوب المتنجس بالبول مثلا يجوز له الاحتياط بتكرر الغسل الى ان يحصل له العلم بالطهارة، و كذا إذا شك في وجوب السورة في الصلاة يجوز قراءتها من غير فرق بين صورة التمكن من العلم الوجداني بالحكم أو العلم التعبدي به أولا، و لا خلاف و لا إشكال في ذلك.

الا انه لا يكاد يحرز الواقع بالاحتياط في العبادات إذا استلزم تكرار جملة العمل مع التمكن من الامتثال التفصيلي و ذلك لأنه من المحتمل اعتبار قصد الوجه أو التمييز، أو الجزم بالنية في المأمور به، فيقدم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي، و لذا يحكى عن المشهور كما سيجي ء بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد.

فحينئذ كيف يحرز الواقع بالاحتياط فلا يكون الاحتياط في عرض الاجتهاد و التقليد بقول مطلق.

و لكنه يدفع أولا: بما سيجي ء في ذيل المسئلة الثانية من عدم اعتبار قصد الوجه في المأمور به و عدم اعتبار الجزم بالنية، و عدم تقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي و ثانيا: بأنه لو سلم ذلك فغاية ما يقتضيه هي المناقشة في الصغرى و هو عدم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 23

..........

______________________________

تحقق الاحتياط في العبادات مطلقا، أو فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل، و الكلام في جوازه انما هو بعد إمكانه، فمهما أمكن إحراز المأمور به بنحو من الأنحاء و إتيانه بجميع المحتملات فلعل جوازه

من الأحكام التي قياساتها معها لأنه مما يقطع جواز الامتثال به.

توهم عدم كون الاجتهاد و التقليد في عرض الاحتياط و دفعه

و لعله لذا ربما يتوهم بان المتمكن من الاحتياط ليس له الامتثال بالاجتهاد أو التقليد بل هما في طول الامتثال به لعدم كونهما موجبين للقطع بالامتثال و انما يوجبان الظن به، و معلوم ان الامتثال القطعي مهما أمكن يقدم على الظني منه.

و ان كان فيه ما فيه لأنه كما قرر في محله انه بعد قيام الدليل على اعتبار أمارة ظنية لا يرى العقل فرقا بين الامتثالين كما لا يخفى.

مضافا إلى ان إيجاب الاحتياط موجب للعسر و الحرج المنفيين في الشريعة بل ربما يوجبان اختلال النظام و هو منهي عنه فيها.

فتحصل انه لا ينبغي الإشكال في جواز الاحتياط في الجملة و انه في عرض الاجتهاد و التقليد في الخروج عن عهدة التكاليف الثابتة في الشريعة المقدسة، و لا فرق في ذلك بين العامي العارف بموازين الاحتياط و العالم بها.

نعم فرق بينهما من حيث ان شأن العامي الاحتياط بالنسبة إلى خصوص الفتاوى الموجودة لكون وظيفته الأخذ بفتاويهم، و اما العالم فيحتاط فيها و في غيرها فتدبر.

و من لطيف ما في المقام ما عن كشف الغطاء:

«ان للناس بطريق الاحتياط و طريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى و الأحكام و يسهل الخطب على من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد».

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 24

المراد من التخيير بين الأمور الثلاثة

______________________________

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا تعلم ان مراد المصنف (قدس سره) بقوله يجب على كل مكلف إلخ: ان المكلف في مقام الأمن من العقاب و فراغ الذمة عما اشتغلت به لا يخلو غالبا عن واحد من الأمور الثلاثة لا انه يجب على كل واحد من المكلفين على ما هم عليه من الاختلاف، التخيير العقلي بأحد الأمور الثلاثة.

مورد التخيير بين الأمور الثلاثة

ثم لا يخفى: ان مورد التخيير بين الأمور الثلاثة في غير اليقينيات و الضروريات لما سيجي ء منه في المسئلة السادسة.

و ذلك لأنه إذا حصل للمكلف علم بالواقع فلا مجال للتعبد بالأمارة- سواء كانت فتوى الغير أو غيرها من الأمارات- بل و لا التعبد بالأصل أيضا ضرورة اختصاص حجية الأمارة أو الأصل بمن جهل الواقع و شك فيه، و من حصل العلم به لا معنى للتعبد لا بالمعلوم لأنه تحصيل للحاصل بوجه بشيع و لا بخلافه.

فلا فرق بين الامارة و الأصل الأمن حيث أخذ الشك موردا في باب الأمارات و موضوعا في باب الأصول، و مع العلم لا مورد للأول كما لا موضوع للثاني.

فظهر انه فيما إذا حصل العلم الوجداني لا مجال للاجتهاد و التقليد بل و لا الاحتياط.

المراد من اصطلاح العبادات و المعاملات

ثم ان المراد بالعبادة العمل الذي يعتبر فيه قصد القربة و يقابله المعاملة و هي ما لا يعتبر فيها ذلك و ان كان دخيلا في كماله فتعم المعاملة كل فعل أو ترك صادر من المكلف و ان لم تكن معاملة بالمعنى الأخص (و هي ما تتقوم بالطرفين).

و ذلك لان المعاملة تطلق تارة و يراد بها ما تقابل العبادة فتعم السياسيات و العاديات و ذلك عند ما تذكر المعاملة وحدها قبال العبادة كما في تقسيم الفقه أحيانا إلى العبادات و المعاملات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 25

..........

______________________________

و قد تطلق و يراد منها خصوص ما تتقوم بالطرفين فلا تشمل السياسيات و العاديات و ذلك عند تقسيم الفقه أحيانا إلى العبادات و المعاملات و السياسيات.

و قد جرت اصطلاحهم ذلك في معنى المعاملة في كلماتهم كما حكى التنصيص بذلك عن صاحب الجواهر (قدس سره).

فاذا المراد بالمعاملة

عند تثنية أبواب الفقه الى العبادات و المعاملات كما في المتن غير المراد بها عند تثليث أبوابها إلى العبادات و المعاملات و السياسيات فالمعاملة المذكورة في المتن حيث وقعت قبال العبادة تعم جميع أفعال المكلف و تروكه غير المتوقفة على قصد القربة: سواء كان مما يتقوم بإنشاء الطرفين و هي المعاملة بالمعنى الأخص، أو بإنشاء طرف واحد كالطلاق و العنق و غيرهما و هي المعاملة بالمعنى الأخص على وجه، أو عادياتها و سياسياتها.

فما علق على المتن بإضافة: بل كل أفعاله و تروكه مستدرك و لعله غفلة عما يطلق عليه لفظة المعاملة أحيانا حسبما اصطلحوا عليه.

و كيف كان كما سيجي ء منه (قدس سره) في ذيل مسئلة 29 انه يجب تعلم كل فعل يصدر من المكلف سواء كان من العباديات أو المعاملات أو العاديات فتدبر.

حكم العقل بلزوم أحد الأمور الثلاثة في جميع أفعاله و تروكه

و الوجه في تعميم الحكم بالنسبة إلى تمام أفعال المكلف و تروكها عباديا كان أو غيرها هو جريان الوجوه الثلاثة المتقدمة. فكما يحكم عقله في العباديات بعدم جواز خلو المكلف عن أحد الثلاثة فكذلك في سائر أفعاله و تروكه فآكل شي ء أو شاربه، أو الماشي الى حاجة لا يجوز له ان يحوم حوله الا مع تحصيل المؤمّن.

نعم لو جزم في مورد بالجواز و لكن لم يعلم انه مباح، أو مستحب، أو مكروه فلا حاجة الى التقليد، أو الاجتهاد، أو الاحتياط الا ان يريد إتيان العمل بعنوانه بأن يأتي العمل بعنوان الاستحباب فلا بد له من التقليد أو الاجتهاد و الا فلو لم يستند إليهما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 26

..........

______________________________

لكان الإتيان بذلك العنوان من التشريع المحرم.

فتحصل ان عدم جواز خلو المكلف عن أحد الأمور الثلاثة سار

في جميع أفعاله و تروكه عباديا كانت أو غيرها في خصوص ما احتمل هناك حكما إلزاميا فتدبر.

التسامح في تفسير عبارة المتن بتطبيق العمل على أحدها

ثم انه قد يقال في تفسير عبارة المتن. انه يجب ان يعمل على طبق الاجتهاد أو التقليد، أو الاحتياط. و لعله لا يخلو عن مسامحة و لذا أورد عليه بان الاحتياط عنوان لنفس العمل لا ما ينطبق عليه العمل، و كذا التقليد: ان قلنا بأنه تطبيق العمل على رأى المجتهد كما هو الحق فلا يقابل الاحتياط و التقليد: الاجتهاد الذي ينطبق على العمل هذا و لكن الأمر سهل بعد معلومية المراد.

التخيير بين الأمور الثلاثة بحكم العقل لا بالتقليد

ثم انه قد عرفت: ان التعرض للاحكام بأحد الأمور الثلاثة انما هو بحكم العقل فلا مورد للتقليد حتى الاحتياط بمعنى الإتيان بجميع المحتملات: كغسل الثوب المتنجس بالماء مرتين لو شك في اعتبار التعدد فهو أيضا مما يستقل به عقل كل ذي لب.

نعم جواز الاحتياط بالمعنى المتعارف في بعض الموارد لا بد و ان ينتهي إلى الاجتهاد أو التقليد لاحتمال اعتبار قصد الوجه و التمييز في المأتي به العبادي و اعتبار الجزم في النية، فيهما و في المعاملي بالمعنى الأخص، أو اعتبار تقدم الامتثال التفصيلي مهما أمكن.

فقد ظهر لك ان تعرض الأحكام الشرعية يكون بأحد الأمور الثلاث: اما ان يأتي بها حسب اجتهاده و استفراغه الوسع بمعرفتها، أو يستند بمن يكون قوله حجة بحسب ارتكازه، أو يحتاط و يأتي بجميع ما يحتمل دخالته فيه، أو يترك جميع ما احتمل زجره، و هذا إجمالا مما لا ينبغي الإشكال فيه.

و لكن ربما يقع الإشكال في مشروعية الاجتهاد بالمعنى المتعارف في الخارج بين الأصحاب، و كذا في مشروعية التقليد حسبما هو المعروف بين أبناء المتشرعة، بل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 27

..........

______________________________

في مشروعية الاحتياط في كل مسئلة مسئلة مطلقا- و ان استلزم

تكرار جملة العمل، أو كان العمل عباديا- فلا بد من عطف النظر الى بيان مشروعية الأمور الثلاثة ببيان واف غير مخل و لا ممل.

[تذييل في مباحث الاجتهاد]

اشارة

و حيث ان المصنف (قدس سره) لم يتعرض لبحث الاجتهاد و فروعه لعدم ابتلاء العوام به و الكتاب رسالة عملية فلا بأس بالإشارة إلى معنى الاجتهاد و بعض المباحث المتعلقة به لشدة ما يبحث عنه في المقام في طيّ مباحث. و نحيل البحث عن الاحتياط و التقليد عند تعرض المصنف لهما إن شاء اللّه تعالى فنقول و باللّه نستعين:

البحث الأول في معنى الاجتهاد لغة و اصطلاحا
اشارة

الاجتهاد: لغة إما مأخوذ من الجهد (بالضم) بمعنى الطاقة، أو مأخوذ من الجهد (بالفتح) بمعنى المشقة، أو الطاقة فمعنى الاجتهاد بذل الطاقة و الوسع، أو طلب المشقة و تحملها. و المعنيان متلازمان لان بذل الطاقة و الوسع لا يخلو عن مشقة.

تعاريف الاجتهاد الاصطلاحي

و في الاصطلاح عرّف بتعاريف.

منها: ما عن الحاجبي و العلامة: أنه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي.

و منها: انه استنباط الحكم الشرعي عن أدلته التفصيلية.

و منها: انه عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.

و منها: انه تحصيل الحجة على الحكم الشرعي.

و منها: انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة من الفعل.

و كيف كان نوقش في التعريف الأول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 28

..........

______________________________

أولا: بعدم استقامته على مسلك الإمامية لعدم اعتبار الظن بما هو عندهم حتى عند القائلين بحجية الظن المطلق عند الانسداد لأن حجية الظن عند ذلك بما هو حجة عند الشرع أو العقل على تقدير الكشف أو الحكومة لا بما هو ظن كما لا يخفى.

و ذلك لما تقرر في محله من عدم حجية الظن في حد نفسه عند أصحابنا بل صرحوا بعدم جواز الاتكال عليه في شي ء من الأحكام الشرعية. بل و لا في موضوع من موضوعاته إلا في موارد نادرة كالظن بالقبلة، و انما الواجب لديهم تحصيل العلم بالحكم الواقعي أو بالحجة شرعا- سواء كانت ظنا أو غيره كما هو الشأن في موارد الأمارات و الأصول المعتبرة شرعا- فكما يكون المجتهد عند العلم الوجداني مأمونا من العقاب فكذلك عند قيام الطرق و الأصول المعتبرة شرعا يكون مأمونا من العقاب و ان لم يكن عند ذلك جازما بالحكم الواقعي.

فهل يحصل

للاخبارى بمجرد قيام خبر واحد يكون ظاهره وجوب شي ء، أو حرمته القطع بالحكم الواقعي بأن يصير عالما بصدوره عن المعصوم عليه السّلام و يحصل له القطع بان ظاهره مقصودا له عليه السّلام بحيث لم يسق لبيان غيره تقية أو غيرها.

حاشا الخبير الفطن الواقف بكيفية صدور الاخبار عنهم عليهم السّلام و كيفية جمعها في الجوامع الأولية ثم منها الى الجوامع المتأخرة: عن التفوه بذلك.

بل لا بد عند قيام الخبر الواحد في مورد و استنباط الحكم منه من تمامية أصل الصدور، و الدلالة و جهة الصدور. و قد قرر في محله حجية الخبر الواحد ببناء العقلاء الممضى شرعا، و بعد إثبات حجية صدور الخبر الواحد تصل النوبة إلى دلالته و مقتضى الأصل العقلائي هو ان ظاهره مراد كما هو الشأن في كل كلام صادر عن المتكلم، و بعد تمامية دلالة الخبر تصل النوبة الى ان ما هو الظاهر منه سيق لبيان الحكم الواقعي لا للتقية و نحوها.

فاذا تمت الجهات الثلاثة فيتم الاحتجاج بالخبر على ان يكون مفاده حكم اللّه تعالى. و انى للاخبارى؟! و القطع بحكم اللّه تعالى بمجرد العثور على الخبر. نعم يكون حجة عليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 29

مناقشة الاخبارى انما هي على تعريف الاجتهاد لا على المجتهدين

______________________________

و لعل منشأ طعن الاخبارى على جواز العمل بالاجتهاد للمجتهد نفسه، و للعامي في تقليده، بلحاظ أخذ الظن في تعريف الاجتهاد و قد عرفت حاله، و قلنا ان فقهاء الإمامية لا يقولون بحجية الظن ما لم يرد من الشرع دليل على اعتباره فطعن الاخبارى في الحقيقة انما هو على تعريف الاجتهاد لا على المجتهدين فتدبر.

فلو بدلنا كلمة الظن بالحكم، بالحجة عليه لوقع التصالح بين الفريقين ضرورة أن الاخبارى لا ينكر

جواز العمل بما قطع بحجيته و بما هو الوظيفة الفعلية من قبل الشارع كما لا ينكر أصل رجوع الجاهل الى العالم.

فعلى ما ذكرنا يصبح النزاع في جواز العمل بالاجتهاد و عدمه نزاعا لفظيا و يكون النزاع بين الفريقين في حجية بعض الأمارات أو الأصول. نظير اختلاف الأخباريين فيما بينهم في بعض المسائل، كاختلاف الأصوليين فيما بينهم في بعض أخر. و واضح ان هذا النحو من الاختلاف أجنبي عن مسئلة جواز العمل بالاجتهاد كما لا يخفى.

و ثانيا: انه لا يتم هذا التعريف على مسلك العامة أيضا لعدم انحصار الدليل عندهم بالظن فيكون تعريف الاجتهاد بالتعريف المذكور تعريفا بالأخص.

فالتعريف الأول للاجتهاد مزيّف عند الفريقين و لذا قال المحقق الخراساني (قدس سره): الاولى تبديل الظن بالحكم الشرعي بالحجة عليه.

تعريف المعنى المقبول من الاجتهاد

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا في التعريف الأول للاجتهاد يظهر لك حال سائر التعاريف و إمكان إرجاع بعضها الى بعض.

نعم في تعريف الاجتهاد بالقوة و الملكة نحو خفاء بلحاظ انه بهذا المعنى لا يكون موضوعا لحكم من الأحكام الشرعية المترتبة على عنوان الفقيه، أو الناظر

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 30

..........

______________________________

في الحلال و الحرام، أو العارف بالأحكام، أو الراوي لحديث أهل البيت عليهم السّلام، و نحو ذلك من العناوين الدالة على فعلية الاستنباط الا ان يرجع بنحو إليها.

فعلى هذا فالاوثق بالاعتبار و الأسلم عن النقاش تعريف الاجتهاد بأنه عبارة عن تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أو الحجة على الوظيفة في مقام العمل.

و ان شئت قلت انه عبارة عن استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.

المبحث الثاني في مشروعية الاجتهاد و موقفه من حيث الوجوب الكفائي أو العيني
اشارة

لا ينبغي الإشكال في مشروعية الاجتهاد و تحصيل الحجة على الحكم الشرعي عند كل من اعترف بالشريعة المقدسة ضرورة ان معرفة الأحكام الشرعية ليست من الأمور البديهية بل لا بد في معرفتها من تحمل عناء شديد و تعب اكيد خصوصا في مثل اعصارنا.

فمن بذل وسعه لتحصيل الحكم الشرعي و أتعب نفسه في الوصول اليه ففحص فحصا اكيدا من مظانه الى ان علم بالحكم وجدانا أو قامت لديه احدى الحجج و الأمارات العقلائية الممضاة شرعا فلا سبيل الى ردعه عن اتّباعه و لعله ضروري يكفى تصوره للتصديق به من دون تجشّم اى دليل لأنه عالم بالحكم حقيقة أو حكما.

مع انه يمكن الاستدلال لمشروعية الاجتهاد بقيام السيرة على فتوى الرواة و غيرهم من العالمين بالأحكام حتى في عصر الأئمة عليهم السّلام من غير ردع عنها، بل ورد الأمر بالإفتاء عنهم لمثل ابان بن تغلب، و زرارة بن

أعين لما سنشير إليه، فإنه لو لا جواز الاجتهاد في نفسه لما صح إرجاع الغير اليه و ذلك واضح إلى النهاية، فالحري بالبحث و هو الذي وقع الكلام فيه هو بيان:

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 31

موقف الاجتهاد من جهة كونه واجبا عينيا أو كفائيا

______________________________

ينسب الى بعض قدماء الأصحاب و فقهاء حلب: ان الاجتهاد واجب عيني على كل مكلف فأوجبوا على العوام الاستدلال كما لغيرهم، و لكن اكتفوا فيهم بمعرفة الإجماع الحاصل من كلمات العلماء عند الحاجة الى الواقع، أو النصوص الظاهرة، أو الأصل في المنافع الإباحة، و في المضار الحرمة عند فقد نص قاطع في متنه و دلالته.

و قريب من هذا الكلام ما عن بعض من حرم التقليد فقال: بأنه يجب على العامي الرجوع الى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب و السنة فان ساعد لغته على معرفة مدلولها فبها و الا ترجم له معانيها بالمرادف من لغته و إيكال فهمها اليه.

و إذا كانت الأدلة متعارضة ذكر له المتعارضان و ينبهه على طريق التوفيق بينهما بحمل المنسوخ على الناسخ، و العام على الخاص، و المطلق على المقيد، و الظاهر على الأظهر و الصريح، و مع تعذر الجمع يذكر اخبار العلاج، و لو احتاج في مقام الترجيح الى حال الراوي ذكر له حاله.

و لا يخفى ما فيه أولا: لعدم حصول معرفة الأحكام الشرعية بنحو ذلك في غالب الأحكام كما لا يخفى على الفطن الخبير بل لا بد من الفحص الأكيد و تحمل المشاق الشديدة في ذلك، لان الاجتهاد و استخراج الأحكام الشرعية عن مظانه خصوصا في أمثال زماننا صار من العلوم الشاقة و المعارف الصعبة بحيث لا يكاد يناله الا من كان مستعدا و ترك

المشاغل و الحرف و افرغ نفسه له ليلا و نهارا.

و واضح ان إيجاب ذلك لكل مكلف موجب للعسر و الحرج المنفيين في الشريعة المقدسة بل يوجب تعطيل الأسواق و ابتلاء الناس بمحنة شديدة و بلية عظيمة فإيجاب الاجتهاد لكل واحد مقتضاه اختلال نظام المجتمع و هو غير جائز.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 32

..........

______________________________

و ثانيا: ان القول بعينية الاجتهاد لازم القول بحرمة التقليد و عدم تمكن الاحتياط، و قد أشرنا إلى قيام السيرة على إفتاء الرواة و غيرهم حتى في عصر الأئمة عليهم السّلام بل ورد الأمر بالإفتاء لمثل ابان، و زرارة، و نظائرهما فلو كان الاجتهاد واجبا عينيا على كل مكلف لما كان للإفتاء مفهوما محصلا، بل لما كان لأمرهم صلوات اللّه عليهم بالإفتاء لمثل ابان، و زرارة، وجها، مع انه سيجي ء مشروعية الاجتهاد.

و ثالثا: ان لازم القول بتعيّن الاجتهاد لكل واحد لغويّة إطلاق أخبار التقليد التي سنتعرض لها.

و رابعا: ان ذلك مخالف لآية النفر كما قيل: و هي قوله تعالى:

مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1».

تقريب الدلالة هو ان الآية الشريفة دلت على عدم وجوب التفقه في الدين لكل واحد من المؤمنين بل كل طائفة من كل فرقة مأمورة بالتفقه و معرفة الأحكام الشرعية و تبليغها للجاهلين، فالآية الشريفة ظاهرة على كون تحصيل الأحكام الشرعية واجبا كفائيا.

و يؤيد ذلك الأخبار الواردة في تفسير الآية الشريفة لاحظ الوسائل يأبى 8- 11 من أبواب صفات القاضي، و غيره.

و لكن الاستدلال بالاية لوجوب الاجتهاد و معرفة الأحكام عن مداركها لا يخلو عن تأمل

كما سيظهر لك عند التعرض للاستدلال بها لموقف التقليد فارتقب حتى حين.

______________________________

(1) سورة التوبة 9/ 122.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 33

المشهور على كون الاجتهاد واجبا نفسيا كفائيا و الدليل عليه

______________________________

قد يقال: ان الاجتهاد واجب نفسي كفائي و قد ينسب ذلك الى المشهور بين أصحابنا فيعاقب جميع المكلفين عند تركهم الاجتهاد، و باجتهاد طائفة منهم يسقط الوجوب عن البقية. يحكى ذلك عن السيد في الذريعة، و الشيخ في العدة، و المحقق في المعارج، و العلامة في جملة من كتبه، و فخر المحققين في الإيضاح، و شرح المبادي، و الشهيد في الذكرى و غيرها، و الشهيد الثاني في المقاصد العلية، و المحقق الثاني في الجعفرية و غيرهم (قدس اللّه أسرارهم).

يستدل لمقالهم باية النفر بالتقريب المتقدم أنفا، و بما ورد في بعض الاخبار في تفسير الآية الشريفة.

منها: ما عن الصدوق ره في معاني الاخبار، و العلل عن عبد المؤمن الأنصاري قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ان قوما يروون ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

اختلاف أمتي رحمة فقال صدقوا فقلت ان كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب فقال ليس حيث تذهب و ذهبوا انما أراد قول اللّه عز و جل:

فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1».

فأمرهم أن ينفروا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيتعلموا ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم، انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين اللّه انما الدين واحد انما الدين واحد «2».

و منها: ما عن الصدوق في عيون اخبار الرضا و العلل عن فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في حديث انما أمروا بالحج لعلة الوفادة

الى اللّه عز و جل، و طلب الزيادة و الخروج من كل ما اقترف العبد، الى ان قال: مع ما فيه من التفقه و نقل أخبار الأئمة عليهم السّلام الى كل صقع و ناحية، كما قال اللّه عز و جل.

______________________________

(1) التوبة 9: 122.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 10.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 34

..........

______________________________

فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

و لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ «1».

و منها ما عن الكافي عن على بن حمزة قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي ان اللّه يقول في كتابه.

لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «2»

بيان بعض الأساطين بكون الاجتهاد واجبا نفسيا كفائيا بلحاظ رجوع الغير اليه

و لكن تحقيق الحال في ذلك كما افاده بعض الأساطين دام ظله هو القول بوجوب الاجتهاد نفسيا كفائيا تعينيّا بلحاظ رجوع الغير إليه لأن في ترك تعلم الأحكام الشرعية و إهمالها اضمحلالا للشريعة المقدسة، و من المعلوم ضرورة لزوم حفظها عن الانطماس و الاندراس و التحفظ على أحكام الدين من أعلى مراتب الحفظ لأنه إذا ترك استنباط الأحكام و معرفتها في كل عصر فلا سبيل الى تحصيلها الا بالتقليد من العلماء الأموات، أو الاحتياط، و سيجي ء عدم جواز تقليد الميت ابتداء، و الاحتياط بين ما لا يمكن تحققه له- لدوران الأمر بين المحذورين، أو لجهله بكيفيته- و بين إيجابه العسر و الحرج بل اختلال النظام، مع ان جواز الاحتياط في بعض الموارد يتوقف على الاجتهاد، فيجب الاجتهاد وجوبا كفائيا صيانة للاحكام عن الاندراس و احتفاظا على الشريعة

المقدسة عن الاضمحلال «3».

موقف تحصيل الاجتهاد في عمل الإنسان نفسه

و اما تحصيل الاجتهاد في عمل الإنسان نفسه فقد عرفت ان الاجتهاد الذي هو

______________________________

(1) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 65.

(2) تفسير نور الثقلين ج 1/ 284.

(3) التنقيح ج 1/ 65.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 35

..........

______________________________

عديل الاحتياط و التقليد واجب عقلي طريقي تخييري تارة، و تعييني اخرى، اما الأول ففيما امكنه الاحتياط و لو في الجملة، أو كان في الأحياء من يجوز تقليده.

و اما الثاني ففيما لا يمكنه الاحتياط اما لدوران الأمر بين المحذورين أو لإيجابه اختلال النظام، أو لجهله بكيفيته، أو لا يكون في الأحياء من يجوز تقليده و لم نقل بجواز تقليد الميت ابتداء كما هو الحق. فعند ذلك ينحصر طريق امتثال الأحكام بالاجتهاد، فوجوب الاجتهاد عند ذلك عقلي من باب حكم العقل بلزوم الإطاعة.

الأقوال في وجوب التعلم
اشارة

و اما وجوبه الشرعي من باب وجوب التعلم فاختلف فيه و الأقوال فيه ثلاثة.

أحدها: ما نسب الى المحقق الأردبيلي و تلميذه صاحب المدارك و وافقهما جملة من المتأخرين من وجوبه النفسي و استحقاق العقاب على نفس ترك التعلم و لذا ذهبوا الى استحقاق تارك التعلم للعقاب مطلقا: سواء صادف عمله للواقع أم لا و الثاني: ما نسب الى المشهور من وجوبه الطريقي و لذا لم يوجبوا العقاب الأعلى مخالفة الواقع.

الثالث: ما يظهر من المحقق النائيني (قدس سره) من استحقاق العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع فقال (قدس سره) ان الفرق بين هذا و سابقه هو ان استحقاق في الأخير يكون على نفس ترك التعلم عند مخالفة العمل للواقع و في سابقه يكون على نفس مخالفة الواقع لا على ترك التعلم.

و الظاهر ان البحث بين أرباب القولين الأخيرين

علمي لا يترتب عليه أثر عملي

دليل كون التعلم واجبا نفسيا
اشارة

يستدل للقول الأول بقوله تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «1»

______________________________

(1) النحل: 16/ 43. الأنبياء: 21/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 36

..........

______________________________

و ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: ان طلب العلم فريضة على كل مسلم «1» فاطلبوا العلم من مظانه و اقتبسوه من أهله فإن تعليمه للّه حسنة، و طلبه عبادة، و المذاكرة له تسبيح، و العمل به جهاد، و تعليمه من لا يعلمه صدقة، و بذله لأهله قربة الى تعالى لأنه معالم الحلال و الحرام، و منار سبل الجنة و المونس في الوحشة، و الصاحب في الغربة و الوحدة، و المحدث في الخلوة و الدليل على السراء و الضراء، و السلاح على الأعداء، و الزين عند الإخلاء الخبر «2».

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله تعلموا العلم فان تعليمه حسنة «3».

و عن ابى عبد اللّه عليه السّلام: طلب العلم فريضة من فرائض اللّه «4».

و عن ابى جعفر عليه السّلام: ما من عبد يغدو في طلب العلم و يروح الّا خاض الرحمة خوضا «5».

و عن المحاسن عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال لا يسع الناس حتى يسئلوا أو يتفقهوا «6» و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أف لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة يوما يتفقه فيه أمر دينه و يسئل عن دينه «7».

و عن على عليه السّلام في كلام له: لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم ان يتعلم «8».

الى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في وجوب التعلم و ترتب الثواب على نفس التعلم، و اللوم، و المؤاخذة على نفس ترك التعلم.

______________________________

(1)

و في غوالي اللئالي ج 4: 70 عنه (ص)، طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة، و فيه قال (ع)، اطلبوا العلم و لو بالصين.

(2) بحار الأنوار ج 1/ 171.

(3) بحار الأنوار ج 1/ 171.

(4) بحار الأنوار ج 1/ 172.

(5) بحار الأنوار ج 1/ 144.

(6) بحار الأنوار ج 1/ 176.

(7) بحار الأنوار ج 1/ 176.

(8) بحار الأنوار ج 1/ 176.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 37

تزييف القول بنفسية وجوب التعلم

______________________________

و لكن نوقش فيها: بأنه لا يستفاد منها الوجوب النفسي و غاية ما يستفاد منها الوجوب الطريقي للعمل بقرينة ما ورد في بعض الاخبار «1» ان العبد يؤتى به يوم القيمة فيقال له هلا عملت؟ فيقول ما علمت. فيقال له: هلا تعلمت؟!، فترى ان السؤال أولا هو عن العمل لا عن التعلم، و الا كان اللازم سؤال العبد أولا عن التعلم بان يقال هلا تعلمت.

و واضح ان المستتبع للعقاب انما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي «2».

دليل كون التعلم واجبا طريقيا و تزييفه

و يستدل للقول الثاني: بأنه و ان كان ظاهر الآية الشريفة و الاخبار لزوم التعلم الا انه لا يكون لإيجاب التعلم شأنية النفسية و الاستقلالية، بل الغرض من إيجاب التعلم مجرد الوصول إلى الأحكام و العمل على طبقها من دون ان يكون للتعلم جهة موجبة لحسنها الذاتي المستتبع للخطاب النفسي بل الخطاب المتعلق به يكون لمحض الطريقية فيكون وجوبه للغير لا نفسيا و لا بالغير.

و بالجملة هذه الاخبار إرشاد إلى حكم العقل من لزوم السؤال و التعلم لتمامية الحجة على العبد على فرض ورود البيان من المولى فلا يستفاد منها الوجوب النفسي و لا النفسي التهيئى لان مفادها تابع لحكم المرشد اليه و هو حاكم بعدم وجوبه نفسيا و لكن في النفس فيما أفيد شي ء: لأن الغاية القصوى من التعلم و الوصول إلى معرفة الأحكام و ان كان العمل على طبقها الا انه لا ينافي مطلوبية التعلم أيضا بلحاظ ترغيب

______________________________

(1) يعنى بذلك خبر مسعدة بن زياد الذي نذكره قريبا و نشير الى ضعف ما استظهره دام ظله.

(2) التنقيح ج 1/ 16- 295.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 38

..........

______________________________

الاخبار في تحصيل

العلم و جعل الثواب، و الأجر على نفس التعلم، و اللوم، و التوبيخ على ترك التعلم، فيمكن ان يقال بوجوب معرفة الأحكام الشرعية المبتلى بها وجوبا نفسيا تهيئيا.

و بما ذكرنا يمكن التوفيق بين كون التعلم واجبا نفسيا و بين كون الغاية القصوى من التعلم العمل بها.

و لا ينافي ما ذكرنا خبر مسعدة بن زياد فإن السؤال فيه أولا عن التعلم ثم عن العمل على عكس ما استظهره بعض الأساطين (دام ظله) و إليك نص الخبر ليتضح الحال فعن أمالي الشيخ عن المفيد (قدس سرهما) عن مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام و قد سئل عن قوله تبارك و تعالى:

فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ «1».

قال إذا كان يوم القيمة قال اللّه تعالى للعبد: أ كنت عالما؟ فان قال نعم. قال:

ا فلا عملت بما علمت؟، و ان قال كنت جاهلا قال له: ا فلا تعلمت.

فتلك الحجة البالغة للّه تعالى «2».

دليل كون التعلم واجبا نفسيا تهيئيا و تزيفه

حكى عن المحقق النائيني (قدس سره) انه استدل لمقالة: بأن العقاب على ترك الفحص و التعلم ينافي وجوبه الطريقي الذي لا نفسية له، و لا يجوز على ترك الواقع للجهل به فلا بد و ان يكون العقاب لترك الفحص المؤدي إلى ترك الواقع.

نوقش أولا: بأنه إذا كان ترك الواقع مما لا عقاب له للجهل به. و ترك التعلم و الفحص مما لا عقاب له أيضا. لكون وجوبه طريقيا فكيف يصح العقاب على ترك الفحص، أو التعلم المؤدي إلى ترك الواقع.

و ثانيا: ان إنكار صحة العقاب على ترك الواقع قبل الفحص و التعلم غير وجيه بعد تمامية بيان الحكم الواقعي حسبما هو المتعارف.

______________________________

(1) إنعام: 6/ 149.

(2) بحار الأنوار ج 2/ 29- 181.

الدر النضيد في الاجتهاد و

الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 39

..........

______________________________

و ثالثا: بأنه يمتنع ان ينقلب الحكم الطريقي إلى النفسي فإذا كان وجوب الفحص، أو التعلم طريقيا فكيف يصير نفسيا عند أدائه على ترك الواقع؟!.

و لكن قد عرفت مما ذكرنا في ذيل القول الثاني صحة كون التعلم مطلوبا نفسيا في عرض العمل بالأحكام، و ان كانت الغاية القصوى من التعلم العمل.

فتحصل مما ذكرنا مشروعية أصل الاجتهاد و وجوبه الكفائي النفسي بلحاظ رجوع الغير اليه تحفظا على أحكام الدين من الانطماس و الاندراس، بل مطلوبية معرفة الأحكام المبتلى بها، و وجوبها النفسي التهيئى بالأعم من الاجتهادي أو التقليدي و اللّه العالم.

المبحث الثالث في وجوب عمل المجتهد برأيه و حرمة الرجوع الى الغير
اشارة

لا خلاف و لا إشكال في ان من اجتهد و استنبط الحكم الشرعي أو الوظيفة المقررة من الأدلة على الموازين المعهودة يصح له العمل بما استنبط و ذلك واضح، و لا يصح له العدول عن رأيه و الرجوع الى رأي الغير و أخذ فتواه لأنه حسب الفرض عالم بالحكم أو الوظيفة و لا دليل على رجوع العالم الى مثله بل يكون ذلك من باب تحصيل الحاصل بنحو هيّن ان استند الى ما يكون موافقا لرأيه و من باب رجوع العالم الى الجاهل ان استند الى ما يخالف اعتقاده.

و بالجملة من استنبط حكما شرعيا أو وظيفة مقررة على الموازين المقررة لا تكون فتوى الغير نافذا في حقه و لا يجوز تقليده، بل اللازم عليه اتباع نظر نفسه و ما استنبطه لعدم شمول أدلة حجية الفتوى في حقه لكونه حسب الفرض عالما بالحكم و الوظيفة و من أهل الذكر، و منذرا، و عارفا بالحلال و الحرام، الى غير ذلك من العناوين المأخوذة في أدلة اعتبار الفتوى، فالأدلة متطابقة على عدم صحة

المراجعة إلى الغير و عدم حجية فتواه بالنسبة اليه و قد أشرنا ان الرجوع الى الغير في المفروض أهون أنحاء تحصيل الحاصل على وجه بل رجوع العالم الى الجاهل على وجه آخر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 40

..........

______________________________

و هذا هو القدر المتيقن من عدم جواز تقليد الغير و عدم حجية الفتوى في حق الغير و هذا معنى ما يقال: انه يحرم عليه تقليد الغير.

حكم من وجد ملكة الاجتهاد و لم يجتهد بعد

و اما إذا اجتهد و بذل وسعه و لكن لم يتمكن من معرفة الحكم و الجزم بالوظيفة بل توقف في المسئلة لعدم تمامية الدليل على أحد الطرفين عنده فهل يجوز له المراجعة إلى المجتهد الجازم بأحدهما أم لا؟.

فنقول ان المتوقف تارة يكون محيطا بالوجه أو الوجوه التي استند إليها المجتهد الجازم و مزيّفا له فلا يجوز له الرجوع إليه أيضا لأنه من باب رجوع الجاهل الى جاهل مثله فتكون وظيفته و الحال هذه التوقف و الاحتياط في المسئلة.

و اما ان لم يكن محيطا بما استند اليه الأخر و احتمل استناده الى وجه أو وجوه لم يطلع هو عليه فهل يجوز له المراجعة إليه أم لا؟ وجهان.

يظهر من بعض الأساطين دام ظله عدم الجواز مدعيا انصراف أدلة مشروعية التقليد عن مثل هذا الشخص الذي يصدق عليه انه من أهل الذكر، و الفقيه، و غيرها من العناوين «1».

و لكن لا يبعد ان يقال بجوازه لأنه و ان كان واجدا للقوة و ذا ملكة الّا انه حسب الفرض لم يهتد وجه الحكم و لم يعرف مغزاه و هو و الحال هذه جاهل بالوظيفة و الحكم المقرر، و فرق واضح بين هذه الصورة و الصورة المتقدمة لأنه في تلك الصورة

و ان كان متوقفا في المسئلة الّا انه يرى خطأ المجتهد الجازم فيكون المراجعة إليه أشبه شي ء بمراجعة الجاهل الى جاهل مثله، و اما في هذه الصورة فحيث انه يحتمل و يترقب ان يكون الجازم متكئا و مستندا في فتواه الى وجه أو وجوه لم يطلع و لم يقف عليها نفسه فلا يكون من ذاك الباب. فالمتوقف في المسئلة في الحقيقة لم يكن من أهل الذكر و لم يكن فقيها و عارفا بالحكم.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 12.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 41

..........

______________________________

و ان كان مع ذلك في خاطرك شكا فيما ذكرنا فإياك و ان تشك في بناء العقلاء و سيرتهم على المراجعة في مثل ذلك فتدبر.

و اما من كان له قوة قريبة من الاستنباط بحيث لم تكن له حالة منتظرة لاستنباط الحكم و الوظيفة الا تعلله، و تساهله، في المراجعة إلى المدارك فهل يجوز له تقليد الغير عند ذلك أو لا يجوز له ذلك بل يجب عليه الاجتهاد و استنباط الحكم أو الوظيفة من مدركه أو الاحتياط؟ وجهان بل قولان.

قال شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) المعروف عندنا العدم بل لم ينقل الجواز عن أحد منّا و انما حكى ذلك عن مخالفينا نعم اختار الجواز بعض سادة مشايخنا في مناهله «1».

أدلة جواز تقليد من كان له قوة قريبة من الاستنباط

ربما يستدل للجواز بوجوه.

الأول: ان مجرد من وجد الملكة لا يوجب انطباق عنوان العالم، و الفقيه، و العارف بالأحكام، الى غير ذلك من العناوين عليه. و هو بعد، كقبل الاستنباط غير عالم بالحكم الفعلي و غير فقيه و غير عارف و هكذا سائر العناوين فتشمله الأدلة الدالة على المراجعة الى أحد العناوين.

و بالجملة الاجتهاد بالقوة و الملكة ليس بعلم

فعلىّ بالحكم و الوظيفة بل صاحبها جاهل بهما بالفعل فيرجع الى العالم بهما بالفعل.

الثاني: استمرار السيرة من زمن الأئمة إلى زماننا على الرجوع الى فتوى الغير مع التمكن من الاجتهاد، مع لزوم الحرج على واجد الملكة لو لزم عليه تحصيل معرفة جميع المسائل التي يبتلى بها، و لذا ترى العلماء كثيرا ما يتركون الاجتهاد إذا احتاجوا الى بعض المسائل و يختارون ما هو المشهور بين الفقهاء، أو ما هو

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 54.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 42

..........

______________________________

المبنى على المباني القوية و لم يتحملوا صعوبة الاجتهاد فيه.

الثالث: بناء العقلاء على رجوع الأطباء بعضهم الى بعض أحيانا و كذا رجوع بعض أرباب الحرف و الصنائع الى الأخر و هذا شاهد صدق لجواز الرجوع و الركون الى رأي الغير مع وجود القوة و الملكة.

الرابع: مقايسة صاحب الملكة بمن ليست له ملكة الاجتهاد بالفعل فكما لا يجب تحصيل الاجتهاد للمستعد لتحصيلها و لو بالاشتغال بالدراسة سنين متمادية فكذلك واجد الملكة.

الخامس: ان قبل الوصول إلى مرتبة الاجتهاد كان يجوز له الرجوع الى الغير و العمل بفتواه و بعد حصول القوة و عدم الاستنباط الفعلي لو شك في جوازه فيستصحب.

تزييف أدلة الجواز

و لكن نوقش في الوجوه المذكورة.

اما الوجه الأول: فحاصل ما افاده الشيخ (قدس سره) في الرسالة في رده هو انصراف إطلاقات الأدلة- على تقدير دلالتها على مشروعية التقليد- عمن له ملكة الاجتهاد و لم يستنبط بعد و اختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بها.

و حاصل ما افاده (قدس سره) بتوضيح منا: هو ان المأمور به بسؤال أهل الذكر في قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ- على تقدير كونه من أدلة الباب- هو غير أهل

الذكر و من لا يتمكن من تحصيل العلم بغير السؤال فيختص بالعاجز عن الاجتهاد.

و بالجملة يستفاد منه ان المأمور بالسؤال من لا يرتفع جهله الا بالسؤال عن أهل الذكر و هو ليس الا العاجز عن الاجتهاد لوضوح ان الواجد للملكة يمكن رفع جهله بالمراجعة إلى الكتاب و السنة.

و اما آية النفر فإنها تنفع المستدل للمقام ان قلنا بدلالتها على حجية الخبر و الفتوى أو باختصاصها بحجية الفتوى.

فعلى الأول نقول انه ليس في الآية تعرض لتفصيل من يجب إنذاره بالإفتاء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 43

..........

______________________________

و من يجب إنذاره بالأخبار لأن الإطلاق مسوق لبيان حكم آخر و هو وجوب الانذار عليهم و وجوب الحذر على المنذرين، و اما وظيفة المنذرين في الحذر، و ان حذر بعضهم بالأخبار و بعضهم بالفتوى فليست الآية مسوقة له.

و على الثاني فالظاهر من جعل الانذار بالفتوى غاية للتفقه، أو النفر، عجز المنذرين (بالفتح) عن التفقه و لو بالرجوع الى اخبار المنذرين فيختص بالعاجز عن الاجتهاد و اما قوله عجل اللّه فرجه: و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم. فان دل على جواز المراجعة إلى فتوى المجتهد فالمجتهد من الرواة فهو مأمور بالرجوع اليه لا بالرجوع الى غيره، و ان دل الرجوع الى رواياتهم كان دليلا على المنع لا على الجواز و يجب على كل أحد حينئذ العمل بالروايات خرج العاجز عن ذلك «1».

و سيجي ء حال الأدلة التي يستدل بها للمقام و غيرها، و عمدة المستند بل لعل المستند الوحيد في المقام هو بناه العقلاء في رجوع الجاهل في كل أمر من الأمور المحتاج إليها إلى العالم بها سواء كانت راجعة

إلى الأنفس، أو الأموال أو غيرها، و لعله في الجملة غير قابل للإنكار.

و لكن موضوع بناء العقلاء ظاهرا هو الجاهل الذي لا يتمكن من تحصيل الطريق الى الواقع فعلا- اى من لم يقدر على تحصيل أمر الى من حصله- لا مثل هذا الشخص الذي تكون الطرق و الأمارات إلى الواقع و الى وظائفه موجودة لدية و لم يكن الفاصل بينه و بين العلم بوظائفه و تكاليفه الا النظر و الرجوع الى الكتب المعدة لذلك. فالواجب عليه عقلا اما الاجتهاد و بذل الوسع في تحصيل مطلوبات الشرع و ما يحتاج إليه في اعمال نفسه، و الاحتياط.

و بالجملة بنائهم استقر على رجوع من لا يقدر على تحصيل أمر الى من حصله و اما من له قوة تحصيل ذلك الأمر و يمكنه تحصيل ذلك و لا حجاب بينه و بين الوصول

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 56.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 44

..........

______________________________

الى ذلك الأمر إلّا التعلل و التساهل فبنائهم مستقر على عدم المراجعة.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في بنائهم على الرجوع و مقتضى قاعدة الاشتغال تحصيل المؤمّن اليقيني في مقام الفراغ، و الرجوع في مثل واجد الملكة إلى الغير، مؤمّن احتمالي.

و بالجملة الأحكام الواقعية قد تنجزت على من له ملكة الاجتهاد فلا بد له من اليقين بالخروج عن عهدة التكاليف المنجزة في حقه و لا يكاد يحصل له ذلك بتقليده للغير لعدم الجزم بالامتثال بذلك لاحتمال ان لا يكون فتوى الغير حجة في حقه بل لا بد له من تحصيلها اما بالعلم الوجداني أو بقيام الحجج و الأمارات عليها أو الاحتياط هذا ما يتعلق بالجواب عن الوجه الأول.

و اما الوجه

الثاني: فهو ملئتم من أمرين.

اما بالنسبة إلى ثبوت السيرة فقال الشيخ (قدس سره) في الرسالة فبالمنع من ثبوتها في ذلك، زمن الأئمة عليهم السّلام، و لعلهم عند ذلك يحتاطون في المسئلة «1».

و اما لزوم الحرج ان وجب عليه الاجتهاد أو الاحتياط فغير وجيه لان الواجب الاجتهاد في المسائل المحتاج إليها غالبا تدريجا الأهم فالأهم نظير ما يجب على العامي التقليد فيه، و اما المسائل التي تتفق أحيانا فاما يحتاط فيه- و ان قام دليل على عدم وجوب الاحتياط- أو يقلد فيه إذا لم يتيسر له الاجتهاد لاشتغاله بالاجتهاد في الأهم منه، أو لاشتغاله لأمر أخر أهم منه، و كذلك إذا لم يتمكن من الاجتهاد في المسئلة لعدم الأسباب أو لوجود المانع.

و اما الوجه الثالث: فأفاد أستادنا العلامة المحقق الخمينى (دام ظله) بوجود الفرق بين المقام و موارد النقض من جهتين.

الجهة الاولى: عدم وجود الاختلاف في موارد النقض أصلا و لو كان، فإنما هو في غاية القلة بحيث يلحق بالعدم و لذا تريهم في موارد تحقق الاختلاف الكثير

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 58.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 45

..........

______________________________

لا يكاد يراجعون فيها أيضا، و اما في المقام و باب الأحكام فما من مسئلة الا و فيها اختلاف شديد بين الأعلام بل بين آراء فقيه واحد في كتب متعددة بل في أبواب من كتاب واحد.

الجهة الثانية: ان غير باب الأحكام راجع الى الأمور الدنيوية الراجعة إلى الأموال و نحوها و هي قابلة للغمض و التجاوز غالبا لأنه تجاوز و إغماض عن حق نفسه و اما باب الأحكام فإنه باب الاحتجاج بين المولى الحقيقي و العبد الذليل و الأمر فيه ينتهي إلى الرضوان، و

النعيم الأبدي. أو الى النيران، و الجحيم الدائمي، و هما بمثابة من الأهمية غير قابلة للإغماض فلا بد هنا من أحد أمرين اما الاجتهاد أو الاحتياط و واضح ان رجوع من له ملكة الاستنباط الى غيره غير معلوم العذرية.

و بالجملة الفطرة، و الوجدان، أصدق شاهدين على انه لو عرض المقام، و استنباط الأحكام الشرعية، بما لها من الاختلاف في الفتاوى بجميع ما فيه من الآثار، و التبعات على العقلاء- بحيث يتضح لهم محيط الفقه و الفقاهة و آثارها- لترى عدم بنائهم على المراجعة و لا أقل من الشك في المراجعة، و في كلتى الصورتين لا موقف للرجوع الى الغير «1».

و اما الوجه الرابع: فهو قياس مع الفارق ضرورة أن المستعد لتحصيل ملكة الاجتهاد جاهل حقيقة و غير متمكن من معرفة الحكم فلا وجه لحرمة التقليد عليه و إيجاب الاجتهاد عليه بعد ما تقدم من كون الاجتهاد واجبا كفائيا و المفروض وجود من به الكفاية في الخارج، و هذا بخلاف واجد الملكة، فإن تحصيل الاجتهاد، و استخراج الحكم و الوظيفة في حقه بمكان من الإمكان، و من القريب جدا وجوب الاجتهاد عليه تعيينا لو لم يتمكن من الاحتياط.

و اما الوجه الخامس: ففيه انه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع و اتحاد

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد. تقريرنا لبحث أستادنا العلامة الخمينى دام ظله في الاجتهاد و التقليد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 46

..........

______________________________

القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا و موضوع صحة التقليد انما هو العاجز عن الاحتياط و مع طرو قوة الاستنباط و ملكة الاجتهاد نقطع بارتفاع الموضوع و يكون من باب إسراء حكم لموضوع الى

موضوع أخر.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في بقاء الموضوع في المفروض بعد احتمال ان يكون الموضوع من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد لا مطلق من لم يعرف الحكم أصلا.

مع انه أخص من المدعى فلا يكاد يجرى فيما إذا بلغ الصبي مجتهدا.

فتحصل مما ذكرنا بطوله عدم تمامية الوجوه التي استدل بها لجواز التقليد لمن يكون واجدا لملكة الاجتهاد، و قد عرفت من الشيخ (قدس سره) ذهاب المشهور الى عدم جواز تقليده بل عدم نقل الجواز من أحد منا غير السيد، صاحب المناهل.

مع عموم الأدلة الدالة على وجوب الرجوع الى الكتاب و السنة في معرفة الأحكام خرج منها خصوص العاجز عن معرفتها فواجد الملكة، مأمور بالمراجعة إليها و لو شك في خروجه عن ذلك فمقتضى الأصل أيضا العدم.

و للمحقق الأصفهاني (قدس سره) في رسالة الاجتهاد و التقليد ص 4 بيان يؤكد المرام فمن شاء فليراجع.

و لا فرق فيما ذكرنا بين من كان له قوة استنباط جميع الأحكام المعبر عنه بالمجتهد المطلق و استنبط جملة منها، أو من كان له قوة استنباط بعض الأحكام المعبر عنه بالمتجزى- على تقدير إمكانه كما هو الحق- و لكنه لم يستنبط بعد لوحدة الملاك.

فظهر ان من له قوة استنباط الأحكام عن مداركها و لو في الجملة و بالنسبة إلى بعضها، لا يجوز له الرجوع الى الغير و تقليده فيما يقدر عليه و اما فيما لا يقدر على استنباطه فهو و من لا يقدر على الاستنباط أصلا سيان في الجواز.

هذا كله إذا أحرز القدرة المذكورة و اما لو أحرز عدمها و لو بالاستصحاب الموضوعي الخارجي، أو شك في إحراز القدرة فيصح المراجعة إلى الغير و تقليده.

الدر النضيد في الاجتهاد و

الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 47

المبحث الرابع في شرائط الاجتهاد و الإفتاء
اشارة

______________________________

يتوقف استنباط الأحكام و تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري لعمل نفسه و الإفتاء به للغير بالطرق المتعارفة لدى الأصحاب على مقدمات و مبادي كثيرة، و هي بين ما يكون راجعا الى حصول قوة الاستنباط و ما يكون راجعا الى عمل نفسه و الإفتاء به.

توقف الاجتهاد على معرفة العلوم العربية و مقدارها

منها: الاطلاع على العلوم العربية و معرفة مفرداتها بمقدار ما يحتاج إليه في فهم الكتاب العزيز، و الاخبار الصادرة عن الرسول الأعظم، و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين: من تعلم معاني اللغات، و أوضاع المفردات، و معاني الهيئات، و الجمل التركيبية، و خصوصيات كلام العرب لدى المحاورات: من الاستعارات، و الكنايات، التشبيهات، و غيرها من الخصوصيات التي يختص بالكتاب و السنة، فكثيرا ما يقع المتدرّب في خلاف الواقع لأجل القصور في فهم معاني مفردات الألفاظ و خصوصيات كلام العرب لدى المحاورات. فلا بد له من التدبر في محاورات أهل اللسان، و معرفة معاني اللغات و سائر العلوم العربية.

لكن بمقدار ما يحتاج إليها في معرفتهما من دون ان يتوغّل فيها لان التوغل فيها و صرف العمر للنيل بدقائقها ربما يوجب حرمان الشخص عن الوصول الى مدارج رفيع الاجتهاد بل يصير أديبا مقلدا.

توقف الاجتهاد على الانس بالمحاورات العرفية

و منها: الانس بالمحاورات العرفية و فهم الموضوعات الدارجة بينهم و الاحتراز عن خلط دقائق العلوم الفلسفية و العقليات الدقيقة في المعاني العرفية السوقية الدارجة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 48

..........

______________________________

فإنه كثيرا ما يقع الخطاء لأجله في فهم معاني الكتاب و السنة و قد وقع كثير من المشتغلين بل الأعاظم في خلاف الواقع من جهة خلط الاصطلاحات الرائجة في العلوم العقلية، و القواعد العقلية، بالمعاني العرفية الرائجة بين أهل المحاورة المبني عليها الكتاب و السنة.

توقف الاجتهاد على تعلم المسائل المنطقية و مقداره

و منها: تعلم مسائل المنطقية بمقدار معرفة تشخيص الأقيسة المنتجة منها عن العقيمة مثل اعتبار كلية الكبرى و كون الصغرى موجبه في الشكل الأول، و ترتيب الحدود و المباحث الرائجة منه في نوع المحادرات لئلا يغلط في نفسه، و يغالط الأخر و اما الغور في تفاصيل الشرطيات، و الاقترانيات، و المختلطات، و أشباهها فلا، لعدم ارتباط كثير منها في معرفة الكتاب، و السنة، و الاستدلالات الفقهية، بل ربما يوجب الاختلال فيها كما لا يخفى.

توقف الاجتهاد على معرفة علم الكلام و مقدارها

و منها: معرفة علم الكلام بمقدار لا يكون مقلدا في مثل مسئلة الحسن و القبح العقليين و ما يتوقف عليه حجية قول المعصوم- النبي الأعظم و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين- و تقريره، و فعله، و نحوها.

و لا يخفى ان معرفة هذا المقدار من المسائل الكلامية بلحاظ مقدميتها للاجتهاد و الا فعلى ذمة المسائل الكلامية جل الأمور الاعتقادية و المعارف الحقة و لم يكن علم أشرف من علم الكلام كيف لا؟! و هو يبحث عن أشرف الأشياء بما يجوز عليه و يمتنع و ما يرتبط به فيما يتعلق برسله و ولاة امره و الأمور الراجعة إلى النشأة الآخرة.

توقف الاجتهاد على معرفة الكتاب و مقدارها

و منها: معرفة الكتاب العزيز بمقدار ما يتوقف فيه معرفة ألفاظ آيات الأحكام و لو بالمراجعة إليها حال الاستنباط و الفحص عن معانيها لغة و عرفا و تمييز الناسخ منها

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 49

..........

______________________________

عن المنسوخ و المحكم عن المتشابه، و المجمل عن المبين، و ملاحظة شأن نزول الآيات المباركات و كيفية استدلالات الأئمة المعصومين عليهم السّلام بها.

توقف الاجتهاد على الانس الكامل بمذاق أئمة أهل البيت (ع)

و منها: التتبع التام في الاخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و الأنس الكامل بمذاقهم فإنه رحى الاستنباط في عامة الأعصار، و به يسهل تمييز الحق عن الباطل و لا يصعب عليه فهم مرادات الشارع الأقدس، و لا شبهة في ان الممارسة فيها يوجب قوة امتياز ما هو الصادر عنهم عن غيرهم، و ما هو الصادر عنهم لبيان الحكم الواقعي عما هو الصادر عنهم تقية، و قد حكى ان زرارة بن أعين الواقف بمذاق أئمة أهل البيت عليهم السّلام قال لمن جاء بخبر عن المعصوم عليه السّلام: أعطاه من جراب النورة. إشارة الى ان ما جاء به لم يكن حكما واقعيا.

بل الممارسة فيما صدر عنهم ربما يوجب رفع التعارض في الاخبار لمعرفة لحن مقالهم مع ان غير الخبير و غير الممارس يرى تعارضا بينها.

و لعله الى هذا يشير ما روى عن داود بن فرقد قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب «1».

و ما عن ابى حيون مولى الرضا عن الرضا عليه السّلام قال من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدى الى صراط مستقيم ثم قال

عليه السّلام: ان في أخبارنا محكما كمحكم القرآن و متشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها الى محكمها و لا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا «2».

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من صفات القاضي ح 27.

(2) الوسائل باب 9 من صفات القاضي ح 22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 50

توقف الاجتهاد على الإحاطة بمهمات مسائل أصول الفقه
اشارة

______________________________

و منها: الإحاطة بمهمات مسائل أصول الفقه مما هي دخيلة في فهم الأحكام الشرعية، و هي العمدة في المقام لأنها المبادي القريبة لاستنباط الأحكام و عليها تدور رحى الاستنباط إذ لو لم تثبت حجية قول الثقة أو لم تثبت صحة العمل بالظواهر أو لم يعلم كيفية الجمع بين الدليلين عند تعارض الأظهر مع الظاهر، أو النص و الظاهر، أو المطلق مع المقيد أو العام مع الخاص، أو المجمل مع المبين، أو لم يعلم الوظيفة عند الشك في أصل الوظيفة، أو مع ثبوته سابقا و الشك في بقائه، أو مع العلم بالوظيفة و الشك في المتعلق الى غير ذلك من المسائل فلا يمكن الاكتفاء على قول الثقة أو الظاهر عند الاستنباط و يصير متحيرا عند فقدان الدليل أو تعارضه فلا بد من تنقيح تلك المسائل و ما يقع في موقفها من البحث عن عموم الألفاظ أو خصوصها مطلقها و مقيدها، و ما يشبهها من البحث في مفاد الأوامر و النواهي من حيث الوجوب و الحرمة الى غير ذلك على نحو الاستدلال حسبما يسوقه الدليل لا على نحو التقليد فهل يسوغ للاخبارى الاستغناء عن تنقيح مثل هذه المباحث مع ان أكثر مدارك هذه المسائل موجودة في الكتاب العزيز و الأخبار الصادرة من أئمة أهل البيت عليهم السّلام و المرتكزات العرفية العقلائية، كما ان بعض المسائل الأصولية

مما يستدل عليه من طريق العقل كاجتماع الأمر و النهى فان مرجع البحث فيها الى لزوم اجتماع الضدين أو النقيضين من القول بالاجتماع الذي أجمع العقلاء، حتى الأخباريين على امتناعه و بالجملة معظم ما يتوقف عليه الاجتهاد، هو حجية خبر الثقة و الظاهر و الأوامر و النواهي و المطلق و المقيد و العام و الخاص، و الأصول العملية من البراءة و الاشتغال و التخيير و الاستصحاب و التعادل و التراجيح و اجتماع الأمر و النهى و غيرها مما هي دارجة في الفقه.

نعم لا بد فيها من الاقتصاد و الاعتدال لا على نحو التفريط الذي ذهب إليه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 51

..........

______________________________

الأخباريون، و لا على الإفراط الذي ابتليت به حوزات العلمية فان كلا منهما انحراف عن جادة الصواب.

اما الأول فلما أشرنا من وضوح توقف استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب و السنة على حجية الظواهر و حجية خبر الثقة و حجية الأوامر و النواهي و حجية العام و المطلق و الأصول العلمية من البراءة و الاشتغال و التخيير و الاستصحاب و مباحث التعادل و التراجيح و غيرها.

فطعن الاخبارى على الأصولي بعد اشتراكهما في لزوم معرفة الأحكام الشرعية ناشى ء عن الغفلة و الذهول عن حقيقة الأمر. و الأصولي لسعة اطلاعه بالنسبة إلى الاخبارى يفهم غالبا من الاخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام دقائق و لطائف لا ينالها الاخبارى كما لا يخفى.

و أظن ان إنكار بعض الأخباريين و طعنهم على الأصوليين بلحاظ ما قد يرى في بعض كتب الأصحاب كالسيد المرتضى، و العلامة و غيرهما في كيفية الاستدلال و النقض و الإبرام مما هي شبيهة بما في كتب العامة من

استعمال الاستحسانات و الظنون الاعتبارية و القياس أحيانا و نحوها فظنوا. أن مباني استنباط الأحكام الشرعية عند الأصوليين على ما عليه العامة.

و لكن لم يتفطنوا الى ما هو المراد منهم في ذكر تلك الأمور في كتبهم: لأنهم إنما يستدلون بها بعد إقامة الأدلة الواضحة على طريقة المذهب الصحيح و نهج الحق في المسئلة: إفحاما لمن يذهب الى الاستحسانات و الظنون الاعتبارية بأنه لو كان الملاك و المناط في الاستنباط و استخراج حكم المسئلة تلك الأمور، فهي موجودة فيما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام لا منكم فتأمل.

و يؤيد ما ذكرنا استدلال السيد (قدس سره) أحيانا بمثل أخبار أبي هريرة و ما في صحيحي البخاري و مسلم و نحوهما من مستندات العامة لوضوح ان الاستدلال بها لا ينفعه للعمل، بل وقع منه جدلا لرد الخصم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 52

..........

______________________________

و كذا يرى الاخبارى استدلال الأصولي بالإجماع، فيزعم غير الخبير منهم ان حجية الإجماع لدى أصحابنا الأصوليين بمجرد الاتفاق في الرأي كما يراه العامة.

و لكن لم يتفطن ان ذلك لكشفه عن رأى المعصوم عليه السّلام بلحاظ انه إذا اتفق أعلام الفرقة المحقة من الصدر إلى الساقة أو أرباب الجوامع الأولية على أمر مع، ما هم عليه من التورع و الاحتياط في الدين، خصوصا إذا كان ما هم عليه على خلاف القاعدة فإنه يكشف كشفا يقينا عادة بوجود مستند معتبر هناك قد خفي علينا بلحاظ وقوع بعض الحوادث المؤسفة كاحتراق مكتبة شيخ الطائفة بكرخ بغداد و فقد بعض جوامع الحديثية كمدينة علم الصدوق و رسالة على بن بابويه الى غير ذلك مما يجدها المتتبع فيؤخذ بما أجمعوا عليه و ان كان

هناك خبر واحد يخالفه لان ما أجمعوا عليه قطعي مما لا ريب فيه. و الخبر ظني فيه الريب حال مقابلته للإجماع مع ان المجمعين هم الذون دونوا هذا الخبر في جوامعهم الحديثية، و من طريقهم وصل إلينا. مع شدة اهتمامهم بما يصدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام فبذلك يحدس اللبيب باختلال أحد أركان الخبر فيحمل على انه لم يصدر لبيان الحكم الواقعي لو تم أصل الصدور.

فظهر ان الإجماع بما هو اتفاق لم يكن حجة عند أصحابنا بل بلحاظ كشفه عن رأى المعصوم حسبما ذكرنا و لا ينبغي الإشكال في حصول الحدس القطعي أو الظن المتاخم بالعلم بقول المعصوم عليه السّلام عند ذلك في الجملة.

نعم ربما يمكن ان لا يحصل ذلك لشخص و لكن هذا خارج عن محط البحث.

فعلى ما بيناه لا يعبد ان يكون القادح و المقدوح فيه كلاهما معذوران.

قدح مقالة الأخباريين في تدوين مسائل أصول الفقه

ربما يتوهم ان تدوين مسائل علم الأصول الفقه في كتاب مستقل من المحدثات المذمومة، و لعله، يعد بدعة حيث لم يعهد ذلك في عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام و من قدماء الأصحاب، و نحن في غنى عن كثير من مباحثه لأن الأخبار المأثورة المدونة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 53

..........

______________________________

في كتب الحديثية مقطوعة الصدور.

و لكنه مدفوع لان كل علم إذ أكثر البحث حوله و كثر مباحثه و تشعب فنونه يصير لائقا لان يدون في كتاب مستقل، و لم تكن الأخبار المدونة قطعية الصدور كما سنشير اليه عن قريب، و لو سلم ذلك لا يوجب الغناء عن كثير من المباحث التي أشرنا إلى ثلة منها، و ليس كل مستحدث بدعة غير صحيح كما لا يخفى على ذي مسكة.

هذا

كله بالنسبة إلى جانب التفريط في مسائل علم الأصول.

و اما بالنسبة إلى الإفراط فلان علم الأصول من العلوم الآلية لا الأصلية كما هو واضح فلا بد و ان يكون الباحث فيه عن مسائل يحتاج إليها فيما هو آلة لا مطلقا كأكثر مباحث الألفاظ مثل البحث عن المعاني الحرفية بأدق معانيها، و خصوصيات أبحاث المشتق و نحوها فان التوغل في المسائل الأصولية ربما يوجب انحراف السليقة عن الاستقامة المطلوبة في فهم الكتاب و السنة، كما ان التوغل في العلوم العقلية ربما لا يسلم عن اعوجاج السليقة في معرفة الكتاب و السنة كما لا يخفى.

فظهر ان توهم كون علم أصول الفقه علما برأسه و تحصيله كمال للنفس و صرف العمر في مباحثه غير المحتاج إليها في الفقه. متعذرا بان الاشتغال بتلك المباحث تشحيذ للذهن، و أنس بدقائق الفن، طرف الإفراط، و خير الأمور أوسطها و هو الاشتغال بمعرفة مسائل أصول الفقه، و تنقيحها بمقدار ما يحتاج إليه في استنباط الأحكام الشرعية و ترك فضول مباحثه أو تقليله و صرف همّه و وقته في مباحث علم الفقه، الذي هو قانون المعاش و المعاد و يحتاج إليه في عمله ليلا و نهارا، و يوجب معرفته و العمل به الوصول الى قرب الحق تعالى.

موقف الفحص عن فتاوى الأصحاب في الاجتهاد

و منها: الفحص الكامل عن فتاوى أصحابنا الإمامية و الاعتناء، بفتاويهم و مقالاتهم و طرز استنباطاتهم خصوصا قدمائهم الذين دأبهم الفتوى بمتون الاخبار كالصدوقين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 54

..........

______________________________

في كتبهما، و شيخ الطائفة في بعض كتبه، و من يحذو حذوهم، و من يقرب عصره أعصارهم لأنهم أساطين الفقه و الفقاهة و قريبو عهد بزمن أئمة أهل البيت عليهم السّلام،

مع كون كثير من الأصول المعتمدة موجودة لديهم، و قرائن الصدق متوفرة لديهم مما لعل كثير منها مفقودة في الأعصار المتأخرة.

فلا بد للطالب المتدرب الاعتناء، بمقالاتهم و فتاويهم لئلا يقع في خلافهم، و يحدث فقه جديد، فربما وقع أو يقع بعض المتوغلين في المباحث الأصولية و العقلية في فتوى، أو فتاو، لا تناسب المذهب، و صدر أو يصدر فتوى أو فتاو شاذة غير اللائقة به، و ليس ذلك الا لعدم الاعتناء بانظار أساطين الفقه و الفقاهة، فربما تكون الشهرة القدمائية مناط الإجماع، فكان أستادنا العلامة الكبير البروجردي (قدس سره) يعتمد على آرائهم، و يرى ان كثيرا من قدماء الأصحاب يذكرون في كتبهم الفقهية أصول المسائل المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و المتلقاة منهم يدا بيد من دون ان يتصرفوا فيها، أو يذكروا التفريعات المستحدثة، بل كم تجد مسئلة واحدة تذكر في كتبهم بلفظ واحد مأخوذ من متون الأخبار المأثورة بحيث يتخيل الناظر في كتبهم انهم أهملوا الاجتهاد و الاستنباط، بل كان الأواخر منهم يقلدون الأوائل، مع انه ليس كذلك، بل كانوا من أعاظم الفقهاء و المجتهدين، و ليس ذلك منهم إلا لشدة عنايتهم بذكر خصوص ما صدر عنهم عليه السّلام، و ما وصل إليهم بنقل المشايخ، و من ذلك كتب الصدوق كالهداية، و المقنع، و من لا يحضره الفقيه، و رسالة على بن بابويه، و مقنعة المفيد، و رسائل علم الهدى، و نهاية الشيخ، و مراسم سلار، و كافي أبي الصلاح و مهذب ابن براج الى غير ذلك.

و ما ذكره شيخ الطائفة في ابتدأ مبسوطه الذي صنفه في أخريات عمره الشريف أصدق شاهد على ذلك فقال ما ملخصه:

«ان استمرار هذه الطريقة بين أصحابنا

صار سببا لطعن المخالفين، فكانوا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 55

..........

______________________________

يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية و ينسبونهم إلى قلة الفروع و المسائل، و يقولون انهم أهل حشو و مناقضة، و ان من ينفى القياس و الاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل، و لا التفريع على الأصول، مع ان جل ما ذكروه من المسائل موجودة في أخبارنا و منصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجية يجري مجرى قول النبي صلّى اللّه عليه و آله اما خصوصا أو عموما، أو تصريحا، أو تلويحا، و اما ما كثروا به كتبهم من الفروع فلا فرع من ذلك الا و له مدخل في أصولنا و يخرج على مذاهبنا لا على وجه القياس و كنت على قديم الوقت و حديثه متشوق النفس الى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذالك القواطع، و تضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه، و ترك عنايتهم به لأنهم ألقوا الاخبار و ما رووه من صريح الألفاظ حتى ان مسئلة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لتعجبوا منها و قصر فهمهم عنها.

و كنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم و أصولها من المسائل و لم أتعرض للتفريع على المسائل و لا لتعقيد الأبواب و ترتيب المسائل و تعليقها، و الجمع بين نظائرها بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك، و عملت بأخرة مختصر جمل العقود في العبادات. سلكت فيه طريق الإيجاز و الاختصار و وعدت فيه ان اعمل كتابا في الفروع خاصة يضاف الى

كتاب النهاية و يجتمع معه، يكون كاملا كافيا في جميع ما يحتاج اليه.

ثم رأيت ان ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه لان الفرع انما يفهمه إذا ضبط الأصل معه فعدلت الى عمل كتاب يشمل على عدد جميع كتب الفقه إلى أخر ما افاده فلاحظ «1».

فكان سيدنا الأستاد (قدس سره) يقول إذا عثرت في مسئلة اطباق القدماء من

______________________________

(1) المبسوط 1/ 2 طبع 1387.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 56

..........

______________________________

أصحابنا على فتوى أو اشتهاره بينهم في تلك الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة و المأثورة، فأحدس بتلقيهم ذلك يدا بيد من قبل أئمة أهل البيت عليهم السّلام و ان لم تجد به نصا في الجوامع التي بأيدينا، و هذا هو الإجماع المعتبر عندنا فالعمل بالإجماع ليس رفضا لقول أئمة أهل البيت عليهم السّلام بل، هو من الطرق القطعية الكاشفة عن أقوالهم، فترى أن سلسلة فقهنا لم تنقطع و لم تحصل فترة بين الفقهاء من أصحابنا و بين الحجج المعصومين كما لا يخفى على من تتبع تاريخ الفقه و الحديث.

و قال (قدس سره) و قد عثرنا في أثناء تتبعنا على مواضع كثيرة يستكشف فيها من فتاوى الأصحاب وجود نص و أصل إليهم من دون ان يكون منه في الجوامع الحديثية التي بأيدينا عين و لا اثر.

و قال فيما قال لعل المتتبع في فقه الشيعة الإمامية يعثر على أكثر من خمسمائة مسئلة افتى فيها المشايخ طرا بفتوى يستكشف بسببها وجود النص فيها مع عدم كونه مذكورا في جوامعهم التي ألقوها لضبط الأحاديث.

و استشهد (قدس سره) لذلك وجود أخبار كثيرة في جامع حديث، مع عدم ذكرها في جامع آخر. و افاده في

وجهه انه لعل ذلك بلحاظ عدم بناء الصدوق، و الكليني و الشيخ (قدس اللّه أسرارهم) على إيداع جميع ما وجدوه في الجوامع الأوّلية بل على نقل خصوص ما كان لهم طريق مسلسل الى رواتها. فقال:

لا ينبغي لأحد ان يرتاب: ان أخبارنا معاشر الإمامية لم تكن مقصورة على ما في الكتب الأربعة بل كان كثير منها موجودة في الجوامع الأولية التي ألفها الطبقة السادسة «1» من أصحابنا كجامع على بن الحكم، و ابن ابى عمير، و أحمد بن ابى نصر البزنطي، و حسن بن على بن فضال، و مشيخة حسن بن محبوب و نظرائهم.

فليكن ما ذكرناه هنا على ذكر منك ينفعك كثيرا في استنباط الأحكام الشرعية

______________________________

(1) يعني أصحاب الرضا (ع).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 57

..........

______________________________

إن شاء اللّه «1».

موقف معرفة فتاوى العامة في الاجتهاد

و منها: معرفة فتاوى العامة الدارجة في أعصار الأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم: لوضوح ان في معرفتها دخالة في فهم الأخبار الصادرة عنهم عليه السّلام و تمييز ما هو الصادر عنهم لبيان الحكم الواقعي عما هو الصادر عنهم تقيّة و رفع التعارض في أخبارهم كما لا يخفى على المتدرب الخبير.

موقف تكرر تفريع الفروع في الاجتهاد

و منها: تكرر تفريع الفروع الفقهية على أصولها حتى تحصل قوة الاستنباط و تكمل فيه، فان الاجتهاد و الاستنباط من العلوم العملية التي لا يكاد ينال طالبها الا مع الممارسة العملية كما لا يخفى.

موقف معرفة علم الرجال في الاجتهاد
اشارة

و منها: معرفة علم الرجال.

لا ينبغي الإشكال إجمالا في لزوم معرفة حال ثقاة الرجال الواقعين في اسناد الأخبار الواردة في بيان الأحكام الشرعية و تمييزهم عن غيرهم بحيث يتضح حال سند الخبر من حيث دخوله في القسم المقبول منه، أو المردود منه.

و ذلك لان جملة من الأحكام الشرعية و ان كانت تستفاد من الكتاب العزيز الا انه أقل قليل مع عدم تعرض الآيات المباركات لجزئيات الأحكام، و انما هو متعرض لكلياتها، و جل الأحكام الشرعية تستفاد من الاخبار خصوصا من الاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه السّلام.

و لا يخفى انه لا يتم الاستدلال بالخبر الا بعد تمامية أمور:

______________________________

(1) جل ما نقلناه من سماحة استاد العلامة (قدس سره) مقتبس من مواضع من كتاب البدر الزاهر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 58

..........

______________________________

1- أصل الصدور. 2- و دلالته. 3- جهة صدوره.

و مع عدم تمامية هذه الأمور لا يصح الاستدلال بالخبر.

فلو لم يكن مفاد الخبر نصا في مفاده، بل كان ظاهرا فيه، فلا بد من إثبات حجية ظهوره، و قد قرر في علم الأصول حجية الظواهر.

و اما جهة صدور الخبر فلما تقرر في محله ان الأصل العقلائي في كل كلام صادر من كل متكلم و منها الخبر الحاكي عن قول المعصوم عليه السّلام أو فعله، أو تقريره:

ان يكون لبيان ما هو الواقع لا لجهة أخرى فيكون الأصل العقلائي في الخبر ان يكون صادرا لبيان الحكم الواقعي لا لغيره من

تقية أو غيرها.

و اما من حيث الصدور فهو الذي يتكفله علم الرجال فقد وقع الخلاف في الاعتماد على الاخبار الموجودة في الكتب المعروفة بين الأصحاب كالكتب الأربعة و نظرائها من تفسير على بن إبراهيم، و كامل الزيارات، و كتب الصدوق: كمدينة العلم، و عيون اخبار الرضا، و معاني الاخبار و غيرها. و الاحتجاج الى غير ذلك.

انظار الأصحاب في موقف علم الرجال في الاجتهاد

فمنهم: من يعتمد على تلك الاخبار و يعتقد ان كل الأخبار الموجودة فيها أو جلها خصوصا ما في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور.

و قد يظهر من بعضهم ان الاخبار المدونة في الكتب الأربعة مما يطمئن بصدورها لعمل الأصحاب على طبقها و عدم نقاشهم في إسنادها.

قال الفقيه الهمداني (قدس سره): ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتصافها بالصحة المصطلحة و الا فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لو لا البناء على المسامحة في طريقها و العمل بظنون غير ثابتة الحجية، بل المدار على وثاقة الراوي، أو الوثوق بصدور الرواية و ان كانت بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدونة في الكتب الأربعة، أو مأخوذة من الأصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها و عدم اعراضهم عنها، و لا شبهة في ان قول بعض

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 59

..........

______________________________

المزكين بان فلانا ثقة أو غير ذلك من الألفاظ التي اكتفوا بها في تعديل الرواة لا يؤثّر الوثوق أزيد مما يحصل من اخبارهم بكونه من مشايخ الإجازة، و لأجل ما تقدمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حال الرجال و الاكتفاء في توصيف الرواية بالصحة كونها موصوفة بها في السنة مشايخنا المتقدمين الذين تفحصوا عن حالهم اه «1».

و ربما

يظهر من بعضهم: لزوم مراعاة كل من رجال إسناد الاخبار لعدم جبر ضعف السند بعمل الأصحاب على طبقه، و لعدم اعتبار الإجماع المدعى على تصحيح ما يصح عن جماعة من أجلاء الرواة، المعرفين بأصحاب الإجماع.

و لعدم معلومية المراد من معقد الإجماع على تقدير صحة الإجماع و اعتباره بدعوى انه كما يحتمل ان يكون المراد به ان السند إذا كان معتبرا الى أحد تلك الجماعة لم ينظر الى من يقع بعدهم في سلسلة السند من الرواة بل يحكم باعتباره و لو كان بعدهم غير معلوم الحال، فكذلك يحتمل ان يكون المراد به توثيق أصحاب الإجماع في أنفسهم فيكون معناه ان الجماعة المذكورين ثقات و ان كان بعضهم واقفيا أو فطحيا، أو غيرهما من المذاهب الباطلة، فالسند إذا تم من غير ناحيتهم فهو تام من جهتهم أيضا، و بما ان كلا من الأمرين محتمل الإرادة في نفسه فيصبح معقد الإجماع مجملا، فلا يمكن الاعتماد عليه الا في المقدار المتيقن منه و هو الأخير.

و لعدم الاعتماد على مراسيل مثل ابن ابى عمير، و صفوان من يحيى، و أحمد بن ابى نصر البزنطي و غيرهم ممن عرفوا بأنهم لا يرسلون أو لا يرون الا عن ثقة الى غير ذلك من القرائن التي يذكر للوثوق بصدور الرواية.

فعلى هذه الجهات يكون علم الرجال عنده من أهم ما يتوقف عليه رحى الاستنباط و الاجتهاد، إذ به يعرف الثقة عن الضعيف، و به يميز الغث عن السمين و لا مناص له الا من الرجوع الى علم الرجال في معرفة كل واحد من رجال السند

______________________________

(1) صلاة مصباح الفقيه/ 12.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 60

..........

______________________________

ليظهر له انه موثوق

به ليؤخذ بخبره أو انه ضعيف لئلا يعتمد على اخباره.

و ربما يظهر من بعضهم الاعتماد على الخبر الضعيف بعمل الأصحاب على طبقة، أو الاعتماد على تصحيح ما يصح عن الجماعة، أو الاعتماد على مراسيل مثل هؤلاء الثلاثة، و لكن إذا كان مورد الاستنباط مشتملا على صنفين من الاخبار قد عمل بكل منهما ثلة من الأصحاب، أو لم يحرز إعراض الأصحاب و لا عملهم على طبق الخبر فيحتاج الى علم الرجال في ترجيح أحد الخبرين على الأخر.

و ربما يظهر من بعضهم الاعتماد ببعض ما ذكرناه دون أخر فيكون احتياجه الى علم الرجال أشد.

الى غير ذلك من الأقوال التي يجدها المتتبع في حالاتهم في الاعتماد الى بعض قرائن التوثيق و عوامل الاعتبار دون آخر.

عدم الاحتياج المبرم الى علم الرجال في العمل بالكتب الأربعة و نظائرها

و بالجملة وقع الأصحاب في حيص و بيص في الاحتياج في استنباط الأحكام الشرعية إلى علم الرجال فمنهم مفرط و منهم مفرط و منهم متوسطات.

و الذي يختلج بالبال و أظنه عليه عمل جل الأصحاب و ان أنكره بعضهم باللسان و لكن قلبه مطمئن به: هو عدم الاحتياج المبرم الى علم الرجال في الاعتماد على الاخبار الموجودة في كتب أصحابنا المعروفة خصوصا الكتب الأربعة.

فوائد علم الرجال

و لا يخفى أن لمعرفة علم الرجال فوائد: و يكون من قرائن صحة النقل، و عوامل التوثيق، لأنه بمعرفته يعرف من نص علماء الرجال على وثاقته مع صحة عقيدته، كما انه يعرف بذلك من نصوا على مدحه و جلالته و ان لم يوثقوه مع كونه من أصحابنا كما يعرف بذلك وثاقته مع فساد مذهبه، كعلي بن الحسن الطاطري الكوفي و غيره،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 61

..........

______________________________

كما يعرف بذلك كون الرجل من أصحاب الإجماع، أو من أصحاب الأصول، أو شيوخ الإجازة، أو الرواية، أو انه يصح الاعتماد بكتابه مع كونه مجهولا، أو ضعيفا كأخبار على بن أبي حمزة البطائني عن الصادق عليه السّلام، و قد يكون الرجل مما وقع الاختلاف على وثاقته و ضعفه الا انه يرجح وثاقته الى غير ذلك.

[تتميم في علم الدراية]
أنحاء الخبر على اصطلاح المتأخرين

و السر في عدم الاحتياج المبرم الى علم الرجال هو ان الذي استقر عليه اصطلاح المتأخرين من الأصحاب من زمن السيد الأجل السيد أحمد بن طاوس المتوفى 673 ه ق استاد العلامة الحلي المتوفى 726 (قدس سرهما) هو تنويع الحديث المعتبر في الجملة إلى الأنواع الثلاثة من الصحيح، و الحسن، و الموثق: بأنه ان كان جميع سلسلة سنده اماميين ممدوحين بالتوثيق فصحيح، و ان كانوا اماميين ممدوحين بدونه كلا أو بعضا فحسن. و ان كانوا بعضا أو كلا غير اماميين مع توثيق الكل فموثق. فالضعيف عندهم ما كان كلا أو بعضا غير اماميين موثقين.

و لكن هذا الاصطلاح لم يكن معروفا بين قدماء الأصحاب كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم بل المتعارف فيهم هو إطلاق الصحيح على كل حديث يصح الاعتماد عليه اما في حد نفسه أو بلحاظ احتفافه و

اقترانه بما يوجب الوثوق و الاطمئنان و ان لم يكن راويه عدلا أو ثقة أو حسنا في حد نفسه.

و لقد أجاد صاحب الحدائق في المقام حيث قال:

«لا يخفى على من تتبع السير و الاخبار و طالع الكتب المدونة في تلك الآثار فان المستفاد منها- على وجه لا يكون فيه الشك- انه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم عليهم السّلام الى وقت المحمدين الثلاثة «1» في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة

______________________________

(1) و هم:

1- الشيخ الأجل محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 9- 328 مؤلف كتاب الكافي.

2- و الشيخ الصدوق محمد بن على بن بابويه القمي المتوفى 381 مؤلف كتاب من لا يحضره الفقيه.

3- شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460 جامع كتابي التهذيب و الاستبصار.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 62

..........

______________________________

ضبط الأحاديث و تدوينها في مجالس الأئمة، و المسارعة إلى إثبات ما يسمعونه خوفا من تطرق السهو و النسيان، و عرض ذلك إليهم و قد صنفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة كلها من اجوبتهم عليهم السّلام و انهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته، و قد روى انه عرض على الصادق عليه السّلام: كتاب عبيد اللّه بن على الحلبي فاستحسنه و صححه «1»، و على العسكري عليه السّلام كتاب يونس بن عبد الرحمن «2» و كتاب فضل بن شاذان «3» فاثنى عليهما، و كانوا عليهم السّلام يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين، و يأمرونهم بمجانبتهم و عرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز

______________________________

(1) عبيد اللّه الحلبي ثقة كوفي صنف كتابا عرضه على الامام الصادق (ع) فاستحسنه و قرضه بقوله: ليس لهؤلاء في الفقه مثله قال شيخنا العلامة

الطهراني في الذريعة ج 16/ 281:

و في رجال البرقي و تبعه في الخلاصة انه أول ما صنف في الفقه، و لكن يظهر من النجاشي ان أول ما كتب في الفقه من الشيعة كتاب ابى رافع و كتاب السنن لأبي رافع اه.

(2) يونس بن عبد الرحمن مولى على بن يقطين كان وجها في أصحابنا متقدما عظيم المنزلة، روى عن ابى الحسن موسى، و الرضا عليهما السلام، و كان الرضا عليه السّلام يشير إليه في العلم و الفتيا، و كان ممن بذل له على الوقف مال جزيل و امتنع من أخذه و ثبت على الحق له كتب كثيرة، روى الصدوق عن ابى هاشم الجعفري أنه عرضت على ابى محمد صاحب العسكر عليهما السلام: كتاب يوم و ليلة ليونس فقال لي: تصنيف من هذا؟

فقلت تصنيف يونس مولى ال يقطين فقال أعطاه اللّه بكل حرف نورا يوم القيمة. توفي سنة ثمان و مائتين (208) كذا في مجمع الرجال ج 6/ 307.

(3) فضل بن شاذان كان ثقة أحد أصحابنا الفقهاء، و المتكلمين يقال انه صنف مائة و ثمانين كتابا، كان من أصحاب الهادي و العسكري عليهما السلام قال أبو محمد عليهما السلام بعد ان تفحص كتاب يوم و ليلة ورقة ورقة قال: هذا صحيح ينبغي ان يعمل به، كذا في مجمع الرجال ج 5/ 22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 63

..........

______________________________

و السنة النبوية و ترك ما خالفهما الى آخر ما افاده فلاحظ «1».

يشهد لكون الأخبار الموجودة في كتب أصحابنا الإمامية المعروفة- كالكتب الأربعة و نظائرها- صحيحة باصطلاح القدماء، أمور:

تصريح الكليني بان ما في الكافي من الآثار الصحيحة عن الصادقين

منها: ما قال شيخنا الأجل ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 328 أو 329 سنة

تناثر النجوم في طليعة كتابه القيم الكافي الشريف، و إليك نص عبارته.

قد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح «2» أهل دهرنا على الجهالة و توازرهم «3» و سعيهم في عمارة طرقها و مباينتهم العلم و اهله الى ان قال:

و ذكرت أمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، و انك تعلم ان اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها، و أسبابها، و انك لا تجد بحضرتك من تذاكره و تفاوضه ممن تثق بعلمه فيها، و قلت انك تحب ان يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفى به المتعلم، و يرجع اليه المسترشد، و يأخذ منه من يريد علم الدين، و العمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام و السنن القائمة التي عليها العمل، و بها يؤدى فرض اللّه عز و جل، و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و قلت: لو كان ذلك رجوت ان يكون ذلك سببا يتدارك اللّه تعالى بمعونته و توفيقه إخواننا و أهل ملتنا و يقبل بهم الى مراشدهم الى ان قال.

و قد يسر اللّه و له الحمد تأليف ما سئلت و أرجو ان يكون بحيث توخيت «4» فمهما كان فيه تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة إذ كانت واجبة لإخواننا و أهل ملتنا مع ما رجونا ان نكون مشاركين لكل من اقتبس منه و عمل بما فيه في دهرنا هذا

______________________________

(1) الحدائق الناضرة ج 1/ 9.

(2) اى تصالحهم و توافقهم.

(3) التوازر: التعاون.

(4) اى تحريت و قصدت.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 64

..........

______________________________

و في غابره الى انقضاء الدنيا إذ الرب جل و عز واحد و الرسول

محمد خاتم النبيين صلوات اللّه و سلامه عليه و آله واحد و الشريعة واحدة و حلال محمد حلال و حرامه حرام الى يوم القيمة، و وسعنا قليلا كتاب الحجة و ان لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا ان نبخس «1» حظوظه «2» كلها «3».

و لا يخفى ان ظاهره بل صريحه ان السائل إنما سئل محمد بن يعقوب تأليف كتاب جامع لفنون علم الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام، و محمد بن يعقوب (قدس سره) قد لبّى دعوته بتأليف كتاب الكافي، و ظاهر العبارة التي حكينا بل صريحها انه (قدس سره) كتب الخطبة بعد إتمام الكتاب لقوله: «قد يسر اللّه و له الحمد تأليف ما سئلت»، و قوله «و وسعنا قليلا كتاب الحجة».

و واضح ان ما ذكره شهادة صريحة بعد الفراغ من تأليفه بصحة جميع ما في كتابه و انها من الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام.

و يمكن الاستشهاد بمقاله هذا بصحة أحاديث ما في الكافي بوجوه أشار إليها شيخنا الحر العاملي ره:

وجوه الاستشهاد لصحة أحاديث الكافي

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 64

منها: قوله بالآثار الصحيحة، و معلوم انه لم يذكر فيه قاعدة يميز بها الصحيح عن غيره لو كان فيه غير صحيح، و لم يكن اصطلاح المتأخرين موجودا في زمانه قطعا و لا يمكن انطباقه على ما فيه، فعلم ان كل ما فيه صحيح باصطلاح القدماء بمعنى الثابت عن المعصوم عليه السّلام و لو بالقرائن القطعية و المتواترة.

و منها: وصفه لكتابة هذا بالأوصاف المذكورة البليغة التي يستلزم ثبوت أحاديثه

كما لا يخفى.

______________________________

(1) اى ننتص و نترك.

(2) و الحظوظ جمع كثرة للخط و هو النصيب.

(3) أصول الكافي ج 1/ 5 الى 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 65

..........

______________________________

و منها: ما ذكره من انه صنف الكتاب لازالة حيرة السائل و معلوم انه لو لفق كتابه من الصحيح و غيره و ما ثبت اعتباره من الاخبار و ما لم يثبت لزاد السائل حيرة و اشكالا فعلم أن أحاديثه كلها ثابتة.

و منها: انه ذكر انه لم يقصر في إهداء النصيحة و انه يعتقد وجوبها فكيف لا يرضى بالتقصير في ذلك و يرضى بان يلفق كتابه من الصحيح و الضعيف مع كون القسمين متميزين في زمانه قطعا «1».

قلت: كيف لا و قد نسب النجاشي للكليني (قدس سره) تأليف كتاب الرجال «2».

وجوه التي ذكرها بعض الأساطين لعدم كون جميع ما في الكافي صحيحة و دفعها

الأول قوله دام ظله: ان السائل إنما سئل محمد بن يعقوب تأليف كتاب مشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين سلام الله عليهم و لم يشترط عليه ان لا يذكر فيه غير الرواية الصحيحة، أو ما صح عن غير الصادقين عليهم السّلام، و محمد بن يعقوب قد أعطاه ما سئله فكتب كتابا مشتملا على الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام في جميع فنون علم الدين و ان اشتمل كتابه على غير الآثار الصحيحة عنهم عليهم السّلام، أو الصحيحة عن غيرهم أيضا استطرادا و تتميما للفائدة إذ لعل الناظر يستنبط صحة رواية لم تصح عند المؤلف أو لم تثبت صحتها.

ثم ذكر اثنى عشر موردا رواه الكليني في الكافي عن غير المعصومين «3».

و فيه: ان الكليني (قدس سره) صنف الكافي لازالة حيرة السائل و واضح انه لو لفق كتابه من الصحيح و غيره و لم يذكر

فيه قاعدة يميز بها الصحيح عن غيره لزاد السائل حيرة و اشكالا، فيعلم ان أحاديث الكافي كلها بحسب اعتقاده ثابتة عن المعصوم

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 64.

(2) رجال النجاشي ط مصطفوى/ 192.

(3) معجم رجال الحديث ج 1/ 101 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 66

..........

______________________________

عليه السّلام و لو بالقرائن.

و أنت خبير بان ذكر موارد نادرة في كتابه العظيم عن بعض الأصحاب مع التصريح بأسمائهم استطرادا و تتميما للفائدة لا ينافي ما وعده و لا يوجب حيرة السائل و اشكاله كما لا يخفى.

و بالجملة و زان ذكر هذه الكلمات عن أصحابنا و لو مع عدم التصريح بأسمائهم- مع انه صرح بأسمائهم- وزان ذكر معاني الألفاظ عن أرباب اللغة فكما لا ينافي ذكر معاني اللغة عن أصحابها كون مجموع الكتاب مرويا عن الصادقين عليهم السّلام فكذلك ذكر تلك الموارد.

مع انه يمكن إرجاع بعض تلك الموارد بوجه الى المعصوم عليه السّلام كما لا يخفى فتدبر.

الثاني: قوله دام ظله انه لو سلم ان محمد بن يعقوب شهد بصحة جميع روايات الكافي فهذه الشهادة غير مسموعة فإنه ان أراد بذلك ان روايات كتابه في نفسها واجدة لشرائط الحجية فهو مقطوع البطلان، لان فيها مرسلات و فيها روايات في إسنادها مجاهيل، و من اشتهر بالوضع و الكذب كأبي البختري و أمثاله. و ان أراد بذلك ان تلك الروايات و ان لم تكن في نفسها حجة الا انه دلت القرائن الخارجية على صحتها و لزوم الاعتماد عليها فهو أمر ممكن في نفسه و لكنه لا يسعنا تصديقه و ترتيب أثار الصحة على تلك الروايات غير الواجدة لشرائط الحجية فإنها كثيرة جدا و من البعيد جدا وجود

امارة الصدق في جميع هذه الموارد.

مضافا الى ان اخبار محمد بن يعقوب بصحة جميع ما في كتابه حينئذ لا يكون شهادة و انما هو اجتهاد استنبطه مما اعتقد انه قرينة على الصدق، و من الممكن ان ما اعتقده قرينة على الصدق لو كان وصل إلينا لم يحصل لنا ظن بالصدق أيضا فضلا عن اليقين «1».

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1/ 103 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 67

..........

______________________________

و فيه: ان الظاهر بل المقطوع أن الكليني (قدس سره) أراد بصحة ما في الكافي الشق الثاني- و هو كون روايات الكافي معتبرات يصح الاعتماد عليها و ان كان بواسطة القرائن- و استبعاده دام ظله غير مسموع كيف؟! و قد ألّفه الكليني طيلة عشرين سنة كما صرح بذلك شيخنا النجاشي في رجاله، و قد كان حيا في زمن سفراء الناحية المقدسة «1».

كلام السيد بن طاوس في موقف الكافي

بل عن السيد بن طاوس في كشف المحجة أنه توفي الكليني قبل وفات على بن محمد السمري رحمه اللّه لان على بن محمد السمري توفي في شهر شعبان ثلاثمائة، و تسع و عشرين (329) و محمد بن يعقوب الكليني توفي ببغداد سنة ثلاثمائة و ثمان و عشرين (328) فتصانيف هذا الشيخ محمد بن يعقوب و رواياته في زمن الوكلاء المذكورين و في وقت يجد طريقا الى تحقيق منقولاته و تصديق مصنفاته «2».

حدس المحدث النوري في عرض الكافي لسفراء الناحية
اشارة

أضف الى ذلك حدس شيخنا المحدث النوري (ره) من عبارة السيد الأجل بأن الكليني (قدس سره) كأنه عرض الكتاب على أحد السفراء و إمضائه، و حكمه بصحته و هو عين إمضاء الإمام عليه السّلام.

بل صرح بأن التأمل في مقدمات كتابه يورث الظن القوى، و الاطمئنان التام و الركون بما ذكره ابن طاوس، لأن الكليني (رحمه اللّه) كان وجه الطائفة، و عينهم و مرجعهم كما صرحوا به، و في بلدة اقامة النواب، و كان غرضه من التأليف العمل به في جميع ما يتعلق به بأمور الدين، لاستدعائهم و سؤالهم إياه عن ذلك، كما صرح به في أول الكتاب، خصوصا قوله (ره):

______________________________

(1) و هم الأجلاء: 1- عثمان بن سعيد العمرى.

2- و ولده أبو جعفر محمد.

3- و أبو القاسم حسين بن روح. 4- و على بن محمد السمري رحمهم اللّه تعالى.

(2) مستدرك الوسائل ج 3/ 539.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 68

..........

______________________________

«و قلت انك تحب ان يكون كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون الدين ما يكتفى به المتعلم و يرجع اليه المسترشد، و يأخذ منه من يريد علم الدين و العمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام، و السنن

القائمة التي عليها العمل، و بها تؤدى فرض اللّه، و سنن نبيه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم قال شيخنا النوري: ان غرض الكليني (قدس سره) لم يكن كالغرض في جملة من المؤلفات من اقتناء جميع ما ورد في ثواب الأعمال و عقابها و خصال الخير و الشر، و علل الشرائع و غيرها، بل للأخذ و التمسك به، و التدين به، و العمل بما فيه و كان، بمحضره في بغداد من يسئلون عن الخبر بتوسط أحد من النواب عن صحة بعض الاخبار و جواز العمل به و في مكاتيب محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري إليه عليه السّلام جملة وافرة و غيرها.

و من البعيد غاية البعدانه رحمه اللّه في مدة تأليفه و هي عشرون سنة لم يعلمهم بذلك و لم يعرضه عليهم مع ما كان فيما بينهم من المخالطة و المعاشرة بحسب العادة الى ان قال بعد كلام طويل.

فمن البعيد غاية البعدان أحدا منهم لم يطلب من الكليني هذا الكتاب الذي عمله لعمل كافة الشيعة، أو لم يره عنده و لم ينظر اليه، و قد عكف عليه وجوه الشيعة و عيون الطائفة.

و بالجملة فالناظر الى جميع ذلك لعله يطمئن بما أشار إليه السيد الأجل «1» إلى أخر ما ذكره فلاحظ «2».

تمامية حدس المحدث النوري و ان لم يكن الكليني مقيما ببغداد طيلة تأليف الكافي

و لا يخفى ان ما افاده شيخنا النوري (قدس سره) يتم و ان لم يكن الكليني مقيما

______________________________

(1) يعنى السيد الأجل ابن طاوس في كشف المحجة/ 159.

(2) المستدرك ج 3/ 532/ 533.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 69

..........

______________________________

ببغداد طيلة تأليفه بل انتقل إليها أخيرا قبل موته و قد استقرب أستادنا العلامة البروجردي (قدس سره) انه سافر الى بغداد قبل

موته بسنتين أو أكثر و نزل بمحلة باب الكوفة و سمعه منها أيضا جماعة من البغداديين و الكوفيين و كان بها الى ان توفي و دفن بمقبرة تلك المحلة إلخ «1».

أ ليس من البعيد أن الكليني- و هو شيخ أصحابنا بلا نكير- كان مقيما في بلدة سفراء الناحية المقدسة سنتين أو أكثر و لم يعلم هو: ان سفراء الناحية مقيمون في تلك البلدة، و لم يطلعوا بورود شيخ من أصحابنا في بلدهم في تلك المدة، و لم يكن بينه و بينهم تلاق أصلا مع انه بنص أستادنا العلامة (ره) كان يتردد إليه جماعة من البغداديين و الكوفيين و يسمعون منه، ثم انه من المستبعد جدا انه عند الملاقاة و التردد لم يعرض عليهم ما ألفه لعمل الشيعة طيلة سنين متمادية، ثم أبعد منه عدم مطالبتهم إياه كتابه القيم الذي عكف عليه منذ تأليفه وجوه الشيعة و عيون الطائفة، فلو كان كتابه هذا مشتملا على الصحيح و السقيم مع عدم ذكر ما يتميز به الصحيح عن القيم و لم يكن ما اصطلح عليه المتأخرون معروفا بينهم لوجب عليهم أعلامه بذلك، و هل يصح منهم التسامح في هذا الأمر العظيم حاشاهم.

مناقشة بعض في الحدس و دفعها

و ما يروم في بعض الألسن انه لو كان بينه و بينهم مخالطة لا بد و ان يروى عن أحد من نواب الناحية المقدسة في أبواب الكافي، أو انه لو عرض هو نفسه كتابه عليهم لذكره في ديباجة كتابه، غير وجيه لأنه لم يتعارف من الناحية المقدسة تصديق جوامع حديثية أصحابنا بل لم يعهد الا نادرا، و لعله لم يكن صلاح الطائفة المحقة في ذلك أيضا كما لا يخفى على اللبيب، و لذا ترى ان الشيخ

الجليل حسين بن روح ثالث النواب الأربعة المتوفى 326 ق أنفذ كتاب التأديب الذي ألفه نفسه الى قم

______________________________

(1) تجريد أسانيد الكافي ج 1/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 70

..........

______________________________

و كتب الى جماعة من الفقهاء بها، فقال لهم انظروا في هذا الكتاب و انظروا فيه شي ء يخالفكم؟ إلخ «1» مع انه كان الاولى عرضه على الناحية المقدسة و السؤال عنه عليه السّلام و الظاهر، ان ذلك ليس الا لعدم بنائهم على ذلك ليقوي فكره الشيعة و يتهيئوا للغيبة الكبرى فتدبر.

نعم عند وقوع الفتنة و وجود جو فاسد من شخص أو أشخاص فاسدين كان على الناحية المقدسة و السفراء، إرشاد الأمة، و حفظهم عن الضلالة، فلعله لأجل ذلك لم يروا الكليني في الكافي عن أحد النواب الأربعة، و لم يصرح في ديباجته عرضه عليهم فتدبر.

و بالجملة الناظر اللبيب و الواقف بأوضاع ذاك العصر يحدس حدسا قويا ان الكافي عرض على أبواب الناحية المقدسة و لا أقل على واحد منهم و كان موردا لتاييدهم نعم الجزم بذلك مشكل.

تأييد من العلامة المجلسي في اعتبار اخبار الكافي

و لقد أجاد شيخنا العلامة المجلسي (قدس سره) حيث قال في حق الكافي و نحوه «و الحق عندي فيه (يعني الكافي) ان وجود الخبر في أمثال تلك الأصول المعتبرة مما يورث جواز العمل به لكن لا بد من الرجوع الى الأسانيد لترجيح بعضها على بعض عند التعارض فان كون جميعها معتبرة لا ينافي كون بعضها أقوى، و اما جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضا على القائم عليه السّلام لكونه في بلدة السفراء فلا يخفى ما فيه على ذي لب نعم عدم إنكار القائم و آبائه صلوات اللّه عليه و عليهم عليه و

على أمثاله في تأليفاتهم و رواياتهم مما يورث الظن المتاخم للعلم بكونهم راضين بفعلهم و مجوزين للعمل بأخبارهم «2».

______________________________

(1) قال في الذريعة ج 3/ 210: فكتب الفقهاء إليه: انه كله صحيح و ما فيه شي ء يخالف، الا قولكم في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام و الطعام عندنا مثل الشعير من كل واحد صاع.

(2) مرأة العقول ج 1/ 6 من الطبعة القديمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 71

عدم الملازمة بين اعتبار الخبر و العمل على طبقه

______________________________

و إياك ان تتوهم مما ذكرنا انه إذا كانت جميع ما في الكافي صحيحة فلأي جهة لم يكن العمل على طبق جميعها؟!! و لأي علة عنون الكليني في مقدمة الكافي: الخيرين المتعارضين و كيفية علاجهما؟!! و ذلك لما أشرنا ان مجرد الوثوق بصدور الخبر لا يلازم العمل به ما لم ينضم إليه جهة الصدور و قد صدر من الأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم لمصالح راجعة إلى أنفسهم المقدسة أو شيعتهم اخبار لم يكن لبيان الأحكام الواقعية و لذا ورد من ناحيتهم ترجيح أحد الخبرين على الأخر بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة أو كونه موافقا للمجمع عليه و فيما لا يوجد مرجح جوزوا الأخذ بأحدهما من باب التسليم.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده دام ظله أخيرا: من ان اخبار الكليني بصحة جميع ما في كتابه لا يكون شهادة و انما هو اجتهاد استنبطه «1».

مضافا إلى ما نشير الى ضعفه عند الكلام في اعتبار كتاب من لا يحضره الفقيه، و حاصله انه كيف يقبل قول الكليني في توثيق الرجل و تضعيفه و لا يقبل قوله في اعتبار الخبر و صحته مع انه من خريط فن الرجال و كان له كتاب في الرجال

فلاحظ الثالث: قوله دام ظله انه يوجد في الكافي روايات شاذة لو لم ندّع القطع بعدم صدورها من المعصوم عليه السّلام فلا شك في الاطمئنان به، و مع ذلك كيف يصح دعوى القطع بصحة جميع الروايات و انها صدرت من المعصومين عليهم السّلام «2».

و فيه: ان المدعى الاطمئنان بصدور ما في الكافي عن المعصومين عليهم السّلام لا العمل بكل ما فيه و كم فرق بينهما و قد عرفت بما لا مزيد عليه عوامل حصول الاطمئنان بصدورها و لا ينافي شذوذ بعض ما فيها و صدورها عنهم عليهم السّلام كما لا يخفى.

______________________________

(1) معجم رجال الحديث ج 1/ 103 من المقدمة.

(2) معجم رجال الحديث ج 1/ 104 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 72

كلمة من المحدث البحراني في ان الأئمة (ع) يلقون الخلاف لمصالح راجعة إلى الشيعة و الى أنفسهم الشريفة

______________________________

و قد صرح المحدث البحراني: ان الأئمة صلوات اللّه عليهم ألقوا الخلاف بين الشيعة لمصالح راجعة إليهم و الى أنفسهم الشريفة، بل ربما يجيبون في المسئلة الواحدة أجوبة متعددة و ان لم يكن بها قائل من المخالفين فذكر موارد منها لاحظ المقدمة الاولى من مقدمات الحدائق ج 1/ 5.

و اما ما أيده دام ظله أخيرا لعدم كون جميع روايات الكافي صحيحة بان الصدوق لم يكن يعتقد بصحة ما في الكافي فغير ظاهر.

و ذلك لان حاصل ما أفاد دام ظله في ذلك هو انه لو كان جميع روايات الكافي صحيحة عند الصدوق لما قال في خطبة كتاب من لا يحضره الفقيه: «انى لم اقصد فيه قصد المصنفين من إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما افتى به و احكم بصحته و اعتقد انه حجة فيما بيني و بين ربي فان هذا الكلام ظاهر في ان كتاب

الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح و غير الصحيح كسائر المصنفات، مع انه لو كان جميع روايات الكافي صحيحة عند الصدوق لم تكن له حاجة الى تأليف كتاب من لا يحضره الفقيه، بل كان عليه إرجاع السيد الشريف الى كتاب الكافي لكون الكافي أوسع و أشمل من كتابه «1».

و سيجي ء منا الكلام حول صحة ما في كتاب من لا يحضره الفقيه ما يظهر لك جليا إن شاء اللّه عدم تمامية ما استظهره دام ظله من كلام الصدوق (ره) و تعلم وجود الحاجة لتصنيف كتاب من لا يحضره الفقيه و ان كان جميع ما في الكافي صحيحا عند الصدوق فارتقب حتى حين.

فتحصل مما ذكرنا: ان روايات الكافي صحيحة و حجة بين الكليني و بين اللّه

______________________________

(1) معجم رجال الحديث ج 1/ 40 و 104 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 73

..........

______________________________

تعالى، و يطمئن بصدورها عن المعصومين عليهم السّلام مع انه لا اشكال و لا ريب في اشتمال كتابه على روايات لا تعد صحيحة على مصطلح المتأخرين.

و لا ينافي ذلك اشتماله أحيانا على ما يكون شاذا لا يصح الاعتماد و الإفتاء على طبقه كما لا يخفى، كما لا يضر بوثاقة الرجل و عدالته كزرارة أو محمد بن مسلم- اخباره عما لا يصح الاعتماد عليه و الإفتاء على طبقه فتدبر و اغتنم.

تصريح الصدوق لصحة ما في كتاب من لا يحضره الفقيه

و منها: ما ذكره شيخنا محمد بن على بن بابويه الملقب بشيخ الصدوق (قدس سره) المولود بدعاء صاحب الزمان عليه السّلام و المتوفى 381 في أول كتاب من لا يحضره الفقيه، فقال ما نصه:

«سئلنى «1» ان أصنف له كتابا في الفقه، و الحلال و الحرام، موفيا على جميع

ما صنف في معناه ليكون اليه مرجعه، و عليه معتمدة، و به أخذه، و يشترك في اجره من ينظر فيه، و ينسخه. و يعمل بمودعه الى ان قال:

فأجبته الى ذلك لأني وجدته له أهلا، و صنفت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد لئلا يكثر طرقه و ان كثرت فوائده، و لم اقصد فيه قصد المصنفين إلى إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما افتى به، و احكم بصحته، و اعتقد انه حجة بيني و بين ربي جل ذكره، و جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول، و إليها المرجع: مثل كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني «2» و كتاب عبيد اللّه

______________________________

(1) يعنى السيد الشريف أبا عبد اللّه المعروف بنعمة اللّه.

(2) حريز بن عبد اللّه السجستاني كوفي ثقة من أصحاب الصادق عليه السّلام كان ممن شهر السيف في قتال الخوارج بسجستان في زمان امام الصادق عليه السّلام قتله الشرار (الخوارج) بسجستان. له كتب تعد من الأصول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 74

..........

______________________________

بن على الحلبي «1» و كتب على بن مهزيار الأهوازي «2» و كتب حسين بن سعيد «3» و نوادر أحمد بن محمد بن عيسى «4» و كتاب نوادر الحكمة تصنيف محمد بن عمران الأشعري «5» كتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه «6» و جامع شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد «7» و نوادر محمد بن ابى عمير «8» و كتاب المحاسن

______________________________

(1) تقدم ما يتعلق بعبيد اللّه بن على الحلبي و انه ثقة صنف كتابا عرضه على الامام الصادق عليه السّلام و استحسنه و قرضه بقوله ليس لهؤلاء في الفقه مثله.

(2) على بن مهزيار الأهوازي ثقة

جليل القدر واسع الرواية من أصحاب الأئمة- الرضا، و الجواد، و الهادي عليهم السّلام- يقال له من الكتب، ثلاثة و ثلاثون كتابا.

(3) حسين بن سعيد الأهوازي ثقة جليل القدر من أصحاب الأئمة- الرضا، و الجواد، و الهادي عليهم السّلام- أصله كوفي انتقل مع أخيه الحسن إلى الأهواز، ثم تحول الى قم و توفي بها له ثلاثون كتابا.

(4) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ثقة شيخ القميين و وجههم بقم، و كان الرئيس الذي يأتي السلطان بها لقي الأئمة- الرضا، و الجواد، و الهادي- عليهم السّلام، له كتب عديدة، منها كتاب النوادر، و كان غير مبوب فبوبه داود بن كورة.

(5) محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمي ثقة جليل القدر كثير الروايات له كتب، منها كتاب نوادر الحكمة، و هو كتاب حسن كبير يعرفه القميون بدبة شبيب، تشبيها لكتابة بدبة شبيب بياع الثوم كان بقم له دبة ذات بيوت يعطى منها ما يطلب بلحاظ اشتمال كتابه على ما تشتهيه الأنفس.

(6) سعد بن عبد اللّه الأشعري القمي ثقة جليل القدر، واسع الاخبار، له عدة كتب منها كتاب الرحمة، و هو مشتمل على كتب جماعة توفي سنة 229/ أو 300/ أو 301.

(7) محمد بن الحسن بن الوليد شيخ جليل عارف بالرجال، موثوق به مات 343. له كتب منها كتاب الجامع.

(8) محمد بن ابى عمير بغدادي الأصل، و المقام، من أوثق الناس عند الخاصة، و أنسكهم نسكا و أورعهم، و أعبدهم، أدرك من الأئمة: الكاظم، و الرضا، و الجواد عليهم السّلام، من أصحاب الإجماع، له كتب كثيرة منها كتاب النوادر توفي/ 217.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 75

..........

______________________________

لأحمد بن ابى عبد اللّه

البرقي «1» و رسالة والدي «2» رضي اللّه عنه الىّ و غيرها من الأصول و المصنفات التي طرقي إليهما معروفة في فهرست الكتب التي رؤيتها عن مشايخي و أسلافي، و بالغت في ذلك جهدي مستعينا باللّه، و متوكلا عليه و مستغفرا من التقصير» «3».

قلت: و لا يخفى عليك ان مقاله هذا صريح في الجزم بصحة أحاديث كتابة و الشهادة بثبوتها، و انها حجة فيما بينه و بين اللّه تعالى. و فيه شهادة بصحة الكتب المذكورة و غيرها، مما أشار اليه، و ثبوت أحاديثها، مع انه لم يكن كثير من تلك الأحاديث مندرجا في الصحيح على مصطلح المتأخرين.

تصريح الشيخ البهائي بأن مراد الصدوق بالصحة غير ما هو المصطلح عليها عند المتأخرين

صرح شيخنا البهائي (قدس سره): بان كثيرا من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخرين، و منخرط في سلك الحسان و الموثقات، بل الضعاف ثم قال:

______________________________

(1) أحمد بن محمد بن خالد البرقي أصله كوفي هرب جده خالد الى برقة قم، فأقام بها، ثقة في نفسه له كتب منها كتاب المحاسن و هو مشتمل على عدة كتب.

(2) على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي. شيخ القميين في عصره، و فقيههم، و ثقتهم، قدم العراق و اجتمع مع ابى القاسم حسين بن روح رحمه اللّه، و سئله مسائل، ثم كاتبه بعد ذلك على يد على بن جعفر بن الأسود يسئله ان يوصل الى الامام الحجة صاحب الأمر عجل اللّه فرجه الشريف، رقعة يسئله فيها الولد فأوصلها و كان الجواب من الناحية: قد دعونا اللّه لك بذلك و سترزق ولدين ذكورين خيرين، فولد له أبو جعفر الصدوق مؤلف الكتاب، و أبو عبد اللّه، من أم ولد ديلمية، و كان أبو جعفر يقول: انا ولدت بدعوة صاحب الأمر

مفتخرا بذلك، توفي على بن بابويه بقم، و قبره مزار معروف، له كتب كثير منها كتاب الرسالة الى ابنه ابى جعفر مؤلف هذا الكتاب و كثيرا ما ينقل عنه في هذا الكتاب.

(3) كتاب من لا يحضره الفقيه ج 1/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 76

أول من قرر الاصطلاح الجديد في تنويع الأحاديث

______________________________

«ان أول من قرر الاصطلاح الجديد العلامة «1» و ان كثيرا ما يسلك مسلك المتقدمين هو و غيره من المتأخرين فيصفون: مراسيل بعض المشاهير كابن ابى عمير، و صفوان بن يحيى بالصحة لما شاع من انهم لا يرسلون الا عمن يثقون بصدقه، بل يصفون بعض الأحاديث التي في سندها من يعتقدون انه فطحي، أو ناووسي بالصحة نظرا الى اندراجه فيمن أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم.

و على هذا جرى العلامة (قدس اللّه روحه) في المختلف حيث قال في مسئلة ظهور فسق إمام الجماعة: ان حديث عبد اللّه بن بكير صحيح، و في الخلاصة حيث قال ان طريق الصدوق الى ابى مريم الأنصاري صحيح و ان كان في طريقه ابان بن عثمان مستندا في الكتابين إلى إجماع العصابة على ما يصح عنهما.

و قد جرى شيخنا الشهيد الثاني (طاب ثراه) على هذا المنوال أيضا كما وصف في بحث الردة من شرح الشرائع حديث الحسن بن محبوب عن غير واحد بالصحة و أمثال ذلك في كلامهم كثير فلا تغفل اه» «2».

استظهار بعض الأساطين من كلام الصدوق و الاشكال فيه

و قد توهم ان قول الصدوق فيما نقلنا عنه: انى لم اقصد قصد المصنفين إلخ.

إشارة إلى الطعن في مصنفات الأصحاب، كما يظهر ذلك أيضا من بعض الأساطين دام ظله أيضا حيث قال:

ان هذا الكلام ظاهر في ان كتاب الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح و غير الصحيح كسائر المصنفات اه «3».

______________________________

(1) و لكن المعروف كما أشرنا ان أول المقرر لذلك أستاده الأجل السيد أحمد بن طاوس نعم اشتهر الاصطلاح من زمن العلامة.

(2) مشرق الشمسين/ 270.

(3) معجم رجال الحديث ج 1/ 4 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 77

..........

______________________________

و لكنه

يدفع بما أشار إليه شيخنا الحر العاملي المتوفى 1104 ه ق.

«بان مراده (يعنى الصدوق) ان غيره أوردوا جميع ما رووه و رجحوا أحد الطرفين ليعمل به كما فعل الشيخ في التهذيب و الاستبصار، و لا ينافي ذلك ثبوت الطرف المرجوح عن الأئمة عليهم السّلام كما لا يخفى، و اما الصدوق فلم يورد المعارضات في كتابه إلّا نادرا.

و يمكن ان يراد بقوله ذلك: ان غيره قصدوا إلى إيراد جميع ما رووه و لكنهم يضعفون ما لا يعملون به، أو يتعرضون لتأويله كما فعل هو في باقي كتبه.

و يمكن ان يكون أراد بالمصنفين غير الكتب المعتمدة عند الأصحاب كالكافي و غيره مما لم تزل متميزة عن غيرها عند الأصحاب قديما و حديثا حتى في هذا الزمان كما يعرفه المحدث الماهر» «1».

فتحصل ان مقال الشيخ الصدوق في طليعة الكتاب شهادة إجمالية بصدور ما في كتابه هذا عن المعصومين عليهم السّلام و انه حجة بينه و بين اللّه تعالى.

فقد ظهر ضعف ما استظهره دام ظله من هذا المقال ان كتاب الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح و غيره كسائر المصنفات توضيح الضعف ظاهر مما ذكرنا فتدبر.

كلام بعض الأساطين في عدم كون جميع ما في الكافي صحيحة عند الصدوق و دفعه

كما ظهر ضعف اشكاله الثاني:

«بأنه ان كانت جميع روايات الكافي صحيحة عند الشيخ الصدوق لم يكن حاجة الى كتابة كتاب من لا يحضره الفقيه بل كان على الصدوق (قدس سره) ان يرجع السيد الشريف الى كتاب الكافي و يقول له ان كتاب الكافي في بابه ككتاب من لا يحضره الطبيب في بابه شاف في معناه اه» «2».

______________________________

(1) الوسائل الجزء 20/ 62.

(2) معجم رجال الحديث ج 1/ 41 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 78

..........

______________________________

و هذا

من عجيب الإشكال لأن السيد الشريف بقرينة ذكر من لا يحضره الطبيب للرازى استدعى من الشيخ الصدوق كتابا مختصرا مفيدا في الفقه و الحلال و الحرام حاويا لمهمات ما يحتاج اليه ليعمل به إذا لم يحضره فقيه، و ما استدعى عنه أشبه شي ء برسالة عملية للعمل به بحيث يغنيه عن المراجعة إلى الفقيه نظير ما صنفه الرازي، و الكافي الشريف كتاب مبسوط في بابه مشتمل- كما عن بعض المشايخ- على ستة عشرة ألف حديث و مأة و تسعة و تسعين حديثا (16199) «1» مع ذكر جميع السند غالبا مشتملا على الاخبار الواردة في الأصول و الفروع مع اشتماله على فروع كثيرة، و كثيرا ما يذكر في موضوع واحد اخبارا متعددة متحدة المضمون و يذكر الأخبار المتعارضة و يرجح احداها على الأخرى مع ان كتاب من لا يحضره الفقيه كما عن بعض المشايخ مشتمل على خمس الاف و تسعمائة و ثمانية و تسعين حديثا 5998 حديثا «2» و قد بنى الشيخ الصدوق من أول الأمر في كتابه هذا على اختصار الأسانيد و حذف أوائل الاسناد و وضع مشيخة في آخر الكتاب ليعرف بها طريقه الى من روى عنه، و ربما أخل بذكر الطريق الى بعض، مع انه اقتصر على الاخبار الواردة في الفقه، و لم يذكر اخبارا متحدة المضمون و الاخبار المتعارضة إلا نادرا.

فلأجل ذلك كله بل لعله و لغير ما ذكرنا لم يرجع الشيخ الصدوق السيد الشريف إلى الكافي لا لعدم صحة روايته كما توهم فتدبر.

و لم يدع الصدوق ان ما في كتابه مقطوع الصدور بل ادعى ان ما فيه حجّة بينه و بين اللّه تعالى فلا يتوجه عليه ما أورده دام ظله:

«ان الشيخ الصدوق

قال في باب الوصي يمنع الوارث ما: «وجدت هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب و لا رويته الا من طريقه» فلو كانت روايات

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3/ 541.

(2) الذريعة ج 22/ 232.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 79

..........

______________________________

الكافي كلها قطعية الصدور فكيف يصح ذلك القول من الشيخ الصدوق (قدس سره) «1»

المناقشة في عدم كفاية تصحيح القدماء و دفعها

و مما ذكرنا كله يظهر ضعف ما افاده (دام ظله) في الفصل الثاني في تضعيف مقالة الصدوق (ره):

«ان تصحيح أحد الأعلام المتقدمين رواية لا ينفع من يرى اشتراط حجية الرواية بوثاقة راويها أو حسنه» «2».

ضرورة أن الوثوق بصدور الخبر كاف في مقام الاحتجاج و ان كان بلحاظ اشتماله على قرائن داخلية أو خارجية كما تقدم فهل يصح القول بان الصدوق في كتابه هذا ذكر ما لا يعتقد صحته و اعتباره بينه و بين اللّه تعالى، أو ان غاية ما تقتضيه مقالته هي الاخبار عن صحة روايته و حجيته عن رأيه و نظره و هذا لا يكون حجة في حق غيره مع انه نسب الى الصدوق تأليف كتاب الرجال فهو خريط فن الرجال فهل يقبل قوله في توثيق الرجال و تعديلهم و ان كان ذلك عن رأيه و نظره و لا يقبل قوله في اعتبار الخبر و صحته و اتكاء الصدوق في التصحيح و التضعيف شيخه ابن الوليد أو أحد المشايخ العظام و العلماء الأعلام من أحد طرق حصول الوثاقة و ليس ذلك بعزيز بل يكون دارجا بين المشايخ فتدبر.

و الى ما ذكرنا يشير المحدث البحراني بقوله:

«ان التوثيق و الجرح الذي بنوا عليه تنويع الاخبار انما أخذوه من كلام القدماء و كذلك الأخبار التي رويت في أحوال

الرواة من المدح و الذم إنما أخذوها عنهم فاذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الاخبار و اعتمدوه و ضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم كما لا يخفى على من لاحظ ديباجتي

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1/ 40 من المقدمة.

(2) معجم رجال الحديث 1/ 105 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 80

..........

______________________________

الكافي و الفقيه، و كلام الشيخ في العدة و كتابي الأخبار فإن كانوا ثقاة عدولا في الاخبار بما أخبروا به ففي الجميع، و الا فالواجب تحصيل الجرح و التعديل من غير كتبهم و انى لهم به!! الى أخر ما ذكره فلاحظ» «1».

فتحصل مما ذكرنا ان ما في كتاب من لا يحضره الفقيه صحيح و حجة فيما بين الصدوق و بين اللّه تعالى و يطمئن بصدورها عن المعصوم عليه السّلام مع اشتماله على اخبار لا تعد صحيحتا على مصطلح المتأخرين.

و هذا المقدار كاف في الوثوق بصدور ما فيه، و إياك ان تتوهم مما ذكرنا ان مجرد الوثوق بصدور الخبر كاف في العمل به ما لم ينضم إليه جهة الصدور و انه صدر لبيان الحكم الواقعي. فلا ينافي ما ذكرنا شذوذ بعض ما فيه، و عدم عمل الأصحاب على طبقه لجهات آخر، كما أشرنا في ذيل ما يرتبط باعتبار ما في الكافي فلاحظ.

كلمة طويلة الذيل من الشيخ في ان اخبار التهذيبين صحيحة باصطلاح القدماء

و مما يشهد لكون الأخبار الموجودة في كتب الأصحاب صحيحة باصطلاح القدماء ما قاله شيخ الطائفة (قدس سره) المتوفى 460/ ق في مبتدء الاستبصار. قال:

«فانى لما رأيت جماعة من أصحابنا لما نظروا في كتابنا الكبير الموسوم بتهذيب الأحكام و رأوا ما جمعنا فيه من الاخبار المتعلقة بالحلال و

الحرام وجدوها مشتملة على أكثر ما يتعلق بالفقه من أبواب الأحكام و انه لم يشذ عنه في جميع أبوابه و كتبه مما ورد في أحاديث أصحابنا و كتبهم و أصولهم و مصنفاتهم الا نادر قليل و شاذ يسير و انه يصلح ان يكون كتابا مذخورا يلجأ اليه المبتدي في تفقهه و المنتهى في تذكره و المتوسط في تبحره، فان كلا منهم ينال مطلبه و يبلغ بغيته الى ان قال:

و سئلونى تجريد ذلك و صرف العناية إلى جمعه و تلخيصه و ان ابتدئ في كل

______________________________

(1) الحدائق الناضرة ج 1/ 16.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 81

..........

______________________________

باب بإيراد ما اعتمده من الفتوى و الأحاديث ثم أعقب بما يخالفها من الاخبار، و أبين وجه الجمع بينها على وجه لا أسقط شيئا منها ما أمكن، و اجرى في ذلك على عادتي في كتابي الكبير، و ان أشير في أول الكتاب إلى جملة مما يرجح به الأحاديث بعضها على بعض و لأجله جاز العمل بشي ء منها دون جميعها، و انا مبين ذلك على غاية من الاختصار الى ان قال:

«و اعلم ان الاخبار على ضربين متواترة و غير متواترة فالمتواتر منها ما أوجب العلم فما هذا سبيله يجب العمل به من غير توقع شي ء ينضاف اليه و لا أمر يقوى به. و ما ليس بمتواتر على ضربين فضرب منه يوجب العلم أيضا و هو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم و ما يجرى هذا المجرى يجب أيضا العمل به و هو لاحق بالقسم الأول».

ثم أشار الى بعض القرائن الى ان قال:

«و اما القسم الأخر فهو كل خبر لا يكون متواترا و يتعرى من واحد

من هذه القرائن فإن ذلك خبر واحد و يجوز العمل على شروط».

«فان كان الخبر لا يعارضه خبر آخر فان ذلك يجب العمل به لأنه من الباب الذي عليه الإجماع في العمل الا ان يعرف فتاواهم بخلافه فيترك لأجلها العمل به».

«فان كان هناك ما يعارضه فينبغي ان ينظر في المتعارضين فيعمل على اعدل الرواة في الطرفين، و ان كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا، و ان كانا متساويين في العدالة و العدد و هما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها، نظر فان كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه و ضرب من التأويل كان العمل به اولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به الى طرح الخبر الآخر، لأنه يكون العامل بذلك عاملا بالخبرين معا».

«و إذا كان الخبران يمكن العمل بكل منهما و حمل الآخر على بعض الوجوه و ضرب من التأويل و كان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 82

..........

______________________________

صريحا أو تلويحا لفظا أو دليلا و كان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به اولى من العمل بما لا يشهد له شي ء من الاخبار».

«و إذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر و كان متحاذيا كان العامل مخيرا في العمل بأيهما شاء، و إذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين الا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما و بعد التأويل بينهما كان العامل أيضا مخيرا في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم، و لا يكون العاملان بهما على هذا الوجه إذا اختلفا و عمل كل واحد منهما على خلاف ما عمل عليه الآخر مخطئا

و لا متجاوزا حد الصواب. إذ روى عنهم عليهم السّلام انهم قالوا: إذا ورد عليكم حديثان و لا تجدون ما ترجحون به أحدهما على الأخر مما ذكرناه كنتم مخيرين في العمل بهما، و لأنه إذ ورد الخبران المتعارضان و ليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين، و لا على إبطال الخبر الأخر فكأنه إجماع على صحة الخبرين، و إذا كان الإجماع على صحتهما كان العمل بهما جائزا سائغا».

«و أنت إذا فكرت في هذه الجملة وجدت الاخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الاخبار و وجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب و في غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال و الحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام إلى آخر ما ذكره اه» «1».

أقول: نقلنا العبارة بطولها لان التدبر فيها يعطي بأن الأخبار المروية في كتابي التهذيب و الاستبصار واجدة لشرائط حجية العمل بها لو خليت و أنفسها و يصح الاعتماد عليها في حد أنفسها و مما يطمئن بصدورها، و لذا لا يترك (قدس سره) العمل بواحد منها مهما أمكن، و الا كان الاولى ترك العمل بما لا يكون معتبرا و لا يكون واجدا لشرائط الحجية على طريق المتأخرين فيعلم من ذلك ان الاخبار الموجودة في الكتابين مأخوذة من الكتب و الأصول المعتمدة و كانت عليها قرائن صحة الصدور و ان كان بعضها غير واجد لشرائط الحجية على طريقة المتأخرين فتدبر.

______________________________

(1) الاستبصار ج 1/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 83

كلمة من الشيخ في عدة الأصول في كون اخبار التهذيبين صحيحة باصطلاح القدماء

______________________________

و قال الشيخ قدس في عدة الأصول:

«. فأما ما اخترته من المذهب- يعني في العمل بخبر الواحد- فهو ان خبر الواحد إذا كان واردا من

طريق أصحابنا القائلين بالإمامة و كان ذلك مرويا عن النبي أو عن واحد من الأئمة (صلوات اللّه عليهم) و كان ممن لا يطعن في روايته و يكون سديدا في نقله و لم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر لأنه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة و كان ذلك موجبا للعلم، و نحن نذكر القرائن فيما بعد، جاز العمل به.

و الذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة فانى وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه حتى ان واحدا منهم إذا أفتى بشي ء لا يعرفونه سئلوه من أين قلت هذا؟ فاذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا و سلموا الأمر في ذلك و قبلوا قوله، و هذه عادتهم و سجيتهم من عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و من بعده من الأئمة عليهم السّلام الى زمان الصادق جعفر بن محمد عليهما السّلام الذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته، فلو لا ان العمل بهذه الأخبار جائزا لما أجمعوا على ذلك و لا نكروه لان إجماعهم، فيه معصوم لا يجوز عليه التخليط و السهو الى ان قال:

ان قيل كيف تدعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد و المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بخبر الواحد كما ان المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بالقياس فان جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الأخر.

يقال لهم: معلوم من حالها الذي لا ينكر و لا يدفع انهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في

الاعتقاد و يختصون بطريقه، فاما ما يكون راويه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 84

..........

______________________________

منهم و طريقه أصحابهم فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك، و بينا الفرق بين ذلك و بين القياس أيضا، و انه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس و قد علم خلاف ذلك» «1» الى ان قال:

«و مما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها فانى وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة الى باب الديات من العبادات و الأحكام و المعاملات و الفرائض و غير ذلك مثل اختلافهم في العدد و الروية في الصوم، و اختلافهم في ان التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا؟

و مثل اختلافهم في باب الطهارة و في مقدار الماء الذي لا ينجسه شي ء، و نحو اختلافهم في حد الكر، و نحو اختلافهم في استيناف الماء الجديد لمسح الرأس و الرجلين، و اختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس، و اختلافهم في عدد فصول الأذان و الإقامة و غير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى ان بابا منه لا يسلم الا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسئلة متفاوتة الفتاوى، و قد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار و التهذيب ما يزيد على خمسة الاف حديث و ذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها و ذلك أشهر من ان يخفى حتى انك لو تأملت اختلافهم في هذه

الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة، و الشافعي، و مالك و وجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه و لم ينته الى تضليله و تفسيقه و البراءة من مخالفته فلو لا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما جاز ذلك و كان يكون من عمل بخبر عنده انه صحيح يكون مخالفه مخطا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك و في تركهم ذلك و العدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الاخبار فإن تجاسر متجاسر إلخ ما ذكره قدس» «2».

______________________________

(1) عدة الأصول طبع إيران/ 51/ 52.

(2) عدة الأصول طبع إيران/ 56/ 57.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 85

..........

______________________________

أقول و لا يخفى ان في كلامه شهادة واضحة على ان جميع روايات التهذيب و الاستبصار مأخوذة من الكتب المعتمدة فهي صحيحة باصطلاح القدماء لا المتأخرين

تأييد من المحدث الكاشاني فيما استظهرناه

و لعله الى ما ذكرنا يشير ما ذكره المحدث الكاشاني في مقدمة كتابه القيم الوافي خلال المقدمة الثانية:

«قال صاحب التهذيب في العدة ان ما أورده في كتابي الأخبار، انما أخذته من الأصول المعتمدة عليها اه» «1».

إيراد بعض الأساطين على كلام المحدث الكاشاني و دفعه

فان الظاهر ان مقصوده (ره) بهذه الجملة انه مستفاد مما افاده الشيخ في العدة و متحصل مما ذكره فيها و لا يريد انه صريح عبارته و لا يخفى استفادته مما نقلناه عنه فلاحظ. فلا يتوجه على المحدث الكاشاني (ره) ما ذكره بعض الأساطين (دام ظله) في دفع مقاله أولا.

«بأنا لم نجد في كتاب العدة هذه الجملة المحكية عنه اه» «2».

لما أشرنا اليه ان مقصوده ان هذه الجملة متحصل و مقتبس مما ذكره الشيخ لا انه صريح عبارته، و لا ما أورده (دام ظله) بعد ذكر جملتين من عبارة العدة:

«انه لا يستفاد منهما ما ذكره المحقق الكاشاني من انه لا يذكر في كتابيه الا الروايات المأخوذة من الكتب المعتمدة بل و لا إشعار في كلامه على ذلك اه» «3».

و لكنك خبير بدلالة ما حكيناه عن الشيخ على صحة التعويل على ما في التهذيبين مهما أمكن فلو لا صحة ما فيهما لما صح التعويل عليه مهما أمكن.

و لا ينافي ما ذكرنا ما يقوله كثيرا في التهذيب في الاخبار التي يتعرض لتأويلها

______________________________

(1) الوافي ج 1/ 11.

(2) معجم رجال الحديث ج 1/ 107/ 109 من المقدمة.

(3) معجم رجال الحديث ج 1/ 107/ 109 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 86

..........

______________________________

و لا يعمل بها: بأنها من اخبار الآحاد التي لا يفيد علما و لا عملا، ضرورة ان المدعى هو الاطمئنان بصدور ما في الكتب عن المعصوم لا

صحة العمل بكل ما في الكتب كما لا يخفى فتدبر.

مضافا الى انه صرح في كتاب العدة انه لا يجوز العمل بالاجتهاد و لا بالظن في الشريعة فيستفاد منه ان كل حديث عمل به الشيخ فهو محفوف بقرائن يوجب العمل به فلا يكون هذا الكلام من الشيخ تأييدا لمقال بعض الأساطين (دام ظله) «1».

إذا أحطت خبرا بما ذكرناه هنا و ما ذكرناه من شهادة الصدوق و الكليني (قدس سرهما) تعرف ان ما افاده بعض الأساطين دام ظله بعد تسليم شهادة الشيخ بصحة جميع روايات كتابيه: «ان الشهادة على صحة الحديث و حجيته لا تكون حجة في حق الآخرين» «2» غير وجيه فلاحظ و تأمل.

كلمة من المحدث النوري في الاطمئنان بصدور ما في الكتب الأربعة

و يمكن الاستيناس للاطمئنان بصدور ما في الكتب الأربعة و نحوها مضافا الى ما ذكرنا ما يستفاد مما افاده شيخنا النوري:

«من انه و ان لم نقل بان شيخوخة الإجازة بمجردها من أمارات الوثاقة و لم ندع تواتر الكتب أو أكثرها عند المشايخ الا انه يمكن الحكم بوثاقة نقل هؤلاء المشايخ الذين اعتمد عليهم الشيخ و النجاشي في طرقهم إلى أرباب الكتب لبعد اتخاذ أولئك الأجلاء الرجل الضعيف أو المجهول شيخا يكثرون الرواية عنه و يظهرون الاعتناء به، فعدم ذكرهم في كتب الرجال أو ذكرهم فيها بالجهالة لا يدل على عدم صحة الاعتماد على الخبر الذي وقعوا في مستنده كيف! و لو لا صحة الاعتماد عليهم لكان الرواية من قبلهم تضييعا لحالهم و طعنا فيهم حاشاهم «3».

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1/ 109 من المقدمة.

(2) معجم رجال الحديث 1/ 109 من المقدمة.

(3) مستدرك الوسائل ج 3/ 754.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 87

..........

______________________________

ثم انه كيف يروى ثقات الواقعين في

سلسلة السند عمن جهل حاله أو ضعف نقله فهل يسوغ لهم النقل عنه مع عدم احتفافه بقرينة أو قرائن الصدق.

أضف الى ذلك شدة تورع المشايخ للنقل عن المهملين فضلا عن الضعفاء و المجروحين «1».

تأييد من الشهيد الثاني و الشيخ البهائي و المحدث الكاشاني في ان ما في الكتب الأربعة و نحوها منقولة من الأصول التي عرضت أكثرها على الأئمة (ع)

يشهد ان ما في الكتب الأربعة و نحوها منقولة من الأصول المعتمدة التي عرضت كثير منها على الأئمة المعصومين عليهم السّلام ما ذكره الشهيد الثاني و شيخنا البهائي و المحدث الكاشاني (رحمهم اللّه).

«قال شيخنا الشهيد (قدس سره) في دراية الحديث قد كان استقر أمر المتقدمين على أربعمائة مصنف سموها أصولا و كان عليها اعتمادهم ثم تداعت الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول و لخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، و أحسن ما جمع فيها الكافي، و التهذيب، و الاستبصار، و من لا يحضره الفقيه».

و قال شيخنا البهائي (قدس سره) في خاتمة الوجيزة:

«جميع أحاديثنا إلا ما ندر ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (سلام اللّه عليهم أجمعين) و هم ينتهون فيها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فان علومهم مقتبسة من تلك المشكاة، و ما تضمنته كتب الخاصة (رضوان الله عليهم) من الأحاديث المروية عنهم (سلام اللّه عليهم) يزيد على ما في الصحاح الست العامة بكثير كما يظهر لمن تتبع أحاديث الفريقين، و قد روى راو واحد و هو ابان بن تغلب عن امام واحد- أعني الإمام أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام- ثلثين الف حديث كما ذكره علماء الرجال. و كان قد جمع

______________________________

(1) لاحظ المستدرك ج 3/ 503/ 504/ 755.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 88

..........

______________________________

قدماء محدثينا (رضي اللّه عنهم) ما وصل إليهم من أحاديث أئمتنا (سلام اللّه عليهم) في

أربعمائة كتاب يسمى الأصول.

ثم تصدى جماعة من المتأخرين شكر اللّه سيعهم لجمع تلك الكتب و ترتيبها تقليلا للانتشار و تسهيلا على طالبي تلك الأخبار فألقوا كتبا مبسوطة مبوبة، و أصولا مظبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (سلام اللّه عليهم أجمعين) كالكافي و كتاب من لا يحضره الفقيه، و التهذيب، و الاستبصار، و مدينة العلم، و الخصال، و الأمالي، و عيون اخبار الرضا، و غير ما اه» «1».

و غير خفي أن لكلامهما دلالة واضحة بصحة تلك الأصول و انها معتمدة و عرض كثير منها على الأئمة المعصومين عليهم السّلام و ان ما في الكتب الأربعة و أمثالها منقولة من تلك الأصول الصحيحة، و لعمر الحق كما صرح شيخنا البهائى (قدس سره) في ذيل ما ذكره الصدوق (رحمه اللّه) في الفقيه و قد تقدم ذكره: ان كثيرا من تلك الأحاديث لمعزول عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخرين.

و قال المحدث الكاشاني (قدس سره) في الوافي نحو ذلك فلاحظ «2».

تصريح على بن إبراهيم بان ما في تفسيره منقول من ثقاة الرواة
اشارة

و مما يشهد لكون الأخبار الموجودة في كتب الأصحاب صحيحة باصطلاح القدماء ما قاله الشيخ الجليل على بن إبراهيم القمي في ديباجة تفسيره و إليك نص عبارته.

«و نحن ذاكرون و مخبرون بما ينتهى إلينا و رواه مشايخنا و ثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب رعايتهم و لا يقبل العمل الا بهم اه» «3».

______________________________

(1) الوجيزة المطبوعة مع حبل المتين لشيخنا البهائي/ 7.

(2) الوافي ج 1/ 11.

(3) تفسير على بن إبراهيم ج 1/ 4 طبع النجف الأشرف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 89

..........

______________________________

و قد شهد بما ذكرنا شيخنا الحر (ره) في الفائدة السادسة من خاتمة الوسائل بقوله:

قد شهد على بن إبراهيم

أيضا بثبوت أحاديث تفسيره و انها مروية عن الثقات عن الأئمة عليهم السّلام «1» كما اعترف بعض الأساطين بذلك أيضا.

دفع توهم كون مراد على بن إبراهيم بالثقات خصوص مشايخه

فلا موقع لتوهم اختصاص التوثيق بمشايخه الذين يروى عنهم على بن إبراهيم بلا واسطة.

مضافا الى انه لا محصل لاختصاص الرواية عن ثقاة مشايخه بلا واسطة مع رواية مشايخه عن الضعفاء فتدبر.

كلمة من ابن قولويه في كون ما في كامل الزيارات مما يطمئن بصدورها عن المعصومين
اشارة

و مما يشهد لما ذكرنا ما قاله الشيخ الجليل أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه المتوفى 367/ ق في مقدمة كتاب كامل الزيارات، فقال:

«و انا مبين لك (أطال اللّه بقاك) ما أثاب اللّه به الزائر لنبيّه و أهل بيته (صلوات اللّه عليهم أجمعين) بالآثار الواردة عنهم عليهم السّلام على رغم من أنكر فضلهم ذلك و جحده و أباه و عادى عليه و باللّه أستعين على ذلك و عليه أتوكل و هو حسبي في الأمور كلها و نعم الوكيل و انما دعاني إلى تصنيف كتابي هذا مسئلتك و تردادك القول علىّ مرة بعد اخرى تسئلنى ذلك و لعلمي بما لي فيه من المثوبة و التقرب الى اللّه تبارك و تعالى و رسوله، و الى على، و فاطمة، و الأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) الى جميع المؤمنين ببثّه فيهم و نشره في إخواني المؤمنين على جملته فاشتغلت الفكر فيه و صرفت الهم اليه و سئلت اللّه تبارك و تعالى العون عليه حتى أخرجته و جمعته عن الأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) من أحاديثهم و لم اخرج فيه حديثا عن غيرهم إذا كان فيما رويناه

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 68.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 90

..........

______________________________

عنهم من حديثهم (صلوات اللّه عليهم) كفاية عن حديث غيرهم، و قد علمنا انا لا نحيط بجميع ما روى عنهم في هذا المعنى، و لا في غيره، و لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من

أصحابنا رحمهم اللّه برحمته و لا أخرجت فيه حديثا روى عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث و العلم إلى أخر ما ذكره» «1».

اختلاف الأعلام في فهم ما ذكره ابن قولويه و بيان ما هو المختار

قد وقع الكلام في المعنى المراد من كلامه.

فمنهم من استظهر منه ان جميع الرواة المذكورين في اسناد كامل الزيارات ممن روى عنه الى ان يصل الى الامام عليه السّلام من الثقات عند المؤلف، و من هؤلاء شيخنا الحر (ره) حيث قال: ان ما ذكره ابن قولويه في مزاره صريح بما هو أبلغ مما ذكره على بن إبراهيم في تفسيره «2» كما ان منهم بعض الأساطين (دام ظله):

حيث استظهر من العبارة انه لا يروى ابن قولويه رواية عن المعصوم الا و قد وصلت اليه من جهة الثقات من أصحابنا، و كان دام ظله مصرا عليه «3».

و منهم من استظهر من كلامه ان نظر ابن قولويه توثيق خصوص كل من صدّر بهم سند أحاديث كامل الزيارات لا كل من ورد في اسناد الروايات.

______________________________

(1) كامل الزيارات طبع النجف الأشرف/ 3.

(2) الوسائل ج 20/ 68.

(3) لاحظ معجم رجال الحديث ج 1/ 64.

قلت و لكن حكى عنه (دام ظله) انه عدل عما استظهره. و يرى ان مراد ابن قولويه منها توثيق خصوص من صدر بهم سند أحاديث كتابة لا كل من ورد في اسناد الروايات، و بهذا النظرية اختلفت فتاواه الفقهية المبتنية على النظرية السابقة فأشير الى مواقع الخلاف في الطبعة الأخيرة من بعض رسائله العملية فراجع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 91

..........

______________________________

و بالجملة كلامه هذا يدل على توثيق كل مشايخه الذين يروى عنهم بلا واسطة لا توثيق كل من في اسناد كتابه.

و ممن

استظهر ذلك شيخنا النوري (قدس سره) في موضعين من خاتمة المستدرك ج 3 ص 523 س 4 ص 177 س 18، فجعل (قدس سره) عبارة ابن قولويه توثيقا عاما لكل من روى عنه في الكتاب بلا واسطة و قال فيما قال لا فرق في التوثيق بين النص على أحد بخصوصه أو توثيق جمع مخصوص بعنوان خاص، و كفى بمثل هذا الشيخ مزكيا و معدلا. ثم ذكر (قدس سره) مشايخه الذين روى عنهم بلا واسطة و قد أنهاهم الى اثنين و ثلاثين شيخا فراجع «1».

و لا يخفى ان ما استظهره شيخنا النوري (قدس سره) و ان كان قريبا لاسترحام ابن قولويه لجميع مشايخه حيث قال: من جهة الثقات من أصحابنا (رحمهم اللّه برحمته) و قد وقع في اسناد بعض الاخبار الواردة في كامل الزيارات عدة إفراد لا يستحقون الاسترحام خصوصا من مثل ابن قولويه كعلي بن أبي حمزة البطائني الشديد الوقف «2» و ابنه حسن بن على بن أبي حمزة «3» و ليث بن ابى سليم العامي «4» و عائشة زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «5» الى غير ذلك من المنحرفين فلاحظ الكامل. و لم يكن في المشايخ الذين روى عنهم ابن قولويه بلا واسطة من لا يستحق الاسترحام فهذا أصدق شاهد على ان المراد بثقات مشايخه هم الذون روى عنهم بلا واسطة.

و لكن من تدبر فيما أورده في مقدمة الكتاب و قد ذكرنا قطعة منها- و التأمل في غرضه من تأليف كامل الزيارات، و ملاحظة الأبواب و العناوين المذكورة

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3/ 523.

(2) لاحظ كامل الزيارات صفحات/ 63/ 84/ 108/ 119/ 246/ 248/ 294 و غير ذلك.

(3) لاحظ الكامل/ 49/

50 الى غير ذلك.

(4) لاحظ الكامل/ 31.

(5) لاحظ الكامل/ 31.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 92

..........

______________________________

فيه ينكشف لديه جليا: ان الاخبار المذكورة في كتابه مما يطمئن بصدورها عن أئمة المعصومين عليهم السّلام، و لو بالقرائن الداخلية، و الخارجية، فيكون ما ذكره ابن قولويه جار مجرى كلام الكليني، و الصدوق في مفتتح كتابيهما، فيجري فيه ما حكيناه عن شيخنا البهائي في كلام الصدوق (قدس سرهما): من ان جميع اخباره لا يندرج في الصحيح على مصطلح المتأخرين، فينطبق على مصطلح القدماء فتدبر.

كلمة من الكفعمي في كون ما في مصباحه مأخوذ من الكتب المعتمدة

و مما يشهد لما ذكرنا ما قاله الشيخ الجليل تقى الدين إبراهيم بن على العاملي الكفعمي في أول كتابه الجنة الواقية- المعروف بالمصباح- المشتمل على الأدعية، و الصلوات، و الاستخارات، و الاستغاثات، و الحوائج، و التعقيبات، و اعمال الشهور و الأيام. و نحو ذلك قال:

«و قد جمعته من كتب معتمدة على صحتها مأمور بالتمسك بوثقى عروتها لا يغيرها كر العصرين، و لا مر الملوين» «1».

دلالة ما ذكره على صحة ما دونه واضحة.

كلمة من الطبرسي في ان ما في الاحتجاج يصح الاعتماد عليه

و منها: ما قاله الشيخ الجليل أحمد بن على بن أبي طالب الطبرسي في أول كتاب الاحتجاج بقوله.

«و لا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول عليه، أو لاشتهاره في السير و الكتب بين المخالف و المؤالف إلا ما أوردته عن ابى محمد الحسن العسكري عليهما السّلام، فإنه ليس في الاشتهار على حد

______________________________

(1) مصباح الكفعمي/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 93

..........

______________________________

ما سواه، و ان كان مشتملا على مثل الذي قدمناه، فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول ذلك اه» «1».

و أنت خبير بان كلامه هذا يدل بوضوح على ان في الأخبار الموجودة في كتابه قرائن يصح الاعتماد عليها من إجماع أو شهرة بين الفريقين، أو موافقة لما دلت عليه العقول نعم فيما رواه عن العسكري عليه السّلام و ان كان مشتملا على تلك القرائن أيضا الا انه حيث لم تكن بتلك المثابة من الوضوح: قد ذكر إسناده في أول كتابه.

و منها: غير ذلك من كتب الأصحاب يجدها المتتبع و فيما ذكرناه كفاية.

كلمة من صاحب الوسائل في موقف كتب الأصحاب

قال شيخنا الحر (رحمه اللّه) في الخاتمة:

«و أكثر أصحاب الكتب المذكورة قد شهدوا بنحو ذلك اما في أوائل كتبهم أو في آخرها، أو في أثنائها، فإنهم كثيرا ما يضعفون حديثا بسبب قوة معارضه أو نحو ذلك، أو يتعرضون لتأويله، أو يقولون لو لا الغرض الفلاني لم نذكره و يشيرون أو يصرحون بان ما عداه من اخبار ذلك الكتاب معتمد عندهم، و هم قائلون بمضمونه جازمون بثبوته و صحة نقله، و كل ذلك ظاهر بالقرائن الواضحة عند المتتبع الماهر و يأتي شهادة كثير منهم بصحة كثير من الكتب

المعتمدة.

و لا يخفى عليك ان القرائن المذكورة في كلام الشيخ في العدة، و الاستبصار، و في كلام الشيخ بهاء الدين و غيرها موجودة الان، أو أكثرها. و قد شهد بذلك جماعة كثيرون يطول الكلام بنقل عباراتهم إلخ ما ذكره» «2».

كلمة من شيخنا البهائي و غيره في وضع الاصطلاح الجديد و تزييفه

قال شيخنا البهائي (قدس سره) في سر عدول المتأخرين عن متعارف القدماء و وضع

______________________________

(1) الاحتجاج للطبرسي/ 3.

(2) الوسائل ج 20/ 68.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 94

..........

______________________________

الاصطلاح الجديد:

«انه لمّا طالت المدة بينهم و بين الصدر السالف و الحال الى اندراس بعض كتب الأصول المعتمدة لتسلط حكام الجور و الضلالة، و الخوف من إظهارها انتساخها و انضم الى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من كتب الأصول في الكتب المشهورة في هذا الزمان فالتبست الأحاديث المأخوذة من الأصول المعتمدة بالمأخوذة من غير المعتمدة و اشتبهت المتكررة في كتب الأصول بغير المتكررة و خفي عليهم (قدس اللّه أرواحهم) كثير من تلك الأمور التي كانت سبب وثوق القدماء بكثير من الأحاديث و لم يمكنهم الجري على أثرهم في تمييز ما يعتمد عليه مما لا يركن اليه فاحتاجوا الى قانون تتميز به الاخبار المعتبرة عن غيرها و الموثوق بها عما سواها فقرروا لنا شكر اللّه سعيهم ذلك الاصطلاح الجديد و قربوا إلينا البعيد و وصفوا الأحاديث الموردة في كتبهم الاستدلالية بما اقتضاه ذلك الاصطلاح من الصحة و الحسن، و التوثيق» «1».

و حكى قريب من ذلك عن الشيخ حسن صاحب المعالم في مقدمات كتاب المنتقى، و لخص مقالهما الشيخ يوسف البحراني في المقدمة الثانية من مقدمات كتاب الحدائق «2».

و ربما يظهر من بعضهم ان تأليف الكتب الأربعة و نحوها بعد ذهاب معظم الأصول الأولية.

و لكن

نوقش في كلا الأمرين.

اما حديث اختلاط الأصول بغيرها و عدم إمكان التمييز بينها و خفاء القرائن فقال شيخنا الحر (ره) في دفعه:

«بأنه ممنوع ان أريد حصول ذلك في زمن أصحاب الكتب الأربعة بل ممنوع مطلقا و سند المنع ما أشرنا اليه و يأتي إن شاء اللّه.

و ليت شعري كيف حصل هذا الاندراس و هذا الاختلاط في زمن العلامة و شيخه

______________________________

(1) مشرق الشمسين/ 270.

(2) لاحظ الحدائق الناضرة ج 1/ 15.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 95

..........

______________________________

أحمد بن طاوس الذين أحدثا هذا الاصطلاح كما صرح به صاحب المنتقى و غيره في اليوم الذي أحدثاه فيه و لم يحصل قبله ساعة، أو يوم، أو شهر، أو سنة، بل كانوا يعملون بالاصطلاح الأول فيكون اندراس تلك الأصول و اختلاطها كله في ساعة واحدة أو يوم واحد و هو معلوم البطلان عادة، بل كلام الشهيد الثاني و الشيخ البهائي (قدس سرهما) و غيرهما صريح في خلاف هذه الدعوى.

و قد اعترف الشيخ بهاء الدين و الشيخ حسن و غيرهما بأن المتأخرين أيضا كثيرا ما يسلكون مسلك المتقدمين و يعملون باصطلاحهم فعلم ان ذلك غير متعذر اه» «1».

و اما حديث ذهاب معظم الأصول الأولية فنوقش كما في الحدائق:

«بأن الظاهر كما صرح به بعض الفضلاء ان اضمحلال تلك الأصول انما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار لكونها أحسن منها جمعا و أسهل تناولا و الا فتلك الأصول قد بقيت الى زمن ابن طاوس (رضي اللّه عنه) كما ذكر ان أكثر تلك الكتب كان عنده و نقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع مصنفاته و بذلك يشهد كلام ابن إدريس في أخر كتاب

السرائر حيث انه نقل ما استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الاخبار و بالجملة فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك الفحول لا ينكره الا معاند جهول اه» «2».

كلمة من شيخنا البهائي في وهن الاصطلاح الجديد

و مما يوهن وضع الاصطلاح الجديد ما قاله شيخنا البهائي (ره):

«ان المستفاد من تصفح كتب علمائنا المؤلفة في السير و الجرح و التعديل ان أصحابنا الإمامية (رضي اللّه عنهم) كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحق أولا ثم أنكر إمامة بعض الأئمة عليهم السّلام في أقصى المراتب و كانوا يحترزون عن

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 68.

(2) الحدائق الناضرة ج 1/ 19.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 96

..........

______________________________

مجالستهم و التكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم لهم بالعداوة أشد من تظاهرهم بها للعامة، فإنهم كانوا يتقون العامة و يجالسونهم و ينقلون عنهم و يظهرون لهم انهم منهم خوفا من شوكتهم لان حكام الضلال منهم، و اما هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإمامية ضرورة داعية الى ان يسلكوا معهم على ذلك المنوال و سيما الواقفية. فان الإمامية كانوا في غاية الاجتناب لهم و التباعد منهم حتى انهم كانوا يسمونهم بالممطورة- أي الكلاب التي أصابها المطر- و أئمتنا عليهم السّلام لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم و مجالستهم و يأمرونهم بالدعاء عليهم في الصلاة و يقولون انهم كفار مشركون زنادقة و انهم شر من النواصب، و ان من خالطهم فهو منهم، و كتب أصحابنا مملوة بذلك كما يظهر لمن تصفح كتاب الكشي و غيره.

فاذا قبل علمائنا و سيما المتأخرون منهم رواية رووها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء و عولوا عليها و قالوا بصحتها لا بد من

ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق به القدح إليهم و لا الى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله كان يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق، و قوله بالوقف، أو بعد توبته و رجوعه إلى الحق أو ان النقل انما وقع من أصله الذي ألفه اشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقت و لكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ككتب على بن الحسن الطاطري، فإنه و ان كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية الا ان الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم و بروايتهم الى غير ذلك من المحامل الصحيحة.

و الظاهر ان قبول المحقق (طاب ثراه) رواية على بن أبي حمزة مع شدة تعصبه في مذهبه الفاسد مبني على ما هو الظاهر من كونها منقولة من أصله و تعليله (رحمه اللّه) يشعر بذلك فان الرجل من أصحاب الأصول.

و كذا قول العلامة بصحة رواية إسحاق بن حريز عن الصادق فإنه ثقة من أصحاب الأصول أيضا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 97

..........

______________________________

و تأليف أمثال هؤلاء أصولهم كان قبل الوقف لأنه وقع في زمن الصادق عليه السّلام فقد بلغنا عن مشايخنا (قدس اللّه أرواحهم) انه كان من دأب أصحاب الأصول انهم إذا سمعوا من أحد الأئمة عليهم السّلام حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم لئلا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كله بتمادي الأيام و توالى الشهور و الأعوام و اللّه أعلم بحقائق الأمور اه كلامه قدس سره» «1».

هذا إجمال المقال في موقف علم الرجال في استنباط الأحكام الشرعية من الاخبار المودعة في الجوامع الحديثية المعروفة بين الأصحاب، و تفصيله

يطلب من غير المقام.

و قد خرجنا في البحث عن موقف علم الرجال في الاجتهاد بالنسبة إلى سائر ما يعتبر فيه عما هو المتعارف، و على خلاف المعمول من شراح العروة الوثقى، و ذلك بلحاظ اختلاف انظار الفقهاء خصوصا في الأدوار الأخيرة في ذلك فمنهم من فرط و لم يعتن بآراء علماء الرجال أصلا، و منهم من أفرط و يرى اعتبار أنظارهم في كل رواية رواية، و منهم متوسطات فوقع رواد العلم في حيص و بيص و في حيرة و اضطراب في استخراج الأحكام الشرعية من الاخبار الواردة في الجوامع الحديثية المعروفة، و لعل ما ذكرناه هي الطريقة الوسطى توجب مرتبة من السكون و الاطمئنان في قلوب طلبة العلم و اللّه هو الهادي إلى سواء السبيل.

كلمة من الوحيد البهبهاني في اعتبار القوة القدسية في الاجتهاد و تزييفه

ثم انه حكى عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) في فوائده اضافة أمر آخر وراء الأمور المذكورة في الاجتهاد، و هو وجود القوة القدسية.

و لكن اعتبارها خارج عن أفهامنا و لا يكاد يمكن اعتبارها في فهم الأحكام عادة فربما يوجب اعتبارها تشويش البال و التقول بما لا يليق و الإهانة باعاظم الفقهاء

______________________________

(1) مشروق الشمسين/ 273.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 98

..........

______________________________

لأن قوة استنباط الأحكام الشرعية ورد الفروع على الأصول تحصل بعد تحصيل المبادي و الممارسة في المسائل الأصولية و القواعد الفقهية و غيرها، سواء كان الواجد لهذه القوة مؤمنا حقا و ورعا تقيا كأساطين فقهائنا الإمامية (رضوان اللّه عليهم) أو لم يكن كذلك، كالعضدي و الرازي و غيرهما من المخالفين.

و ما ورد من ان العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء فهو أمر أخر وراء قوة الاجتهاد كما لا يخفى.

يعجبني هنا نقل ما حكى

عن بعض المحققين في المقام قال (قدس سره): ان الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم ممكن الحصول للعادل و الفاسق و المؤمن و المنافق لتسببه عن اعمال القوة النظرية الحاصلة من إتقان العلوم النظرية الدخيلة في تحصيل الحجة على الحكم من دون حاجة الى قوة قدسية إلهية أو قذف نور في قلب المستنبط اه «1».

فظهر انه لا دليل على اعتبار القوة القدسية في الاستنباط، نعم من حصلت له هذه القوة القدسية فطوبى له.

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا و هي الأمور المهمة في حصول قوة الاستنباط و حجية الرأي فمن حصلت له هذه الأمور بعون اللّه و توفيقه و استنبط حكما شرعيا أو وظيفة عملية على تلك الموازين المقررة، يصح له العمل بما استنبط و يكون حجة بيته و بين ربه، و يكون معذورا لو فرض تخلفه عن الواقع، فاذا صح له ذلك يجوز له الإفتاء على طبقه.

و بالجملة موضوع جواز الإفتاء بما استنبط عين موضوع جواز العمل به بلا تفاوت، و اما تقليد الغير إياه فكلام أخر حيث انه يشترط في حجية الفتوى للغير شرائط سنشير إليها فارتقب.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد لسيدنا العلامة الوالد قدس/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 99

المبحث الخامس في ان صحة العمل بما استنبط و جواز الإفتاء به ليستا من المناصب المجعولة

______________________________

و ليعلم ان صحة العمل بما استنبط و جواز الإفتاء على طبقه ليستا من المناصب المجعولة، كالقضاء و الحكومة، حتى يتوقف جوازه على التماس دليل من الشرع فمن استفرغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي و استنبطه بعد الجهد الكامل و بذل الوسع فيما ذكرنا يصح له العمل على طبقه و الإفتاء به و لا يحتاج الى التماس دليل عليه.

نعم ان ورد دليل من الشرع على منع

الإفتاء يتّبع و انى لاخبارى من إثباته؟! و لا يصغي الى ما يعتقده الاخبارى من عدم جواز الاجتهاد مغيّرا ببعض الأخبار الواردة في النهي عن الاجتهاد، لأنه يزعم ان الاجتهاد الذي يقول به أصحابنا الإمامية هو الذي يقول به العامة: من قصر النظر على الرأي و الاستحسان و القياس و الظنون غير المعتبرة لما يرى ان بعض الفقهاء كالسيد المرتضى، و المحقق، و العلامة و نظرائهم يستدلون لإثبات مقاصدهم بمثل ما يستدلون به العامة لإثبات مرامهم و لكن و لم يتفطنوا ان ذلك منهم ليس لكونه هو المستند في الحكم بل ذكر لتأييد مقالهم و لافحام مخالفيهم بان ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام ربما يواقفه الاستحسان و القياس و نحوهما أيضا.

و بالجملة ليس غرضهم من التمسك بما يشبه استدلالات العامة، هو كونه دليلا في المسئلة و حجة بينهم و بين اللّه تعالى بل انما ذكر للتأييد و افحام المخالفين، و انه لو أغمضنا عن صدوره عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام يمكن إثبات حكم ما صدر من ناحيتهم بالاستحسان و الظنون غير المعتبرة التي هم عليه، فلا بد لهم من الاعتراف بما نحن عليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 100

..........

______________________________

و في بعض أخبار أئمتنا عليهم السّلام شاهد صدق على ذلك مثل ما ورد عن جواد الأئمة عليه السّلام في قطع أصابع السارق حيث استدل بقوله تعالى أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ «1» قبال استدلال العامة على ما ذهبوا اليه من قطع اليد من الزند، أو المرفق، أو المنكب مع انه لو تم الاستدلال بالاية المباركة لما صح في المرتبة الثانية قطع رجل السارق و لا يده لأنهما من المساجد

مع انه تقطع ان في المرتبة الثانية رجله و يده من خلاف نعم ربما يستدل بعض الفقهاء بقياس منصوص العلة فيزعم من لا خبرة له انه يستند الى القياس مع انه في الحقيقة لم يكن قياسا بل استدلالا بالعلة حيث يدور الحكم مدارها أينما وجدت بالدلالة اللفظية.

كما ان الاستدلال بتنقيح المناط القطعي لم يكن قياسا لأنه ربما يوجد عنوان في لسان الدليل و لكن العرف و العقلاء لا يرون لذلك العنوان خصوصية لترتب الحكم عليه بل لعنوان أعم منه، و ذلك مثل ما ورد ان الرجل إذا شك بين الثلاث و الأربع يبنى على الأربع، فإن العرف لا يرى للرجولية خصوصية في العمل بالشك، و يرى ان ذكر الرجل من باب المثال و تمام الموضوع لذلك عنوان الشاك فلذا يفتي الفقيه:

بأن المرية إذا شكت كذلك تبنى على الأربع أيضا. فهل الاخبارى لا يلغى خصوصية الرجولية و يرى اختصاص حكم الشك بالرجل؟! حاشاه.

كما ان استدلال الأصولي بالإجماع أحيانا ليس بلحاظ حجية الإجماع في نفسه كما يراه العامة بل بلحاظ كشفه عن رأى المعصوم عليه السّلام، أو حجة معتبرة كما أشرنا إليه في اعتبار الإحاطة بالمسائل الأصولية في الاستنباط.

و إجماله انه إذا اتفق أعلام الفرقة الإمامية من الصدر إلى الساقة على أمر، أو طائفة معتنى بها منهم على حكم، خصوصا إذا كان على خلاف القاعدة مع ما هم عليه من التورع و الاحتياط في الدين يكشف ذلك كشفا عاديا عن وجود مستند معتبر هناك قد خفي علينا فيؤخذ بما أجمعوا عليه و ان كان هناك خبر واحد معتبر يخالفه.

______________________________

(1) الجن 72/ 8.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 101

..........

______________________________

الى غير ذلك من الأمور

التي يتخيلها غير البصير بحقيقة الأمر انه على طريقة غير مرضية في الشريعة مع ان الأمر في الواقع و نفس الأمر على ما هو المرضى فيها.

و بالجملة التأمل الصادق يعطي بأن المجتهد الأصولي في الحقيقة إخباري و الاخبارى الخبير في الحقيقة أصولي، ألا ترى؟ انه إذا سئل عن الاخبارى إذا تعارض لدينا الخبران فما هي الوظيفة عند ذلك فما يتفصى به الاخبارى: من عرضها أولا على الكتاب و السنة، و الأخذ بما وافقهما و طرح الأخر، ثم ان لم يكن لأحدهما شاهد من كتاب اللّه، أو السنة، أو يكون لكليهما شاهد فيؤخذ بما خالف العامة و يطرح الأخر الى غير ذلك. هو الذي يتفصّى به الأصولي.

و قد أشرنا ان أكثر المنازعات بين الطائفتين في الحقيقة لفظي و راجع الى الصغرى كما هو الشأن في اختلاف بعض الأصوليين بعضهم مع بعض، و اختلاف بعض الأخباريين مع بعض.

نعم كما أشرنا أنه أفرط كثير من المتأخرين في بعض العلوم الآلية كالمسائل الأصولية حيث دققوا النظر فيها و أدرجوا فيها مباحث و مطالب لا يفيدهم في الفقه و في استنباط الأحكام، و لو افادوهم لكن يكون لها فائدة قليلة لعلها ملحقة بالعدم كبعض مباحث المشتق، و معاني الحرفية، و مسئلة الضد، و اجتماع الأمر و النهى و الترتب و مقدمات الانسداد بأدق معانيها الى غير ذلك مما لا يخفى على الطالب البصير، فأوجب طرح هذه المباحث و إتعاب النفس في حل بعض مباحثها الدقيقة غير النافعة بعدهم عما هو الأصل و المهم في ذلك و هو استنباط جل الأحكام الشرعية، و لعله لهذا و نحوها من المباحث غير المهمة قلما يوجد بين المتأخرين من استنبط جميع كتب الفقه مع

ان أكثر القدماء على خلاف ذلك فتراهم أرباب تأليف قيمة، و تصانيف نفيسة في جميع أبواب الفقه، أو أكثرها و ليس ذلك على الظاهر الا لعدم اشتغالهم بما يهمهم و اشتغالهم بما لا يهمهم في الفقه و الفقاهة، فللطالب المتدرب تشمير الذيل و الاشتغال بما هو المهم و الأخذ بما هو الحجر الاساسى و رفض، أو تقليل ما لا يكون محتاجا اليه كثيرا لا في دينه و لا دنياه عصمنا اللّه و إياكم من الزلل و ثبتنا على الصراط السوي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 102

المبحث السادس في تقسيم الاجتهاد الى تجز و إطلاق

______________________________

المراد بالتجزي في الاجتهاد: هو الاقتدار على استنباط بعض الأحكام عن أدلتها على النهج المألوف قبال الإطلاق: الذي عبارة عن الاقتدار على استنباط جميع الأحكام عن أدلتها. فالمتجزئ هو الذي يتمكن من استنباط بعض الأحكام دون جميعها، و المجتهد المطلق هو الذي يكون قادرا على استنباط اى حكم يرد عليه في أي باب من أبواب الفقه.

فقد وقع الكلام أولا في إمكان تحقق التجزي ثم في صحة اجتهاده على تقدير إمكانه، كما وقع الإشكال في وجود المطلق في الخارج.

قد يقال بعدم إمكان التجزي بلحاظ ان ملكة الاجتهاد كيف نفساني بسيط، و البسيط غير قابل للتجزية و التقسيم الى النصف أو الثلث أو الربع أو غيرها، و انما القابل لها هو الكم، متصلا كان أو منفصلا، فأمر الملكة دائما يدور بين الوجود و العدم و لا يعقل ان تتحقق مبعضة فلا يصح ان يقال ان لفلان نصف الاجتهاد أو ثلثه، أو أو ربعة، فاذا المتصدي للاستنباط اما يكون مجتهدا مطلقا و اما غير مجتهد أصلا، فالتجزى في الاستنباط أمر غير معقول.

و لكن فيه: ان البسيط و

ان كان غير قابل للتجزية الا انه قابل للاشتداد و الضعف و الزيادة و النقصان، كما هو الشأن في جميع الصفات النفسانية من العلم و الشجاعة و السخاوة الى غير ذلك فإنها مع كونها بسائط قابلة للاشتداد و الضعف، و الزيادة و النقصان، و لا يريد القائل بالتجزي تجزئة الملكة إلى النصف أو الثلث أو الربع.

و بعبارة أخرى يريد القائل بإمكان التجزي ان متعلق القدرة في المتجزى أضيق دائرة من متعلقها في المجتهد المطلق.

و ذلك لان مسائل أبواب الفقه ليست على نهج واحد بل متفاوتة من حيث

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 103

..........

______________________________

صعوبة الأخذ و سهولته و النفوس متفاوتة من حيث الاستعداد و الفكر فرب حكم مسئلة اختلف فيه الأقوال و تضاربت أدلته و مجاريه و ليس حكم مسئلة اخرى كذلك فقد يكون لها خبر واحد ظاهر الدلالة غير مختلف فيها، و من البديهي أن الاستنباط في الثانية أسهل منها بالنسبة إلى الاولى.

و ربما يكون الرجل لقوة استعداده و كثرة ممارسته في الأمور العقلية و مباديها يمكنه استنباط الأحكام المبتنية على مسئلة اجتماع الأمر و النهى، أو اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضده، أو مقدمة الواجب، أو الترتب الى غير ذلك و لكن حيث لم يكن مأنوسا بالمباحث الراجعة إلى الألفاظ و غير متبحر في تلك الأبحاث لا يتمكن من استنباط الأحكام المبتنية عليها، و ربما يكون الأمر بالعكس.

كما انه قد يتمكن من استنباط الأحكام المربوطة بالمعاملات لابتنائها على قواعد كلية حاضرة لديه و لكن يعجز عن استنباط أحكام العبادات المبتنية على الاخبار الكثيرة المتعارضة، كما انه ربما يكون بالعكس فيضعف عليه تطبيق القواعد الكلية على الموارد، و لكن

يسهل عليه استظهار المطالب من الاخبار و الجمع بين متعارضاتها الى غير ذلك مما يوجب تمكن الاستنباط من بعض في بعض الأحكام دون بعض أخر في أحكام أخرى و هذا غير خفي على الطالب المتدرب و قد رأينا بعض مشايخنا العظام له تسلط في استنباط الأحكام المبتنية على القواعد الكلية و المسائل العقلية و لم يكن له تلك السلطة إذا لم تكن المسئلة مبتنية عليها كما ان بعضا أخر منهم على العكس كما انه كان لبعضهم تسلط مطلوب عليهما شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

بل قد يقال ان الطفرة حيث تكون محالا عادة فكل مجتهد مطلق يكون متجزيا في زمان ثم قوى و ترقّى شيئا فشيئا حتى تمكن من استنباط جميع الأحكام.

و ربما يناقش: في التجزي بعد إمكان تحققه ان من لا إحاطة له بجميع المسائل يحتمل في حقه احتمالا مساويا في كل مسئلة يتوقف على مداركها ان يكون من جملة ما لا يحيط به من الدلائل ما يعارض تلك الدلائل التي وقف عليها في تلك المسئلة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 104

..........

______________________________

على وجه يساويها أو يترجح عليها.

و لكن يجاب أولا: بالنقض بالمجتهد المطلق.

و ثانيا: بان الظن بعدم المعارض كثيرا ما يعرف بالفحص في مظانه أو بتصريح المتفحصين به بحيث يطمئن بعدم المعارض فلا يتوقف استنباط المتجزى على الإحاطة بجميع المسائل.

هذا بالنسبة إلى المتجزي.

و اما بالنسبة إلى المجتهد المطلق فقد يقال بعدم وجود المجتهد المطلق في الخارج لما ترى من وقوع الاشكال و التردد في بعض المسائل من أساطين الفقه و الفقاهة كالمحقق و العلامة و الشهيدين و نظرائهم فما ظنك بغيرهم.

و لكن يمكن: ان يجاب عنه كما عن المحقق الخراساني

(قدس سره) ان ترددهم في بعض المسائل انما هو بالنسبة الى حكمه الواقعي لأجل عدم دليل مساعد في كل مسئلة علمية أو عدم الظفر به بعد الفحص بالمقدار اللازم لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع و اما بالنسبة الى حكمه الفعلي فلا تردد لهم أصلا.

هذا إجمال المقال في التجزي و الإطلاق و سيجي ء منا بحول اللّه و قوته بمناسبة تعرض الماتن (قدس سره) شرائط مرجع الفتوى بعض مباحث حولهما ما لا غنى عنه للطالب اللبيب، كما سيجي ء منا أيضا بعض مباحث هامة نفيسة عند تعرض الماتن لزوم تصدى المجتهد للقضاء و الحكومة و غيرهما فارتقب حتى حين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 105

[مسئلة 2- القول في جواز العمل بالاحتياط للمجتهد و عدمه]

اشارة

مسئلة 2- الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهدا (1) كان أو لا. لكن يجب (2) ان يكون عارفا بكيفية الاحتياط أو التقليد

______________________________

(1) لا موقف لهذه الفتوى بالنسبة إلى المجتهد الذي لا بد له من معرفة جواز ذلك بالاجتهاد.

(2) بالوجوب العقلي الإرشادي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 106

حكم العقل و الشرع بحسن الاحتياط بمعنى الإتيان بجميع المحتملات

______________________________

ا قول: و ليعلم ان الاحتياط بمعنى الإتيان بجميع المحتملات و إحراز الواقع به: لا ينبغي الإشكال في حسنه في حد نفسه لحكم العقل بحسنه و لعل النصوص على رجحانه و مطلوبيته متواترة فالشرع و العقل متطابقان على حسنه فيما يتحقق الا ترى؟! ان من شك في اعتبار التعدد في تطهير ثوبه المتنجس مثلا فلم يراجع مقلده في ذلك أو لم يجتهد فيه إذا كان من اهله و لكن غسله مرتين أو ثلاث مرات فهل لا يكون آتيا بالوظيفة و ممتثلا للأمر بتطهير الثوب، حاشاك ان تتوهم ذلك. و سنشير الى ان المناقشة في ذلك في بعض الموارد- كالاحتياط في العبادات مع التمكن من القطع التفصيلي في الحقيقة- مناقشة في الصغرى و ان الاحتياط فيها مستلزم. للإخلال بقصد الوجه و التمييز و الجزم بالنيّة و غير ذلك. و من المحتمل اعتبارها في المأمور به فلا يكاد يحرز الواقع بالاحتياط و سنشير عدم اعتبار شي ء منها، فمهما أحرز المأمور به بنحو من الأنحاء و اتى بجميع المحتملات فلعل جوازه من الأحكام التي قياساتها معها، ضرورة انه مما يقطع به الامتثال و ليس وراء عبادان قرية و لذا

توهم ان من تمكن من الاحتياط ليس له الاجتهاد أو التقليد و دفعه

ربما يتوهم كما أشرنا انه مع التمكن من الاحتياط ليس له الامتثال- بالاجتهاد أو التقليد، لعدم كونهما موجبين للقطع بالامتثال و غايتهما هو الظن به و معلوم ان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 107

..........

______________________________

الامتثال القطعي مقدم على الظني منه، و ان كان فيه ما لا يخفى من الضعف لأنه بعد قيام الدليل على اعتبار أمارة ظنية لا يرى العقل اى فرق بين الامتثالين في أداء الوظيفة و إسقاط التكليف، و التفصيل يطلب

من غير المقام.

و عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) الإجماع على جواز الاحتياط فما يحكى عن المشهور من بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد لو أمكن توجيهه بنحو الى ما لا ينافي ما ذكرنا فبها، و الا فيطرح لما عرفت ان الاحتياط موجب للعلم بمطابقة المأتي به للواقع.

توجيه فتوى المشهور ببطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد

و لعل مراد المشهور على تقدير صحة الانتساب ما هو المحكى على السيد الرضي الذي قرره اخوه علم الهدى (قدس سرهما) في مسئلة الجاهل بالقصر قال (قدس سره):

ان عقد إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها اه.

و حاصل مقالهما هو ان الجاهل بأحكام الصلاة مثلا لا يكاد يقطع بإتيان المأمور به على ما هو عليه بمجرد إتيان ما يزعمه، و هذا أجنبي عن الاحتياط الذي يحرز به الواقع يقينا فتدبر.

و قد عرفت ان الاكتفاء بما يحرز ادراك الواقع به كالاكتفاء بالتقليد أو الاجتهاد مما يدركه عقل كل مكلف ملتفت فلا يكون ذلك موردا للتقليد.

و لو عمم مقالة المشهور الى مثل العمل بالاحتياط فحاصل مقالهم هو عدم تحقق موضوع الاحتياط في خصوص العبادات لبعض المناقشات لا عدم جوازه فيما أمكن الاحتياط و تحقق، و الكلام انما هو في أصل الجواز، فمرجع مقالهم إلى المناقشة في الصغرى بعد تسليم الكبرى الارتكازي لا فيها كما لا يخفى فتدبر.

فجواز الاحتياط في الحقيقة مستند الى الاجتهاد- و لو بالارتكاز.

هذا كله في الاحتياط بالمعنى الذي ذكرنا- و هو الإتيان بجميع المحتملات-

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 108

مناقشة جواز الاحتياط مطلقا مع التمكن من الامتثال التفصيلي و دفعه

______________________________

نعم ربما يناقش: جواز الاحتياط بالمعنى المتعارف في بعض الموارد لاحتمال اعتبار قصد الوجه و التمييز في المأتي به العبادي، أو اعتبار الجزم في النية فيه و في المعاملي بالمعنى الأخص، أو اعتبار الامتثال التفصيلي مهما أمكن الى غير ذلك و قد عرفت انه في الحقيقية مناقشة في تحقق موضوع الاحتياط لا في أصله، و ستعرف ان المناقشات بحذافيرها مندفعة، فالأقوى جواز الاحتياط مطلقا في العبادات، أو المعاملات بقسميهما تمكن من الامتثال التفصيلي، أو لم

يتمكن، استلزم تكرار جملة العمل، أو لم يستلزم، كان الاحتياط في التكليف المستقل النفسي، أو في التكليف الضمني- كأجزاء المركب و شرائطه- الى غير ذلك من الصور.

عدم الإشكال في الاحتياط بالمعنى المتعارف في المعاملات بالمعنى الأعم

لا وقع للإشكال بل لم يعهد الإشكال في الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم- أعني به الأمور التوصلي غير المعاملي- مطلقا ضرورة ان المقصود من الواجب التوصلي هو وجود المتعلق و تحققه في الخارج كيف اتفق و لا يعتبر فيه صدق الامتثال و الإطاعة، و ان كان يثاب و يجزى عند الإطاعة و الامتثال.

و ذلك مثل تطهير الثوب فعند الشك في اعتبار التعدد لو احتاط و غسله مرتين أو ثلاث مرات فتحصل الطهارة من غير نكير و ان تمكن من تحصيل العلم بالوظيفة، و كذا إذا اشتبه الماء المطلق بالماء المضاف فيصح ان يحتاط و يغسل المتنجس مرة بأحدهما و اخرى بالآخر، و تحصل الطهارة مع التمكن من تشخيص الماء المطلق و معرفته الى غير ذلك من الأمثلة.

و لا فرق في ذلك بين صورة التمكن من الامتثال التفصيلي و عدمه.

و غاية ما يمكن ان يوجه لمنع الاحتياط هنا بل في جميع موارد التمكن من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 109

..........

______________________________

الامتثال التفصيلي هو منافاة أدلة تعلم الأحكام لتجويز الاحتياط مطلقا.

و لكن فيه كما تقدم ان ما دل على وجوب التعلم و التفقه اما يستفاد منه كون التعلم واجبا إرشاديا أو نفسيا تهيئيا و على كل، يكون المقصود منه عدم معذورية الجهل في مخالفة الواقع.

فلا ينبغي الإشكال في جواز الاحتياط هنا لحصول الغرض بذلك حسب الفرض، لأنه يحصل الغرض و يوتى بالواقع لكل من الامتثال التفصيلي و الاحتياط و الامتثال الإجمالي فيحصل المؤمّن من العقاب

بهما، بل يمكن ان يقال العمل بالاحتياط أحسن من الاجتهاد أو التقليد فيما إذا لم يوجبا العلم بالواقع لاحتمال مخالفة الواقع فيهما دونه، و احتمال مخالفة الواقع و ان كان مدفوعا بالعمل بالحجة الا ان إحراز الواقع أمر مستحسن عقلا.

جواز الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأخص

و قريب منه الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأخص- اعنى العقود و الإيقاعات- و ان الأقوى ان الاحتياط جائز فيها أيضا خلافا لما عن الشهيد و شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سرهما) في المكاسب عند شرائط الصيغة نظرا الى اعتبار الجزم في الإنشاء، و لا يتحقق ذلك بالاحتياط، إذ ترتب الأثر في كل واحد من طرفي العقد مشكوك فيه مثلا إذا شك في صيغة النكاح ان لفظة النكاح تتعددى الى المفعول الثاني بنفسه أو بلفظه- من- فعند تعديتها بنفسها لا يدرى حصول النكاح و الزوجية بذلك فلا يكون جازما بإنشاء النكاح بالاحتياط.

و كذا إذا شك في حصول الطلاق بالجملة الفعلية كسائر صيغ العقود بان يقول:

طلقتك، أو انه لا بد و ان تكون بالجملة الاسمية بأن يقول: أنت طالق مثلا فعند قوله طلقتك لا يكاد يدرى حصول البينونيه بذلك فلا يكون جازما بإنشاء الطلاق بالاحتياط

مناقشة جواز الاحتياط فيها و دفعه

حاصل الاشكال فيه مضافا الى الإشكال المتقدم هو انه يعتبر في العقد و الإيقاع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 110

..........

______________________________

قصد الإنشاء و يعتبر فيه الجزم و لذا لو علق الإنشاء على أمر لم يصح و ان كان الشرط متحققا كقولك: بعتك هذه الدار ان قدم الأمير- و كان الأمير قادما- و لا يكاد يتحقق الجزم في الاحتياط لان ترتب الأثر في كل واحد من طرفي العقد و الإيقاع مشكوك فيه ضرورة انه حين إجراء صيغة النكاح بالفارسية مثلا لا يدرى ان ما اراده من النكاح و الزواج يحصل بها أم لا فلا يكون جازما بالنكاح بالاحتياط.

و فيه ان اعتبار الجزم في الإنشاء لا يكاد يضر بما نحن بصدده لان الترديد في الاحتياط انما هو في الممضى

شرعا لا في الإنشاء نفسه، و ذلك لان الإنشاء إما يكون عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ قبال الاخبار الذي هو عبارة عن الاخبار بثبوت شي ء لشي ء، أو نفيه عنه كما هو المشهور.

أو كان عبارة عن إبراز الوجود الاعتباري في نفس المتكلم بمبرز قبال الاخبار الذي هو عبارة عن إبراز كون المتكلم قاصدا للحكاية عن وجوده خارجا كما يراه بعض المحققين، و التحقيق يطلب من غير المقام.

فإنشاء النكاح أو الطلاق عبارة عن إيجاد علقة الزوجية و البينونية باللفظ، أو إبراز وجود العلقة أو البينونية في نفسه بمبرز، و من المعلوم تحقق هذا المعنى عند تعدى لفظة النكاح الى المفعول الثاني بنفسه مثلا أو التلفظ بالجملة الفعلية في صيغة الطلاق.

و بالجملة هو جازم بالإنشاء عند ذلك و لا تردد له في نيته و انما الشك في أمر خارج عن حيطة إنشائه و هو إمضاء الشارع و حكمه بصحة نكاحه أو طلاقه.

و بعبارة أوضح إنشاء الأمر الاعتباري خفيف المؤنة فقد يكون المنشأ ممضاة شرعا يترتب عليه الأثر، و قد لا يكون كذلك فلا يترتب عليه ذلك، و لذا ترى تحقق الإنشاء مع القطع بعدم الإمضاء و الاعتبار كما في بيع المحرمات.

فحديث الاعتبار و الإمضاء فضلا عن ترتب الأثر أجنبي عن حديث اعتبار الجزم في نيّة الإنشاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 111

..........

______________________________

فإذا كما يتحقق الجزم بالإنشاء عند التلفظ بصيغة يعلم بإمضائها عند الشرع كذلك يتحقق عند التلفظ بصيغة لا يعلم بذلك.

و لا فرق بينهما فيما يرجع الى الإنشاء و الفرق انما هو في الإمضاء و عدمه.

و الحاصل انه فرق بين الاحتياط و تكرار العمل المشكوك فيه، و بين الترديد في الإنشاء، و ذلك

لان المحتاط يقصد إيجاد علقة الزوجية، أو يبرزها بمبرز لفظي في ضمن كل من الصيغتين من غير ترديد فهو جازم بالإنشاء عند ذلك و انما يشك في الخارج عن محيط الإنشاء، و هو إمضاء الشارع و حكمه بتحقق الزواج بذلك، و إمضاء الشارع و عدمه أجنبي عن إنشاء المنشئ و اعتباره.

و لذا يتحقق الإنشاء و اعتبار الملكية ممن يعلم بعدم صحة البيع الربوي مثلا، و إلغاء الشارع ملكية الخمر، و الخنزير، فالترديد فيما هو الممضى شرعا لا فيما أنشأه المنشئ فحديث ترتب الأثر شرعا على عقد، غير مرتبط بالترديد في قصد الإنشاء، و بينهما بون بعيد.

فظهر مما ذكرنا جواز الاحتياط في كل من المعاملات بالمعنى الأعم، و المعاملات بالمعنى الأخص، مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

و لذا ترى سيرة الصلحاء من السلف الى الخلف على الاحتياط في كل منهما خصوصا في إجراء صيغة النكاح فتريهم لا يكتفون بصيغة واحدة حتى يأتونها بصيغ متعددة.

بقي الكلام في الاحتياط في العبادات- اعنى الأمور التي يعتبر فيها قصد القربة و الامتثال.

اشارة

و لا يخفى ان مصب الإشكالات و المناقشات انما هو في الاحتياط في هذا القسم خصوصا فيما إذا استلزم الاحتياط تكرار جملة العبادة، مع التمكن من الامتثال التفصيلي و لعل مصب ما حكى عن المشهور من بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد، هو الأمور العبادي كما يشير الى ذلك ما حكى عن ظاهر السيد المرتضى في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 112

..........

______________________________

مسئلة الجاهل بوجوب القصر تقريرا لأخيه السيد الرضى (قدس سرهما) من ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم حكمها، و يحكى ذلك عن شيخ الطائفة (قدس سره) أيضا.

و مع ذلك الأقوى أيضا جواز الاحتياط فيها مطلقا.

توضيح المقال يستدعي البحث في مقامين الأول: الاحتياط مع

عدم التمكن من الامتثال التفصيلي. و الثاني: الاحتياط مع التمكن منه.

المقام الأول و هو الاحتياط مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي
اشارة

و ذلك مثل الصلاة في ثوبين يعلم بنجاسة أحدهما و لم يتمكن من الصلاة في الثوب الطاهر.

لا يخفى ان جواز الاحتياط فيه واضح لا ينبغي الإشكال فيه لان عمدة المناقشات مختصة بصورة التمكن من الامتثال التفصيلي بل لعله لم يوجد مخالف في ذلك الا ما حكى عن ظاهر الحلي (قدس سره) فمنع من الاحتياط و قال بفعل الصلاة عاريا عند اشتباه الثوب الطاهر بالنجس، و مرجع فتواه الى سقوط شرطية الستر عند ذلك و اختصاصها بصورة العلم التفصيلي بالطهارة.

الاستدلال لمنع الاحتياط في صورة عدم التمكن من العلم التفصيلي و دفعه

و استدل لمقالة بوجهين.

الأول: ان الاحتياط بفعل صلاتين نحو تشريع و بدعة لعدم ندب الشرع بهما و ما ندب اليه انما هو صلاة واحدة.

الثاني: ان التكرير يوجب إلقاء قصد الوجه المعتبر حال الاشتغال بالعمل العبادي و لا يخفى ما في كلا الوجهين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 113

..........

______________________________

اما حديث التشريع و البدعة فواضح لمضادة الاحتياط الذي هو عبارة عن إتيان ما يحتمل انه من الدين برجاء إحراز ما هو الواقع فيه، مع التشريع الذي هو عبارة عن إدخال ما علم عدم كونه من الدين، أو لم يعلم انه من الدين، في الدين على انه من الدين و الفرق بينهما واضح إلى النهاية.

و بما ذكرنا يعلم ان موارد الاحتياط دائما ليست من البدعة و التشريع في شي ء و اما حديث الإخلال بقصد الوجه ففيه:

أولا: ما سيجي ء عن قريب من عدم اعتبار قصد الوجه في صورة التمكن من الامتثال التفصيلي فما ظنك في المتعذر منه.

و ثانيا: ان القائلين باعتباره يرونه في صورة التمكن من معرفة الوجه و الامتثال التفصيلي لا مطلقا حتى في صورة عدم التمكن منه، و الا يلزم عدم جواز العمل

بالاحتياط في العبادات أصلا، و هو بمكان من الضعف كما لا يخفى على من له إلمام بالفقه فتدبر.

المقام الثاني و هو الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي

و هو تارة فيما إذا لم يستلزم الاحتياط تكرار جملة العمل كما إذا شك في وجوب شي ء كالدعاء عند رؤية الهلال، أو شك في جزئته للمركب، أو شرطيته له فلان مقتضى الاحتياط فيه هو الإتيان بما يحتمل وجوبه، و إتيان الجزء أو الشرط المشكوك فيه رجاء من دون لزوم تكرار جملة العمل.

و اخرى فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل كاشتباه القبلة بين جهتين أو أكثر.

الاحتياط في العبادة إذا لم يستلزم تكرار جملة العمل فالكلام يقع في موردين
المورد الأول: فيما لم يستلزم الاحتياط تكرار جملة العمل
اشارة

.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 114

..........

______________________________

صور الاحتياط في العبادة و الشك تارة في عبادة نفسية، كما إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و اخرى في عبادة ضمنية كما إذا شك في جزئية شي ء للمأمور به، أو شرطيته له، بان شك في جزئية السورة للصلاة مثلا، أو شك في اعتبار الطمأنينة فيها.

و لا يخفى ان الشك في الصورتين طورا يكون مقرونا بالعلم بتعلق الأمر و يكون أصل المحبوبية محرزا فيكون الشك في خصوصيات الطلب كما إذا علم محبوبية الدعاء عند رؤية الهلال و تعلق الطلب به، و لكن شك في وجوبه أو استحبابه أو علم محبوبية السورة، أو الطمأنينة، في الصلاة و تعلق الطلب به و لكن شك في وجوبهما أو استحبابهما.

و اخرى يكون مقرونا مع الشك في أصل المحبوبية و الطلب و ذلك في الأمثلة المذكورة إذا فرض الشك في أصل المحبوبية و الطلب، و من أمثلة هذه الصورة ما إذا شك في الوضوء بعد غسل الجنابة.

إذا عرفت ما ذكرنا فهل يحسن الاحتياط في جميع الصور، أو لا كذلك، أو يفصّل بين ما إذا كان أصل المحبوبية و الطلب محرزا و بين عدمه؟ وجوه بل أقوال في بعضها.

حاصل المقال في عدم جواز

الاحتياط في العبادات غير المستلزمة للتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي يرجع الى إحدى هذه المناقشات و كلها مدفوعة.

منافاة الاحتياط مع تعلم الأحكام و دفعها

احداها: أدلة وجوب تعلم الأحكام فان مقتضاها لزوم تعلم الأحكام اجتهادا أو تقليدا مهما أمكن فلا يجوز الاكتفاء بالاحتياط عند التمكن من المعرفة.

و فيها: انه كما أشرنا انه لا يستفاد مما دل على وجوب التعلم كون التعلم واجبا نفسيا أصليا، بل واجبا إرشاديا، أو نفسيا تهيئيا، و حيث انه لا ملازمة و لا مقدمية بين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 115

..........

______________________________

العلم و العمل، لإمكان إحراز الواقع، و العلم به بإتيانه بالاحتياط، فلم يكن وجوب التعلم نفسيا فيكون إرشاديا للتحفظ على عدم الوقوع في خلاف الواقع، فيكون المقصود منه عدم معذورية الجهل الناشي عن ترك التكلم في مخالفة الواقع.

نعم الجهل بعد التعلم المساوق للجهل المركب إذا لم يكن مسببا عن تقصير في مقدماته إذا ادى الى مخالفة الواقع يعد عذرا لاندراجه في الحقيقة في الجهل القصورى.

إخلال الاحتياط بقصد الوجه و التمييز مع وجوبهما و دفعه

و ثانيتها: ان الاحتياط يوجب الإخلال بقصد الوجه و التمييز المعتبرين في العبادة حين العمل مع التمكن منه.

و قد يوجه لاعتبارهما في العبادة مضافا الى الإجماع المدعى في لسان المتكلمين و غيرهم: بان العقل يستقل بحسن الإتيان بالمأمور به بقصد الوجوب أو الاستحباب متميزا عن غيره، بل لا حسن في العمل الفاقد لهما بداهة ان الحسن و القبح يختلفان بالوجوه و الاعتبارات فربما يتصف فعل واحد كضرب اليتيم مثلا تارة بالحسن و المحبوبية إذا كان للتأديب، و اخرى بالقبح و المبغوضية إذا كان للتشفي فإذا كانت جهة الحسن معلومة فيقصدها و الا فيقصد العنوان المشير اليه كقصد الوجوب أو الاستحباب.

و لو شك في اعتبارهما في تحقق الامتثال لاحتمال عدم حصول القرض الا بهما فمقتضى الأصل الاشتغال فلا يكاد يحرز الامتثال الا بقصد أحدهما مهما

أمكن.

و فيها: أولا: ان الأصل في اعتبارهما هم المتكلمون و وافقهم على ذلك بعض الفقهاء، و المظنون ان مستند المجمعين هو حكم العقل المذكور أو ما أشرنا إليه من الشك في صدق الإطاعة و الامتثال بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي و من الواضح كما قرر في محله عدم استكشاف الإجماع الكذائي عن قول المعصوم عليه السّلام فمحصله غير مفيد فضلا عن منقوله، و قد حكى عن المحقق (قدس سره): ان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 116

..........

______________________________

ما اعتبره المتكلمون من اعتبار قصد الوجه و التمييز كلام شعري.

و ثانيا: انه على تقدير تمامية الإجماع فالقدر المتيقن منه هو لزوم اعتبار قصد الوجه و التمييز في تمام العمل لا في مفروض المقام.

و ثالثا: ان العقل لا يستقل بذلك و غاية ما يدركه هو لزوم الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه من الاجزاء و الشرائط و المفروض تحققه بالإتيان بالأكثر و ما احتمل وجوبه، و حديث كون الحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات أجنبي عن المسئلة كما لا يخفى.

و رابعا: لو سلم حكم العقل فغاية ما يمكن ان يقال ان الحسن المدعى انما هو في الإتيان بمجموع الاجزاء و الشرائط بقصد الوجه و التمييز لا في كل واحد منهما.

و بالجملة لو تم ذلك فإنما يكون في الواجبات النفسية، و اما في الواجبات الضمنية فلا تنافي بين الاحتياط و قصد الوجه، لان المركب الاعتباري الذي يعد عملا واحدا، كالصلاة مثلا، يمكن ان يؤتى به بقصد الوجوب، حين الشروع و ان اشتملت على اجزاء غير واجبة، و لا يحتاج الى قصد الوجوب في كل جزء و شرط بل لا يصح لعدم إحراز اشتمال

كل جزء من اجزائه أو شرط من شرائطه على جهة حسن، غير الحسن الذي في المجموع المركب.

فاذا لا مانع من قصد عنوان نفس العمل فيقصد الصلاة مثلا موجها و ممتازا مع الإتيان بما يشك في وجوبه الضمني.

و لو وصلت النوبة إلى الشك في اعتبارهما فمقتضى الأصل- و ان كان الشك في حصول الغرض- البرائه. كما قرر في محله.

و الحاصل انه لا بد في اعتبار قصد الوجه و التمييز من دلالة دليل شرعي، و لم يقم في الشريعة المقدسة ما يدل على اعتبارهما، و حيث ان المقام مما يعم به البلوى في كل يوم و ليلة فلو كانا معتبرين في الشريعة لبان و ظهر. فمن عدم وجود الأمر بهما في الاخبار يستكشف عدم وجوبهما واقعا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 117

..........

______________________________

و بالجملة يكون المقام من صغريات كبرى ان عدم الوجدان يدل على عدم الوجود فتدبر.

الشك في صدق الإطاعة بالاحتياط مع التمكن من الاجتهاد أو التقليد و دفعه

ثالثتها: الشك في صدق الإطاعة و الامتثال الإجمالي بالاحتياط مع التمكن من العمل على طبق الاجتهاد أو التقليد و المرجع عند ذلك الاشتغال، و ان قلنا بالبراءة عند الشك في اجزاء المأمور به و شرائطه، لأن مرجع الشك في المقام الى الشك في صدق الإطاعة المتأخرة، عن الأمر، المتأخر عن المأمور به، و لا يمكن أخذ ما يأتي من ناحية الأمر في متعلقة كما لا يخفى، و كلما لا يكون قابلًا للوضع و الجعل لا يكون قابلًا للرفع فلا يصح التمسك لرفعه بإطلاق الأدلة و لا يمكن نفى اعتباره بالأصل، بل يتعين في مثل ذلك الرجوع الى أصالة الاشتغال و الاحتياط.

و فيها: انه قد أشرنا أنفا انه لا يعتبر قصد الوجه و التمييز في تحقق الإطاعة

عند العرف و العقلاء، و لا يرون اى فرق بين العبادة و غيرها، في صدق الإطاعة الا من جهة انه يعتبر في العبادة ان يوتى به مضافا اليه تعالى، بخلاف غيره، لحصول الغرض منه بنفس إتيانه كيف اتفق.

و واضح ان الإضافة إليه تعالى كما تتحقق بإتيان المأمور به على وجه التفصيل فكذلك تتحقق بالإتيان به على وجه الإجمال و لذا تريهم من غير نكير، يعدون الاتى بجزء، أو شرط، رجاء، ممتثلا، و ان كان متمكنا من إتيانهما على التفصيل.

و عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) التصريح بعدم توقف الإطاعة عليهما فلا ريب في عدم الاعتبار بل كما تقدم عن المحقق (قدس سره) ان ما اعتبره المتكلمون من اعتبار قصد الوجه و التمييز كلام شعري.

و لو وصلت النوبة إلى الشك في صدق الإطاعة بدون قصد الوجه فيمكن التمسك بالإطلاق المقامى لنفى اعتباره، لان قصد الوجه مما يغفله العامة، فلو كان دخيلا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 118

..........

______________________________

في حصول الغرض، كان على الشريعة المقدسة بيانه، و لو بدليل أخر، و حيث لم يبين فيصح التمسك لنفى اعتباره بالإطلاق المقامى، و مع إطلاق الدليل لا وقع لجريان الأصول.

و مع قطع النظر عن إطلاق الدليل يكون مقتضى الأصل البراءة، دون الاشتغال خلافا لما عن الشيخ في خاتمة الأصول فقال بالاشتغال، مستندا الى ان الشك في المقام الشك في الامتثال، بعد العلم بما هو المأمور به، و حكم العقل قاضٍ بالاحتياط.

و فيه ان الشك في الامتثال ناش عن احتمال اعتبار الشرع في متعلق امره، و الا فمع عدم الاعتبار عنده لا مجال للشك لحصول الامتثال بالإتيان بما هو المعلوم لديه، و للشارع ان يتصرف

في موضوع الإطاعة بازدياد بعض الشرائط و القيود، فتجري البراءة عما شك في اعتباره، و ان كان من شرائط الامتثال.

و بالجملة حيث انه لا شك في المقام في مفهوم العبادة بل الشك في واقعها فمرجع الشك حينئذ الى ان الشارع هل اعتبر في متعلق الأمر التحرك عن تحريكه مع التمكن- من العلم بما هو الواجب- أو انه اعتبر الأعم منه و من التحرك عن احتمال الأمر. فلا فرق في جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في القيود المشكوكة بين كونها من قيود الامتثال أو قيود المأمور به.

هذا إذا لم يكن الشرط المشكوك فيه مما يعتبر عند العقلاء في الإطاعة كقصد الوجه، و اما إذا كان معتبرا عندهم كعدم تكرار الكثير بدون داع عقلائي فمع الشك في اعتباره عند الشرع لا تجري البراءة و لا بدله من الاحتياط.

و حديث عدم إمكان أخذ ما يكون متأخرا عن الأمر إلى آخر ما ذكره مخدوش لما تقرر في محله من إمكان أخذه بدليل آخر بنتيجة التقييد فاذا لم يؤخذ في دليل أخر فمقتضى أصالة البراءة عدم الاعتبار فلا يجب اعتبارهما.

فتحصل مما تقدم ان القول بعدم صحة الامتثال الإجمالي في الأمر العبادي إذا لم يستلزم التكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي من الاجتهاد أو التقليد غير وجيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 119

عدم كون الاحتياط امتثالا في صورة التمكن من الامتثال التفصيلي إذا لم يعلم أصل الطلب و دفعه

______________________________

رابعتها: ما حكاه بعض الأساطين (دام ظله) عن المحقق النائيني (قدس سره) فقال انه اختاره في الدورة الأخيرة و هو التفصيل بين ما إذا كان أصل المحبوبية و الطلب محرزا، و بين عدمه، بجواز الاحتياط في الأول، دون الأخير، و حاصله.

انه مع العلم بتعلق الأمر و الطلب و ان كان عنوان

وجوبه، أو استحبابه مشكوكا و لكن لا يوجب ذلك إشكالا في جواز الاحتياط، لإمكان الإتيان بالعمل بداعي الأمر للعلم بوجوده و تعلقه بالعمل.

نعم لا يمكننا الإتيان به بقصد الوجه، الا انه غير معتبر في العبادة.

و اما إذا لم يعلم تعلق الأمر به و لكن على فرض التعلق يكون عباديا، يعتبر ان يؤتى بقصد القربة، كالوضوء بعد غسل الجنابة، فإن الوضوء و ان كان عملا عباديا، يعتبر فيه قصد القربة قطعا، الا ان الشك في تعلق الأمر به بعد غسل الجنابة، فلا مجال للاحتياط و الإتيان به رجاء في امتثال ذلك مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

و ليس هذا من جهة اعتبار قصد الوجه، و التمييز، في المأمور به بل لأجل أن الامتثال الإجمالي، في طول الامتثال التفصيلي الذي هو عبارة عن التحرك و الانبعاث بتحريك المولى، و بعثه، و من الواضح عدم تحقق ذلك في الاحتياط، بداهة أن انبعاثه باحتمال البعث لانفسه و لا يصار اليه مع التمكن من انبعاثه بنفس بعث المولى و امره.

و بالجملة الاحتياط و إتيان العمل رجاء، و ان كان يعد امتثالا، الا انه في طول الامتثال التفصيلي و في صورة عدم التمكن من الامتثال.

و لو شك في كون الامتثال الإجمالي في عرض التفصيلي أو في طوله، فالمرجع الاشتغال لرجوع الشك في كيفية الإطاعة و الامتثال و انه هل يلزم ان يكون تفصيليا أو يكفي فيه الاحتياط فلا بد من الاحتياط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 120

..........

______________________________

و بعبارة أخرى مرجع الشك الى الشك في التعيين و التخيير و هو مورد لقاعدة الاشتغال «1».

و فيه: انه كما تقدم جواز الاحتياط و حسنه في المعاملات بالمعنى الأعم و المعاملات

بالمعنى الأخص، مع التمكن من تحصيل العلم، بلا طولية بين الامتثال الإجمالي و الامتثال التفصيلي، بل هما كفرسي رهان في عرض واحد و العرف و العقلاء ببابك فاختبرهم فتريهم شاهد صدق على ما ذكرنا، فتريهم يرون المحتاط المتمكن من الامتثال التفصيلي مطيعا و منقادا، و عمله اطاعة و امتثالا.

و من المعلوم انه لا فرق بين العبادة و غيرها الا من جهة انه لا بد في العمل العبادي ان يؤتى به مضافا اليه تعالى خالصا لوجهه الكريم، و معلوم ان الإضافة إليه تعالى كما يتحقق بالإتيان بالمأمور به على وجه التفصيل كذلك يتحقق بالإتيان به على وجه الإجمال، و لذا تريهم لا يشترطون في العمل بالاحتياط عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بل متفقون على انه إذا اتى العبد بعمل رجاء لاحتمال مطلوبيته مع التمكن من الإتيان به على وجه التفصيل، يعدونه مطيعا و منقادا.

و قد أشرنا في ذيل المناقشة الثالثة: انه لو شك في ذلك فمقتضى الأصل البراءة لا الاشتغال، لان مرجع الشك هنا بعد العلم بمفهوم العبادة إلى انه هل اعتبر الشارع في متعلق أمره ان يكون تحرك العبد و فعله بتحريك المولى و امره مع التمكن، أو يكفى ان يكون تحركه و لو عن احتمال الأمر.

فالجامع بين الاحتمالين و هو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الامتثال معلوم، و اما اعتبار كون التحرك و الانبعاث بتحريكه فمشكوك فيه، فيرجع الى البراءة لما تقرر من جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير.

فظهر مما ذكرنا ان الحق جواز الاحتياط فيما لم يستلزم تكرار جملة العمل مطلقا مع التمكن من الامتثال التفصيلي من غير فرق بين الاستقلالية و الضمنية، و من غير

______________________________

(1) التنقيح ج 1/

69.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 121

..........

______________________________

فرق بين ما إذا كان أصل المحبوبية معلوما أم لا.

المورد الثاني فيما إذا استلزم الاحتياط في العبادة تكرار جملة العمل للمتمكن من الامتثال التفصيلي.
اشارة

و ذلك مثل دوران الأمر بين المتباينين بان تردد الصلاة الواجبة بين القصر و الإتمام، أو بين الجهر و الإخفات، أو بين الظهر و العصر، الى غير ذلك.

فهل يصح الاحتياط فيها بالتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد أم لا؟.

و لعل عمدة اشكال المشهور في بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد هي هذه الصورة.

و ربما يناقش الاحتياط في هذه الصورة من صحح الاحتياط في الصور المتقدمة، و بعض الإشكالات في هذه الصورة و ان كان مشتركا بينها و بين ما تقدم الا ان لها ما يختص به و لا بأس بالإشارة إلى عمدة الإشكالات فيها فنقول.

إشكالات عدم جواز الاحتياط في العبادات مع التمكن من الامتثال التفصيلي فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل إخلال الاحتياط بقصد الوجه و التمييز و دفعه
اشارة

الأول و الثاني: ان الاحتياط كذلك يوجب الإخلال بقصد الوجه، أو التمييز في العبادة، و قد تقدم تقريبه في المورد الأول فليراجع.

و فيه أولا: كما أشرنا إليه انه لا يعتبر قصد الوجه في حقيقة الإطاعة عند العقل لأن حقيقة الطاعة عنده عبارة عن الانبعاث عن البعث و كون الإرادة الفاعلية منبعثة عن الإرادة الأمرية، و هذا لا يتوقف على معرفة الوجه و قصده و غاية ما يقتضيه هي ان يكون الداعي إلى الفعل إرادة الأمر، و اما معرفة كون البعث إلزاميا أو غير إلزامي فلا دخل لها في حكم العقلاء أصلا، فلو كان قصد الوجه أو التمييز معتبرا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 122

..........

______________________________

فلا بد و ان يكون بأمر شرعي.

و ليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يستشم منه اعتبار ذلك مع كونه مما تعم به البلوى فعدم الوجود في مثله دليل على العدم حسبما تقدم.

فالإنصاف ان مدعى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه و التمييز في العبادات غير مجازف.

و ثانيا: كما

أفيد: ان الاحتياط في المقام غير مخل بقصد الوجه لان المكلف إنما يأتي بالصلاتين بداعي امتثال الأمر الوجوبي المتعلق بإحداهما، و هي غير متميزة نعم ان عمله كذلك مخل بقصد التمييز و لا بأس به لأنه لا دليل على اعتباره «1».

و بالجملة ان المكلف إنما يأتي بالواجب المردد بين الفعلين لوجوبه بحيث لو لا كونه واجبا لما اتى بشي ء من المحتملين فقصد الوجه أمر ممكن في المقام لان معناه ان يؤتى بالعمل لوجوبه أو استحبابه و قد عرفت ان المكلف إنما يأتي بالعمل لوجوبه «2».

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 122

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في اعتبار قصد الوجه، و الأصل في ذلك البرائه لا الاشتغال لان الشك في اعتبار قصد الوجه يرجع الى الشك في اعتبار قيد في المأمور شرعا، زائدا عما يعتبره العقل و العقلاء، و المرجع البراءة.

الاحتياط لعب و عبث بأمر المولى و دفعه

الثالث: ان الاحتياط في المفروض لعب و عبث عند العقلاء مع التمكن من الامتثال التفصيلي لأن المكلف مع قدرته على تحصيل العلم بواجبه العبادي وجدانا أو تعبدا، و تمكنه من الإتيان به من غير ضم ضميمة إذا اتى به مع الضمائم، في ضمن أفعال متعددة، يعد عمله عبثا و لعبا و ما كان كذلك لا يمكن ان يقع مصداقا للامتثال، لأنهما مذمومان و المذموم لا يقع مصداقا.

و فيه أولا: ان الاحتياط مع التكرار لا يلازم كونه عبثا و لغوا لأنه قد يتعلق

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 30.

(2) التنقيح ج 1/ 74.

الدر النضيد في

الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 123

..........

______________________________

غرض عقلائي به كما إذا توقف تحصيل العلم بالواجب و الامتثال التفصيلي على مؤنة زائدة على الاحتياط كصرف وقت زائد للمطالعة أو المشي إلى مكان بعيد للسؤال عن حكم المسئلة، و الاحتياط في مثل ذلك لا يعد عند العقلاء لغوا و عبثا كما لا يخفى.

و ثانيا: انه إذا عد في مورد لعبا و عبثا كما إذا أشبهت القبلة بين اربع جهات و المكلف يتمكن من تحصيل العلم بالقبلة بسهولة، الا ان ذلك في كيفية الامتثال و هو لا يضر بصحة الامتثال، لان الواجب من الامتثال انما يتحقق بواحدة من تلك الصلوات، و هي الصلاة الواقعة إلى القبلة لا لعب فيها و لا عبث و انما هما في طريق إحراز الامتثال، لا في نفس الامتثال، فيصح الاحتياط في العبادات و ان استلزم التكرار.

و سيجي ء بعض الكلام في جوازه بل في حرمته في ذيل المسئلة الرابعة فارتقب حتى حين.

عدم كون الاحتياط امتثالا مع التمكن من الامتثال التفصيلي
اشارة

الرابع: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) و كان مصرا عليه قال ما حاصله.

«ان مراتب الامتثال و الإطاعة عند العقل أربعة.

الاولى: الامتثال التفصيلي سواء كان بالعلم الوجداني، أو بالطرق، و الأمارات و الأصول المحرزة، التي تقوم مقام العلم فان الامتثال بالظنون الخاصة و بالأصول المحرزة، يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني.

الثانية: الامتثال العلمي الإجمالي كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الوجداني.

الثالثة: الامتثال الظني.

الرابعة: الامتثال الاحتمالى كما في الشهبات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الوجداني عند تعذر الامتثال الإجمالي و الظني.

لا إشكال في انه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالى، الا بعد تعذر الامتثال الظني

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 124

..........

______________________________

و لا تصل النوبة إلى الامتثال

الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي.

و انما الإشكال في المرتبتين الأوليتين فقيل انهما: في عرض واحد، و قيل بتقديم مرتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان، على الامتثال الإجمالي، و على ذلك يبتني بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد و العمل بالاحتياط، و هذا هو الأقوى. و لكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملة العمل فإن حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون الداعي و المحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به و انطباق المأمور به عليه، و هذا المعنى في الامتثال الإجمالي غير متحقق فإن الداعي له نحو العمل، في كل واحد من فردي الترديد، ليس الا احتمال تعلق الأمر به فإنه لا يعلم انطباق المأمور به بالخصوص عليه.

نعم بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه، و الذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلا هو ان يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلق الأمر به حتى يتحقق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده من العمل، و مجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي ان يكون الانبعاث عن البعث المولوي بل أقصاه ان يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة الى كل من العملين.

نعم الانبعاث عن احتمال البعث و ان كان أيضا نحوا من الطاعة عند العقل الا ان رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي.

فالإنصاف ان من ادعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعية و الحكمية مع التمكن من إزالة الشبهة لا يكون مجازفا في دعواه.

مع انه لو سلم الشك في ذلك فقد عرفت ان الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة لان مرجع الشك في ذلك الى الشك في التخيير بين

الامتثال التفصيلي و الإجمالي و بين تعين الامتثال التفصيلي اه» «1».

______________________________

(1) فوائد الأصول ج 4/ 93 ط نجف الأشرف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 125

..........

______________________________

أقول: محط البحث كما لا يخفى هو ما إذا كان الامتثال الإجمالي واجدا لجميع ما هو المأمور به بشرائطه و قيوده بحيث لا يكون فرق بين الامتثال الإجمالي و بين الامتثال التفصيلي الا من جهة الإجمال و التفصيل فقط.

و بالجملة محل البحث هو ان العقل هل يحكم بلزوم العلم التفصيلي بالمأمور به حال الإتيان به، و ان الموافقة الإجمالية القطعية لا تفيد مع الإتيان بالمأمور به بجميع اجزائه و شروطه أم لا.

وجوه الرد على مقال المحقق النائيني (قده)

فاذا لا يخفى ان ما افاده (قدس سره) لا يخلو من نظر من وجوه أشار الى جملة منها أستادنا العلامة الخمينى دام ظله.

فأولا: انه لا دليل على انحصار الإطاعة في الانبعاث عن البعث و الأمر بل يعم الانبعاث عن احتمال البعث و الأمر أيضا.

بل آلاتى بداعي احتمال الأمر و البعث أطوع ممن يقتصر على الإتيان بالبعث القطعي لان البعث عن احتمال الأمر كاشف عن قوة المبادي الباعثة إلى الإطاعة في نفس المطيع من الإقرار بعظمته و الخضوع لديه.

و ثانيا: انه ليس الانبعاث أصلا عن بعث المولى و امره الواقعي و الا لزم الإلجاء و عدم صدور العصيان من أحد بل الباعث هو تصور أمر الأمر و ما يترتب عليه من العواقب و الآثار فيبعث عن تلك المقدمات رجاء الثواب، أو خوفا من العقاب و هذا المعنى موجود عند الانبعاث عن احتمال البعث.

و بالجملة الباعث هو المبادي الموجودة في نفس المطيع من الخوف و الخضوع و هو موجود في كلا الامتثالين- اى عند العلم بالأمر،

أو احتماله.

و ثالثا: ان الباعث للإتيان بالأطراف انما هو العلم بالبعث المردد بين الأطراف فالانبعاث انما هو عن البعث في الموافقة الإجمالية أيضا و الإجمال انما هو

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 126

..........

______________________________

في المتعلق «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد:

«فعل كل واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب و الاحتمال دخيل في داعوية الأمر لا انه الداعي اليه و الا كان اللازم في صورة العلم التفصيلي البناء على كون الفعل بداعي العلم بالأمر، لا بداعي نفس الأمر، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر، و بالجملة العلم في صورة العلم التفصيلي و الإجمالي في صورة عدمه دخيلان في داعوية الأمر إلى الفعل لا انهما داعيان اليه اه» «2».

و بعبارة ثالثة كما أفيد أيضا «ان المكلف في الامتثال الإجمالي انما ينبعث إلى الإتيان بالواجب المردد بين الفعلين عن الأمر الجزمى المتعلق به و غاية الأمر انه لا يتمكن من تطبيق الواجب على المأتي به لا انه ينبعث اليه عن احتمال الأمر و ذلك للعلم بوجوب أحدهما على الفرض.

فغاية ما يقتضيه الاحتياط المستلزم للتكرار هو فقدان التمييز، إذ لا يمكن معه تمييز أن أيا منهما واجب، و أيا منهما مستحب، أو مباح، و لا دليل على اعتبار قصد التمييز أصلا» «3» و بعبارة رابعة كما أفيد أيضا:

ان العقل لا يستقل بكون الامتثال الاحتمالى في طول الامتثال الجزمى بل لا شأن للعقل إلا إدراكه لزوم الإتيان بما تعلق به أمر المولى من دون ان يكون له دخل في الحكم بوجوب شي ء أو بعدمه: و بما ان العبادة مقيدة بالإتيان بها مضافة الى المولى- و ان الإضافة تتحقق بالإتيان بها برجاء الأمر- لا

يبقى مجال لاحتمال ان يكون الامتثال الاحتمالى في طول الامتثال الجزمى اه» «4».

______________________________

(1) جواهر الأصول تقريرنا للمباحث الأصولية لأستادنا العلامة الخمينى دام ظله مخطوط، و أشير الى ما ذكرنا في التهذيب أيضا ج 2/ 128.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 8.

(3) التنقيح ج 1/ 74.

(4) الدروس ج 1/ 30.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 127

..........

______________________________

و رابعا: انه لو قلنا بلزوم كون الانبعاث عن البعث في صدق الإطاعة فلا بد من القول بعدم كفاية الامتثال الإجمالي في الاجزاء و الشرائط أيضا مع انه لا إشكال في جوازه حتى من المحقق النائيني، بيان الملازمة هو ان الاجزاء و الشرائط و ان لم تكن متعلقة للأمر مستقلا لكن الانبعاث نحوها يكون بواسطة بعث المولى إلى الطبيعة فما لم يعلم ان السورة مثلا جزء من الصلاة لا يمكن ان يصير الأمر المتعلق بالطبيعة باعثا إليها فالإتيان بالسورة المشكوك فيها ليس انبعاثا عن البعث القطعي و هو كما ترى.

و خامسا: ان ما ذكره (قدس سره) في مقتضى الأصل لا يمكن المساعدة عليه لما أشرنا كما أفيد: ان مرجع الشك في المقام الى الشك في اعتبار العلم بالأمر في تحقق الإطاعة و عدمه فيكون من قبيل الأقل و الأكثر لا من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد أيضا ان المرجع معه البرائه لا الاشتغال لان مرجعه الى الشك في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة- و هو لزوم الانبعاث عن بعث المولى دون احتماله- و في مثله تجري البراءة «2».

فتحصل مما ذكرنا بطوله جواز الاحتياط في جميع الموارد سواء كان المورد معامليا بالمعنى الأعم، أو الأخص، أو عباديا تمكن من

الامتثال التفصيلي، أو لا، استلزم تكرار جملة العمل، أم لا، كان الاحتياط في التكليف الاستقلالي، أو في التكليف الضمني.

نعم لنا إذا استلزم تكرار جملة العمل اللعب بأمر المولى كلام نشير إليه في ذيل المسئلة الرابعة فارتقب حتى حين.

تفاوت موقف احتياط المجتهد و احتياط غيره

بقي الكلام في قول الماتن (قدس سره) بجواز الاحتياط مجتهدا كان أولا.

______________________________

(1) المستمسك ج 1/ 4.

(2) الدروس ج 1/ 31.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 128

..........

______________________________

أقول: لا يخفى ان موقف احتياط المجتهد و غيره متفاوتة لكفاية احتياط غير البالغ مرتبة الاجتهاد بالنسبة إلى أقوال المجتهدين الذين يصح له المراجعة إليهم، و اما المجتهد فلا بد له من الاحتياط في جميع الجوانب و ملاحظة آراء غير المجتهدين الأحياء أيضا، و وجه واضح.

لا موقف لتجويز الاحتياط بالنسبة إلى المجتهد

ثم انه لا موقف لهذا الفتوى بالنسبة إلى المجتهد الذي لا بد له من معرفة جواز ذلك بالاجتهاد فتدبر.

وجه لزوم معرفة كيفية الاحتياط في العمل به

و اما قوله (قدس سره) يجب ان يكون عارفا بكيفية الاحتياط فوجهه واضح لان العمل بالاحتياط لا يكاد يتحقق الا بعد معرفة الاحتياط و موارده بالاجتهاد أو التقليد، و الا فلا يقدر على الاحتياط و لا يكاد يحصل له المؤمن من العقوبة كما لا يخفى، فوجوب المعرفة بحكم العقل، إرشادي من باب لزوم المطابقة، لا مولوي شرعي.

و لا يخفى ان لزوم معرفة ذلك انما هو فيما إذا كان المورد من المسائل النظرية و الا فلا يجب التقليد عند ذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 129

[مسئلة 3- قد يكون الاحتياط في الفعل و قد يكون في الترك]

مسئلة 3- قد يكون الاحتياط (1) في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجبا و كان قاطعاً بعدم حرمته، و قد يكون في الترك، كما إذا احتمل حرمة فعل و كان قاطعاً بعدم وجوبه، و قد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار كما إذا لم يعلم ان وظيفته القصر أو التمام (2)

______________________________

(1) لا يخفى ان الصور المذكورة في المتن غير حاصرة لأقسام كيفية الاحتياط لان الاحتياط بالجمع كما قد توجب تكرار أصل العمل، و قد لا يستلزمه، كما إذا تردد قراءة الجهر، و الإخفات في صلاة ظهر يوم الجمعة فيأتي بالقراءة مرتين: ينوي في إحديهما القراءة المأمور بها، و في الأخرى عنوان القراءة حيث يجوز قراءة القرآن في الصلاة، ثم ان الاحتياط قد يكون في ترك الفعلين كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الأخر، كترك الخنثى لبس لباس المختص بالرجال، و النساء، و قد يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين و ترك الأخر كما إذا علم إجمالا بوجوب الأول، و حرمة الثاني: لتردد دم المرية بين الاستحاضة و الحيض

فتجتمع بين أفعال المستحاضة و تروك الحائض.

(2) في عده القصر و التمام من تكرار العمل الواحد حقيقة نوع خفاء لاختلافهما في الكيفية و الكمية، و إطلاق التكرار عليه بلحاظ مفهوم الصلاة مسامحي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 130

..........

______________________________

أقول: ظاهر العبارة يعطي بأنه (قدس سره) بصدد حصر كيفية الاحتياط في الصور المذكورة و لا يخفى انه كما أفيد، ليس حاصرا لجميع الأقسام، لأنه مضافا الى ما ذكره في المتن قد يكون الاحتياط في ترك الفعلين معا كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الأخر، و قد يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين و ترك الأخر كما إذا علم بوجوب الأول، أو حرمة الثاني فلا بأس بالإشارة إلى أقسام الاحتياط.

و ذلك لان متعلق الشك قد يكون واقعة واحدة و قد يكون واقعتين، و الواقعة الواحدة تارة يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها لئلا يكون من دوران الأمر بين المحذورين فالاحتياط يكون في الفعل سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليا، كالدعاء عند رؤية الهلال، أو ضمنيا كجلسة الاستراحة بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية من الركعة الاولى و الثالثة.

و اخرى يحتمل حرمتها مع القطع بعدم وجوبه فالاحتياط يكون في الترك كشرب التتن و النظر إلى الأجنبية في الماء.

و في صورة تعدد الواقعة تارة يكون الاحتياط في الجمع بين الفعلين: اما مع عدم تكرار أصل الواجب كما إذا دار الأمر بين وجوب الجهر أو الإخفات في صلاة يوم الجمعة لأمر بها في جملة من الاخبار و مقتضى الاحتياط عند ذلك تكرار القراءة فيها مرتين فيقرئها مرة إخفاتا، و اخرى اجهارا ناويا في إحديهما القراءة المأمور بها و في ثانيتها عنوان قراءة

القرآن لجواز قراءة القرآن في الصلاة، أو مع التكرار في أصل الواجب كما إذا علم إجمالا بأن وظيفته يوم الجمعة الظهر أو الجمعة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 131

..........

______________________________

و قد مثل الماتن (قدس سره) لذلك بدوران الأمر بين القصر و التمام و لكنه لا يخلو عن تسامح لأنه مع الاختلاف في الكيفية و الكمية لا يكون تكرارا حقيقة نعم يطلق عليه التكرار مسامحة بلحاظ مفهوم الصلاة.

و اخرى يكون الاحتياط في ترك الفعلين معا كما إذا علم بحرمة إحديهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الأخر كترك الخنثى لبس اللباس المختص بالرجال و النساء مثلا.

و ثالثة يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين و ترك الأخر كما إذا علم إجمالا بوجوب الأول أو حرمة الثاني كتردد الدم في المرية بين الحيض و الاستحاضة فتجمع بين تروك الحائض و أفعال المستحاضة.

ثم ان الاحتياط في الموارد المزبورة ليس على نسق واحد ففي بعضها يكون الاحتياط واجبا كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص و في بعضها الأخر غير واجب كالشبهات البدوية بعد الفحص و الشبهات الموضوعية مطلقا حسبما قرر في الأصول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 133

[مسئلة 4- جواز الاحتياط لو كان مستلزما للتكرار و إن أمكن الاجتهاد و التقليد]

اشارة

مسئلة 4- الأقوى جواز الاحتياط و لو كان مستلزما للتكرار (1) و أمكن الاجتهاد و التقليد.

______________________________

(1) ما لم يعد ملعبة بأمر المولى فيخرج عن طور الإطاعة عرفا فيحرم، و لكن مع ذلك لا يبعد الحكم بالاجتزاء به لتحقق الواجب من الامتثال منها.

و بالجملة غاية كون الاحتياط أحيانا ملعبة بأمر المولى انما توجب حرمته التكليفي و لا يمنع ذلك من الحكم بصحة الامتثال بذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و

التقليد، ج 1، ص: 134

..........

______________________________

أقول: تقدم الكلام في حكم المسئلة في ذيل المسئلة الثالثة و ذكرنا هناك الإشكالات الطارية على جواز الاحتياط في العبادات مطلقا سواء استلزم التكرار و عدمه و دفعناها بحول اللّه و قوته، و وعدناك التكلم فيما إذا استلزم الاحتياط لعبا بأمر المولى فنقول ان تكرار العمل بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي على أنحاء.

عدم استلزام الاحتياط الموجب لتكرار جملة العمل اللعب بأمر المولى

فتارة لا يعد لعبا و عبثا لتعلق غرض عقلائي به كما إذا توقف الامتثال التفصيلي على مؤنة زائدة على أصل الاحتياط.

و بالجملة كما أفيد قد يكون في الفحص بالاجتهاد أو التقليد من العناء و المشقة ما لا يكون في الاحتياط.

و اخرى قد لا يكون للاجتهاد أو التقليد عناء، و مشقة أكثر من الاحتياط الا انه لا يقصر من الاحتياط و يكون حال المكلف بالنسبة إلى الاحتياط أو الاجتهاد أو التقليد متساويان، و غير خفي انه عند ذلك إذا اختار الاحتياط لا يعد عمله عبثا و لغوا.

و ثالثة يكون الاحتياط بتكرار العمل بحيث يعد ملعبة و عبثا بأمر المولى فعند ذلك يحرم الاحتياط.

و ذلك فيما إذا فرض انه أراد ان يصلى في مكان تردد فيه القبلة مثلا بين اربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه فالاحتياط في ذلك تبلغ مأة صلاة، الحاصلة من ضرب أربع في خمسة، ثم ضرب

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 135

..........

______________________________

حاصل الضرب في خمسة، مع انه يمكنه الإتيان بصلاة واحدة جامعة للشرائط الثلاثة فإن تردد أمر صلاته بين القصر و التمام أيضا تبلغ؟؟؟ عدد الصلوات الى مائتين، و كلما تردد أمره في شرط أو شرائط أخر تزيد عدد صلواته

عن خمسمائة صلاة بالنسبة إلى صلاة واحدة، و من الواضح ان تكرار صلاة واحدة بهذه الكثرة بل بدونها مع التمكن من إتيانها مرة واحدة اجتهادا أو تقليدا لعب و عبث بأمر المولى بل يكون ذلك شعبة من الجنون، و ربما يوجب اختلال النظام فلا يجوز ارتكابه. و ربما ادعى إجماع المسلمين فضلا عن أصحابنا على حرمته.

يمكن الحكم بصحة الاحتياط و ان كان لعبا

فاذا كان الاحتياط بتكرار العمل خارجا عن طور الامتثال عرفا و يصدق عليه عرفا انه لعب بأمر المولى بل ربما يعد ملعبة و استهزاء بالمذهب فالظاهر عدم جواز الاحتياط كذلك و حرمته.

و لكن مع ذلك لعله لم يمنع من الحكم بصحة الامتثال لان الواجب من الامتثال انما يتحقق بواحدة من تلك الصلوات و هي الصلاة الواقعة إلى القبلة في الثوب، و المسجد الطاهرين مثلا، و هي صلاة صحيحة لا لعب فيها و لا عبث و انما هما في طريق إحراز الامتثال لا انهما في نفس الامتثال فتدبر.

فظهر مما ذكرنا صحة الاحتياط في جميع الموارد حتى فيما إذا استلزم الاحتياط لعبا بأمر المولى لتحقق الواجب من الامتثال لواحدة منها، و غاية ما يقتضيه الاحتياط الكذائي هو حرمته التكليفي فقط فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 137

[مسئلة 5- نفس مسألة جواز الاحتياط يحتاج إلى التقليد أو الاحتياط]

اشارة

مسئلة 5- في مسئلة جواز الاحتياط يلزم ان يكون مجتهدا، أو مقلدا لان المسئلة خلافية (1).

______________________________

(1) ظاهر التعليل و ان كان يعطى عدم لزومهما عند كون المسئلة غير مختلف فيها، مع انه بمجردها لا يكفي الأمن من العقاب ما لم يستند إلى الحجة اجتهادا، أو تقليدا، و لكنه غير مراد له (قدس سره) بل مراده، ان الحكم بجواز الاحتياط حيث لم يكن بديهيا يحتاج إلى إعمال النظر بالاجتهاد، أو الرجوع الى قول الغير، فبعد كونه مختلفا فيه، يدور امره بين النقيضين، فلا مناص فيه من التقليد، أو الاجتهاد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 138

لا بد في جواز الاحتياط من الاجتهاد أو التقليد

______________________________

أقول: حاصل مراده (قدس سره): ان جواز الاحتياط كما تقدم مختلف فيه حيث ذهب بعضهم الى جوازه مطلقا، و بعض أخر الى عدم الجواز في العبادات مطلقا مع التمكن من الامتثال التفصيلي، و ثالث الى عدم الجواز مع التمكن فيما إذا استلزم الاحتياط تكرار جملة العمل الى غير ذلك من الأقوال، فيلزم في المسئلة المختلف فيها ان يكون مجتهدا، أو مقلدا، فلا يجوز للمجتهد ان يعمل به الا بعد استنباطه جواز العمل به كما ان غيره لا يجوز له العمل به قبل ان يراجع مجتهده في ذلك.

يلزم التقليد أو الاجتهاد في المسئلة و لو كانت غير مختلف فيها

و لا يخفى ان ظاهر التعليل بذلك يعطى عدم لزوم الاجتهاد أو التقليد إذا لم تكن المسئلة مختلفا فيها مع ان مجرد عدم الخلاف على حكم واقعا لا يكفي في حصول الأمن من العقاب للجاهل بالحكم بل لا بد و ان يستند إلى الحجة فيه من اجتهاد أو تقليد.

و لكن يمكن توجيه مقاله (قدس سره) بان مسئلة جواز الاحتياط حيث لم تكن من البديهيات بحيث لا يحتاج فيها الى الاجتهاد أو التقليد كما في المسئلة الاتية بل هي من المسائل النظرية، فلا بد فيها من اعمال النظر فيها بالاجتهاد، أو الرجوع الى قول العالم.

و بالجملة لما كانت المسئلة خلافية بين العلماء فلا يمكن فيها الاحتياط لدووان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 139

..........

______________________________

الأمر بين النقيضين فلا مناص. فيها من التقليد أو الاجتهاد.

و بعبارة أوضح جواز الاحتياط ليس من المسائل القطعية التي لا يحتاج الى الاجتهاد أو التقليد بل هو محل الخلاف فلا مناص من تحصيل العلم بجوازه و مشروعيته اجتهادا أو تقليدا، و الا فلم يطمئن بعدم العقاب لاحتمال الحرمة و استحقاق العقاب

بارتكابه، و قد تقرر ان دفع ضرر العقاب المحتمل لازم و لا بد له من تحصيل المؤمن من العقاب فلا بد له لجواز الاحتياط من ان يستند الى الاجتهاد أو التقليد.

فظهر مما ذكرنا انه و ان قلنا ان طرق الامتثال ثلاثة: 1- الاجتهاد، 2- و التقليد، 3- و الاحتياط، الا انه في الحقيقة ثنائية لأنه لا بد لتارك طريقي الاجتهاد و التقليد من ان يكون مجتهدا، أو مقلدا في العمل بالاحتياط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 141

[مسئلة 6- لا موقف للتقليد و الاجتهاد في الضروريات و اليقينيات]

مسئلة 6- في الضروريات لا حاجة الى التقليد (1) كوجوب الصلاة، و الصوم، و نحوهما، و كذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين، و في غيرهما، يجب التقليد (2) ان لم يكن مجتهدا إذا لم يمكن الاحتياط، و ان أمكن تخير بينه و بين التقليد.

______________________________

(1) بل لا وقع للتقليد في الضروريات و اليقينيات.

(2) يعنى تعيينا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 142

..........

______________________________

لا موقف للتقليد و الاجتهاد في الضروريات و اليقينيات أقول: مراده (قدس سره) بالضروري، و اليقيني ما يكون كذلك عند الشخص.

و اما الشاك فيجب عليه التقليد، أو الاجتهاد، و ان كان المشكوك فيه ضروريا، أو يقينيا عند الناس.

و الوجه في عدم جريان التقليد في الضروريات، و اليقينيات بلحاظ انه حصل له العلم عند ذلك، و مع حصول العلم لا مجال للتعبد بالأمارة، من غير فرق بين كونها فتوى الغير، أو غيرها من الأمارات، لأنه تكون أسوأ أنحاء تحصيل الحاصل مع ان حجية الامارة مخصوصة بمن جهل الواقع فمع العلم به لا موقف للتعبد بالأمارة، كما لا يخفى.

و بما ذكرنا يظهر ان ما في المتن لا يخلو عن تسامح،

و حق العبارة ان يقول لا موقف للتقليد في الضروريات، و اليقينيات.

كما ظهر عدم معنى للاجتهاد: بمعنى تحصيل الحجة عند ذلك أيضا، فما في المتن من اختصاص ذلك بالتقليد غير ظاهر.

الا ان يقال ان الرسالة عملية فيكون (قدس سره) بصدد بيان حدود ما يجرى فيه التقليد فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 143

[مسئلة 7- عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل]

اشارة

مسئلة 7- عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل (1)

______________________________

(1) بمعنى عدم جواز الاقتصار عليه عقلا في مقام الامتثال ما لم ينكشف صحته اجتهادا، أو تقليدا، لا بمعنى عدم صحته، و ان كان مطابقا لأحدهما أو للواقع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 144

..........

______________________________

أقول: قد اعترض بعض الأعلام من المحشين على إطلاق ما في المتن، و قيّده بعضهم بما إذا خالف الواقع، أو فتوى من يجب تقليده، و لعله لا يبعد ذلك من الماتن (قدس سره) بقرينة ما سيجي ء منه في المسئلة السادسة عشر.

المراد ببطلان عمل العامي بلا تقليد و لا اجتهاد

و لكن يمكن ان يراد بالبطلان، البطلان بحكم العقل اعنى عدم جواز اكتفاء العامي بعمله بلا تقليد و لا احتياط ما لم ينكشف الخلاف، و ان كان صحيحا واقعا، أو مطابقا لرأي من يجب تقليده، نعم إذا انكشف مطابقته لأحدهما فيجتزى به.

و بالجملة غاية ما يقتضيه عدم تقليد العامي عدم الاجتزاء بما يأتي به الجاهل ما دام جاهلا لاحتمال فساده بحكم العقل لا عدم صحته واقعا كما استظهره بعض الأعلام فاذا انكشف مطابقته لأحدهما يحكم بالصحة و يترتب عليه آثارها.

مثلا إذا غسل ثوبه المتنجس مرة بالماء الطاهر، و هو لا يعلم كفايتها، فليس له ترتيب آثار الطهارة عليه، لاحتمال عدم حصول الطهارة، فمقتضى استصحاب النجاسة، بقائه على النجاسة ظاهرا، و عدم ترتب آثار الطهارة، عليه ما دام جاهلا، فاذا علم حصول الطهارة بالغسل مرة، أو كانت فتوى من يجب تقليده، الغسل مرة فيتجزى به و يترتب عليه آثار الطهارة.

و سيأتي مزيد توضيح لذلك، في القريب العاجل إن شاء اللّه فارتقب حتى حين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 145

[مسئلة 8- مباحث التقليد]

اشارة

مسئلة 8- التقليد هو الالتزام (1) بالعمل بقول مجتهد معين (2) و ان لم يعمل بعد، بل و لو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالة و التزم بما فيها كفى في تحقق التقليد

______________________________

(1) لا يتحقق عنوان التقليد، و لا ما هو وظيفة العامي (إن نوقش بعدم لزوم تحقق عنوان التقليد) بمجرد الالتزام، أو عقد القلب، أو أخذ الرسالة أو نحوها ما لم ينته الى العمل، فهي ربما تعد من مقدمات تحقق التقليد كما انه لا يتحقق عنوان التقليد على مجرد تطابق المأتي به مع الحجة، و ان لم يكن شاعرا به،

و انما كان تسقط الوظيفة عند ذلك واقعا بالتقليد، فإحراز إتيان الوظيفة انما تتحقق بالعمل به في العمليات أو الاعتقاد به في الاعتقاديات مستندا الى فتوى المجتهد.

(2) إذا اتحد المجتهد، و الا فمع التعدد، و اتفاقهم في الفتوى، فكما يصح الاستناد إلى رأي واحد منهم معينا، أو مرددا، فيكون مقلدا له يصح الاستناد إلى رأي جميعهم فيكون مقلدا لجميعهم، و لا ترجيح لأحدهما على الأخر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 146

..........

______________________________

أقول: الحقيق بنا أولا البحث عن موقف التقليد من حيث الجواز و عدمه ثم البحث في كونه عبارة عن العمل بقول الغير أو الالتزام بالعمل بقول الغير أو غيرهما.

موقف التقليد

ارتكاز العقلاء على مشروعية التقليد

فنقول: ان التقليد- و هو رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها- مما عليه ارتكاز العقلاء في محاويجهم فترى ان جاهل كل حرفة أو صنعة بل كل أمر راجع الى المعاش، أو المعاد، يراجع الى العالم بها من غير نكير بل لعل جواز رجوع الجاهل الى العالم من الضروريات التي لم يختلف فيه اثنان، و من أنكر التقليد بهذا المعنى فهو منكر له باللسان و لكن قلبه مطمئن بالتقليد الذي هو حقيقة الايمان.

لا يكون أصل التقليد تقليديا

فهذه السيرة الممضاة لدى الشرع مرتكزة لدى العامي يدركه عقل كل مكلف و لا يكون ذلك تقليديا و الا لزم الدور أو التسلسل لان قول الغير في نفسه ليس بحجة على الغير فلو توقف حجيته بهذا التقليد لزم ذلك لأنا ننقل الكلام فيه و نقول: ان حجية هذا التقليد الذي هو اتّباع قول الغير اما ان تستند الى تقليد الأول، أو تقليد أخر.

فعلى الأول يلزم الدور، و على الثاني ننقل الكلام الى التقليد الأخر، و هكذا يتسلسل الى ما لا نهاية له.

فالمتحصل انه لا يمكن ان يكون أصل التقليد تقليديا فلا بد و ان ينتهي اما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 147

..........

______________________________

الى الاجتهاد- و لو بالارتكاز- أو الى ما يقطع بحجيته.

نعم لا مانع من التقليد في خصوصياته كاعتبار الحيوة و غيرها من الصفات كما يأتي.

و هذا الوجه عمدة ما يستند به لمشروعية التقليد بل ربما ادعى انحصار الوجه به و لكن لا يخفى ما فيه كما سيظهر لك عن قريب.

بل ربما يقال ان اخبار الباب أو في بالمرام و أدل على المطلوب إذ السيرة غير متكفلة للفروع و الجزئيات بخلاف الأخبار إذ ببركتها يمكن استخراج جملة من

الفروع و الجزئيات كما سيظهر لك إن شاء اللّه تعالى.

الاستدلال لحجية الفتوى بوجه آخر

و يمكن ان يستند العامي لجواز التقليد بوجه أخر قد أشار الى بنيانه على ما قيل المحقق الأصفهاني (قدس سره) و قد أشرنا إليه في صدر البحث و حاصله بتوضيح منا.

ان المكلف الملتفت بعد الإذعان بالشريعة و المبدء و المعاد يرى إجمالا ان للشريعة المقدسة في كل واقعة حكما و انه لم يترك سدى و لم يفوض في أفعاله بحيث ان شاء فعل و ان شاء ترك بل لا بد له من القيام بالوظيفة في الخروج عن التكاليف الإلزامية- الوجوبية و التحريمية- و هو اما بإتيان نفس الواقع علما و هو قليل، أو بأحد الأمور الثلاثة، و لا رابع لها.

و حيث ان الاجتهاد كما عرفت غير واجب عينا على كل أحد لعدم تيسره لغالب الناس بل جميع الناس الا الأوحدي منهم كانوا في برهة من الزمان غير مجتهدين و الاحتياط أيضا غير متيسر غالبا للعامي لعدم تمكنه تشخيص موارده، و استلزام إيجابه، العسر و الحرج المنفيين في الشريعة بل ربما يوجب الاختلال بالنظام.

و بالجملة مع كون الشريعة سمحة سهلة لا يحتمل ان يكون مبنية على الاحتياط نعم ربما يجب الاحتياط في بعض الأحيان كما في بعض موارد النفوس و الاعراض و الأموال لمصالح لا يكاد يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 148

..........

______________________________

و حيث ان العامي لم يكن من أهل النظر و الاجتهاد فليس له ظن بالأحكام حتى يقال باتباع ظنه فيها.

مع ان ظنه حيث لم يكن مبتنيا على النظر في أدلة الأحكام، فلا اقريبة له الى الواقع بالنسبة إلى شكه، و وهمه، بل هو و شقيقتاه، في مرتبة واحدة.

فإذا يستكشف

عقل العامي الملتفت انه لا بد و ان يكون للشارع، غير المهمل بواجباته و محرماته طريق أخر لنيل العباد إليها، و ليس هو الا التقليد و الركون الى العالم و لا يخفى ان هذا الوجه، كسابقه بالنسبة إلى صفات المقلد- بالفتح- كالحيوة و غيرها مهملة فيجوز التقليد بالنسبة إليها.

فقد ظهر تمامية الوجهين في اتكال العامي عليهما في صحة التقليد.

و هناك وجوه أخر يمكن استدلال المجتهد بها «1» لموقف التقليد في الشريعة و ان كان الاستدلال ببعضها لا يخلو عن النظر.

الاستدلال باية النفر لمشروعية التقليد
اشارة

منها آية النفر قال اللّه تعالى وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «2».

تقريب الدلالة، هو ان ظاهر الآية الشريفة لمكان لو لا التحضيضية، إيجاب التفقه، و الانذار لكل طائفة من كل فرقة، بلحاظ انهما الغاية للأمر بالنفر، و ظاهر قوله لعلهم يحذرون، حيث جعل غاية الانذار بما تفقهوا، و علموا به: لزوم التحذر عقيب

______________________________

(1) و لا يخفى ان الوجه الأول من الوجهين الذين يتكل عليهما العامي- و هو السيرة الممضاة- مما يصح اتكال المجتهد عليه لجواز التقليد بل من حيث جواز الإفتاء أيضا فتدبر.

(2) التوبة: 9/ 122.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 149

..........

______________________________

الانذار، و مقتضى إطلاق التحذر عقيب الانذار، وجوبه مطلقا، حصل العلم من إنذارهم أم لا؟.

و بالجملة ظاهر لفظة لعل، إذا وقعت في مقام التعليل هو كون ما بعدها علة و غاية لما قبلها من غير فرق بين كون الواقع بعدها امرا تكوينيا، كقول الطبيب للمريض، اشرب هذا الدواء لعلك تطيب، أو أمرا غير اختياري للمكلف، كقولك للمذنب: استغفر

اللّه لعلك تدخل الجنة، أو أمرا اختياريا للمكلف كالآية الشريفة.

فإذا كان الواقع بعدها امرا اختياريا للمكلف فالتكليف بذي الغاية في الحقيقة تكليف بالغاية فيجب التحذر في الآية الشريفة عند إنذار المنذرين بما تفقهوا، و علموا و بعباوة اخرى الغاية إذا كانت من الأفعال الاختيارية للمكلف، تتبع لذي الغاية، من حيث الوجوب، و الاستحباب، و حيث ان ذا الغاية كان واجبا، كانت الغاية واجبة.

مناقشة المحقق الأصفهاني في الاستدلال بالاية لحجية الفتوى و دفعها

حكى عن المحقق الأصفهاني (قدس سره) ان الآية أجنبية عن حجية فتوى الفقيه، لان التفقه في الأعصار السابقة خصوصا في زمن الأئمة المعصومين (سلام اللّه عليهم) انما كان بسؤال الأحكام و سماعها عن مشايخ الحديث، و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و لم يكن محتاجا إلى إعمال النظر، و الفكر، و لم يكن وقتئذ من الاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه، في العصور المتأخرة عين و لا أثر، فغاية ما تدل عليه الآية الشريفة: هي حجية النقل و الرواية، فتكون الآية الشريفة ناظرة إلى حجية الخبر لا حجية الفتوى.

و لكنه مدفوع أولا بوجود أصل الاجتهاد الذي هو عبارة عن تحصيل الحجة على الحكم الشرعي في الصدر الأول من غير فرق في ذلك بين الصدر الأول و العصور المتأخرة ضرورة انه في الصدر الأول، خصوصا بعد انتشار صيت الإسلام عن المدينة المنورة الى نواحيها، و من البلاد العربية إلى غيرها خصوصا في زمن الصادقين عليهما السّلام ليس

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 150

..........

______________________________

كل أحد و لو كان بمحضر المعصوم عليه السّلام ينال الحكم الواقعي من لسان المعصوم علما بمراده، بل الحاضرون محضره لم يكن لهم بد من الجمع بين عموماتهم و مخصصاتهم، و مطلقاتهم و مقيداتهم، و واضح انهما الركنان

الركينان في الاجتهاد و ليس كل من سمع و حفظ حديثا يعد فقيها. و قد ورد رب حامل فقه ليس بفقيه «1» و قد نص الشيخ الكبير كاشف الغطاء المتوفى 1290 ق في حق المبين انه كان في زمان أئمتنا الزرارية و اليونسية و نحوهم «2».

و مراده (قدس سره) بذلك انه كان لمثل زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و نظرائهما الذين هم أمناء اللّه على حلاله و حرامه، و الفقهاء بتعيرنا، اتباع، و مقلدة يرجعون إليهم في محاويجهم و يظهر مما رواه الكشي ان زرارة كان يفتي برأيه «3»، و كان في عصرهم، رواة يعرفون الغث من الاخبار عن سمينها، و يميزون الأخبار الصادرة لبيان الأحكام الواقعية عن الاخبار الصادرة لبيان غيرها، كالتقية و نحوها، و قد تقدم ان بعض الرواة عند ما عرض رواية على مثل زرارة و صرح بأني سمعتها من لفظ الامام عليه السّلام قال: أعطاه من جراب النورة «4» مشيرا الى تضعيفه و تزييفه.

و الحاصل انه لم تكن الفقاهة. و الاجتهاد في الصدر الأول، بمجرد سؤال الأحكام، و سماعها، و نقلها بل لم يكن لهم بد من اعمال الفكر و الروية في تحصيل الأحكام الشرعية، و قد روى في تعارض الاخبار، و التوفيق بينها، و التعديل، و الترجيح، بينها اخبار، و معلوم ان مسئلة التعادل، و الترجيح من مهمات مسائل أصول الفقه.

نعم حيث ان غالب رواة الأحاديث من أهل لسانهم (صلوات اللّه عليهم) فلم يكونوا محتاجين الى تعلم العلوم الأدبية، و لم يكن لهم صعوبة لإحراز

______________________________

(1) الوسائل الباب 8 من أبواب صفات القاضي ح/ 44.

(2) حق المبين في تصويب المجتهدين و تخطئة الأخبار بين/ 61.

(3) رجال الكشي/ 140 ط

الاعلمى.

(4) جراب النورة وعاء يضع فيه النورة يقال له بالفارسية كاسه واجبي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 151

..........

______________________________

صدور الخبر عنهم، و لا لإحراز كونه لبيان الحكم الواقعي، أو للجمع بين الخبرين المتعارضين ما يكون للاعصار المتأخرة، بلحاظ طول المدة. و كثرة الوسائط، و دسّ الدسّاسين، و توقف الاجتهاد فيها على مقدمات كثيرة، فالفرق بين الصدر الأول، و العصور المتأخرة انما هو بسهولة التناول و صعوبته، و ذلك لا يوجب الفرق و التغير في معنى الاجتهاد و الفقاهة، كما هو واضح إلى النهاية.

و ثانيا: ان غاية ما يعتبر في حجية الخبر هو الوثاقة في نقل الألفاظ المسموعة عن المعصوم عليه السّلام و لا يعتبر فيها التفات الناقل الى معناها فضلا عن ان يكون فقيها و قد اعتبر في الآية الشريفة عنوان الفقاهة في موضوع التحذر فليست للآية أيّة دلالة على حجية الخبر.

فتحصل ان المناقشة في الاستدلال بالاية الشريفة من هذه الجهة، مدفوعة الا انه مع ذلك لا تخلو الاستدلال بها للمقام من المناقشة من وجهين.

الاشكال بعدم شمول الآية لحجية الفتوى من جهة اشتمالها على الانذار و التخويف

الوجه الأول: ان ظاهر الآية الشريفة هو ان الانذار و التخويف بما تفقهوا و تعلّموا، معالم الدين فيختص بالواعظين و المرشدين و من يحذو حذوهما الذين ينذرون و يخوّفون عباد اللّه، و اماثهم عن الجحيم، و نيرانها، و حياتها و عقاربها، و صدق الانذار على فتوى الفقيه بلحاظ استلزام الفتوى للإنذار، خلاف ظاهر الآية الشريفة لا يصار إليه.

ضرورة ان قول الفقيه بأن صلاة الجمعة مثلا واجبة و ان كانت مستلزمة للإنذار من جهة ان ترك الواجب. يستلزم العذاب، و كذا قوله شرب الخمر حرام و ان كان مستلزما له من جهة ان ارتكاب الحرام يستلزم العقاب.

و لكن مع ذلك لا يعد مجرد الإفتاء بالوجوب، أو الحرمة إنذارا بالعذاب عرفا حتى يكون المفتي بهما منذرا و لعل ما ذكرنا واضح عند الأذهان الساذجة العرفية غير المشوبة بالدقائق المدرسية.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 152

..........

______________________________

نعم ان أضاف الفقيه الى فتواه الانذار بالعذاب فتشمله الآية الشريفة بلا نكير.

فالآية الشريفة لا دلالة لها على حجية الخبر المجرد عن التفقه، و الانذار، كما لا دلالة لها على حجية فتوى الفقيه المجردة عن التخويف و الانذار.

اللهم ان يقال انها ان دلت على حجية الخبر المشتمل على التفقه، و الانذار، أو الفتوى المشتملة على التخويف، فيمكن استفادة التعميم، بالنسبة الى غير المشتمل عليهما بعدم القول بالفصل.

و لكن مضافا الى عدم كفاية عدم القول بالفصل للاستدلال بالاية الشريفة، بل لا بد من القول بعدم الفصل و لم يتحقق بعد، انه: ليس استدلالا بالاية بلابها و بشي ء آخر، فتدبر.

اشكال آخر لعدم دلالة الآية لحجية الفتوى

الوجه الثاني: ان المترائى من التحذر في الآية الشريفة هو التحذر و الخوف النفساني لا العملي- المنبعث عن الخوف النفساني كما يدعيه المستدل- ضرورة ان المتبادر من قولك للمنذر، و الواعظ: أنذر عباد اللّه الجهلاء لعلهم يحذرون هو تخويفهم، و توعيدهم بالعذاب و نحوه لغاية حصول الخوف و التحذر النفساني، و ارادة العمل الجوارحى من التحذر، و ان كان بمكان من الإمكان، و له إطلاق في بعض الكلمات، كقولك: حذر نفسك عن الأسد، أو تقول للمسافر الحامل سلاحه في الطريق المحتمل فيه اللص، أو السبع، للمدافعة عن نفسه، و ماله: تحذر في السفر، الا انه خلاف الظاهر من لفظة لعل، إذا تعقبت لكلمة الانذار.

فظهر مما ذكرنا ان ما افاده والدنا العلامة طاب ثراه وفاقا لشيخه

المحقق النائيني (قدس سره) حسب ما أفاده في الدورة الأخيرة من تعميم الآية الشريفة لحجية كل من الفتوى و الخبر، خلافا لما أفاده في الدورة السابقة من اختصاصها بحجية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 153

..........

______________________________

الخير «1» لا تخلو عن نظر و إشكال فالآية الشريفة ناظرة إلى بيان لزوم نفر كل طائفة من كل فرقة، للتفقه في معالم الدين، و أساسها ثم إنذار اقوامهم، و تخويفهم و إرشادهم إلى طريق الحق و الصواب كما هو شأن الواعظين و المنذرين.

تأييد من بعض المشايخ في عدم دلالة الآية على حجية الخبر و الفتوى

و بعد الفراغ من كتابة هذا الموضع ظفرت بكلام لسيد مشايخنا في حقائق الأصول يؤكد ما أشرنا إليه يعجبني نقله تثبيتا للمرام قال (قدس سره) ما نصه.

«و الإنصاف أن الآية الشريفة لا تدل على حجية الخبر، و لا على حجية الاجتهاد بل أجنبية عنهما بالمرة، و انما تدل على وجوب التفقه في الدين و تعلم معالمه في الأصول و الفروغ لغاية تعليم الجاهلين، و تفقههم بإقامة الحجة عليهم و اقناعهم بالطريق الذي تعلموا به و تفقهوا بلا دلالة لها على حجية الاجتهاد أو الخبر أصلا، لا مطابقة، و لا التزاما، و ظني ان ذلك ظاهر بأدنى تأمل» «2».

الاستدلال بآية السؤال لمشروعية التقليد
اشارة

و منها. آية السؤال: و هي قوله تعالى، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «3».

تقريب الدلالة هو ان ظاهر مثل هذا الخطاب هو بيان الوظيفة عند الجهل و عدم العلم بها فالسؤال عن أهل الذكر قبال العلم بالحال، موضوع للأثر، لا انه مقدمة لتحصيل العلم، و ظاهر ان مناسبة الحكم و الموضوع تعطي بأن السؤال عن أهل العلم مقدمة للعمل لا ان للسؤال موضوعية، و ان المقصود الأصلي هو نفس السؤال.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 56.

(2) حقائق الأصول ج 2/ 129.

(3) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 154

..........

______________________________

فاذا معنى الآية الشريفة أن للجاهلين السؤال عن أهل العلم، و المعرفة و العمل على طبق ما يقولون، و يجيبون، فمفاد الآية، و روحها هو ما عليه العقلاء، من رجوع الجاهل الى العالم و العمل برأيه الذي عبارة عن التقليد، فتدل الآية الشريفة على حجية فتوى العالم على الجاهل.

و بهذا التقرير يندفع بعض المناقشات على الاستدلال بها للمقام كما في الكتب

المفصلة. فلاحظ.

هذا بالنسبة إلى ظاهر الآية الشريفة، و لكن ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام أخبار في تفسير الآية استظهر منها انحصار أهل الذكر بهم عليهم السّلام، و من الواضح بديهة اختصاص المرتبة العالية بهم عليهم السّلام لأنهم منار العلم و خزّان علمه تعالى، و عيبة علمه، زقّوا العلم زقّا، منهم تفيض العلم الى غيرهم، و لولاهم لما عرف معالم الدين، فوقع الإشكال في الاستدلال بها للمقام.

و لعله يمكن التوفيق بين هذه الاخبار و ما هو الظاهر من الآية هو حملها على الجري و التطبيق بلحاظ انهم المصداق الأصلي و الفرد الأكمل من أهل الذكر، و باقي الناس عيال عليهم يعيشون في ظل عنايتهم، و لولاهم لما عرف من الذكر، و القران، شيئا، جعلنا اللّه و إياكم من اتباعهم و شيعتهم.

مناقشة في الاستدلال بها لمشروعية التقليد و دفعها

و لكن بقيت مناقشة و هي ان مورد الآية بقرينة قوله تعالى في الآية السابقة عليها:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «1».

بلحاظ ما استغربوا من تخصيصه سبحانه رجلا بالنبوة من بينهم، و من المعلوم اعتبار العلم، و المعرفة فيها، و لا يكفى فيها مجرد السؤال من دون ان يحصل له العلم و الإذعان.

و بالجملة مورد الآية الشريفة بقرينة الآية السابقة عليها من الأصول الاعتقادية

______________________________

(1) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 155

..........

______________________________

و هو الرد لاستغرابهم تخصيصه سبحانه رجلا من بينهم بالنبوة، و واضح، انه يعتبر في النبوة العلم و المعرفة و لا يكتفى فيها بمجرد السؤال مع عدم حصول العلم بالجواب فعلى هذا لا مجال للاستدلال بها على قبول فتوى الفقيه تعبدا من دون ان يحصل فيها العلم بالمسئلة.

و لعله يمكن:

دفعها بان الآية الشريفة قد تضمنت كبرى كلية ارتكازية و تكون بصدد تثبيتهم على ما هم عليه من مراجعة جهلتهم إلى علمائهم، و العمل بما يقولون و يجيبون، و ان لم يحصل لهم علم بذلك، و غاية ما هناك، حسب ما اقتضاه دليل آخر، هو اعتبار العلم، و المعرفة، في الأصول الاعتقادية، فيكون اعتبار العلم في مورد، بدليل، غير مضرر بتلك الكبرى الكلية الارتكازية، فكأنه دلت الآية الشريفة على جواز مراجعة الجهلة، إلى علمائهم، و العمل بما يقولون في جميع الموارد إلا في مثل الاعتقاديات فلا يقبل قوله بمجرد السؤال، ما لم يحصل به علم و معرفة.

و لكنه مع ذلك لا يخلو الاستدلال بها من هذه المناقشة، و غيرها، مما ذكر في المقام عن شوب اشكال.

الاستدلال بالأخبار لمشروعية التقليد
اشارة

و مما استدل لمشروعية التقليد، و حجية الفتوى: الأخبار الدالة منطوقا، أو مفهوما، أو بنحو من الأنحاء على حجية الفتوى و جواز التقليد و هي كثيرة، جدا بحيث ادعيت تواترها إجمالا- و لا يبعد- فلا يحتاج الى تجشم ملاحظة أسانيدها، كما لا يخفى،- لو قلنا بلزوم ملاحظة إسنادها- و هي على طوائف.

الطائفة الأولى: الأخبار الدالة على الأمر بالإفتاء بلحاظ العمل بالفتيا،

و الا كان الإفتاء لغوا منها: قول ابى جعفر عليه السّلام لأبان بن تغلب.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 156

..........

______________________________

اجلس في مسجد المدينة، و أفت الناس، فإني أحب ان يرى في شيعتي مثلك «1».

دلالته على مشروعية الإفتاء و حجيته، بل على محبوبية كثرة المفتين، و الفقهاء بمكان من الوضوح، و واضح ان الإفتاء لا يكون الا بالاجتهاد.

و منها: خبر ابن مسكان، عن ابان بن تغلب قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انى اقعد في المجلس فيجيئني الناس فيسئلونى، فان لم أجبهم لم يقبلوا منى و اكره أن أجيبهم بقولكم (بقولهم ن ل) و ما جاء عنكم فقال لي: انظر ما علمت انه من قولهم فأخبرهم بذلك «2».

جوّز عليه السّلام ان يجيبهم بعلمه، و ليس هو إلا الإفتاء.

و منها: ما رواه، معاذ بن مسلم النحوي، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال:

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس، قلت: نعم و أردت، أن أسألك عن ذلك، قبل ان اخرج إني اقعد في المسجد فيجي ء الرجل فيسئلنى عن الشي ء، فاذا عرفته بالخلاف لكم، أخبرته بما يفعلون و يجي ء الرجل، أعرفه بمودتكم، و حبكم، فأخبره بما جاء عنكم، و يجي ء الرجل لا أعرفه و لا أدرى من هو فأقول جاء عن فلان كذا.

و جاء عن فلان كذا. فادخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي:

اصنع كذا فانى كذا اصنع «3».

و منها: خبر محمد بن فلان الرافقي قال.

______________________________

(1) مجمع الرجال ج 1/ 18/ 20.

(2) مجمع الرجال ج 1/ 16.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 36.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 157

..........

______________________________

كان لي ابن عم و كان زاهدا، فقال له أبو الحسن عليه السّلام اذهب فتفقه و اطلب الحديث قال عمن؟ قال عن فقهاء أهل المدينة ثم اعرض علىّ «1».

و منها: خبر ابى عبيدة الحذّاء قال:

سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: و اللّه انى أحب أصحابي إليّ أورعهم، وافقههم، و أكتمهم لحديثنا الخبر «2».

و منها: ما عن نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما كتب الى قثم بن عباس:

اجلس لهم العصرين فأفت للمستفتى، و علم الناس و ذاكر اللّه «3».

يحتمل ان يكون المراد بالعصرين ما بين الصبح و العصر، أو بين العصر و العشاء، يستفاد من امره عليه السّلام لقثم بن عباس بالجلوس للإفتاء و تعليم الناس في العصرين معهودية الإفتاء في تلك العصر و لزوم الرجوع إليهم.

و منها: خبر عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح، عن الحسين بن روح عن ابى محمد الحسن العسكري:

انه سئل عن كتب بنى فضال فقال خذوا بما رووا، و ذروا ما رأوا «4».

يستفاد منه ان لبني فضال روايات و آراء فأمر عليه السّلام بالأخذ بالأولى و طرح الثانية و لعل ذلك لاعتبار كون المفتي على مذهب الحق و العدالة.

و احتمال كون الآراء المطروحة هي المربوطة بأصول المذهب فلا ينفع المقام مدفوع بإطلاق الكلام فتدبر.

______________________________

(1) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 33.

(2)

الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 39.

(3) مستدرك الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 15.

(4) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح/ 79.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 158

..........

______________________________

و منها: خبر على بن أسباط، قال.

قلت للرضا عليه السّلام: بحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد، أستفتيه من مواليك، قال فقال، ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء، فخذ بخلافه، فان الحق فيه «1».

يستفاد من الخبر معهودية الاستفتاء، و الفتوى من أصحابنا، في غير البلد الذي يكون فيه، على بن أسباط، و جواب الامام عليه السّلام يدل على إرجاع الأمر إلى الفقيه و لعل السر في إرجاع الإمام عليه السّلام على بن أسباط إلى فقيه البلد، بلحاظ ابتناء غالب فتاوى العامة على القياس و الاستحسان و الظنون غير المعتبرة فهي على خلاف الحق غالبا فيؤخذ به عند الضرورة.

الطائفة الثانية: الأخبار الناهية عن الإفتاء بغير العلم

و هي كثيرة منها: خبر ابى عبيدة قال:

قال أبو جعفر عليه السّلام: من افتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة، و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه «2».

و منها: خبر مفضل بن مزيد قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال أنهاك أن تدين اللّه بالباطل، و تفتي الناس بما لا تعلم «3».

و منها: خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 23.

(2) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(3) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 159

..........

______________________________

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إياك و خصلتين ففيهما، هلك من هلك: إياك ان تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم «1».

و نحوه خبره الأخر «2».

و منها: خبر عاصم قال حدثني مولى لسلمان، عن، عبيدة السلماني قال:

سمعت عليا عليه السّلام: يقول يا ايها الناس اتقوا اللّه و لا تفتوا الناس بما لا تعلمون الخبر «3».

و منها: خبر موسى بن بكر قال:

قال أبو الحسن عليه السّلام: من افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض و ملائكة السماء «4».

و منها: مرسل تحف العقول عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

من افتى الناس بغير علم فليتبوء مقعده من النار «5».

و منها: ما عن العيون عن الرضا عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من افتى الناس، بغير علم لعنته ملائكة السماء و الأرض «6».

و منها: ما عن غوالي اللئالي انه عليه السّلام قال:

من افتى الناس و هو لا يعلم الناسخ من المنسوخ و المحكم من المتشابه فقد هلك «7».

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 3.

(2) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 29.

(3) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 19.

(4) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 31.

(5) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 32.

(6) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 55.

(7) جامع الأحاديث ج 1/ 68.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 160

..........

______________________________

و لا يخفى ان الاخبار الناهية عن الإفتاء بغير العلم، تشير إلى الإفتاء بمثل القياس و الاستحسان، و نحوهما، مما هو متداول عند العامة، أو تشير الى مطلق الإفتاء بغير العلم، فيستفاد منها مشروعية

الإفتاء، بالعلم، و هو الإفتاء على طبق الكتاب، و السنة بالمعنى الأعم، الشامل لما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام على النهج الدارجة عند علماء الإمامية، و لا يتحقق ذلك الا بالاجتهاد.

الطائفة الثالثة الأخبار الدالة على النهى عن الحكم بغير ما انزل اللّه.
اشارة

منها: خبر ابى بصير عن ابى جعفر عليه السّلام و الحكم عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

من حكم في درهمين بغير ما انزل اللّه عز و جل ممن له سوط، أو عصاء فهو كافر بما انزل اللّه على محمد صلّى اللّه عليه و آله «1» و منها: خبر أخر لأبي بصير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

من حكم في درهمين بغير ما انزل اللّه عز و جل، فقد كفر باللّه العظيم «2».

و نحوها خبرا عبد اللّه بن مسكان، و الفقيه «3».

و لا يخفى ان المراد بالحكم بغير ما انزل اللّه ما يعم كتاب اللّه، و سنن نبيه بالمعنى العام الشامل لما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام لأنهم شراح كلامه تعالى و مفسروا قرانه العظيم، فيستفاد منها ان الحكم بما انزل اللّه، لا يكون الا بعد معرفة كلامه تعالى، و سنن نبيه صلّى اللّه عليه و آله، و قد كان في الكتاب العزيز، و ما صدر، عن النبي الأعظم و أئمة أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) محكمات، و متشابهات، عمومات، و خصوصات، مطلقات، و مقيدات، الى غير ذلك، و واضح ان معرفة هذه الأمور

______________________________

(1) الوسائل باب 5 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(2) الوسائل باب 5 من أبواب صفات القاضي ح 2.

(3) الوسائل باب 5 من أبواب صفات القاضي ح 3/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 161

..........

______________________________

و

استخراج حكم اللّه تعالى. منها، لا يكاد يحصل الا بالاجتهاد، و اعمال النظر، و الفكر فمن نفوذ حكمه يستفاد اعتبار فتواه.

الأخبار الواردة في نفوذ حكم القاضي

و قريب من هذه الطائفة مقبولة عمر بن حنظلة و روايتا ابى خديجة «1» من الروايات الواردة في نفوذ حكم القاضي.

فقد أمر فيها بارجاعهم الى حكم الفقهاء من أصحابنا و القدر المتيقن منها حكمهم في الشبهات الحكمية لقوله عليه السّلام في المقبولة: نظر في حلالنا و حرامنا، و قوله اختلفا في حديثكم، و واضح ان النظر في حلالهم، و حرامهم و الاختلاف في الحديث المتعلقة بموضوع واحد بالنسبة إلى شخصين اما في فهم، رواية واحدة أو روايتين و لا يكاد يكون ذلك الا بالاجتهاد.

و بالجملة هذه الروايات ظاهرة في إرجاعهم عليهم السّلام الى الفقهاء من أصحابنا، في الشبهات الحكمية الاجتهادية و جعل الفقيه مرجعا، و واضح ان نصبه للحكم في الشبهات الحكمية ملازم لاعتبار فتواه.

الطائفة الرابعة الأخبار الدالة، على عرض الخبرين، على كتاب اللّه و ما دل على عرضها، على اخبار العامة.

حيث دلت على الأخذ بما وافق الكتاب و طرح ما خالفه، و دلت على رد ما وافق العامة و الأخذ بما خالفهم لاحظ الوسائل باب التاسع من أبواب صفات القاضي تقريب الدلالة، هو ان ترجيح أحد الخبرين على الأخر، بموافقة الكتاب، و مخالفة العامة، لا يكاد يحصل الا بالاجتهاد، فأمرنا بالاجتهاد، و حجية النظر و الفتوى.

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1/ و باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5 و باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 162

الطائفة الخامسة الأخبار الواردة في فضل العلم و العلماء

______________________________

و هي كثيرة.

كقوله عليه السّلام: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل.

و قوله عليه السّلام: و ان العلماء ورثة الأنبياء.

و قوله عليه السّلام: و فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر و قوله عليه السّلام: اللهم ارحم خلفائي «1».

الى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد منها ان الغاية المطلوبة منها، و المقصود منها إرجاع الأمة إليهم و جعلهم مرجعا و مقتدى للرعية باتباع آرائهم، و أنظارهم المتخذة من الكتاب و السنة فآراؤهم و أنظارهم معتبرة.

الطائفة السادسة الأخبار الدالة، على إرجاع الناس الى أشخاص معينين، أو الى بعض العناوين المنطبقة على الفقهاء.
اشارة

فمن الأول، ما رواه على بن المسيب الهمداني قال:

قلت للرضا عليه السّلام: شقتي «2» بعيدة و لست أصل إليك في كل وقت، فممن أخذ معالم ديني، قال من زكريا بن أدم القمي، المأمون على الدين و الدنيا، قال على بن مسيب، فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسئلته عما احتجت اليه «3».

و قريب منه ما رواه فضل بن شاذان عن عبد العزيز بن المهتدي- و كان خير قمي رأيته، و كان وكيل الرضا، عليه السّلام و خاصته- قال:

______________________________

(1) مصادرها معلومة يجدها الطالب بسهولة و لعلنا في المستقبل نتعرضها بالمناسبة.

(2) الشقة: الناحية.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 27.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 163

..........

______________________________

سئلت الرضا عليه السّلام فقلت: انى لا ألقاك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني فقال خذ عن يونس بن عبد الرحمن «1» و ما رواه محمد بن عيسى عن عبد العزيز المهتدي فقال:

في ذيله فآخذ معالم ديني عن يونس مولى ال يقطين قال عليه السّلام: نعم «2».

و نحوه ما رواه محمد بن عيسى عن عبد العزيز، و الحسن بن على بن

يقطين جميعا، عن الرضا عليه السّلام قال (قالا ظ):

قلت لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم ديني، ا فيونس بن عبد الرحمن ثقة أخذ عنه عما احتاج اليه من معالم ديني؟ فقال نعم «3».

و منها خبر أحمد بن إسحاق، عن ابى الحسن عليه السّلام قال:

سئلته، و قلت من أعامل؟ و عمن آخذ؟ و قول من اقبل؟

فقال العمري ثقتي، فما أدى إليك عني، فعني يؤدى و ما قال لك عني، فعني يقول، فاسمع له، و أطع، فإنه الثقة المأمون و قال و سئلت: أبا محمد عليه السّلام عن مثل ذلك فقال: العمرى و ابنه، ثقتان، فما أديا إليك، عني فعني، يؤديان، و ما قالا لك فعني، يقولان، فاسمع لهما، و أطعهما، فإنهما الثقتان، المأمونان فهذا قول إمامين قد رضيا فيك الى ان قال فقلت له:

فالاسم قال محرم عليكم ان تسئلوا عن ذلك، و لا أقول هذا من عندي فليس لي ان أحلل و لا أحرم و لكن عنه عليه السّلام «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 34.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 35.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 33.

(4) أصول الكافي ج 1/ 330- الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 164

..........

______________________________

و منها ما رواه شعيب العقرقوفي قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ربما احتجنا أن نسأل عن الشي ء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي يعني أبا بصير «1».

و منها ما رواه عبد اللّه بن ابى يعفور قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انه ليس كل ساعة ألقاك، و لا يمكن

القدوم، و يجي ء الرجل، من أصحابنا فيسئلنى، و ليس عندي ما يسئلنى عنه، فقال ما يمنعك من محمد بن مسلم، الثقفي، فإنه سمع من ابى، و كان عنده وجيها. «2».

و منها- الإرجاع إلى زرارة:

بقوله عليه السّلام: إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس، مشيرا إلى زرارة «3».

و من الثاني ما رواه إسحاق بن يعقوب، قال:

سئلت محمد بن عثمان العمرى، ان يوصل لي كتابا قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت علىّ، فورد التوقيع، بخط مولانا صاحب الزمان عليه السّلام:

اماما سئلت عنه أرشدك اللّه و ثبتك الى ان قال: و اما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، و انا حجة اللّه.

و اما محمد بن عثمان العمري، فرضي الله عنه، و عن أبيه من قبل، فإنه ثقتي، و كتابي كتابه «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 15.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 23.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 19.

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 165

..........

______________________________

و منها ما رواه أحمد بن ماهويه، قال:

كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث عليه السّلام- اسئله عمن أخذ معالم ديني؟ و كتب أخوه أيضا بذلك، فكتب إليهما فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبّنا، و كل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه تعالى «1».

و منها غير ذلك من الاخبار التي نشير إليها إن شاء اللّه.

و لا يخفى ان دلالة هذه الطائفة على الإرجاع مطلقة، حيث لم يقيد بخصوص ما إذا كان الجواب، من المرجوع إليهم بنقل ألفاظ سمعوها منهم عليهم السّلام،

فيعم ما وصل اليه نظرهم، و فكرهم، من الجمع بين الخبرين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الأخر، أو حمل المطلق على المقيد الى غير ذلك من أنحاء الاجتهاد.

فدلالة هذه الطائفة على حجية قول الثقة و أخذ معالم الدين، منه بالأعم من الرواية، و الفتوى لا تكاد تخفى.

بل دلالة القسم الثاني من هذه الطائفة خصوصا التوقيع الشريف على حجية الفتوى منه أوضح منه من حجية الخبر.

و ذلك لان ظاهر قول عليه السّلام: و اما الحوادث الواقعة إلخ يعطي بأن سؤال إسحاق بن يعقوب كان عن أحكام الحوادث التي بيانها من وظيفة الشارع لا خصوص الموضوعات المختصة بباب المرافعة كما ادعى، و لا خصوص ما عنونت في مكتوب إسحاق بن يعقوب الى صاحب الأمر (صلوات اللّه عليه) غير المعلومة لنا بعد.

يشهد لما ذكرنا قوله عليه السّلام فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه حيث أطلق عليهم الحجة، من قبله من غير قيد فاذا الحوادث الواقعة قد لا تكون منصوصة، فلا يمكن ان يجاب فيها الا بعد اعمال النظر، و الفكر، و تطبيق الكبريات الصادرة عنهم عليها فدلالته على الإرجاع من حيث أخذ الفتوى بمكان من الوضوح.

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 166

..........

______________________________

و إياك ان تتوهم من تعبيره (صلوات اللّه عليه) عمن يرجع إليه برواة أحاديثنا دون علمائنا، و فقهائنا ما زعمه الأخباريون.

و ذلك لان فقهاء الشيعة، و مجتهديهم، جميعهم، في الحقيقة رواة أحاديثهم (صلوات اللّه عليهم) و مبين مقاصدهم، ضرورة أن همهم و غرضهم الوحيد (رضوان اللّه عليهم أجمعين) معرفة ما صدر عنهم معرضين عن القياس، و الاستحسان و نحوهما من الظنون غير

المعتبرة، بخلاف فقهاء العامة، حيث ان آرائهم، و أنظارهم في عرض آرائهم (صلوات اللّه عليهم) و في قبالهم.

نكتة التعبير عن فقهاء الشيعة برواة الأحاديث

فلعل التعبير عن فقهاء الشيعة برواة أحاديثهم بلحاظ ان فتاويهم في الحقيقة هي المتحصلة، من الروايات، الصادرة عنهم، (صلوات اللّه عليهم) و الا فمقتضى الجمود، على العنوان المأخوذ في التوقيع الشريف، يعطى جواز المراجعة الى من روى أحاديثهم، و ان لم يكن له دربة، و معرفة إلى معانيها و مقاصدها.

حاشاك ثم حاشاك!!؟ ان تتوهم تجويز ذلك عن فاضل فضلا عمن هو قطب دائرة الإمكان، و الذي بوجوده ثبتت الأرض و السماء، روحي و أرواح من سواه فداه و بما ذكرنا يوجه العنوان المأخوذ في المكاتبة، فإن مناسبة الحكم، و الموضوع، تعطي بأن المراد من قوله عليه السّلام: كل مسنّ في حبنا، كثير القدم في أمرنا ليس ما هو المترائى من ظاهره، بل المراد الاعتماد بمن امتحن اللّه قلبه بالايمان، و كان عارفا بما صدر عنهم، بل و يوجه في الإرجاع إلى الثقفي، معللا بأنه سمع من ابى أحاديث، الى غير ذلك من العبارات فتدبر و اغتنم، و ليكن ما ذكرنا على ذكر منك ينفعك إن شاء اللّه.

و قريب من هذه الطائفة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 167

الطائفة السابعة ما أمر فيها بالتقليد الى من يتصف ببعض العناوين المنطبقة عليهم.

______________________________

و ذلك مثل خبر الاحتجاج عن الصادق عليه السّلام بتوسط ابى محمد العسكري (صلوات اللّه عليه).

و الخبر طويل الذيل، نتعرضه بطوله عند تعرض الماتن (قدس سره) إياه عند شرائط مرجع الفتوى نذكر الفقرة المناسبة منه للمقام و هو قوله عليه السّلام:

فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه، و ذلك لا يكون الا بعض الفقهاء «1».

فقد ظهر من الطوائف السبعة بعد إرجاع بعضها الى بعض.

هو مشروعية أصل التقليد في الشريعة المقدسة و معهوديته

في الصدر الأول و كان أئمة أهل البيت عليهم السّلام راضين بالاجتهاد و الإفتاء غير المبنيين على القياس و الاستحسان و غيرهما من الظنون غير المعتبرة و القدر المتيقن منها ما هو الأخص مضمونا و لسنا، الآن بصدد بيان مقدار دلالتها بل النظر الوحيد إثبات مشروعية التقليد، و جوازه، في الجملة قبال، من ينكره رأسا.

الاستدلال لمشروعية التقليد بالإجماع و تزييفه

و مما استدل به لمشروعية التقليد الإجماع المنقول قديما، و حديثا على جواز التقليد، و ان ما ينكره الأخباريون، فإنما ينكرونه بلسانهم، و هم معترفون به حقيقة و واقعا.

______________________________

(1) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20، قال صاحب الوسائل بعد نقل الخبر عن الاحتجاج: «و أورده العسكري عليه السّلام في تفسيره» يظهر منه (ره) ان الطريق الى ما قاله الصادق عليه السّلام، ليس منحصرا بتفسير العسكري عليه السلام فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 168

..........

______________________________

و لكن فيه: ان المتحصل منه، فضلا عن منقولة، في مثل هذه المسئلة التي يستدل لها بالوجوه المسطورة، لا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم عليه السّلام أو دليل معتبر غير ما ذكرنا، فالمظنون لو لا المقطوع هو كون تلك الوجوه مدركا للاتفاق، و الإجماع، فلا يكاد ينتفع بالإجماع.

و بما ذكرنا كله في مشروعية التقليد عقلا و كتابا و سنة نخرج عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم الذي دل عليها العقل و النقل.

و بالجملة الأصل و ان كان حرمة العمل بما وراء العلم عقلا، و نقلا، الا انه خرجنا عن ذلك بالأدلة المتقدمة.

فلا ينبغي الإشكال في جواز التقليد، في الأحكام الفرعية لغير المتمكن من تحصيل العلم، بل وجوبه بعد العلم بثبوت أحكام في الشريعة المقدسة، و عدم

تمكن غالب الناس من تحصيل العلم، و الاجتهاد، و عسر العمل بالاحتياط، بل عدم تمكن غالب الناس منه، و لا بد من تفريغ الذمة عنها فلا يكاد يحصل الا بالتقليد.

فلا يصغي الى الآيات الناهية عن التقليد، و ذمة، أو الناهية عن العمل بالظن و ذلك اما لعدم شمولها للمقام، أو خروجه عنه.

هذا إجمال الكلام فيه، و ان كان مع ذلك في خاطرك شوب اشكال من ذلك فلا بأس بالإشارة الى ما يتوهم في المقام، و الى دفعه هنا إجمالا تثبيتا للمرام، و التفصيل يطلب من غير المقام.

توهم النهى عن التقليد و ذمه و دفعه

اما التوهم فقد وردت آيات في النهي عن التقليد و ذمه.

كقوله تعالى:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «1».

______________________________

(1) البقرة: 2/ 17.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 169

..........

______________________________

و قوله عز من قائل:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «1».

و قوله تعالى:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ الشَّيْطٰانُ يَدْعُوهُمْ إِلىٰ عَذٰابِ السَّعِيرِ «2».

و قال تعالى:

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوٰاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «3» الى غير ذلك من الآيات.

و حيث ان المتحصل من الاجتهاد هو الظن بالحكم الشرعي، فيمكن التشبث على عدم جواز تقليد المجتهد، بالآيات الناهية عن العمل بالظن كقوله تعالى.

لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «4».

و قوله عز من قائل:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى الْأَنْفُسُ «5»، وَ

مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَ إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «6».

و قوله تعالى:

اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «7» الى غير ذلك من الآيات

______________________________

(1) المائدة: 5/ 14.

(2) لقمان: 31/ 21.

(3) الروم: 30/ 29.

(4) الاسراء: 18/ 36.

(5) النجم: 53/ 23.

(6) النجم: 53/ 28.

(7) الحجرات: 49/ 41.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 170

..........

______________________________

و اما الدفع فأولا ان المذموم، و المنهي عنه في الآيات الناهية عن التقليد، هو رجوع الجاهل الى جاهل مثله، و معلوم ان مجرد التعبد و التقليد عن اى شخص عالما كان، أو جاهلا، مذموم، عقلا و شرعا بل الفطرة قاضية بقبحه.

و ثانيا: لو أغمض عن ذلك فنقول: ان مورد الآيات هو التقليد، في أصول الدين التي يعتبر فيها العلم، و المعرفة، و لا يصح الاكتفاء فيها بمجرد التقليد ان لم يحصل له العلم، و سيوافيك بعض الكلام في مسئلة عدم جواز التقليد، في أصول الدين فارتقب حتى حين.

فظهر انه ليس في شي ء من الآيات، ما يدل على النهى عن التقليد في الأحكام الفرعية لغير المتمكن من تحصيل العلم بها.

و اما الآيات الناهية عن العمل بالظن فلا دلالة لها على حرمة التقليد في الفرعيات لما أفيد:

«ان النهى في تلك الآيات ليس نهيا مولويا، و انما هو الإرشاد الى ما استقل به العقل، إذ الظن يقترن دائما باحتمال الخلاف فالعمل به مقرون باحتمال العقاب، لا محالة و دفع العقاب المحتمل مما استقل به العقل، و النهى في الآيات المباركة إرشاد اليه، و من ثمة قلنا في محله، ان حجية اى حجة لا بد و ان ينتهي إلى العلم، إذ لو لم

تكن كذلك لاحتمل معها العقاب و العقل مستقل بلزوم دفعه» «1».

فمع قيام الأدلة القطعية على جواز التقليد يكون التقليد خارجا عن نطاق الآيات الناهية.

و بالجملة موضوع الآيات الناهية الوقوف، و الركون الى الظن، من حيث هو، فمع قيام الدليل على اعتباره لا يكون وقوفا على الظن كما لا يخفى، و التفصيل يطلب من غير المقام.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 91.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 171

بيان من أستادنا العلامة لخروج التقليد عن الآيات المومى إليها

______________________________

بل يمكن ان يقال كما أفاده أستادنا العلامة الخمينى دام ظله:

ان عمدة دليل وجوب التقليد بناء العقلاء بما هم عقلاء، و قد جبّلوا على رجوع جاهل كل حرفة، أو صنعة، إلى العالم بها، من دون ان ينتحلوا بنحلة أو شريعة، و لم يكن ذلك مخصوصا بالفقه، و أحكام الدين، فيراجعون جهلائهم إلى علمائهم، و خبرائهم في كل أمر من الأمور خصوصا إذا كان الأمر بما يعمل فيه الرأي و النظر، و الشارع لم يردعهم عما هم عليه، فيستكشف من ذلك رضي الشارع به.

و أدلة عدم الاعتناء بالظن، و حرمة اتباعه، لو لم تكن مخصوصة بأصول العقائد، لا تصلح لان تكون رادعة لمثل هذه الظنون لعدم انقداح احتمال الخلاف في مثل هذه الارتكازات بمجرد النهى عن اتباع الظن مطلقا، الا مع التنبيه، و التصريح، كما هو الشأن بالنسبة إلى العمل بخبر الثقة، و اليد، و أصالة الصحة، و غيرها مما يدور عليها رحى معاشهم.

و بالجملة كأنه لم ينقدح في ذهن العقلاء، ان تقليد الغير، و العمل بخبر الثقة، و الظاهر، و اليد؟؟؟، و أصالة الصحة و نحو ذلك من اتباع الظن، و لذا لم يرتدعوا بعد ما ورد النهى عن العمل بالظن، و اتباعه، عما جبلوا

عليه و لم يتعطل سوق المدينة المنورة، مثلا بذلك، بل حالهم بعد ورود الآيات الناهية عن الظن كحالهم قبل ورودها، فكانوا يرتبون آثار الملكية على ما في يد الغير، و أثر الصحة على معاملات الناس، و قبول قول الثقة، و العمل بالظواهر، و يرجع جاهل كل صنعة أو حرفة إلى العالم بهما، و لعمر الحق ان إنكار ذلك مكابرة «1».

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 172

عدم تمامية الاستدلال ببناء العقلاء في المقام ما لم يحرز رضي الشارع به

______________________________

و لكن مع ذلك كله وقع الإشكال في الاستدلال ببناء العقلاء في مثل المقام ما لم ينضم إليه إمضاء الشارع إياه، و لو بعدم الردع، لأنه لم تقم آية، و لا رواية، على حجية اى بناء العقلاء على كل شي ء، فلا بد و ان يكون بنائهم بمرئي و مسمع من الشارع حتى يستكشف من عدم ردعه رضاه به.

فاذا البناء المستحدث غير المعهود في عصر أئمة أهل البيت عليه السّلام. لا يكاد ينفع، و من الواضح ان الاجتهاد و استنباط الأحكام عن أدلتهما بالنحو الدراج في اعصارنا لم يكن معهودا في الصدر الأول، لأن علم الفقه أصبح في زماننا من العلوم النظرية الغامضة التي لا يقصر عن العلوم الرياضية، و الفلسفية، بلحاظ اضطرار الفقهاء اليه لطول غيبة حجة اللّه الأعظم جعلني اللّه من كل مكروه فداه، عن الانظار، و وجود أخبار متعارضة، و فتاوى كذلك، و ورود أفكار غير مأنوسة، و دقائق غير معهودة و نحو ذلك بين أيديهم بحيث صار الاجتهاد و معرفة الأحكام الشرعية، عن مداركها غامضا صعبا، بحيث حكى عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره): ان الاجتهاد في مثل زماننا أصعب من الجهاد في

سبيل اللّه، و قد كان في الصدر الأول، و في زمن أئمة أهل البيت عليهم السّلام علما ساذجا بسيطا، و كان فقهاء أصحاب الأئمة يعلمون فتاويهم و مميزون ما هو الصادر عنهم لبيان الحكم الواقعي عما يكون صادرا تقية، و لبيان غير الحكم الواقعي بسهولة.

و بالجملة لم يكن الاجتهاد في مثل ذلك الأزمنة كزماننا هذا، لان رجوع الجاهل الى العالم في تلك الأزمنة رجوع الى من يعلم علما وجدانيا بالأحكام الشرعية الحاصلة لهم من مشافهة أئمة أهل البيت عليهم السّلام حيث يتلقى أصحابهم الأحكام الشرعية من معادن الوحي و التنزيل.

و اما رجوع الجاهل في زماننا الى فقهائهم رجوع الجاهل الى من عرف

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 173

..........

______________________________

الأحكام بالظنون الاجتهادية و الأمارات و يكون علمه و معرفته تنزيلا تعبديا لا وجدانيا فاذا يقع الإشكال أيضا في التمسك بالأخبار الواردة في إرجاع أئمة أهل البيت عليهم السّلام الى فقهاء أصحابهم حسبما فصلناه لصحة المراجعة إلى فقهائنا و لا يكاد يمكن ذلك الأبعد إلغاء الخصوصية بجامع كونهما من العلماء و الفقهاء و هو كما ترى للفرق الواضح بينهم و بين فقهائنا، لما أشرنا أن فقهاء أصحابهم كزرارة بن أعين، و الثقفي و زكريا ابن آدم، و ابى بصير، و ابان بن تغلب، و نظرائهم كانوا يعلمون الأحكام الواقعية، و يكون الإرجاع إليهم، إرجاع الى من عرف الأحكام الواقعية المعلومة لهم مشافهة عنهم عليهم السّلام، و كان يحصل علمهم بفتاواهم أنظارهم المقدسة من غير اجتهاد و تعب شديد، بداهة انهم تلمذوا لدى الأئمة المعصومين سنين متمادية و أخذوا الأحكام منهم مشافهة، و كانوا عارفين بنفس فتاوى أئمة أهل البيت عليهم السّلام الصادرة

لبيان الحكم الواقعي، و كانوا يميزونها عن الفتاوى، الصادرة عنهم لبيان غيره كالتقية و نحوها.

و اما فقهاء أمثال عصرنا فغاية بضاعتهم بعد التعب الشديد و المشقة الأكيدة، هو علمهم بالوظيفة الأعم من الواقعي، و الظاهري و حديث المعذرية، مع وجود الاختلاف الكثير في فتاويهم، فقياس أحدهما بالآخر قياس مع الفارق.

و بالجملة اختلاف فقهائنا المتأخرين كثيرة بحيث قلما توجدان تتفق جماعة من الفقهاء على مسائل باب واحد بل يختلفون في جل المسائل المعنونة الا نادرا، بل قد يختلف نظر فقيه واحد، في مسئلة واحدة، بتعدد كتبه، بل في أبواب كتاب واحد، و واضح ان رأى كل من هذه الأمة يخطّأ و يكذّب مقابلته، و بعد ملاحظة هذه الاختلافات الكثيرة يحصل لكل شاعر ملتفت وهنا بكاشفية أنظار الفقهاء للأحكام الواقعية، بل ربما لا يرون لآرائهم كاشفية و طريقية، بالنسبة إليها.

و من الواضح عدم وجود هذا النحو من الاختلاف في الصدر و الأول، بين فقهاء روات الأصحاب، لما أشرنا انهم كانوا يأخذون معالم الدين، من معادن الوحي و التنزيل بلا واسطة، أو وسائط قليلة، فقلما تقع الاختلاف بينهم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 174

..........

______________________________

فظهر ان الاجتهاد، و الإفتاء في عصرنا يخالف طور الاجتهاد و الإفتاء في عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و مع هذا الاختلاف الفاحش، و الفرق الواضح، لا يصح الاستدلال لمشروعية هذا النحو من الاجتهاد بما دل على مشروعية ما في الصدر الأول فلا يكاد يستكشف، مما دل على مشروعية الإفتاء في الصدر الأول مشروعية الإفتاء في زماننا.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في ذلك و هو مساوق للقطع بعدم الشمول فلا بد لمشروعية هذا النحو من

الاجتهاد من التماس دليل أخر.

فحاصل الاشكال: انه لا يتم الاستدلال لمشروعية هذا النحو من الاجتهاد في زماننا بمجرد بناء العقلاء على رجوع الجاهل بكل حرفة أو صنعة إلى العالم بهما بالأخبار المتقدمة بعد افتراق كيفية الاجتهادين و اختلاف معرفة فقهاء العصرين، الأبعد إثبات أمرين على سبيل منع الخلو:

اما إثبات معهودية هذا النحو من الاجتهاد في الصدر الأول، و زمن الأئمة المعصومين عليهم السّلام و عدم ردعهم عنه.

أو إثبات انه، و ان لم يكن معهودا في الصدر الأول، الا انه كان عليهم الردع عن طريقة تحدث طبعا في الشريعة في طول الغيبة الكبرى، لو لم يرضوا بها فحيث لم يردعوا عنها فيستكشف رضاهم بها.

فلو لم يتم الأمرين المذكورين لا يصح التقليد بمجرد بناء العقلاء على رجوع جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بهما، بالأخبار المتقدمة.

بيان لطيف في وجود هذا النحو من الاجتهاد في الصدر الأول
اشارة

و الذي يقتضيه دقيق النظر، هو إمكان إثبات كلا الأمرين، بحمد اللّه، و قوته اما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 175

الأمر الأول [الاخبار]
اشارة

______________________________

فيدل على وجود الاجتهاد بهذا النحو- لكن لا بهذه الشدة- في الصدر الأول جملة من الاخبار.

منها ما عن ابن إدريس في أخر السرائر عن كتاب هشام بن سالم، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام، قال:

انما علينا ان نلقى إليكم الأصول، و عليكم ان تفرّعوا «1» و منها ما عنه، عن كتاب أحمد بن ابى نصر، عن الرضا عليه السّلام قال:

علينا إلقاء الأصول، و عليكم التفريع «2».

ظاهر الخبرين يدلان، على معهودية التفريعات على الأصول في الصدر الأول لأن التفريع عبارة، عن استخراج الفروع عن الأصول المتلقاة، و تطبيقها على مواردها و صغرياتها مثلا.

قوله (عليه السّلام): لا تنقض اليقين بالشك ابدا و انما تنقضه بيقين آخر «3».

أصل من الأصول و ما يبحث في الاستصحاب: من جريان الاستصحاب في جميع الموارد أو اختصاصه بالوجوديات، أو انه مخصوص بالدفعيات، أو يعم التدريجيات، أو يشمل لكل من الاستصحاب السببي، و المسببي في عرض واحد، أم لا؟، أو يعم الاستصحابين المتعارضين أم لا، الى غير ذلك من المباحث التي لا تتجاوز عن مفاد قوله عليه السّلام لا تنقض اليقين بالشك فجميع المباحث التي تذكر في رسالة الاستصحاب مثلا تدور مدار تلك الكبرى الكلية.

______________________________

(1) الوسائل باب 6 من أبواب صفات القاضي ح/ 51.

(2) الوسائل باب 6 من أبواب صفات القاضي ح/ 52.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 176

..........

______________________________

و كذا قوله (ع): رفع عن أمتي ما لا يعلمون «1».

أصل، و ما يبحث في رسالة البراءة

من جريان البراءة في كل ما لا يعلم- سواء كان الشك في وجود النص، أو إجماله، أو تعارض النصوص، و كان الشك في الأمور الخارجية- أو يخص ببعضها، أو انه يعم الأحكام الوضعية، و التكليفية، أو يخص بالتكليفية، أو يعم الشك في الاجزاء و الشرائط، أو يخص الاجزاء الى غير ذلك من المباحث كلها، تدور مدار تلك الكبرى الكلية.

و كذا قوله (ع): لا ضرر و لا ضرار في الإسلام «2».

أصل، و ما يبحث فيه من شمول القاعدة لمطلق الإضرار، سواء كان بالنفس أو بالغير، أو لا، ثم انه هل يعم مطلق الإضرار بالغير بالأعم من التسبيب، و المباشرة أو خصوص المباشري، الى غير ذلك، من المباحث، بحث عما يتفرع على ذلك الأصل.

الى غير ذلك من الأصول المعنونة في الكتب الأصولية، و الفقهية، و الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات.

و هذه الأمور، كانت في زمان الصادق، و الرضا، عليهما السّلام مثل زماننا هذا، من غير تفاوت في أصل الاستنباط و التفريعات لكن مع تفاوت في كثرة التفريعات و قلتها، و هو مقتضى طبع تطور العلم و مباحثه، و قد يتحقق التفاوت بين المجتهدين في عصرنا أيضا فترى بعضهم يقتصر بذكر بعض التفريعات، و بعضهم يطول بذكر التفريعات و بعضهم متوسط بينهما.

و بالجملة معنى قوله عليه السّلام و علينا إلقاء الأصول ذكر القواعد الكلية و الكبريات من العمومات، و المطلقات، و معنى التفريع فيها، هو استخراج ما يستفاد منها، و ما يتفرع منها، و تطبيقها على مواردها، و صغرياتها، و هو شأن المجتهدين في اعصارنا كما هو الشأن في العصور الأولية، مع تفاوت. في كثرة التفريعات و قلتها.

______________________________

(1) كتاب الخصال ج 2/ 417 ط مكتبة صدوق.

(2) الوسائل باب

1 من أبواب موانع الإرث.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 177

..........

______________________________

و لا يعنى بالتفريع عند علمائنا الإمامية إلا ما ذكرنا لا الحكم بالأشباه و النظائر كالقياس، و الاستحسان، و الحكم بالظنون غير المعتبرة، كما هو دأب فقهاء أهل السنة، و مجتهديهم، في لسان الاخبار.

الاجتهاد المنهي عنه هو اجتهاد غير أصحابنا

و بهذا يظهر ان الاجتهاد المنهي عنه هو الاجتهاد و استخراج الأحكام الشرعية بالأشباه و النظائر و القياس و الاستحسان، التي عليها، فقهاء أهل السنة، و مجتهد و هم المنقطعون عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام مع أنهم مأمورون باتّباعهم، و حديث الثقلين المتواتر عليه بين الفريقين، أصدق شاهد على ذلك، فترى في فتاويهم من يقول: قال على كرم اللّه وجهه: كذا. و انا أقول كذا. قالت الصحابة كذا. و انا أقول كذا.

قال جعفر بن محمد كذا. و انا أقول كذا. قال أئمة أهل البيت كذا.

و انا أقول كذا. الى غير ذلك من العبائر التي يجدها المتتبع في عباراتهم.

و اما ما عليه فقهاء أصحابنا منذر من أئمة أهل البيت عليهم السّلام الى زماننا هذا فهم برآء منها، و مباحثهم في الأدوار الأخيرة و ان صارت طويلة الذيل، كثيرة المباحث الا ان جميع ما في زبرهم شروح لكلمات أئمة أهل البيت عليهم السّلام و مبيّن لمقاصدهم و استخراج لمنوياتهم المقدسة، و جمع لمختلفات أحاديثهم المروية.

و لعمر الحق ان إنكار هذا النحو من الاجتهاد، إنكار للتفقه في فروع الدين.

بعض المباحث الأصولية و الفقهية مما لم ينتفع بها أو يقل فائدته

نعم كما أشرنا بعض المباحث الأصولية، و الفقهية، المعنونة في كتب الأصحاب لم يكن ينتفع المتدرب فيه، أو تقل فائدته له، بل ربما يوجب تشويش خواطره، و يوجب اضطراب فهمه و منعه عن الوصول الى الدرجات العالية في الفقه، و الفقاهة، و لعله لهذه، و غيرها، من الاشتغال بأمور غير مهمة. صارت توفيقات

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 178

..........

______________________________

أصحابنا المتأخرين في تدوين الكتب الفقهية، و غيرها، أقل من توفيقات قدمائنا كما أشرنا إليه في هذه الرسالة فلاحظ.

فلا بد للباحث الخبير، و المتدرب

البصير، تمييز المباحث التي يستند إليها المجتهد في استنباط الأحكام الفقهية، و يكون مبتلى بها عما لا يستند اليه فيها، بل تذكر تشحيذا للذهن، و تمرينا للقوة الفكرية، مثل مباحث المشتق بعرضها العريض و المعاني الحرفية بما لها من الدقة، و مقدمات الانسداد بما لها من الصعوبة و الدقة، ثم البحث في ان مقتضى المقدمات حجية الظن على الحكومة، أو الكشف مع ان باب العلم، بمصراعيه مفتوحة، و نحو ذلك مما لم يستند إليها في استنباط الأحكام الشرعية إلا نادرا.

بعض المباحث مما ينتفع به و كان في الصدر الأول

و اما مثل مباحث العام و الخاص، و المطلق، و المقيد و الاستصحاب و البراءة و الاشتغال، و التخيير، و علاج التعارض، و أمثالها مما يستند إليها في استنباط الأحكام و يكون كثيرا الدوران في استخراج الأحكام بل قلما يكون باب من أبواب الفقه، بل كل مسئلة من مسائله، الا و فيها أحد منها، لو لم يكن كثير منها.

و غير خفي على الباحث الخبيران مثل هذه المباحث و نظائرها كانت معهودة في الصدر الأول أيضا.

الا ترى ورود أخبار في الاستصحاب، و فيما لا يعلمون، و في علاج تعارض الخبرين، و تخالفهما من العرض على الكتاب العزيز، و مخالفة العامة، و الأخذ بما اشتهر- لو كان من مرجحات الخبرين- الى غير ذلك، و هذه المباحث من أوضح المسائل الأصولية و يبتني عليها كثير من المسائل الفقهية.

و من الواضح ان زمن حضور أئمة أهل البيت عليهم السّلام لم يكن جميع الرواة بحيث يمكنهم التشرف بمحضرهم، كل يوم و ليلة، بل ربما لم يتحصل لبعضهم التشرف لديهم في السنة الإمرة واحدة، أو مرتين، بل و مرة واحدة في موسم الحج عند

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و

التقليد، ج 1، ص: 179

..........

______________________________

ارادة حج بيت اللّه- زاده اللّه عزا و شرفا. بل ربما لم يتحصل لبعضهم التشرف لديهم طيلة حياته، فلا بد و ان يكون لهم طريق، و كيفية في الأخذ بما يصدر عنهم عليهم السّلام فهل يصح ان يقال انهم يأخذون معالم الدين من كل أحد، أو خصوص من يوثقون به، و هل لم يكن لهم حيلة في علاج الخبرين المتعارضين أم لا، الى غير ذلك، و واضح ان معرفة هذه الأمور ليس إلا شأن المجتهد من غير فرق بين زماننا هذا و العصر الأول فتدبر، و كن من الشاكرين.

شواهد من الاخبار على وجود الاجتهاد في الصدر الأول لكن لا بهذه الشدة

و مما يدل على وجود الاجتهاد لكن لا بهذه الشدة في الصدر الأول ما عن عيون اخبار الرضا، عن ابى حيون، مولى الرضا، عن الرضا عليه السّلام قال:

من رد متشابه القرآن إلى محكمه، فقد هدى الى صراط مستقيم، ثم قال عليه السّلام: ان في أخبارنا محكما كمحكم القران و متشابها كمتشابه القران، فردوا متشابهها الى محكمها، و لا تتبعوا متشابهها، دون محكمها فتضلوا «1».

لوضوح ان رفع الاشتباه عن المتشابه بالمحكم، و جعل أحدهما قرينة على الأخر، لا يكاد يحصل الا بالاجتهاد الدقيق و التعب الأكيد، المتداول، في زماننا هذا.

و منها: ما عن معاني الاخبار عن داود بن فرقد قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء، و لا يكذب «2».

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 22.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 27.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 180

..........

______________________________

و لا يخفى ان عرفان مرادهم

و تشخيص مرامهم فيما إذا كان الصادر منهم ذا وجوه و احتمالات، انما هو بعد العرض على الكتاب و السنة و على الاخبار العامة و التتبع التام و الممارسة الأكيدة في كلماتهم و لا يكاد يحصل ذلك الا بالاجتهاد.

و منها: الأخبار الواردة في عرض الأخبار المتعارضة على الكتاب العزيز، و اخبار العامة، و ترجيح بعضها على بعض، لاحظ باب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل.

و غير خفي ان هذا من أوضح موارد الاجتهاد، و مباحثه المتعارفة بين المجتهدين في عصرنا.

ذكر بعض الاخبار في تعليم أئمة أهل البيت كيفية استنباط الفروع من مداركه بنحو دقيق

أضف الى ما ذكرنا كله الأخبار الواردة في تعليم أئمة أهل البيت عليهم السّلام أصحابهم كيفية استفادة الأحكام، و استنباط الفروع، من مداركه بنحو دقيق نشير الى بعض منها تأكيدا للمقال.

فمنها: ما في الكافي عن يونس عن بعض رجاله، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ادنى الطهر عشرة أيام، و ذلك ان المرية أول ما تحيض ربما كانت كثيرة الدم فتكون حيضها عشرة أيام فلا تزال كلما كبرت نقصت حتى ترجع إلى ثلاثة أيام، فإذا رجعت الى ثلاثة أيام، ارتفع حيضها و لا يكون أقل من ثلاثة أيام، فإذا رأت المرية الدم في أيام حيضها، تركت الصلاة فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فهي حائض، و ان انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت و صلت و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة أيام، فإن رأت في تلك العشرة أيام من يوم رأت الدم يوما أو يومين حتى يتم لها ثلاثة أيام، فذلك الذي رأته في أول

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 181

..........

______________________________

الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في العشرة، فهو من الحيض، و

ان مر بها من يوم رأت الدم عشرة أيام، و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الذي رأته لم يكن من الحيض، انما كان من علة اما من قرحة في جوفها، و اما من الجوف فعليها ان تعيد الصلاة، تلك اليومين التي تركتها لأنها لم تكن حائضا فيجب ان تقضى ما تركت من الصلاة، في اليوم و اليومين، و ان تم لها ثلاثة أيام فهو من الحيض و هو ادنى الحيض و لم يجب عليها القضاء و لا يكون الطهر أقل من عشرة أيام فإذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت، وصلت، فإن رأت بعد ذلك الدم، و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام، فذلك من الحيض تدع الصلاة، و ان رأت الدم من أول ما رأت الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام و دام عليها عدت من أول ما رأت الدم الأول، و الثاني عشرة أيام، ثم هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة، و قال كل ما رأت المرية، في أيام حيضها من، صفرة أو حمرة فهو من الحيض و كلما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض «1».

و أنت خبير بعد ملاحظة الخبر الشريف من أوله إلى آخره انه قد روعي فيه أمورا دقيقة لمعرفة كون الدم حيضا، أو استحاضة أو غيرها، و لمعرفة أيام الاستظهار و الأيام التي يحكم فيها بالحيض ظاهرا، أو واقعا و ادنى الحل الى غير ذلك من الأحكام بحيث يصعب دركها الا مع امعان النظر الدقيق.

______________________________

(1) فروع الكافي ج 3/ 76. أورد صدره في الوسائل في باب 10 من أبواب الحيض ح 4. و ذيله في باب 4 منها ح

3. و الفقرة المتوسطة الطويلة في الباب 12 منها ح 2.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 182

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 182

..........

______________________________

و منها: ما في من لا يحضره الفقيه، عن زرارة قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام الا تخبرني من أين علمت و قلت:

ان المسح ببعض الرأس، و بعض الرجلين، فضحك و قال:

يا زرارة قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل به الكتاب من اللّه لان اللّه عز و جل قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، فعرفنا ان الوجه كله ينبغي ان يغسل، ثم قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ، فوصل اليدين الى المرفقين بالوجه، فعرفنا انه ينبغي لهما ان يغسلا الى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، فعرفنا حين قال برؤسكم ان المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فعرفنا حين وصلهما بالرأس ان المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس فضيعوه، ثم قال فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ، فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال بِوُجُوهِكُمْ ثم وصل بها وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ اى من ذلك التيمم لأنه علم ان ذلك اجمع لم يجر على الوجه لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف و لا يعلق بعضها ثم قال اللّه: ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج، و الحرج الضيق «1».

فترى

انه عليه السلام كيف استفاد غسل تمام الوجه، و اليدين الى المرفقين من الآية الشريفة، و كيف فرق بين غسل الوجه و اليدين، و بين مسح الرأس و الرجلين فاستفاد مسح بعض الرأس، و الرجلين، و هل ترى فرقا بين كيفية هذه

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه ج 1/ 56. أورد صدره في الوسائل في باب 23 من أبواب الوضوء ح 1. و ذيله في باب 13 من أبواب التيمم ح 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 183

..........

______________________________

الاستفادة، و ما يستنبطه الفقهاء العظام، في عصرنا من الأدلة.

و منها: ما في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عز و جل، مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» امسح عليه «2».

فترى انه عليه السّلام كيف استفاد المسح على المرارة من قوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، و صرح بان هذا و أمثاله يعرف من كتاب اللّه، و هل هو الا ما يستفيده فقهاء عصرنا من الأدلة و أ ليس قوله عليه السّلام؟! يعرف هذا و أمثاله من كتاب اللّه ترغيب و تحريص الى الطريقة المألوفة بين الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية.

الى غير ذلك من الاخبار التي يجدها المتتبع في الاخبار و فيما ذكرنا كفاية لمن له قلب.

هذا كله بالنسبة الى الأمر الأول فقد ظهر معهودية هذا النحو من الاجتهاد- لكن لا بهذه الشدة- في الصدر الأول.

فإذا تم هذا الأمر فيمكن ان يستدل لمشروعية هذا النحو من الاجتهاد، مضافا الى هذه الاخبار، بالأخبار المتقدمة

بطوائفها السبعة، فليكن على ذكر منك، و كن من الشاكرين و اما.

______________________________

(1) الحج: 22/ 77.

(2) فروع الكافي ج 3/ 33. أورده في الوسائل في باب 39 من أبواب الوضوء ح 5.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 184

الأمر الثاني
اشارة

______________________________

ففي إثبات مشروعية هذا النحو من الاجتهاد و ان لم يكن معهودا في الصدر الأول.

و ذلك لان الأمور التي تحدث في المستقبل على نحوين: فتارة يكون مما يترقب وجوده، و ينتظر تحققه في المستقبل بحسب طبع الأمر، بحيث يصح الاطلاع عليه كل خبير متظلع.

و اخرى لا يكون كذلك، نعم من يكون عالما بالغيب، و يكون واقفا بما وراء الطبيعة باذنه تعالى فله الاطلاع على ذلك.

فان كان الأمر على نحو الثاني كبعض المسائل المستحدثة كمسئلة التأمين، و الترقيع و حق الطبع، و السير مع السفن الفضائية و غيرها مما لم يكن لها عين، و لا أثر، في الأعصار المتقدمة، و لم يكن مما يترقب حصولها و تحققها من ذي قبل عادة، فيصح ان يقال ان عدم ذكرها في لسان الشارع و بيان أئمة أهل البيت عليهم السّلام مع علمهم بالغيب، و ما يحدث في المستقبل، و تمكنهم الأعلام بذلك بأخبار الغيب، و لكن بلحاظ مصالح و أمور لا يكاد يخفى بل ربما لا يكاد نعلمها لم يكن بنائهم على بيان معارف الدين بأصولها و فروعها و تبليغها الى الناس على غير ما هو المتعارف بين الناس و لم يتشبثوا في بيانها بطرق غير عادية و اعمال خارقة للعادة.

و لا يكاد يخفى ذلك على الواقف بسيرتهم المقدسة، و الخبير بأخبارهم الصادرة عن ناحيتهم الشريفة، و الا لكان عليهم بيان كثير من مهام الحوادث الواقعة، في

الأدوار المتأخرة بإلهاماتهم المقدسة، و كشف الحقائق الراهنة بأنفسهم المباركة لئلا تقع الأمة الإسلامية فيما وقعوا عليهم فلا يصح الإيراد عليهم بعدم ذكر المسائل المستحدثة المحتاجة إليها في اعصارنا مع إمكان استكشاف أحكامها من القواعد

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 185

..........

______________________________

الكلية التي ألقوها، و إمكان معرفة محكماتها من مشابهاتها و نظائرها.

و اما إذا كان الأمر على النحو الأول فالاعتبار يناسب الاعتناء بها من كل حكيم خبير إثباتا- لو كان راضيا بها- أو نفيا- لو لم يكن كذلك-، فلو لم يمنع عن أمر و طريقة، تترقب حصولها عرفا في مستقبل الأمر. فيمكن استكشاف رضاه به، و لعله واضح لا سترة فيه.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: لا يخفى ان حديث الاجتهاد، و الإفتاء في مثل زماننا هذا يقرب ان يكون من النحو الأول.

ضرورة انه كما أشرنا غير مرة ان رجوع جاهل كل صنعة، أو حرفة إلى العالم بها كان امرا ارتكازيا معلوما لكل أحد، و غيبة ولي اللّه الأعظم، أرواح من سواه فداه، بل طول غيبته كانت معلومة في الصدر الأول، و ورد في ذلك أخبار كثيرة يجدها المتتبع في مظانه.

و قد علموا (صلوات اللّه عليهم) ان علماء المذهب في طول زمان الغيبة، و حرمانهم عن الوصول الى امام زمانهم، و بقية اللّه في أرضه، لا بد لهم من الرجوع الى كتب الاخبار، و الأصول و الجوامع الحديثية.

ترغيب أئمة أهل البيت بجمع الأحاديث و حفظها و بثها بين الناس

و لذا ورد في غير واحد من الاخبار، التأكيد، و الترغيب بكتابتها، و حفظها و تدوينها، و بثها في الناس، و الوعد بالثواب الجزيل على فعلها.

فعن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام:

احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها «1».

و عن المفضل بن عمر

قال:

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1/ 52 ح 10.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 186

..........

______________________________

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام اكتب، و بث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه الا بكتبكم «1».

و عن الصدوق في أماليه بإسناده إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

ان المؤمن إذا مات، و ترك ورقة واحدة عليها علم كانت الورقة سترا فيما بينه و بين النار و أعطاه اللّه بكل حرف مدينة أوسع من الدنيا و ما فيها، و من جلس عند العالم ساعة ناداه الملك جلست الى عبدي و عزتي و جلالي لأسكنك الجنة معه و لا أبالي «2».

و عن ابى بصير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا «3».

الى غير ذلك من الاخبار المؤكدة للكتابة و بثها و الوعد بالثواب الجزيل على تعلمها.

و واضح ان طبيعة الأمر تقتضي انه في طول غيبة الإمام عليه السّلام و حرمان الحضور لديه يكثر اختلاف الآراء و تتشتت الأفكار، و تتضارب الانظار، فلا محيص لهم الا بالرجوع الى الاخبار الصادرة عنهم مع ما عليها من الاختلاف و الاضطراب.

و لا محالة يرجع عوام الشيعة إلى علمائهم بحسب الارتكاز و البناء العقلائي لكل أحد، و قد ورد، ان كفيل أيتام آل محمد عليهم السّلام طول الغيبة علمائنا الفقهاء.

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1/ 52 ح 11.

(2) أمالي الصدوق/ 40/ 41 مع اختلاف يسير.

(3) أصول الكافي ج 1/ 52 ح 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 187

إلقاء الأخبار المتخالفة من أئمة أهل البيت لتشكيل الحوزات العلمية

______________________________

أضف الى ذلك ان أئمة أهل البيت عليهم السّلام لمصالح

راجعة إلى حفظ الدين، و المذهب، و حفظ أعلام الدين، و قواعده ألقوا بعض الخلاف بين أصحابهم بذكر عمومات غير مقترنة بالخصوصات، و مطلقات، غير محفوفة بالمقيدات، و متشابهات غير ملائمة بالمحكمات، و أحكام لا تكون صادرة لبيان الأحكام الواقعية الى غير ذلك فلعل كل ذلك منهم لنفر طائفة منهم للفقه في الدين و تشكيل مجالس التعليم و التعلم، و تأسيس الحوزات العلمية و الجوامع العلمية لمعرفة ما هو الصادر منهم عما هو الصادر عن غيرهم و تشخيص ما هو الصادر منهم لبيان الأحكام الواقعية عن غيرها، و إرجاع متشابهات ما صدر عنهم الى محكماتها و عموماتها الى مخصصاتها و مطلقاتها الى مقيداتها الى غير ذلك مما هو متعارف في الحوزات العلمية، و عرفان معالم الدين بهذه الكيفية، أوقع في النفوس، و أثبت في أذهانهم و الا لو لم يكن همهم تشكيل الحوزات العلمية و مجالس التعليم و التعلم، فلعله يمكنهم إلقاء الأحكام الشرعية و معالم الدين بصورة واضحة بينة، مثل وضع القوانين الموضوعة في مجالس النواب أو الشيوخ من كل مملكة فلو ألقيت كذلك لاندرست آثار الدين، و المذهب، و لذا ترى ان القوانين الموضوعة في الممالك المتمدنة و غيرها مع انها مقررة بعبارات واضحة و تكون سهلة التناول لم يطلع عليها الا الخواص منهم، و اما سائر الناس فغير واقفين بها.

و بالجملة من تدبر في الاخبار الصادرة عنهم مع ما عليها من الاختلاف، و الاضطراب، يحدس حدسا قويا بأن ألغاه معالم الدين بأصولها و فروعها بهذه الكيفية من ولاة الدين و أئمة أهل البيت عليهم السّلام لتشكيل الحوزات العلمية، و مجالس التعليم و التعلم و من تفطن و تأمل فيما ذكرنا كله بعين

الإنصاف يعتقد اعتقادا جازما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 188

..........

______________________________

بأن كيفية الاجتهاد و الإفتاء بهذه الصورة كانت معلومة لهم عليهم السّلام بل لكل قائد متفكر خبير، و ان لم يكن من ولاة الدين و أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فلو لا ارتضائهم بهذه الكيفية طول الغيبة كان عليهم الردع، و إظهار عدم رضايتهم عنها، و بعدم ردعهم عنها يستكشف رضاهم بذلك.

إذ لا فرق في استكشاف رضي المعصوم بسيرة و طريقة بين كونها بمرئي و مسمع منه، و في حضوره، و بين ما يحدث طبعا و عادة في مستقبل الأمر فتدبر.

فاذا أحطت خبرا بما ذكرنا يندفع الاشكال بحذافيره و يظهر لك جليا رضي أئمة أهل البيت عليهم السّلام باجتهاد المجتهدين طول الغيبة، بهذه الكيفية و رضاهم بمراجعة أيتام آل محمد صلّى اللّه عليه و آله في غيبة ولي اللّه الأعظم أرواح من سواه فداه الى الفقهاء و المجتهدين العدول.

فهل ترى من نفسك انهم عليهم السّلام في طول الغيبة ألقوا زمام أمر الرعية و أيتام آل محمد عليهم السّلام الى أنفسهم، و لم يرضوا بتكفل الفقهاء الصلحاء لهم حاشاك ثم حاشاك.

فذلكة في رضي أئمة أهل البيت هذا النحو من الاجتهاد

فتحصل مما ذكرنا بطوله انه يصح ان يقال أولا بوجود هذا النحو من الاجتهاد في الصدر الأول لكن لا بهذه الشدة.

و لو سلم عدم وجوده في الصدر الأول فيمكن ان يحدس المتدرب الخبير ان مقتضى طبع الأمر بعد معهودية رجوع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها، و معلومية غيبة الإمام عليه السّلام و طولها، و ما ورد عنهم في الحث بجمع الاخبار و كتابتها و بثها، و وجود الفرق الظاهر بين زمن الحضور و الغيبة من حيث قلة

الاختلاف و كثرته و عدم تمكن الاجتهاد من كل أحد، و عدم وجوب الاحتياط الا في موارد مخصوصة رضائه أئمة أهل البيت عليهم السّلام بهذه الطريقة المستحدثة المألوفة في مثل هذه العصور في رجوع عوام الشيعة و أيتام آل محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى علمائهم و فقهائهم العدول، و لعل إنكار ذلك لا يخلو عن مكابرة عصمنا اللّه و إياكم عن الزّلات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 189

اشكال عدم وجود بناء العقلاء الى الخبراء في مثل المقام

______________________________

قد يتوهم عدم وجود بناء العقلاء في مثل ما نحن فيه الذي تكون انظار خبرائهم و متخصصيهم متفاوتة و مختلفة غاية الاختلاف بحيث يقل اتفافهم على أمر إلا نادرا و ذلك لان مناط بناء العقلاء في رجوع جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بها لا يخلو عن أحد هذه الاحتمالات.

الاحتمالات المتصورة في ملاك رجوع الجاهل الى العالم
اشارة

الأول: ان يكون لأجل ان اصابة نظر العالم للواقع أكثري و تخلفه عنه قليل بحيث يكون احتمال الخلاف، و الغلط ملغى في نظر الجاهل فكأن الجاهل يطمئن يقول العالم و يركن اليه، نعم لو تنبه يرى انه ليس بعالم، و لعل هذا هو المراد بالعلم العادي المتداول على ألسنتهم.

الثاني: ان زعماء القوم و رؤسائهم السياسية، أو الدينية في بدء تأسيس المجتمع البشرى و التمدن الإنساني لما رأوا انه لو لم يرجع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها أو لو لم يترتب آثار الملكية على ما في اليد، أو لو لم يجب العمل بخبر الثفة، أو لو لم يلزم الأخذ بظاهر كلام كل متكلم الى غير ذلك مما تدور عليه رحى حياتهم و تنتظم به معيشتهم للزم الكلفة الشديدة، و الخرج الأكيد، بل ربما تنجر الى اختلال نظام المجتمع فاوضعوا تلك القوانين لتسهيل الأمر عليهم، و رغدة عيشهم، و انتشروها في الأعصار، و الزموا العمل و التعبد بها، فلم يزل يعلمون بها خلفا عن سلف و دار بينهم اجيالا و قرونا متمادية حتى أصبحت و صارت من الأمور الارتكازية لدى الناس.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 190

الفرق بين بناء العقلاء على ما جبلوا عليه و ما صار عادة لهم

______________________________

و الفرق بين الاحتمالين هو ان عمل العقلاء على الاحتمال الأول بلحاظ ما جبلوا عليه و فطّروا عليه بما هم عقلاء، بخلاف الاحتمال الثاني فإنه لم يكن ذلك منهم بما هم عقلاء بل بالوضع و التعبد الى ان صار عادة لهم.

و كثيرا ما تشتبه عادة العقلاء ببناء العقلاء من دون سبق تعبد و وضع بخلاف ما جرت عليه عادتهم أولا بالوضع و التعبد، و الأكثري بين الناس هو القسم الثاني لكنه ربما

تختلط ببناء العقلاء فتدبر.

الثالث: ان يكون ذلك لأجل مقدمات الانسداد بتقريب ان العقلاء في حياتهم الاجتماعى و تنظيم أمورهم ربما يحتاجون الى تشخيص أمور لما فيها مصالحهم، و مفاسدهم و معرفة حالا لما فيها من المصالح و المفاسد لاستيفاء مصالحها و الاحتراز عن مفاسدها فلا يجوز لهم إهمال تلك الأمور مع ما هم عليه من الحاجة، و يعز عليهم الاحتياط لاستلزامه الحرج الشديد، بل ربما لا يمكنهم ذلك لأدائه إلى اختلال النظام، و ليس لهم المراجعة إلى الجاهل، و هو واضح لعدم ترجيح لقول الغير الجاهل، على أنفسهم و ليس لهم طريق إليها إلا بالمراجعة إلى أهل الخبرة، و علماء الفن لاقريبة قوله الى الواقع من غيره، فليكن هذا سر مراجعة جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بها هذا.

تضعيف بعض الوجوه في ملاك رجوع الجاهل الى العالم

و لا يخفى عدم تمامية الاحتمال الثالث لبطلان مقدمات الانسداد في كثير من الموارد لعدم استلزام العسر و الحرج في موارد كثيرة في الاحتياط فضلا عن استلزامه اختلال النظام- و مع ذلك لا يحتاطون بل يعملون بقول الخبير.

مع انه لو فرض عدم التمكن من الاحتياط الكلى فلازمه التبعيض في الاحتياط لا العمل بقول الخبير.

و اما الاحتمال الثاني فدون إثباته خرط القتاد لان تطابق القوانين البشرية من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 191

..........

______________________________

باب الاتفاق مع تفرق أبناء البشر في الأصقاع المتباعدة و الأمكنة المختلفة مع اختلاف مشاربهم، و عشرتهم، و أديانهم مع عدم وجود عامل الارتباط و الاجتماع بينهم بعيد بل ممتنع عادة، مع انا نرى عيانا ان جميع طوائف الناس، و أصنافهم من الإيراني و العربي، و الحبشي، و الرومي، و الهندي، و غيرهم، و من يكون في أقصى

نقاط العالم و في أبعد نقطة المسكون و من يعيشون حياة بدوية بسيطة يعملون بخبر الثقة و يرتبون آثار الملكية على ما يكون تحت يد الغير و آثار الصحة على فعل الغير و يرجع الجاهل منهم الى العالم منهم من دون ان يكون عمل كل مستندا إلى الأخر، بل غير مطلع على عمل الغير. فأين الإيراني من ان يكون عمله مستندا إلى الإفريقي و بالعكس؟! و أين الإيراني و الإفريقي، من الهندي، و هكذا غيرهم مع عدم وجود الارتباط بين الأمم المتباعدة في الأزمنة السابقة و القرون الغابرة.

فاحتمال كون عمل العقلاء بتلك الأمور لأجل تعبد كان في بدء الأمر بديهي البطلان.

تصحيح بعض الوجوه في ملاك رجوع الجاهل الى العالم

فالأشبه هو الاحتمال الأول لكونه امرا معقولا موافقا للاعتبار لقضاء الوجدان بان من يشترى البقل من البقال مثلا و العطر من العطار و الحديد من الحداد لا ينقدح في خواطره ان البقال، و العطار، و الحداد غير مالكين لها الأبعد التذكر، و مع ذلك لا يعتنى به، بل يراها أملاكا لهم.

و كذا يرتب آثار الصحة على فعل الغير، من دون انقداح الخلاف، و يعمل بخبر الثقة من دون انقداح الكذب في خواطره الى غير ذلك مما عليه بنائهم عليه.

و مما جبلوا عليه، و استقر عليه بنائهم مراجعة جاهل كل صنعة أو حرفة إلى العالم بها و يعملون برأيه غافلا عن احتمال مخالفته للواقع بحيث لم ينقدح في أذهانهم الشك، و الريب في ذلك، فهم مطمئنون بآراء خبرائهم و واضح ان بناء العقلاء في رجوع جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بها من باب الطريقية لوضوح ان نظر الطبيب في ان الشي ء الفلاني مثلا نافع للحمى مثلا لا يكون له سببية في ذلك بل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 192

..........

______________________________

طريق إلى الخاصية التي تكون فيه.

و من المعلوم انه لا اشكال و لا خلاف عند أصحابنا الإمامية في ان فتوى الفقيه طريق إلى الأحكام الواقعية، و العذرية بحيث لا توجب فتواه مصلحة ملزمة في مؤداة فاذا يقع الإشكال في بناء العقلاء في الموارد التي يكون الاختلاف من خبراء الفن كثيرا كآراء فقهائنا في الأعصار المتأخرة.

و حاصل الاشكال انه كيف يمكن دعوى بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخلاف و الخطاء و يطمئنون بارائهم مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقيه واحد في كتبه العديدة بل في كتاب واحد.

و الإنصاف انهم لا يطمئنون بآراء الفقهاء بل لا يرون لآرائهم أمارية و كاشفية ألا ترى انه إذا اختلف المقومون لتقويم بيت أو متاع مثلا فلا يرى لتقويهم أمارية و كاشفية، و لا تطمئن نفسك بقولهما كما تطمئن إذا لم يكن هنا اختلاف.

فعلى هذا لا يبعد ان يقال ان رجوع العوام الى فقهاء الدين لأحد أمرين.

1- اما لتوهم كون فن الفقه كسائر الفنون يقل فيه الخطاء فيكون رجوعهم إليهم لمقدمة باطلة و توهم خطأ، بحيث لو علموا بها لما راجعوهم.

2- و اما لأجل أمر تعبدي أخذ الخلف من السلف لا لأمر عقلائي، فعلى هذا يكون الرجوع إليهم أمرا تعبديا، لا عقلائيا.

فظهر مما ذكرنا كله عدم تمامية بناء العقلاء في رجوع العوام الى فقهاء الدين هذا غاية التقريب في الاشكال.

جواب من العلامة الحائري عن الاشكال و المناقشة فيه

و اما الدفع فعن العلامة الحائري (قدس سره) بما حاصله:

ان خطأ الفقهاء و ان كان كثيرا إذا انضم بعضها الى بعض بحيث لو اجتمعت من أول الفقه إلى آخره لأمكن تدوين فقه غير صحيح، الا ان

خطأ آراء كل واحد منهم قليلة بالنسبة إلى آرائه المطابقة للواقع بحيث لو لوحظت آراء الفقيه الفلاني

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 193

..........

______________________________

مثلا و ضم بعضها ببعض لرأيت ان نسبة ما اخطائه بالنسبة الى ما اصابه كالحجر جنب الإنسان «1».

و لكن نوقش فيما أفاده: بأن هذا كلام مدرسي لا يمكن المساعدة عليه ضرورة انه مع ملاحظة هذه الاختلافات الكثيرة من الفقهاء في المسائل الفقهية في الأبواب المختلفة بل في باب واحد بحيث لم يكن لهم اتفاق في المسائل إلا نادرا كيف يصح ان يقال ان خطأ كل واحد بالنسبة إلى صوابه قليل فتأمل.

ثم انه حكى عنه (قدس سره) انه تفصى عن الاشكال بوجه أخر بما حاصله:

جواب أخر من العلامة الحائري و النقاش فيه

ان الواجب و المطلوب عند العقلاء في باب الاحتجاج بين الموالي و العبيد هو قيام الحجة لديهم على أنحائها المقررة، سواء كانت أحكاما واقعية أولية- و هي أحكام مجعولة على موضوعات واقعية- أو أحكام مقررة على طبق الطرق و الأمارات التي أنفذها الشارع، و هي قد تتخلف عن الواقع، أو وظائف مقررة عند فقد الأمارات و هي الأصول العملية.

و الواجب على العقلاء في مقام الاحتجاج هو تحصيل المؤمن من العقاب لا خصوص العمل بالأحكام الواقعية، و من المعلوم ان الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) أتعبوا أنفسهم الشريفة في استنباط الأحكام الشرعية و تفريع الفروع، و لم يقصروا في ذلك الا انهم لأجل اختلافهم في الفهم و النظر و دقة المطالب و غموضتها فقد يصل بعضهم الى الحكم الواقعي الاولى، و بعضهم الأخر إلى حكم مؤدى الأمارات، و الثالث إلى مؤدى الأصل، وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهٰا و لكل منهم حجة على اللّه تعالى و

عذر فيما وصل اليه و لكل منهم مؤمن من العقاب و لا يفضل أحدهم على الأخر في تحصيل الحجة، و رأى كل منهم حجة و معذر في حق نفسه

______________________________

(1) الدرر الملتقاط تقريرنا لبحث أستادنا العلامة الخمينى دام ظله في الاجتهاد و التقليد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 194

..........

______________________________

و حق مقلديه و يكون مؤمنا من العذاب.

و بالجملة الواجب على العقلاء في باب الاحتجاج تحصيل الحجة و المؤمن من العقاب لا الوصول الى خصوص الأحكام الأولية، و جميع الفقهاء شرع سواء في ذلك من غير تفضيل لأحدهم بالنسبة إلى الأخر فيصح للعقلاء المراجعة الى اى من الفقهاء «1».

و نوقش أولا: بان ما ذكره (قدس سره) خارج عن موضوع البحث لأنه لم يكن البحث في ان الفقهاء مقصرون في الاستنباط حتى يقال: ان لكل من الفقهاء حجة بينه و بين اللّه تعالى أو يكون معذورا في فتواه، و ان كان مخالفا للواقع حتى تصح المراجعة إليهم، بل موضوع البحث في انه مع هذه الاختلافات الكثيرة بين الفقهاء كيف تصح المراجعة إليهم، و لو اطلع العقلاء على وجود الاختلاف الكثير فلا يكادون يراجعون الى خبرائهم، فالجواب لا يلائم الاشكال.

و ثانيا: انه لو سلم ان نظر العقلاء في مثل المقام تحصيل الحجة و العذر لا اصابة الواقع لكنهما يتوقفان على إلغاء احتمال الخطاء في اجتهاد المجتهد في استنباط الأحكام الأولية حتى يصير فتاويه مع هذه الإلغاء في عداد سائر الأمارات العقلائية و لا يكاد يمكن الإلغاء مع هذه الاختلافات الكثيرة.

و قد ثبت في محله ضعف جعل المماثل على طبق الامارة و غاية ما في الباب الطريقية، و معذرية الطرق و الأمارات بالنسبة إلى

الأحكام الواقعية انما هو للمجتهد لا المقلد لان مبني عمله انما هو فتوى المجتهد لا الأمارة التي تبين خطائها، و فتاويه لا يكون معذرا للغير إلا إذا كانت كسائر الأمارات العقلائية قليلة الخطاء كثيرة الإصابة و المفروض ان كل مجتهد يحكم بخطاء مخالفه لا بتقصيره، و معه كيف يمكن حجية فتوى الفقيه.

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 195

الجواب الحقيق عن الاشكال

______________________________

و لكن الذي يمكن ان يقال في دفع الاشكال هو الذي ذكرناه في الأمر الثاني مما تقدم أنفا و حاصله:

معلومية هذا البناء من المتشرعة طول الغيبة و رجوع أيتام آل محمد صلّى اللّه عليه و آله الى فقهائهم العدول مع ما هم عليه من الاختلاف، و هي دليل على رضاء الشارع الأقدس به فالعمل على فتاويهم مع ما هم عليه من الاختلاف الكثير كما انه إذا كان هذا النحو من الاختلاف موجودا في الصدر الأول، و لم يردع عنه، يكشف رضاهم به فالرجوع الكذائي مع ابتنائه على مقدمة خطائية مرضىّ عند الشارع الأقدس.

نعم يبقى الإشكال: في ان حجية فتوى الفقيه على هذا هل هو من باب الامارة و إلغاء احتمال الخلاف كسائر الأمارات، أو من باب الأصول؟.

و لا يبعد ان يقال ان بناء المتشرعة على أخذ الفتوى من باب الكاشفية، و الأمارية و هي التي عليها الطريقة المألوفة و السنة العملية في رجوع جاهل كل صنعة إلى العالم بها. فمقتضى سكوت الشارع و عدم ردع هذه الطريقة في المقام إمضاء لما عليه المتشرعة، مع مقدمة خطائية- و هي عدم علمهم بهذه الاختلاف الكثير.

و بالجملة الشارع الأقدس امضى الطريقة المألوفة، بالسكوت، و عدم الردع بما

هم عليه، بحسب ما هم عليه بحسب اعتقادهم، و لو كان اعتقادهم خطأ، و ليس هو إلا الطريقية و لازم ذلك جعل الشارع، إياها أمارة شرعية مجعولة.

أو يقال ان فتوى الفقيه بمنزلة الأصل في المسئلة الأصولية نظير ما يقال في الخبرين المتعارضين فكما انه يحتمل ان يكون ظاهر أدلة التخيير هو التوسعة للجاهل بالواقع بالأخذ بأحد الخبرين فيكون مفادها تعيين الوظيفة لدى الشك في الواقع فيكون من قبيل الأصل المعول عليه لدى الشك، فلا ينافي ذلك كون أحد الخبرين حجة على الواقع لأن الحجة على الواقع غير الامارة عليه كما انه لو أوجب الاحتياط

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 196

..........

______________________________

في الشبهة البدوية يصير حجة على الواقع و لا يكون طريقا إليه لأن نسبته الى الواقع و مقابله على السواء.

فكذلك نقول في المقام فتكون فتوى الفقيه مع هذه الاختلافات الكثيرة أصل و حجة على الواقع فعلى هذا يشكل حجية فتوى الفقيه بالنسبة إلى لوازمه و ملزوماته العادية.

هذا كله في الموقف الأول في التقليد، و هو جواز التقليد و مشروعيته و قد ظهر لك بحمد اللّه مشروعية التقليد بعرضها العريض بل وجوبه لغير المتمكن من الاجتهاد أو الاحتياط.

بقي الكلام في.

الموقف الثاني

اشارة

و هو ان التقليد هل يكون عبارة عن العمل بقول الغير، أو الالتزام بالعمل بقول الغير، أو غيرهما؟ فنقول.

معنى التقليد لغة

التقليد لغة جعل شخص، أو غيره، ذا قلادة يقال قلدت الفتاة: إذا جعلت القلادة في جيدها، قلدها السيف: إذا جعل حمالته في عنقها، قلد البعير: إذا جعل في عنقه حبلا يقاد به، و منه تقليد الهدى في الحج لان المحرم يجعل البعير مثلا ذا قلادة بتعليق النعل عليه ليعلم أنه هدي فيكفّ عنه، و في الحديث يقلدها بنعل قد صلى فيه، و منه كما في مجمع البحرين في حديث الخلافة: قلدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام: اى ألزمه بها بجعلها في رقبته و ولاه أمرها.

اختلاف العبارات في معنى التقليد الاصطلاحي

و اما اصطلاحا فاختلف عباراتهم فيه.

فقال بعض كما عن النهاية، و المعالم، و شرح المختصر ان التقليد هو العمل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 197

..........

______________________________

بقول الغير من غير حجة، و مطالبة دليل، و في رسالة تقليد شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) عن بعضهم نسبته الى علماء الأصول.

و قال أخر: كما عن جامع المقاصد: انه قبول قول الغير. و عن فخر المحققين: اضافة في الأحكام الشرعية من غير دليل على خصوص ذلك الحكم.

و قال ثالث: كما عن الفصول، و الكفاية: انه عبارة عن الأخذ بقول الغير قال في الكفاية: التقليد و هو أخذ قول الغير و رأيه للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبدا بلا مطالبة دليل على رأيه.

و قال رابع: كما ذهب اليه الماتن هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين و ان لم يعمل بعد، بل و لو لم يأخذ.

و قال خامس: انه تعلم الفتوى للعمل.

و قال سادس: انه عبارة عن منابعه قول الغير، و رأيه.

و قال سابع: انه عبارة عن الالتزام و التعلم كليهما.

فهل الاختلاف

في ذلك مجرد الاختلاف في التعبير و ان مرجع جميع التعاريف إلى أمر واحد، و هو تطبيق العمل- الحركات و السكنات- على قول الغير بإرجاع الكل الى العمل فيكون المراد من الأخذ و القبول في مقام العمل، و المراد بالالتزام و التعبد بمقتضاه كما هو ظاهر لفظي الأخذ و القبول، و لذا نسب القول بكون التقليد العمل بقول الغير الى علماء الأصول.

أو ان ذلك اختلاف في المعنى و ان المراد من الأخذ بقول الغير، و قبوله هو الانقياد له، و جعله حكما، في حق نفسه و التوطين على العمل به عند الحاجة.

أو انه لا ذاك، و لا ذلك، بل الاختلاف في بعضها في التعبير، و في بعضها الأخر في المعنى وجوه بل أقوال.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 198

كلمة من سيد مشايخنا في ان اختلاف كلمات الأصحاب ليس في معنى التقليد

______________________________

صرح سيد مشايخنا في المستمسك بان الاختلاف في الجميع في التعبير قال ما نصه:

«هذا الاختلاف و ان كان بدوا ظاهرا في الاختلاف في معنى التقليد، و مفهومه الا ان عدم تعرضهم للخلاف في ذلك، مع تعرضهم لكثير من الجهات غير المهمة يدل، على كون مراد الجميع واحدا و ان اختلافهم بمحض التعبير» «1».

وجوه الاشكال فيما افاده سيد مشايخنا

و لا يخفى ما فيه أولا:

كما في رسالة تقليد شيخنا الأنصاري (قدس سره) لتصريح بعضهم بتحقق التقليد بأخذ الفتوى للعمل عند الحاجة و ان لم يعمل بعد «2».

و ثانيا: كما فيها أيضا أنهم فرعوا على الخلاف في معنى التقليد بعض أحكامه و مسئلة البقاء على تقليد الميت فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بالعمل بفتواه «3» و هكذا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي، فيما إذا كان الثاني مساويا للأول، أو مفضولا فإنه لا يجوز العدول عن الأول الى الثاني بعد الالتزام، و هذا بخلاف ما إذا قلنا ان التقليد هو العمل بقول الغير فإنه لا يجوز البقاء على تقليد الميت، و يجوز العدول عن الحي إلى الحي حينئذ لعدم تحقق التقليد في الفرض.

و ثالثا: بأنه كيف يكون الاختلاف بمجرد التعبير مع تصريح المحقق الخراساني (قدس سره) الذاهب الى كون التقليد هو الأخذ بقول الغير، و رأيه فإنه لا وجه

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 11.

(2) رسالة التقليد/ 45.

(3) رسالة التقليد/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 199

..........

______________________________

لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه و الا كان بلا تقليد. و تصريح بعضهم.

بان القول بكون التقليد عنوانا للعمل و منتزعا منه يستلزم الدور في العبادات لأن مشروعية العمل العبادي و صحتها من المقلد- بالكسر- يتوقف على التقليد

لأنه لو لم يقلد لم يتمكن من الإتيان بها بما أنها مأمور بها حتى يقع عبادة، فلو كان التقليد متأخرا عن العمل و منتزعا منه (لعدم تحقق التقليد حسب الفرض الا بالعمل) لزم الدور و ذلك لان العامي إذا لم يقلد لا يتمكن من الإتيان بصلاة الجمعة مثلا بما انها واجبة و مبرئة للذمة فإذا توقف تحقق تقليده على الإتيان بتلك الصلاة لزم الدور فظهر مما ذكرنا ان القول بكون مرجع التعاريف المذكورة للتقليد الى الاختلاف في التعبير لا يمكن المساعدة عليه.

الأقوال الأصيل في معنى التقليد ثلاثة

نعم يمكن إرجاع بعض التعاريف الى بعض وعد الأقوال الأصلية في المسئلة ثلاثة.

الأول: ما ذهب اليه الماتن (قدس سره) من ان التقليد هو الالتزام بالعمل و لعله اليه يرجع القول بكونه عبارة عن قبول قول الغير، أو القول بأنه متابعة قول الغير، و رأيه.

الثاني: ما ذهب اليه صاحبا الفصول و الكفاية من انه عبارة عن الأخذ بقول الغير و رأيه للعمل به في الفرعيات إلخ. و لعله اليه يرجع القول بكونه عبارة عن أخذ الرسالة للعمل بها، أو تعلم الفتوى للعمل بها.

الثالث: ما ذهب اليه جمع من الأساطين و هو كونه عبارة عن نفس العمل مستندا إلى رأي الغير.

إذا عرفت وجود الخلاف في معنى التقليد فلا بد من التنبيه على ان التقليد اى واحد منها كما انه لو لم يكن الخلاف فيه الأمن جهة التعيير لا يهم البحث و التنقيب على انه اى منها فنقول:

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 200

الوجوه التي يستدل بها لكون التقليد عبارة عن الأخذ و الالتزام و تزييفها

______________________________

يظهر من بعضهم، بل صرح بعضهم بعدم كون التقليد عنوانا للعمل متنزعا منه بل عبارة عن الأخذ، أو الالتزام للعمل فيكون سابقا على العمل.

و ما يمكن ان يستدل لمقالهم وجوه.

الوجه الأول: ما عن الفصول و وافقه المحقق الخراساني فقال في الكفاية:

«ان التقليد هو الأخذ بقول الغير و رأيه للعمل الى ان قال و لا يخفى انه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه و الا كان بلا تقليد» «1».

أفيد في بيانه: «بأنه لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل على طبق فتوى الغير فأول عمل يصدر من المكلف يصدر من غير تقليد، لان ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الذي هو العمل، مع ان العمل لا بد و ان

يكون مسبوقا بالتقليد، لان المكلف لا بد ان يستند في اعماله إلى الحجة. فكما ان المجتهد يستند الى اجتهاده، و هو أمر سابق على عمله فكذلك العامي لا بد ان يستند الى التقليد، و يلزم ان يكون تقليده سابقا.

عليه» «2».

و بالجملة: العمل مسبوق بالتقليد دائما، و لذا قال بعضهم و منهم الماتن (قدس سره) بان التقليد عبارة عن الالتزام بالعمل بقول المجتهد، و قال أخر و منهم المحقق الخراساني (قدس سره) انه أخذ قول الغير و رأيه في الفرعيات أو الالتزام به تعبدا بلا مطالبة دليل على رأيه.

و رده المحقق الأصفهاني (قدس سره): «بان التقليد عنوان للعمل استنادا إلى رأي الغير، و لا تقابل بين الاجتهاد، و التقليد حتى يكون سبق الأول على العمل موجبا لسبق الثاني عليه، بل التقابل بين عمل المجتهد و عمل المقلد، فالعمل المستند إلى

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 434.

(2) التنقيح ح 1/ 79.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 201

..........

______________________________

ما حصله من المدرك عمل المجتهد، و العمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلد» «1» و بعبارة أخرى كما سنشير اليه: ان التقليد عنوان ينطبق على نفس العمل نظير عنوان التعظيم الذي ينطبق على نفس القيام مثلا، فالتقليد أمر مقارن مع العمل و لا يعتبر فيه السبق زمانا، فاذا عمل المكلف عملا مستندا الى فتوى الغير كان ذلك العمل مقرونا بالتقليد لا محالة و هو كاف في صحته، و لا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل.

و بالجملة لم يرد دليل على لزوم مسبوقية العمل بالتقليد و انما الواجب سبق تحصيل الحجة على العمل، فعلا كان أو تركا، تحصيلا للمؤمن من العقاب.

الوجه الثاني: ما هو مستفاد

من الوجه الأول، كما ان جوابه لائح مما ذكرناه في دفعه، و لا بأس بافراده بالذكر و حاصله.

ان الاجتهاد و التقليد متقابلان، و الاجتهاد هو أخذ الحكم عن المدرك، و التقليد هو أخذه لا عن المدرك، فكما ان الاجتهاد متقدم على العمل فكذلك التقليد ورد بأنه لم يدل دليل على تقابل الاجتهاد، و التقليد بهذا المعنى، نعم هما متقابلان على نحو تقابلهما للاحتياط الذي هو عنوان للعمل قطعا.

و بالجملة كما أشرنا أن التقابل بين عمل المجتهد و عمل المقلد، فالعمل المستند الى ما حصله من المدرك عمل المجتهد، و العمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلد.

الوجه الثالث: ما عن صاحب الفصول من استلزام القول بكون التقليد عبارة عن العمل الدور في العبادات لان وقوع العبادة يتوقف على قصد القربة، و هو يتوقف على العلم بكونها عبادة، فلو توقف العلم بكونها عبادة على وقوعها، كان دورا.

و بعبارة أخرى أفاده شيخنا الأعظم (قدس سره):

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 10.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 202

..........

______________________________

«انه لو كان التقليد هو العمل امتنع ان يقع العمل على جهة الوجوب، أو الندب، إذا كان مما اختلف فيه المجتهدون كغسل الجمعة، بل امتنع ان يقع مشروعا إذا كان مما اختلف في مشروعيته، كصلاة الجمعة في زمان الغيبة، و صلاة القصر في أربع فراسخ، فان وقوع العمل على صفة الوجوب بل المشروعية لا يتحقق الا بالتقليد، فلو توقف تحقق التقليد على العمل لزم الدور، و تسليم توقفه على الأخذ بالفتوى و منع صدق التقليد كما ترى» «1».

ورده الشيخ (قدس سره) في الرسالة.

«بأن مشروعية العمل، أو وجوبه يتوقف على وقوعه على جهة التقليد لا على سبق التقليد فاذا

فرضنا ان هنا مجتهدين أحدهما يرى وجوب الجمعة، و الأخر يرى وجوب الظهر فالمكلف يتخير بين إيقاع الجمعة وجوبا على جهة التقليد للأول و بين إيقاع الظهر كذلك على جهة التقليد، للثاني.

و كذا الكلام في غسل يوم الجمعة فإنه يتخير بين إيقاعه وجوبا على جهة التقليد لموجبه، و بين إيقاعه ندبا على جهة التقليد لناويه فلا يتوقف العمل على سبق صفة الوجوب له، بل يكفى ان يكون للمكلف أن يأتيه على وجه الوجوب فافهم» «2».

و بعبارة أخرى كما أفيد: «مشروعية العمل لا تتوقف على التقليد بل تتوقف على الاستناد إلى الحجة الدالة على المشروعية كفتوى المجتهد فاذا افتى بوجوب صلاة الجمعة و علم بها المقلد يمكنه إتيان الصلاة بما انها واجبة تعبدا و نفس الصلاة المأتي بها كذلك يصدق عليها عنوان التقليد فلا دور» «3».

فظهر مما تقديم انه: لا محذور في القول بكون التقليد عبارة عن العمل المستند الى المجتهد و لم يستلزم القول به اى محذور- من الدور و غيره- و اللّه العالم

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 45/ 46.

(2) رسالة التقليد/ 45/ 46.

(3) الدروس ج 1/ 37.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 203

..........

______________________________

فحان التنبيه: على المعنى المناسب لمفهوم التقليد و ما هو المستفاد من الأدلة فنقول:

حكم العقل بكون التقليد عبارة عن العمل المستند

المناسب لمعنى التقليد لغة و المستفاد من الأدلة هو القول بكون التقليد عبارة عن العمل، دون القول بكونه الالتزام، أو الأخذ، أو التعلم.

نعم ربما يكون الالتزام و التعلم من مقدمات تحقق التقليد لا التقليد نفسه كما سنشير اليه.

و ذلك لان غاية ما يقتضيه العقل هو ان المكلف العاجز عن الاستنباط لا بد له من تفريغ ذمته بالنسبة الى ما اشتغلت ذمته و ذلك يحصل

بالعمل على طبق فتوى المجتهد دون مجرد الالتزام بفتواه، أو الأخذ بفتواه ضرورة انه بمجرد ذلك لم يؤد الوظيفة، و لم يفرغ ذمته بخلاف ما إذا عمل على طبقه فإنه يكون مؤديا للوظيفة، و مفرغا للذمة.

نعم الالتزام أو التعلم، ربما يحتاج إليهما في تحقق التقليد و هو العمل بفتوى المجتهد.

هذا ما يقضيه حكم العقل في باب الامتثال.

بناء العقلاء على العمل برأى الغير

و كذا سيرة العقلاء في باب التقليد على ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) فقال:

«ان سيرة العقلاء- حفظا لنظام أمورهم- استقرت على العمل على طبق رأى المجتهد، و العارف بشي ء، فالالتزام، أو الأخذ بالفتوى بوجودها العلمي، أو الكتبي، و ان كان من المقدمات لكنه أجنبي عن مقاصد العقلاء.

الأدلة اللفظية على كون التقليد عبارة عن العمل

و كذا مقتضى الأدلة اللفظية من الآيات، و الاخبار- على تقدير دلالتها على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 204

..........

______________________________

التقليد- فكذلك أيضا.

و ذلك لان غاية ما تدل عليه آية النفر- بناء على دلالتها على وجوب التقليد- هي لزوم الحذر عند الانذار و هو عنوان للعمل و هو الأمر القابل لتعلق الوجوب به و هو الذي يقتضيه الخوف عادة، دون الالتزام، أو الأخذ بوجوده العلمي، أو الكتبي و كذا آية السؤال على تقدير الدلالة و ان كانت مسوقة لوجوب القبول بعد الجواب الا ان الواضح، ان المطلوب في العمليات هو القبول عملا، لا جنانا فضلا عن الأخذ بوجوده الكتبي للعمل.

و كذا سائر الأخبار مما دل على جواز الإفتاء، و الاستفتاء، و الإمرة بالرجوع الى رواة الحديث فإنه يلازم القول عملا عرفا لا سائر أنحاء القبول إذ المفروض ان موردها العلميات المطلوب فيها العمل دون عقد القلب المطلوب في باب العقائد» «1».

و بالجملة لا يستفاد من أدلة الباب أكثر من حجية فتوى المجتهد في حق العامي في مقام العمل فهي امارة كسائر الأمارات المعتبرة شرعا التي تنجز الواقع عند الإصابة و معذرا عند عدمها فاللازم على العامي بحكم الشرع و العقل الاستناد الى الفتوى في مقام العمل في أفعاله و تروكه، فتفسير التقليد بالعمل مستندا الى قول المجتهد هو الموافق للادلة دون تفسيره بالالتزام

للعمل أو الأخذ له.

عدم أخذ عنوان التقليد موضوعا للحكم في شي ء من الأدلة إلا في خبر الاحتجاج

فبعد ما عرفت ان المستفاد من أدلة الباب هو لزوم استناد العامي في مقام العمل الى فتوى المجتهد فهو المتبع و مع ذلك لا نحتاج الى تجشّم صدق مفهوم التقليد لعدم ورود عنوان التقليد في شي ء من الأدلة موضوعا للحكم إلا في خبر الاحتجاج المروي عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام فان فيه ذلك بعد توصيف الفقيه الذي يرجع إليه بأوصاف بأنه: من كان من الفقهاء، صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه «2».

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 11.

(2) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 205

..........

______________________________

الا انه وقع الكلام في اعتباره و في دلالته على التقليد الذي نحن بصدد إثباته و هو التقليد في الأحكام الشرعية العملية.

تفسير التقليد بالعمل المستند انسب بمعناه اللغوي و العرفي

و مع ذلك كله نقول: ان المعنى الذي ذكرناه للتقليد انسب بمعناه اللغوي و العرفي من تفسيره بالالتزام و الأخذ.

و ذلك لما عرفت ان التقليد لغة جعل شخص، أو غيره ذا قلادة، و العامي بتقليده مجتهدا و استناده إليه في مقام العمل، كأنه يجعل أعماله قلادة في رقبته، لأنه في عاتقه و عهدته و لا يناسب ذلك تفسير التقليد بالأخذ أو الالتزام.

اما الأخذ فظاهر ضرورة انه لا مناسبة بين أخذ الفتوى للعمل و لم يعمل بعد و بين معناه اللغوي و ذلك واضح إلى النهاية.

إشكال في عدم ملائمة الالتزام لمعنى التقليد و تزييفه

و اما الالتزام فمرجع تقليد المجتهد الى ان العامي بالتزامه بفتوى المجتهد يجعل فتاويه كالقلادة في عنقه فعلى هذا يكون العامي مقلدا- بالفتح- و يصح إطلاق المقلد- بالكسر- على المجتهد، و هو كما ترى خلاف المنساق، و خبر الاحتجاج يصرح بأنه- للعوام ان يقلدوه- كذا أفيد.

و لكن فيه ان مجرد ذلك لا يستلزم إطلاق المقلد- بالكسر- على المجتهد و المقلد- بالفتح- على العامي على العكس مما هو المتعارف.

ضرورة أن العامي هو الذي يلتزم و يجعل فتاوى المجتهد قلادة في عنقه، فالعامى مقلد- بالكسر- من جهة و ان كان مقلدا- بالفتح- من جهة أخرى فكان العامي يزين نفسه و شخصه بالتزامه بالعمل بفتوى المجتهد.

فاذا إطلاق المقلد- بالفتح- على المجتهد لا تخلو عن تسامح.

فظهر ان المناسب لمعنى التقليد لغة هو تفسيره بالعمل فإن العامي كأنه يجعل أعماله قلادة في رقبة المجتهد، و في عاتقه و عهدته.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 206

دلالة بعض الاخبار على ان اعمال العامي في عهدة المفتي و عاتقه

______________________________

و قد أشير الى هذا المعنى في عدة اخبار.

منها: صحيح عبد الرحمن بن ابى الحجاج، قال:

كان أبو عبد اللّه عليه السّلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي، فسئل ربيعة الرأي عن مسئلة فأجابه، فلما سكت قال له الأعرابي، اهو في عنقك فسكت عنه ربيعة، و لم يرد عليه شيئا فأعاد المسئلة عليه، فأجابه بمثل ذلك فقال له الأعرابي:

ا هو في عنقك؟ فسكت ربيعة فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام هو في عنقه قال، أو لم يقل، و كل مفت ضامن «1».

و منها: ما عن دعائم الإسلام، و سئل رجل ربيعة بن ابى عبد الرحمن عن مسئلة فأجابه ربيعة قال له الأعرابي.

ان أنا فعلت ما أمرتني فهو في عنقك، فسكت

ربيعة، فردد ذلك عليه مرارا لا يجيبه، و أبو عبد اللّه جعفر بن محمد عليه السّلام سمعه، فقال يا أعرابي، هو في عنقه قال أو لم يقل «2».

و منها: خبر ابى عبيدة قال:

قال أبو جعفر عليه السّلام من افتى الناس بغير علم، و لا هدى من اللّه، لعنته ملائكة الرحمة، و ملائكة العذاب، و لحقه، وزر من عمل بفتياه «3».

و عن دعائم الإسلام عنه عليه السّلام مثله «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 2.

(2) مستدرك الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 3.

(3) الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 1.

(4) مستدرك الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 207

..........

______________________________

و منها: خبر إسحاق الصيرفي قال:

قلت: لأبي إبراهيم عليه السّلام ان رجلا أحرم فقلم أظفاره، و كانت له إصبع عليلة فترك ظفرها لم يقصه فأفتاه رجل بعد ما أحرم فقصه فأدماه فقال: على الذي افتى شاة «1».

و منها: خبر إسحاق بن عمار قال:

سئلت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل نسي ان يقلم أظفاره عند إحرامه قال يدعها قلت فان رجلا من أصحابنا أفتاه بأن يقلم أظفاره، و يعيد إحرامه، ففعل قال عليه دم يهريقه «2».

و رواه الشيخ بإسناده نحوه و زاد: قلت فإنها طوال قال: و إن كانت (طوالا، ن ل).

و قد أورد شيخنا الشهيد في منية المريد في آداب الفتوى و المفتي و المستفتي ما يقطع المقال فقال:

«ان الفتوى مع كونه واجبا كفائيا ذا أجر كثير لكنه عظيم الخطر معرض للخطاء، و الخطر، و ربما يوجب هلاك نفسه و إهلاك غيره و قد كان أصحاب رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و التابعين يجتنبون عن الإفتاء مهما أمكنهم الى أخر ما ذكره فلاحظ و تأمل» «3».

تأييد لكون التقليد نفس العمل

و مما يؤيد كون التقليد نفس العمل قولهم يحرم على المجتهد تقليد غيره، و يحرم على العامي تقليد غير المجتهد فان متعلق التحريم ليس الا الفعل المنطبق على رأى الغير. لا مجرد العلم برأيه، أو الالتزام و البناء القلبي عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب 13 من أبواب بقية كفارة الإحرام ح/ 1.

(2) الوسائل باب 13 من أبواب بقية كفارة الإحرام ح/ 2.

(3) منية المريد/ 289 من الطبعة الحديثة الجيدة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 208

..........

______________________________

كما يؤيد أيضا: تصحيحهم عمل العامي غير الملتفت إذا طابق عمله لفتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده.

و ذلك لأنه- كما سنذكره ذيل المسئلة السادسة عشر- ان العامي و ان لم يستند إلى الحجة حال العمل، و لكن حيث ان التقليد ليس عنوانا تعبديا و لا قصديا بل ليس الا طريقا الى تطبيق عمله على رأى مجتهد، فاذا طابق عمله لفتوى مجتهده واقعا و انكشف عنده يكفيه ذلك، و ان لم يكن له التزام، و أخذ، بل و لا استناد، فيستفاد ان المهم في المقام هو العمل لا الالتزام، و الأخذ كما لا يخفى.

هذا كله فيما إذا اتحد المجتهد لأنه بانحصار الحجة في رأيه يتحقق بالعمل على طبق فتواه.

و كذا إذا تعدد المجتهدون، و لكن اتفقوا في الرأي- سواء تساويا في الفضيلة أو اختلفوا فيها- لأن الحجة هي المجتهد على نحو صرف الوجود المنطبق على الواحد، و المتعدد، كما هو الشأن في الطرق، و الأمارات بالنسبة إلى المجتهد فيما إذا تعدد خبر الواحد مثلا، و اتفقت في المضمون، و لا

حاجة عند ذلك الى الالتزام بتطبيق العمل على رأى واحد منهم بالخصوص لعدم المرجح.

و بالجملة إذا اتفقت في الفتوى، فالظاهر انه لا دليل على تعيين واحد منهم فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم و أدلة حجية الفتوى كأدلة حجية خبر الواحد بنحو صرف الوجود الصادق على الواحد و المتعدد.

فكما لو تعدد الخبر الدالة على حكم معين كما يكون الجميع حجة على ذلك الحكم، فكذلك يكون البعض حجة عليه، و لا يجب تعين واحد منها معينا، أو مرددا، فكذلك لو تعددت الفتوى، فان الواقع مكشوفا بالحجة.

عدم أخذ التعين للمجتهد في مفهوم التقليد

فبما ذكرنا ظهر ضعف أخذ التعين للمجتهد في مفهوم التقليد خلافا لما في المتن حيث صرح (قدس سره): ان التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين إلخ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 209

..........

______________________________

و اما إذا تعدد المجتهدون و اختلفوا في الفتوى فهل يتوقف التقليد في هذا الحال على الالتزام بالعمل على طبق احدى الفتاوى، أو ينتزع عنوان التقليد عن نفس الالتزام في هذه الصورة لحكم العقل بلزوم الحجة على الامتثال الأحكام الشرعية وجهان بل عن بعضهم: ان الخلاف في ان التقليد هل هو العمل، أو الالتزام انما هو فيما إذا اتحد المجتهد، أو تعددوا و اتفقوا في الفتوى، و اما مع التعدد، و الاختلافى الفتوى فلا ينبغي التردد في انه يجب الالتزام بإحدى الفتويين، أو الفتاوى لان موضوع الحجة لا يتحقق حينئذ إلا بالالتزام و هو مقدمة لتطبيق العمل على طبقها.

و ذلك لأنه بعد ما كانت حجية الفتوى بنحو الطريقية يمتنع ان يكون جميع الفتاوى حجة لديه لاستلزامه التكاذب، و الجمع بين المتنافيين، و لا واحد معين، لأنه ترجيح بلا مرجح، و لا الحكم

بالتساقط، و الرجوع الى غير الفتوى لأنه خلاف السيرة، و الإجماع.

فإذا يتعين ان تكون الحجة ما يختاره المكلف و يلتزم به، فالحجة عند اختلاف الفتوى هو أحدها تخييرا و لا يكاد يحصل التمييز الا بالاختيار، و الالتزام.

و فيه: ان غاية ما يقتضيه الالتزام بإحداهما أو احداها، ليكون حجة تعينيية عليه:

هي عدم وجوب الاحتياط على العامي، و انه إذا استند في عمله إلى إحدى الفتويين أو الفتاوى كان معذورا في مخالفة الواقع إذا تحققت و أين هذا من لزوم الالتزام بالفتوى قبل العمل لتكون الحجية دائرة مداره؟.

و ان أبيت إلا عن لزوم تحقق الالتزام، و الاختيار فنقول: ان وجوب ذلك في المفروض مقدمة لتحصيل الحجة فيكون الالتزام، و الاختيار، مقدمة للتقليد لا انه عينه فتدبر.

هذا كله في حقيقة التقليد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 210

..........

______________________________

توهم ابتناء جواز البقاء على تقليد الميت أو جواز العدول من الحي إلى الحي على كون التقليد هو الالتزام دون العمل و دفعه.

و اما ما قد يتفرع على تفسير التقليد بالالتزام في مسئلة عدم جواز العدول من الحي إلى الحي و جواز البقاء على تقليد الميت.

فقد يتوهم انه لو قلنا بان التقليد عبارة عن الالتزام لجاز البقاء على تقليد الميت فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بالعمل بفتواه و لكن لم يعمل بعد، و هكذا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي فيما إذا كان الثاني مساويا للأول أو مفضولا فإنه لا يجوز العدول عن الأول الى الثاني بعد الالتزام.

و هذا بخلاف ما إذا قلنا بان التقليد هو العمل بقول الغير فإنه لا يجوز البقاء على تقليد الميت في المفروض لعدم تحقق التقليد فيما لم يعمل به،

و يجوز العدول عن الحي حينئذ لعدم تحقق التقليد على الفرض.

و لكنه مدفوع بما سيجي ء ان جواز البقاء، و حرمة العدول، لا يدور مدار كون التقليد هو الالتزام للعمل، بل المتّبع في ذلك هو ما تقتضيه القواعد، و إطلاقات أدلة حجية الفتوى من الآيات، و الاخبار، و السيرة و سيأتي ذكرها في ذيل المسئلة التاسعة، إذ ليس عنوان البقاء، أو العدول بمفهومهما واردين في لسان الأدلة كي يلحظ تحقق مفهوم البقاء، أو العدول في مورده، و عدم تحققهما فيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 211

[مسئلة 9- تقليد الميت ابتداء و استدامة]

اشارة

مسئلة 9- الأقوى جواز البقاء (1) على تقليد الميت (2) و لا يجوز تقليد الميت ابتداء

______________________________

(1) لو أخر ذكر مسئلة البقاء عن مسئلة تقليد الابتدائي كان اولى.

(2) بل وجوبه على الأقوى في المسائل التي عمل بها، إذا كان الميت اعلم، على تفصيل يأتي في مسئلة تقليد الأعلم، و وجوب العدول من الميت على الأقوى إذا كان الحي أعلم. و اما في صورة تساوى الميت مع الحي في الفضيلة فالأحوط الأولى العدول إلى الحي، و لا يخفى ان التقييد في الحقيقة بناء على ما ذكرنا- من ان التقليد عبارة عن تطبيق العمل على فتوى المجتهد- يرجع الى تحقق موضوع البقاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 212

الأقوال في تقليد الميت

______________________________

أقول: اختلفوا في اعتبار الحيوة فيمن يرجع إليه في التقليد، و عدمه على أقوال ثالثها التفصيل بين التقليد الابتدائي و الاستمراري فاعتبر في الأول دون الثاني يتفرع على القول باعتبار الحيوة مطلقا عدم جواز تقليد الميت مطلقا، كما انه يتفرع على القول بعدم اعتبارها كذلك جواز تقليد الميت مطلقا، كما انه يتفرع على القول الثالث عدم جواز تقليد الميت ابتداء و جواز بقائه بالمعنى الشامل للوجوب تحقيق الأمر في المسئلة يستدعي البحث أولا في اعتبار الحيوة ابتداء فيمن يرجع إليه في الفتوى، و عدمه، ثم لو تم اعتبار الحيوة في المرجع ابتداء يقع الكلام في اعتبارها بقاء فالكلام يقع في موقفين.

الموقف الأول في اعتبار الحيوة فيمن يرجع إليه في التقليد و عدمه ابتداء.

اشارة

قبل الشروع في أدلة المسئلة ينبغي الإشارة إلى بيان مقتضى الأصل فيها ليكون مرجعا عند قصور أدلة الأطراف.

[تمهيد]
تقرير الأصل الاولى في الامارة التي لم تقم دليل على اعتبارها

قرر في محله ان الأصل الاولى في كل امارة غير علمي عدم حجيتها جزما- بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة (من التنجيز، و التعذير، و الإطاعة، و العصيان، و الانقياد، و التجري) عليها- و لا يكاد تتصف بالحجية إلا إذا أحرز التعبد بها، و جعلها طريقا متبعا، ضرورة انه لا تصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 213

..........

______________________________

اصابته، و لا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها، و لا تكون مخالفته تجريا، و لا تكون موافقته بما هي موافقة انقيادا، و ان كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك، إذا وقعت برجاء اصابته، فمع الشك في التعبد بها يقطع بعدم حجيتها، و عدم ترتيب شي ء من الآثار عليه للقطع بانتفاء موضوعه.

و قال المحقق الخراساني (قدس سره) بعد تقرير الأصل بما ذكرنا.

«لعمري هذا واضح لا يحتاج الى مزيد بيان و اقامة برهان» «1».

توصيف الأصل الاولى عند الشك في اعتبار الحيوة

فعلى هذا: لو شككنا في اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى و حجية فتواه فالقدر المتيقن من أدلة مشروعية التقليد هو جواز تقليده حيا فلا يصح تقليد الميت، و لا تكون فتواه حجة للمكلف بينه و بين اللّه تعالى.

تقرير الأصل الاولى بنحو أخر و النقاش فيه

و قد يقرر الأصل بأنه بعد ما ثبت عدم وجوب امتثال الأحكام الشرعية بالعلم الوجداني، أو الاحتياط بل عدم جواز الاحتياط إذا أوجب اختلال النظام، و صحة الاتكال بالغير، و من له الحجة في الجملة- بأدلة مشروعية التقليد- إذا شك في اعتبار الحيوة فيمن له الحجة، فيدور الأمر بين تقليده حيا، و تقليده ميتا.

فلو قلده حيا يعلم بفراغ ذمته عما اشتغلت ذمته به لان فتواه أما حجة تعينية- لاحتمال اشتراط الحيوة فيه- أو حجة تخييرية بينها و بين فتوى الميت- لعدم احتمال اشتراط الموت قطعا- بخلاف ما لو قلده ميتا فإنه لم يعلم بفراغ ذمته عنها بعد احتمال اعتبار الحيوة.

فيدور الأمر بين التعيين، و التخيير، و لا يخفى ان حكم العقل في دوران الأمر بين التعيين، و التخيير، التعيين خصوصا بالنسبة إلى الطرق، و مقام الامتثال حيث يرى ان الاشتغال اليقيني بالتكليف يستلزم الفراغ اليقيني منه.

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 55.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 214

..........

______________________________

فمع تطبيق العمل على الطريق الذي يحتمل تعينه يقطع بفراغ الذمة بخلاف ما لو طبق عمله على الطريق الأخر فإنه مشكوك فيه، و الشك في الحجية في مقام الاحتجاج مساوق للقطع بعدم الحجية.

و لكن أستادنا العلامة الخمينى دام ظله ناقش في التقرير: بأنه لا ينفع للزوم الأخذ بفتوى الحي مطلقا حتى إذا كان الميت اعلم و انما ينفع إذا تساوى الحي و الميت من جميع الجهات

غير جهة الحيوة كما لا يخفى.

و ذلك لأنه إذا كان الميت اعلم من الحي مثلا فبمجرد احتمال اعتبار أمر تعبدي لا يوجب لزوم المراجعة إلى الحي مع مساعدة الاعتبار لتقديم فتوى الأعلم لكونه أحسن استنباطا، و أجود دركا من غيره.

بل ربما يعكس الأمر و يتعين الأخذ بفتوى الأعلم، لأن اعتبار حياة المفتي، لو ثبت فإنما هو بشرط تعبدي، بخلاف اعتبار الأعلمية فإنه لو كانت فإنما هو شرط اعتباري، عقلي.

و الحاصل انه لو كان الميت واجدا لبعض الخصوصيات يخرج المفروض في مثله من دوران الأمر بين التعيين و التخيير، بل يكون من باب التعيينين فكما يحتمل تعيّن المراجعة إلى الحي يحتمل تعيّن المراجعة إلى الأعلم فالأصل لا ينفع في جميع الموارد حتى فيما إذا كان الميت اعلم.

توجيه الأصل بنحو، و دفع ما توهم في المقام

الا ان يقال لتتميم الأصل في جميع الموارد بأنه لم يقل أحد من الفقهاء، و من واضحات فقه الإمامية، عدم تعيّن المراجعة إلى الميت الأعلم ابتداء.

و بالجملة لم يفت أحد بتعيّن تقليد الميت الأعلم.

فإذا ثبت ذلك، فنقول جواز الرجوع الى المجتهد الحي، مما تسالم عليه الأصحاب، من زمن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، الى زماننا هذا طبقة بعد طبقة، فلو احتمل اشتراط الحيوة في المفتي يكون من باب التعيين و التخيير.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 215

..........

______________________________

و توهم: ان ما يحكى عن المحقق القمي (قدس سره) من وجوب العمل بأقوى الظنين يدل على وجوب تقليد الميت الأعلم ابتداء لكون الظن الحاصل من فتواه، أقوى منه، من الحي غير الأعلم.

مدفوع: بان قوله (قدس سره) بذلك، ليس لأجل لزوم تقليد الأعلم بما هو اعلم، بل من حيث ان هذا المحقق يرى انسداد باب العلم و العلمي،

بتوهم اختصاص الخطابات بمن قصد إفهامه فيعمل بكل ما يكون أقوى من غيره، و ان حصل من شي ء لم يكن حجة بخصوصه.

مضافا الى ان الأقربية في فتوى الأعلم مطلقا حتى في صورة مخالفة فتواه للمشهور أو الاحتياط ممنوعة كما لا يخفى.

فتحصل انه لم يظهر من المحقق القمي (قدس سره) وجوب تقليد الميت الأعلم بما هو اعلم «1».

فبعد ما عرفت مقتضى الأصل في المسئلة فلا بد للقول بعدم اعتبار الحيوة في المرجع من التماس دليل عليه، و اما القول الأخر- و هو اعتبار الحيوة فيه- ففي فسحة من ذلك.

نعم ان قام دليل اجتهادي على الاعتبار، فليشكر القائل به على تمام النعمة.

فالأولى تقديم ما تشبث القائل بعدم اعتبار الحيوة و عطف النظر فيه ثم الإشارة الى ما استدل به لاعتبار الحيوة فالكلام يقع في موردين.

المورد الأول فيما يتشبث به القائل بجواز تقليد الميت ابتداء.
اشارة

ذهب مخالفينا الى جواز تقليد الميت ابتداء، و لذا و لمصالح أخر، حصروا

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد، و الاجتهاد تقريرنا لبحث سماحة الأستاد دام ظله مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 216

..........

______________________________

التقليد في الفقهاء الأربعة في عصر علم الهدى المتوفى 436 ق.

وجه حصر مذاهب العامة في أربع

قد يقال: انه لما تكثرت الفروع بسبب كثرة المسلمين، و اختلاطهم، و بلحاظ عدم تمسكهم بأحد الثقلين، الذين أمروا باتخاذهما، و أتباعهما و التمسك بهما، و هو العترة الطاهرة، و ذهابهم يمينا و شمالا، و لم يكن بأيديهم إلا أحاديث رووها عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و لم يكن ذلك بحيث يرفع حوائجهم، و يدفع بها مهماتهم، و لذا مالوا إلّا القليل منهم «1» إلى الرأي و الاستحسان، زاعمين أن الشريعة معقولة المعنى و لها أصول محكمة، فهمت من الكتاب و السنة، فكانوا يبحثون عن علل الأحكام و ربط المسائل بعضها ببعض، و لم يمنعوا عن القياس برأيهم فيما لا يجدون نصا فيه و اشتهروا فأصحاب الرأي، و القياس، فكثرت الآراء بينهم، و اختلفت أنظارهم بقياساتهم، و استحساناتهم، فحصل الهرج و المرج بينهم و حصلت الفتنة بينهم بتكاذب كل فرقة، و جمعية تتبع فقيها فرقة و جمعية اخرى تابعة لفقيه أخر فكلما دخلت امة لعنت أختها، و وقعوا في حيص، و بيص شديد الى ان اجتمعوا في عصر علم الهدى في الأندلس، و ادعوا لإجماع على لزوم متابعة أربعة من فقهائهم، و عدم صحة متابعة غيرهم، بل حكموا بكفر متابعة غيرهم، و من ثمة قلدوا أشخاصا معينين من أموات علمائهم، فحصرت مذاهبهم في الأربعة المشهورة «2».

نظرية علماء الإمامية في تقليد الميت ابتداء

و اما أصحابنا الإمامية (رضوان اللّه عليهم) فقد نسب القول بجواز تقليد الميت ابتداء الى المحقق القمي «3» و صاحب الحدائق بل سائر الأخباريين.

______________________________

(1) و يعبر عنهم بأهل الظاهر بلحاظ افتائهم على النصوص، يقال ان أكثر أهل الحجاز كانوا من أهل الحديث.

(2) معالم الزلفى/ 17. التنقيح ج 1 ص و (6) من المقدمة.

(3) كما يظهر من

جامع الشتات/ 655 من الطبعة الثالثة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 217

..........

______________________________

و لكن المشهور بين أصحابنا عدم جواز تقليد الميت ابتداء، بل في كلمات غير واحد من الأعاظم، دعوى الإجماع عليه، و سنشير عند ذكر أدلة القائلين بعدم جواز تقليد الميت ما ينفع لتحقق الإجماع فارتقب حتى حين.

أدلة جواز تقليد الميت ابتداء
اشارة

ما قيل أو يمكن ان يقال لجواز تقليد الميت أمور.

الأول: السيرة العقلائية.
اشارة

قد يدعى استقرار سيرتهم قديما، و حديثا على رجوع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها، بل في كل ما يجهلونه في أمور معاشهم، و معادهم، و في مختلف العلوم و الموضوعات الخارجية إلى خبراء الفن و العالمين به، و لا يفرقون في ذلك بين كونهم حييين، أو ميتين، و من هنا تريهم لو مرض أحدهم و عرف مرضه، فربما يرجعون في علاجه الى بعض كتب ابن سينا، و محمد بن زكريا الرازي و نظرائهما بل إلى انظار الأقدمين كسقراط، و بقراط، بل ربما يرجحون آرائهم على الآراء المستحدثة في العصر الجديد، و ان كان لإجراء دستوراتهم نحو صعوبة، و مشقة لم يكن في دساتير أطباء الحاضرين.

هذا في أمر العلاج، و كذا بالنسبة إلى غيره من مهام أمورهم.

و بالجملة السيرة العقلائية قديما و حديثا ثابتة على رجوع الجاهل الى العالم من غير فرق في ذلك بين العالم الحي، و العالم الميت بل لا ينبغي الإشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء و حكم العقل بين فتوى الحي و الميت ضرورة طريقية كل منهما الى الواقع بلا فرق بينهما.

هذا حاصل ما يروم به الألسن خصوصا في أبناء عصرنا.

المناقشات في بناء العقلاء

و لكن في النفس من ذلك شي ء حاصله:

هو ان المراد ببناء العقلاء على الرجوع الى الأموات هل هو رجوع الخبراء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 218

..........

______________________________

منهم إلى أمثالهم، و الاتكاء بارائهم فيما يعلمون به، أو خصوص غير الخبراء منهم، أو الأعم؟.

فإن أريد الأول فهو مسلم فتريهم يراجعون الى أفكار خبراء الفن من أمواتهم و يطالعون أنظارهم بل تريهم يدققون النظر في معتقداتهم خصوصا إذا كان الميت ذا مرتبة عالية في العلم،

أو كان أعلم أقرانه، فربما يحصل لهم بذلك اطمينان في تشخيص المطالب، و الحقائق، و التصديق بها و لكن لا يخفى ان ذلك ليس تقليدا منهم فلا ينفع ذلك لما نحن بصدده.

و ان أريد مراجعة غير الخبراء منهم فذلك غير معلوم فهل تراهم يراجعون في مهام أمورهم و ما يرتبط في علاج أنفسهم، و احبّتهم بمجرد نظر طبيب حاذق ميت مع وجود الخلاف بين حذاق الفن.

مثلا إذا عرض الشخص مرضا ذا أهمية، و اختلف انظار الحذاق في علاجه فهل يكتفى المريض، أو حماته بالعمل على دستور أو نسخة كانت من طبيب حاذق ميت من دون المراجعة الى أحد الحذاق الموجودين، و لا أقل من تأييد نظره، و لا أظن الالتزام به من أحد، و لو فرض انه عمل شخص بالدستور من دون المراجعة الى أحد الأحياء فأوجب هلاك نفسه أو طرفه فهل العقلاء لا يوبّخونه، و لا حماته و لا يلومونه حاشاك ان تنكر ذلك.

نعم في الأمور التي قلما يقع الخلاف فيها بين الخبراء، أو كانت من الأمور غير المهمة فربما يعملون بآراء خبراء أمواتهم، و من المعلوم ان الأحكام الشرعية من مهام الأمور و مما وقع الخلاف فيها كثيرا بحيث قلما تجد مسئلة لم يختلف فيها فقيهان، فوجود بناء العقلاء في مثل الأحكام الشرعية غير ثابت، لو لم نقل ببنائهم على عدم المراجعة إلى الأموات.

و بما ذكرنا يظهر حال ارادة رجوع الخبراء و غيرهم إلى الأموات.

هذا أولا.

و ثانيا: لو سلم بناء العقلاء، منهم فقد أشرنا ان بناء العقلاء بنفسه ليس من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 219

..........

______________________________

الحجج الشرعية و لم تقم آية و لا رواية، على حجية كل

ما بنوا عليه، فلا يكفى ثبوت بنائهم على أمر في الاحتجاج به، ما لم ينضم إليه رضي الشارع به. و لو بعدم الردع الكاشف عن إمضائه.

و لم يثبت من الشارع ما يدل على رضائه بها لو لم نقل بثبوت ما يدل على خلافها و ذلك لعدم تعارف المراجعة إلى فتوى الميت في الصدر الأول، بل كما أفاده أستادنا المحقق الخمينى دام ظله.

«انه لم تكن في تلك الأزمنة تدوين الكتب الفتوائية متعارفا حتى يقال انهم كانوا يراجعون الكتب، فان الكتب الموجودة في تلك الأزمنة، كانت منحصرة بكتب الأحاديث ثم بعد أزمنة متطاولة صار بنائهم على تدوين كتب متون الاخبار، ككتب الصدوقين و من في طبقتهما، أو قريب العصر بهما، ثم بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعية و الاستدلالية فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداء ممكنا في الصدر الأول، و لا متعارفا أصلا» «1».

و ثالثا: سنذكر قريبا ما يدل على حجية فتوى الفقيه الظاهر في فتوى أحيائهم و هو كاف لردع بناء العقلاء.

و ان أبيت عن ذلك، و رأيت ان غاية ما يقتضيه هو الأمر بالمراجعة إلى الثقات، و الرواة و حجية فتويهم، الظاهر في حياتهم، و لا يكاد يستفاد من ذلك عدم حجية فتوى أمواتهم، و لكن ذلك يكفي في عدم اعتبار البناء، لعدم قيام الإمضاء حسب الفرض.

و رابعا: انه لو كان تقليد الميت عندنا جائزا، لزم حصر التقليد في زمن الغيبة الكبرى في شخص واحد، أو أشخاص معدودة للعلم الإجمالي بوجود الخلاف بين الفقهاء في الأحكام الشرعية، و سيجي ء انه في موارد الخلاف يجب تقليد الأعلم لدوران الأمر بين التعيين و التخيير، فيجب الفحص عن اعلم فقهاء الإمامية طول الغيبة إلى زماننا

______________________________

(1) الرسائل/ 158.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 220

..........

______________________________

لانحصار الحجية حسب الفرض في فتواه، و لا يجوز تقليد غيره و مقتضاه حصر الفتوى في شخص واحد، أو أشخاص معدودة- لاختلاف الانظار في تعيين من هو الأعلم- و هذا ضروري البطلان من مذهب الإمامية.

مضافا الى الإجماع المدعى في كلمات جماعة من الأكابر على عدم جواز تقليد الميت مع وجود المجتهد و سيجي ء التعرض له مع وجود الخلاف من المحقق القمي و غيره فارتقب حتى حين.

فتحصل مما ذكرنا عدم تمامية إمضاء بناء العقلاء على التقليد الابتدائي للميت بل ظهر لك مردوعية البناء.

الأمر الثاني إطلاقات الآيات و الاخبار الواردة في حجية فتوى الفقيه

و ذلك لأنها غير مقيّدة بحالة الحيوة فمقتضى إطلاقها عدم الفرق في حجيتها، بين الحيوة و الممات فينتج تخيير العامي في المراجعة، إلى الحي، أو الميت.

و فيه أولا: كما سيجي ء انها بين ما لا دلالة لها على أصل التقليد، و بين ما يدل على أصل التقليد و المراجعة إلى الفقيه فلا إطلاق لها حتى يصح التمسك به.

و ثانيا: انه لو كانت بصدد بيان خصوصيات من يرجع إليه في الفتوى، لا إطلاق لها لأنه لا ينبغي الإشكال في دلالة آية النفر مثلا على تقدير الدلالة على لزوم الحذر عند إنذار المنذر و الفقيه، و آية السؤال على لزوم السؤال من أهل الذكر و دلالة الاخبار على الرجوع الى راوي الحديث، أو الناظر في الحلال و الحرام الى غير ذلك من العناوين الواردة.

و الظاهر ان العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ظاهرة في الفعلية لا الأعم منها و من انقضى عنها.

فاذا مقتضاها: انه من كان متصفا فعلا بالإنذار أو الفقاهة، أو العلم، أو رواية الحديث، الى غير ذلك، هو الذي يصح تقليده، و

لا شك في ان الميت لا يتصف

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 221

..........

______________________________

فعلا بالإنذار أو رواية الحديث، أو بغيرها، من العناوين، و انما كان منذرا أو كان راوي الحديث.

و يؤيدك وضوحا، الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين كزرارة بن أعين و محمد بن مسلم و زكريا بن آدم، و أضرابهم حيث ان ظهورها، في إرادة الإرجاع إلى الحي منهم غير قابل للمناقشة، ضرورة انه لا معنى للإرجاع إلى الميت و الأمر بالسؤال أو الأخذ منه.

الأمر الثالث الاستصحاب
اشارة

و هو عمدة ما يمكن ان يعوّل عليه القائل بجواز تقليد الميت.

و تقرير الاستصحاب من وجوه متقاربة المفاد.

منها: ان فتوى المجتهد الفلاني كالعلامة مثلا في زمن حياته كان جائز التقليد لكل مكلف، عامي فبعد مماته يشك في بقاء الجواز فيستصحب.

و منها: ان فتوى المجتهد الفلاني، كان نافذا زمن حياته فيستصحب بعد مماته.

و منها: ان كل مكلف جاز له المراجعة إلى العلامة في حياته فيستصحب بعد مماته.

و منها: انه كان رأى العلامة حجة على من لم يتمكن من الاجتهاد في حياته فيستصحب بعد مماته.

و منها: ان مؤدى رأى العلامة، و نظره، كان ثابتا في زمن حياته فيشك في ثبوته بعد مماته فيستصحب.

و منها: انه جعل حكم مماثل- على تقدير صحة جعل المماثل- على طبق فتوى العلامة، فيستصحب بعد مماته.

و منها: الاستصحاب التعليقي بأن يقال ان زيدا مثلا لو كان، في زمن العلامة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 222

..........

______________________________

يجب عليه تقليده، و الان يشك في ثبوت هذا التطبيق فيستصحب.

الى غير ذلك من الوجوه، و فيما ذكرناه كفاية.

إشكالات لجريان الاستصحاب
اشارة

أورد على جريان الاستصحاب في المقام بوجوه من الإشكال.

الإشكال الأول: هو ان الحكم المستصحب، اما يكون مأخوذا بنحو القضية الخارجية- أي كل مكلف موجود في زمان العلامة مثلا- أو بنحو القضية الحقيقية- أي كل مكلف عامي.

و على كلا التقديرين لا يتم الاستصحاب، لأنه على الأول يكون أخص من المدعى، لان غاية ما تقتضيه، هي حجيّته بالنسبة الى من أدرك العلامة في حياته إذا شك فيه، بعد مماته فلا يكاد يتم بالنسبة الى من لم يدركه في زمن حياته.

و على الثاني اما يجري الاستصحاب بصورة التنجيز، أو بصورة التعليق.

فعلى الأول فمن لم يدرك زمن العلامة،

لم يتنجز الحكم عليه و لم يثبت الحكم في حقه حتى يستصحب.

و بعبارة أخرى ثبوت الحكم، على نحو القضية الحقيقية التنجيزية، إنما ينفع لكل مكلف عامي صار مصداقا للحكم، و اما من لم يدرك زمن العلامة مثلا فاصل الحكم و الجواز بالنسبة إليه مشكوك فيه، فلم تكن هناك قضية متيقنة، حتى تستصحب.

و اما على الثاني- أي اجراء القضية الحقيقية، بصورة التعليق- فقد قرر في محله: انه لا يجرى الاستصحاب التعليقي في مثل هذه التعليقات غير الشرعية، نعم يجري في التعليقات التي أخذت في لسان الشرع، كما إذا ورد: العصير إذا نشّ و غلا، ينجس، و واضح ان ما نحن فيه، من القسم الأول.

فحاصل الاشكال انه لا يكاد يجرى الاستصحابات بالنسبة الى غير مدركي زمن العلامة- سواء أخذت المستصحب بنحو الخارجية، أو الحقيقة- ضرورة انه على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 223

..........

______________________________

تقدير الأول، لم يكن لنا قضية متيقنة، لأن المتيقن، هو ثبوته للافراد الموجودين في زمن العلامة فالحكم على الإفراد الحادثين بعد موت العلامة مشكوك فيهم.

و كذا ان أخذت بنحو القضية الحقيقية بصورة التنجيز، لأنه لم يكن لنا قضية متيقنة، فإن المعلوم هو ثبوت الحكم لكل مكلف كان في زمن العلامة. و ان أخذت الحقيقية بصورة التعليق فلما ذكرنا في محله، من عدم حجية الاستصحاب التعليقي إلا في التعليق الذي أخذ في لسان الدليل، و واضح انه لم يؤخذ ما نحن فيه في لسان الدليل.

و فيه انه: كما أفاده أستادنا العلامة الخمينى دام ظله ان كلا من القضية الحقيقية، و الخارجية قضية بتّية معتبرة في العلوم، و الحكم فيهما معلق على العنوان فما يتراءى من بعضهم ان الحقيقية قضية تعليقية

عبارة- عن كلما كان موجودا فهو كذا- فإنما هو للتقريب الى الفهم لو لم نقل بأن القائل به لم يعرف حقيقة الأمر.

فالحكم في القضيتين معلق على العنوان لا على الإفراد مثلا قولنا كل نار حارة علق الحكم على عنوان النار لا على إفرادها، نعم عند عدم وجود فرد منه في الخارج، لم يصدق هناك عنوان النار، فاذا وجد فرد منه ينطبق عليه العنوان.

و لأجل تعلق الحكم فيهما على العنوان لم يكذب من قال كل ثلج حار الا كذبا واحدا و اخبارا واحدا لكنه عن أمور متعددة، و الا يلزم ان يكون إخبارات كاذبة بعدد الثلوج.

و معنى انحلال القضية إلى القضايا، هو انه جعل الحكم على عنوان له أفراد كثيرة ينطبق عليه العنوان.

فاذا لا فرق بين القضيتين إلا في ان القيود المأخوذة في الخارجية بحيث لا ينطبق الأعلى الخارج، و في الحقيقية بحيث لا ينحصر في ذلك، و مجرد كثرة القيود للعنوان لا يصيّره جزئيا و ان بلغ من الكثرة ما بلغ.

و بالجملة عالم المفهوم غير عالم الخارج فقد يكون الشي ء بلحاظ المفهوم قابلًا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 224

..........

______________________________

للصدق على الكثيرين، و اما بحسب الخارج فمنحصر في فرد، و لذا لا يكفي إثبات واجب الوجود لإثبات توحيده تعالى بل لا بد من اقامة دليل أخر لوحدة الواجب تعالى كما قرر في محله.

فالحكم فيهما، جعل واحد، لعنوان واحد، لا جعلات كثيرة بعدد آحاد المكلفين نعم الجعل الواحد يكون حجة بحكم العقل و العقلاء لكل من كان مصداقا للعنوان ففي قوله تعالى لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» جعل وجوب الحج على عنوان واحد، و هو من

استطاع اليه سبيلا، و لكنه حجة على كل مكلف مستطيع.

فعلى هذا لو علمنا ان الحج كان واجبا على كل من استطاع اليه سبيلا و لكن شككنا في بقائه من أجل احتمال طرو النسخ مثلا فلا إشكال في جريان استصحاب الحكم المعلق على العنوان لنفس ذلك العنوان فيصير بحكم الاستصحاب حجة على كل من كان مصداقه. و لذا لم يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ، مع ورود هذا الاشكال بعينه عليه، بل على جميع الاستصحابات الحكمية.

و السر فيه ما ذكرنا من ان الحكم على العنوان حجة على المعنونات، فاستصحاب وجوب الحج على عنوان المستطيع جار بلا اشكال، كاستصحاب جواز رجوع كل مقلد الى المجتهد الفلاني «2».

الإشكال الثاني: و هو عمدة الإشكال في جريان الاستصحاب و هو عدم بقاء الموضوع في القضية المشكوكة، أو عدم إحرازه و قد أشار إليه المحقق الخراساني (قدس سره) و حاصله بتقرير منا.

انه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع في ظرف الشك عرفا و اتحاد

______________________________

(1) آل عمران: 3/ 97.

(2) الدرر الملتقاط/ مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 225

..........

______________________________

القضية المتيقنة و المشكوكة، كذلك و موضوع القضية، هو رأى المجتهد، و فتواه، و هو أمر قائم بنفس الحي، و بالموت ينعدم الموضوع عرفا لأنهم لا يرون للميت رأيا، و لا إدراكا و لا يتصف الميت بالعلم، و الظن، و يرون ان حشره في المعاد من باب اعادة المعدوم و ان لم يكن كذلك حقيقة لبقاء النفوس مع ملكاتها بالموت، و الموت حقيقة انتقال من نشأة الى نشأة اخرى، و المعاد جمع الأجزاء المتفرقة لا اعادة المعدوم.

فما هو المعتبر في الاستصحاب، و هو وجود الموضوع بنظر العرف منتف،

و بقاء الموضوع حقيقة لم يكن موضوعا للاستصحاب.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في بقاء الموضوع، و معه أيضا لا مجال للاستصحاب لأن إحراز الموضوع شرط في جريانه و لا إشكال في ان مدار الفتوى هو الظن الاجتهادي، و لا إشكال في عدم إحراز الموضوع لو لم نقل بعدم بقائه.

و استشهد (قدس سره) لعدم الجواز فيما إذا زال بجنون، و هرم، أو مرض، أو تبدل الرأي اه «1».

أقول: و قد أتعب المحقق الأصفهاني (قدس سره) نفسه في التعليقة و اثبت التجرد للنفس، و بقاء الرأي له الى غير ذلك من المطالب و لكن لم يأت (قدس سره) بما يدل على بقاء الموضوع عرفا و هو محط البحث و النظر و الا فاستاده المحقق الخراساني (قدس سره) أيضا يقول ببقاء النفوس الناطقة حقيقة.

الجواب الحقيق عن الاشكال

و التحقيق في الجواب ما أفاده أستادنا المحقق الخمينى دام ظله و حاصله:

ان المدرك الوحيد، و الأصل القويم في التقليد، و في رجوع الجاهل الى العالم بناء العقلاء في رجوع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها و اما غير بناء العقلاء فغير تمام لقصور الآيات دلالة، و قصور الروايات بعضها سندا و بعضها دلالة، و ثالثة سندا و دلالة، و ما يكون منها تماما من حيث السند، و الدلالة يكون إرشادا

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 241.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 226

..........

______________________________

الى ما عليه العقلاء، و عدم كاشفية الإجماع، في مثل هذه المسئلة عن حجة معتبرة، و من الواضح ان المجتهد بل كل عالم بصنعة أو حرفة إذا ظن بحكم، أو اعتقد بأمر فهناك أمران:

1- ظن، و إدراك قائم بنفسه كقيام سائر

الأعراض بالنفس كالعفة، و الشجاعة و العدالة، و غيرها.

2- كاشفيته، و اماريته للواقع.

و ظاهر ان رجوع العقلاء الى حذاق الفن ليس لأجل ان الرأي و الإدراك صفة قائمة بنفس الخبير، بل لأجل كاشفيته عن الواقع، و هي غير متقومة بالحيوة بقاء، و لذا تريهم يتبعون آراء خبراء الفن بعد موتهم أيضا، و لا يرون كاشفيته مقصورة بحياتهم.

و بالجملة الوجود الحدوثى للفتوى بنحو الجزم، يكون طريقا الى الواقع و لا ينسلخ ذلك عنه حتى عند تطرق الهرم، و الجنون و نحوهما، ما لم يتجدد الرأي، أو الترديد فهم لا يرون للحيوة أية دخالة في بقاء الرأي، فلو شك فإنما هو بلحاظ اعتبار الشرع الحيوة تعبدا لمصالح يراها كاعتباره العدالة، و سائر الأوصاف في المفتي فالشك حينئذ لم يرجع الى بقاء الموضوع.

فاذا نقول ان قواعد العلامة (قدس سره) مثلا كان يجوز العمل به في حياته، و بعد مماته حيث يحتمل اعتبار الحيوة شرعا فيستصحب، فعلى هذا يكون الموضوع في القضية المتيقنة و المشكوكة واحدا «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد:

«ان الرأي و ان انعدم بالموت بنظر العرف الا انه يكفى في استمرار الحجية له حدوثه آنا ما بحيث يكون رأى المجتهد الحي حجة على المكلفين إلى الأبد، و ان مات المجتهد نظير، حرمة الاقتداء بالمحدود فان وقوع الحد عليه في زمان يكفي في

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 227

..........

______________________________

عدم جواز الصلاة خلفه ما دام حبا.

هذا حال حجية الآراء عند العقلاء، و من الجائز ان يكون حجية الرأي شرعا في باب الأحكام الشرعية كذلك، فاذا علم بحجية رأي المجتهد، حال حياته، و شك في بقائها

الى ما بعد الموت، أمكن استصحابها، لأنه يكفي في جريان الاستصحاب مجرد اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة، و المشكوكة، و لو لم يكن ذات الموضوع باقية الى زمان الشك فلا يلزم بقاء الرأي إلى زمان العمل به فيكون حال الرأي من هذه الجهة حال الرواية، فإنها حجة و لو بعد موت الراوي» «1».

فتحصل ان استصحاب جواز العمل على طبق رأى المجتهد و فتواه بمعنى حاصل المصدر، و على طبق كتابه الكاشفين عن الحكم الواقعي، أو الوظيفة الظاهرية مما لا مانع منه، هذا بخلاف غير الحيوة من الجنون و غيره من الحالات، لان المتصف بها لا يليق- و لو باعتبار فتواه السابقة- زعامة المسلمين لسقوط رأيه عن الانظار بطرو الجنون و نحوه، لا لأجل زوال رأيه.

الاشكال الثالث: و هو إشكال قوى تعرّضه سماحة العلامة الخمينى دام ظله في مجلس الدرس و تصدى لدفعه مفصلا، نشير إليهما هنا إجمالا، و التفصيل يطلب من غير المقام.

اما الإشكال فحاصله: ان المستصحب لا بد و ان يكون حكما شرعيا، أو موضوعا ذا حكم شرعي، و ما نحن فيه لم يكن كذلك لأنه بعد قيام فتوى الفقيه الحي بأمر، لا تخلو اما ان يستصحب أماريتها، أو حجيتها العقلائية، أو حجيتها الشرعية، أو مؤدى الفتوى- اى الحكم الواقعي الذي يكون مؤدى الفتوى، أو الحكم المجعول على مؤدى الامارة- نظير جعل الطهارة الظاهرية على عنوان المشكوك فيه.

و لا يصح استصحاب شي ء منها.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 46.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 228

..........

______________________________

اما الأمارية فذكرنا انها لا تزول بالموت، و كذا الحجية العقلائية لعدم الشك في حجيتها عند العقلاء، لان رأى المجتهد عندهم نظير آراء سائر الخبراء امارة يحتجون

بها، حالتي حياته، و بعد مماته، من غير نكير.

مضافا الى ان الأمارية، أو الحجية لم تكن حكما شرعيا، و لا موضوعا، لأي أثر شرعي.

و استصحاب الحجية الشرعية، لا أساس له لأن الحجية من الأمور الانتزاعية التي لا تنالها يد الجعل، و انما ينتزع من تجويز الشارع العمل بخبر الواحد، مثلا، فاذا لم تكن الحجية مجعولة شرعا فما ظنك باستصحابه.

و اما جواز العمل برأيه، أو وجوبه فلا يستفاد من أدلة الاعتبار أكثر من إمضاء ما عليه، بناء العقلاء.

و ما جعل الشارع جواز العمل، أو وجوبه بعنوان الحكم التأسيسي فلم يساعده الاعتبار.

و اما استصحاب الحكم الواقعي فلا شك في بقائه في المقام لأنه ان كان محققا فلا شك في بقائه في الحال أيضا لأن الشك في بقاء الحكم انما هو في صورة احتمال النسخ، أو احتمال شرط غير موجود كحضور المعصوم عليه السّلام في وجوب صلاة الجمعة، أو حدوث مانع غير موجود، و واضح ان الشك فيما نحن فيه، لم يكن في شي ء منها، بل الشك في حجية فتوى الفقيه بعد موته.

و بالجملة لم يكن الشك في بقاء الحكم الواقعي و عدمه، و انما الشك في حجية فتوى الفقيه الميت.

و بهذا يظهر حال استصحاب مؤدى الامارة بعد الشك في بقائه.

و اما استصحاب جعل المؤدى على طبق الامارة فغير تمام في نفسه، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلة على خلافه، لان الظاهر منها إمضاء ما عليه العقلاء و المرتكز لديهم انما هو أمارية رأي كل خبر للواقع، من دون جعل و تأسيس.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 229

..........

______________________________

فظهر انه ليس المستصحب في المقام حكما شرعيا و لا موضوعا لذي حكم شرعي، و

غاية ما في الباب هنا حجية رأى الخبير للجاهل، و هو موضوع لحكم عقلي أعني تنجيز الواقع على المكلف بعد عدم رفع الشارع إياه هذا.

و اما جواب الاشكال: فيمكن جريان الاستصحاب بنحو يظهر لك ذلك بعد ذكر مقدمة حاصلها:

ان الاحتجاج بالأوامر و النواهي عند العقلاء بلحاظ كاشفيتها عن ارادة جدية أو كراهية كذلك في موردها، و لذا لو علم في مورد عدم جد المولى لا يجب اتّباع امره، و لا يحرم عليه مخالفة نهيه، و كذا لو علم جد المولى في مورد و لم يكن هناك أمر منه يجب اتّباعه، كما إذا رأى العبد غرق محبوب المولى، و لم يطلع عليه المولى لنوم، أو غيبة، أو نحوهما يجب إنقاذه، و الا يعد مذموما عنده بل عاصيا.

فالملاك كل الملاك ارادة المولى و كراهته، و هما حقيقتا البعث، و الزجر و روحهما و هما الملاك في الإطاعة و العصيان ففي كل مورد احرزا- سواء كان بإنشاء البعث، أو الزجر، أو بالقطع، أو بالملازمة- فيجب اتّباعه.

و لذا قلنا ان الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده، كما ان الأمر بالشي ء يقتضي الأمر بمقدمته، لا بمعنى كشفه عن إنشاء حكم شرعي على ضده، أو مقدمته، بل بكشفه عن روح الحكم، و واقعة، و هو الإرادة، أو الكراهة.

فعلى هذا بعد قيام الامارة، كفتوى الفقيه، على وجوب أمر يصح استكشاف روح الحكم، وجد المولى، فاذا شك في اعتبار الحيوة فيستصحب روح الحكم «1» فظهر انه لا يلزم ان يكون المستصحب موضوعا للحكم الشرعي، أو حكما إنشائيا شرعيا، بل أعم منه و من حقيقة الحكم و روحه.

فاذا ارتكاز العقلاء على العمل بآراء خبرائهم، و من سكوت الشارع و عدم

______________________________

(1) الدرر الملتقاط مخطوط.

الدر

النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 230

..........

______________________________

ردعه يستكشف رضاه به- أعني حقيقة الرضا و روحه- لا إنشاء الرضا منه، فعند فتوى الفقيه بوجوب شي ء يستكشف ارادة الشارع، و هي روح الحكم و حقيقته، فاذا شك في اعتبار الحيوة فيستصحب روح الحكم.

فتحصل مما ذكرنا انه إذا شك في اعتبار الحيوة في حجية فتوى الفقيه فيصح جريان الاستصحاب في حد نفسه.

فاذا تمهد لك ما ذكرنا فحان عطف النظر الى ما استدل به للقول الأخر- و هو عدم جواز تقليد الميت ابتداء- فان تم فبها و الا فيصح القول بجواز تقليد الميت ابتداء

فنقول:

المورد الثاني فيما استدل به لعدم جواز تقليد الميت ابتداء
اشارة

منها: الإجماع، و قد حكى عن جملة من الأعاظم دعوى الإجماع على عدم جواز تقليد الميت، و ان ذلك مما امتازت به الإمامية عن أهل الخلاف، و قد تقدم في صدر هذه المسئلة سر بنائهم على اتّباع أربعة من علمائهم.

و إليك نص بعض عبائرهم.

فعن المحقق الثاني في شرح الألفية: قال لا يجوز الأخذ عن الميت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية.

و عن الشهيد الثاني في المسالك انه قد صرح الأصحاب في كتبهم المختصرة، و المطولة، و في غيرهما باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله، و لم يتحقق إلى الان خلاف ممن يعتد بقوله من أصحابنا.

و قال بمثل ذلك في منية المريد، و قال في محكي الرسالة المنسوبة إليه:

«نحن بعد التتبع الصادق فيما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا السابقين، و علمائنا الصالحين مخالفا في ذلك، فإنهم قد ذكروا في كتبهم الأصولية و الفقهية قاطعين فيه بما ذكرنا: من انه لا يجوز تقليد الميت، و ان قوله يبطل بموته من غير

الدر النضيد في الاجتهاد

و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 231

..........

______________________________

نقل خلاف أجده فيه» «1».

و عن ولده في المعالم نسبته الى ظاهر الأصحاب ثم قال: و العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع الى فتوى الميت مع وجود الحي.

و عن الوحيد البهبهاني في الفوائد: ان الفقهاء أجمعوا على ان الفقيه لو مات لا يكون قوله حجة، و نحوه محكي عن النراقي في المناهج.

و قال الشيخ في الرسالة: «و في رسالة ابن ابى جمهور الأحسائي ما يظهر منه دعوى إجماع الإمامية على انه لا قول للميت، و في كلام بعض مشايخنا المعاصرين دعوى تحقق الإجماع على ذلك الى غير ذلك مما لعله يطلع عليه المتتبع، و قد بلغ اشتهار هذا القول الى ان شاع بين العوام ان قول الميت كالميت، و هذه الاتفاقات المنقولة كافية في المطلب، بعد اعتضادها بالشهرة العظيمة بين الأصحاب حتى ان الشهيد (قدس سره) أنكر من ادعى وجود القائل به فقال: ان بيد أهل العصر فتوى مدونة على حواشي كتبهم ينسبونها الى بعض المتأخرين يقتضي جواز ذلك، ثم أخذ في تزييف ذلك بعد القدح فيها بمخالفتها لفتوى المعروفين من أرباب الكتب و التصانيف من الإمامية إلى أخر ما ذكره» فلاحظ «2».

و قال في موضع أخر منها.

حكى بعض المعاصرين عن شيخه الاحسانى: إجماع الإمامية على انه لا قول للميت، و اشتهر بين الخواص، و العوام: ان قول الميت كالميت «3».

______________________________

(1) حكى انه فرغ من تأليف الرسالة 15 شوال 949 و هي مخطوطة الى اليوم.

(2) رسالة التقليد/ 61.

(3) رسالة التقليد/ 66.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 232

عدم قدح مخالفة المحقق القمي و صاحب الحدائق بل الأخباريين في تحقق الإجماع

______________________________

و قد حكى والدنا العلامة (قدس سره) في الرسالة

عن أستاده المحقق النائيني (قدس سره) انه ادعى إطباق طائفة الأصوليين قديما و حديثا على عدم الجواز الا ما يظهر من المحقق القمي و صاحب الحدائق من الميل الى الجواز و خلافهما لا يقدح في الإجماع الحدسى كما هو مسلك التحقيق «1».

قلت: بل خلاف الأخباريين غير قادح أيضا في تسالم الأصحاب على عدم مشروعية تقليد الميت ابتداء و ذلك.

اما عدم قدح مخالفة المحقق القمي فلانة (قدس سره) بعد ان رأى اختصاص الخطابات بمن قصد إفهامه ذهب الى انسداد بابى العلم و العلمي في الأحكام، و رأى ان الامتثال الجزمى و الاحتياط متعذر على المكلفين، و اعتقد ان العقل يتنزّل عند ذلك الى امتثال الأحكام ظنا، لأنه المقدور في حقهم، و لا يرى العقل اى فرق بين العمل بالظن الحاصل من فتوى الحي أو الميت.

و لا يخفى فساده مبني و بناء يطلب تفصيله من مبحث الانسداد و لكن إجمال فساد المبنى: هو انه تقرر في محله حجية الظواهر بالنسبة الى غير من قصد إفهامه أيضا لو قلنا بان المشافهين مخصوصون بالافهام.

و اما إجمال فساد البناء فلان غاية ما تقتضيه انسداد بابى العلم و العلمي هو اعتبار الظن على خصوص المجتهد من اى طريق حصل لأنه الحاصل لديه من الأدلة و اما العامي فلا، لعدم حصول الظن بالحكم الواقعي بمجرد فتوى الميت مع ما يرى من مخالفة الأحياء معه بل الأموات معه في المسئلة خصوصا إذا كان في الأحياء من هو اعلم منه.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 64، و من أراد أكثر مما ذكرنا فليراجع تقريرات شيخنا العلامة الأنصاري قدس.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 233

..........

______________________________

و لو حصل له الظن فلا دليل على حجيته

إلّا إذا قامت مقدمات الانسداد في حقه أيضا.

و بالجملة الاختلاف في الفتوى بين العلماء مما لا يخفى على أحد و معه لا تحصل للعامي اى ظن بان ما افتى به الميت مطابق للواقع، و لو حصل لا يكون حجة في حقه.

فالصحيح بناء على الانسداد هو القول بأن العامي يجب عليه العمل على فتوى المشهور في المسئلة لأنه الذي يفيد الظن في حقه لا العمل بفتوى الميت فتدبر.

و اما عدم قدح مخالفة الأخباريين فلان خلافهم انما هو لزعمهم الفاسد من إنكار مشروعية التقليد بالكلية، و ان رجوع العامي إلى الفقيه انما هو من باب الرجوع الى روات الحديث، و ان الجائز من الفتوى لا يفارق النقل بالمعنى.

كلام من السيد الجزائري لعدم اشتراط الحيوة و دفعها

و قد حكى عن السيد الجزائري (ره) في مقام الاستدلال على عدم اشتراط الحيوة في منبع الحيوة:

«ان كتب الفقه شرح لكتب الحديث و من فوائدها تقريب معاني الاخبار الى إفهام الناس، لأن فيها العام و الخاص و المجمل و المبين الى غير ذلك، و ليس كل أحد يقدر على بيان هذه الأمور من مفادها، فالمجتهدون بذلوا جهدهم في بيان ما يحتاج الى البيان و ترتيبه على أحسن النظام، و الاختلاف مستند الى اختلاف الاخبار، أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة حتى لو نقلت تلك الاخبار لكانت موجبة للاختلاف، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدثين مع ان عملهم مقصور على الاخبار المنقولة. و بالجملة فلا فرق بين التصنيف في الفقه و التأليف في الحديث» «1».

فإذا الأخباريون يرون ان المفتي ينقل الرواية بالمعنى لا انه يفتي حقيقة حسب

______________________________

(1) تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 234

..........

______________________________

رأيه، و واضح ان حجية الرواية،

و جواز العمل بها لا يتوقفان على حياة الراوي بوجه فيصح الاحتجاج بها و يجوز العمل بها حيا كان المحدث أو ميتا.

و بالجملة التعبد برأى الفقيه بلحاظ كونه عالما بالأخبار ناظرا فيها و قد جمع متعارضاتها و خصص عموماتها و قيد مطلقاتها، و واضح انه لا يعتبر في الراوي شي ء منها و قد ورد ان رب حامل فقه و ليس بفقيه، و كأنه قد خفي على السيد الجزائري (ره) مخالفة طريقة المجتهدين لطريقة الأخباريين مع ان مخالفتهما كالنار على المنار.

و الحاصل ان الرجوع الى الفقيه من باب رجوع الجاهل الى العالم و الخيبر لا من باب رجوع العامي إلى راوي الحديث.

هذا أولا و ثانيا: لو سلم كون الرجوع الى المجتهد من باب الرجوع الى راوي الحديث لا يصح ما بنوا عليه من جواز تقليد الميت لأنه بعد وجود الخلاف بين الفقهاء، أحيائهم، و أمواتهم يكون وزان فتواهم وزان الأخبار المتعارضة فلا بد من الأخذ بذي المزية من الفتاوى، و على فرض التكافوء، فمقتضى الأصل الاولى كما قرر في محله التساقط إلا إذا قام الدليل على التخيير، فالقول بجواز تقليد الميت مطلقا غير وجيه.

نعم ان لم يكن ترجيح في الأخذ بفتوى الأحياء و كان الميت مساويا للحي و قلنا بشمول أدلة التخيير لمثل المقام يجوز تقليد الميت، و لكن دون إثباته خرط القتاد.

فتلخص مما ذكرنا: ان مخالفة المحقق القمي و الأخباريين ليست مخالفة فيما هو محل الكلام بل مبتنية على أساس غير وثيق، و لا نعلم ان محقق القمي (قدس سره) لو كان بانيا على الانفتاح، و كذا الأخباريين لو كانوا بانيين على ان الرجوع الى المجتهد من باب الى الرجوع الى الخبير، و أهل الاطلاع،

كانوا يجوزون تقليد الميت، فدعوى الإجماع ممن عرفت قريب جدا.

و ان أبيت عما ذكرنا، و رأيت ان المحقق القمي، و الأخباريين مخالفون في المسئلة فنقول كما أشير، لا يضر خلافهم على مسلك المتأخرين في حجية الإجماع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 235

..........

______________________________

و هو الحدس بوجود حجة معتبرة في البين هذا.

تقرير لكشف الإجماع عن حجة معتبرة

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 235

فيقع الكلام بعد في حجية الإجماع فقال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): «انه بعد التتبع و اعتراف بعض الأعاظم بأنه بعد الفحص الأكيد، لم نطلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل و الأواسط يفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متفق عليه بينهم في الحجية و لا أقل من الأصل السالم عن معارضة ما توهم دليلا على الجواز، من الآيات، و الاخبار، و ذلك فان عثورهم على تلك الاخبار، و الآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها و مصيرهم الى ما تقتضيه الأصول و الضوابط، من المنع مما يقتصر بعدم انقطاع حكم الأصل فتطرق الوهن في دلالتها على جواز تقليد الميت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد» «1».

و ان شئت قلت ان بناء العقلاء في الرجوع الى الخبراء، منهم المجتهدون و ان كان على عدم اعتبار الحيوة فيهم، و مع ذلك ترى إجماع الفرقة على اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى مع ما هم عليه من التقوى، و التورع في الدين و عدم افتائهم بغير العلم، و ذلك يكشف عن حجة معتبرة لديهم.

الإشكال في كاشفية الإجماع و توجيهه

و لكن مع ذلك كله يشكل الاستدلال بالإجماع في هذه المسئلة و لا يكون كاشفا تعبديا عن قول المعصوم في عرض سائر الوجوه، لاحتمال ان يكون ذلك منهم لبعض الأدلة الاعتبارية و اللفظية، أو ان ذلك مقتضى الأصل، فلا يكون الإجماع دليلا في المسئلة في عرض سائر الأدلة فلا بد من ملاحظتها فتدبر.

الا ان يقال ان عدم جواز

تقليد الميت عدّ من خصائص الإمامية قبال ما عليه العامة من تقليدهم اشخاص معينين من الأموات، بل ربما ادعى انه من ضروريات المذهب و بديهياته مع تطرق الإشكال في سائر أدلة اعتبار الحيوة حتى الأصل منها

______________________________

(1) تقريرات شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 236

..........

______________________________

كما سنشير اليه، فلا يبعد دعوى اعتبار هذا الإجماع من بين الإجماعات و استكشافه قطعا عن حجة معتبرة متفق عليها بين القدماء فتدبر و اغتنم.

بيان ظواهر الآيات و الاخبار على اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى

و مما يستدل لعدم جواز تقليد الميت ابتداء ظواهر الأدلة الدالة على حجية فتوى الفقيه، فإنها واضحة الدلالة على اعتبار الحيوة في جواز الرجوع اليه.

و ذلك لظهور قوله تعالى وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ «1» لو تمت دلالته على حجية فتوى الفقيه في إرادة إنذار المنذر الحي، إذ لا معنى لانذار الميت بوجه و كذا قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «2» ظاهر في كون المسئول متصفا بهذا الوصف فعلا خصوصا بعد إيجاب السؤال، فإنه، و ان لم يكن للسؤال مدخلية في حجية قول أهل الذكر و نظره، الا ان المفروض في الآية إمكان الرجوع اليه و السؤال عنه، و واضح ان الميت لا يطلق عليه أهل الذكر بوجه.

و كذا الأخبار الواردة في بيان مشروعية أصل التقليد منطوقا، و مفهوما: مثل ما دل على اتّباع الفقهاء، و ما دل على ان للعوام تقليد الفقهاء العلماء، و ما دل على المنع عن الإفتاء بغير العلم المستلزم لجواز الفتوى بالعلم، و ما دل على إظهار الإمام عليه السّلام حبّه لان يرى في أصحابه من يفتي بالحرام، و الحلال، و ما دل على الإرجاع إلى أشخاص معينين الى غير ذلك،

فأن الظاهر منها خصوصا ما دل على الأمر بالإرجاع إلى أشخاص معينين، هو إرادة الأحياء منهم ضرورة انه لا معنى للإرجاع إلى الأموات.

و بالجملة وجوب الحذر في آية النفر مترتب على الانذار و لا إنذار من الميت و المسئول في آية السؤال هو أهل الذكر و لا يصدق هذا العنوان على الميت، كما لا يعقل سؤاله.

______________________________

(1) التوبة: 9/ 122.

(2) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 237

..........

______________________________

و كذا قوله عليه السّلام: من كان صائنا لنفسه حافظا لدينه مطيعا لأمر مولاه إلخ لأن الميت غير متصف بما ذكر في الخبر، فان لفظة كان ظاهرة في الاتصاف بالأوصاف فعلا لا الاتصاف بها في الأزمنة السابقة.

و قوله (جعلني اللّه من كل مكروه فداه) في التوقيع المبارك و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه، بناء على ان يكون المراد بالحوادث الواقعة المسائل الفرعية التي لم يكن حكمها معلوما عموما أو خصوصا فيما روى عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و تسمية الشبهات الحكمية بالحوادث الواقعة بلحاظ عدم معلومية حكمها فكأنها حادثة حدثت فتأمل، فإنه يدل على الرجوع الى رواة أحاديثهم لا الى رواياتهم عنهم عليهم السّلام و واضح ان الميت لا يكون راويا للحديث فعلا.

و قوله عليه السّلام لأبان: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإنه يدل دلالة واضحة على ان يكون في شيعته فقهاء احياء مثل ابان للإفتاء بين الناس.

و قوله عليه السّلام: انظروا الى رجل منكم روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا.

و قوله عليه السّلام: اصمدا على كل مسن في حبّنا.

الى غير ذلك من الاخبار فإنها

ظاهرة في اعتبار الحيوة فيهم لان الميت و العظام الرميم، لا يصدق عليه راوي الحديث و الناظر في الحلال و الحرام، و المسن في حبهم، و كثير القدم في أمرهم.

فتحصل ان المستفاد من الآيات، و الاخبار، هو جواز الرجوع الى نفس الفقيه، و العالم لا الى فتواه حتى يتوهم حجيتها بعد مماته أيضا، و واضح انه لا يكفي في تحقق عنوان الفقيه، أو العالم، سابقا في جواز الرجوع اليه فعلا.

بخلاف الرجوع الى الروايات لان الظاهر من قوله عليه السّلام لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا «1» و غيره هو ان المرجع نفس الرواية لا الراوي

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 41.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 238

..........

______________________________

فالرواية حجة، و لو بعد موت الراوي فتدبر.

و بما ذكرنا من ظواهر الأدلة يرفع اليد عن بناء العقلاء المستدل به لجواز تقليد من يرجع إليه في الأحكام، مطلقا حيا كان أو ميتا بالنسبة إلى الرجوع الابتدائي و ربما يناقش فيما ذكرنا: بأن غاية ما يستفاد من الآيات و الاخبار، هي ظهورها في اشتراط الحيوة فيمن يرجع اليه، و هي غير قابلة للإنكار، الا انها ليست بذات مفهوم حتى لتدلنا على حصر الحجية في فتوى الحي ممن يرجع اليه، و عدم حجية فتوى أمواتهم، و معه يمكن ان تكون فتوى الميت حجة كفتوى الحي، غاية الأمر ان الأدلة المتقدمة غير دالة على الجواز لا انها تدل على عدم الجواز، و بينهما بون بعيد و بالجملة الأدلة ساكتة عن حجية فتوى غير الحي لا انها نافية لها فيصح الاستدلال لتقليد الميت ببناء العقلاء.

و لكن عرفت منا: انه لم

يقم اى دليل من آية، أو رواية، أو عقل على اعتبار بناء العقلاء بما هو بناء ما لم يحرز رضي الشارع به، و المفروض عدم إحراز رضي الشارع به على بنائهم في التقليد الابتدائي فلا يتم الاستدلال بمجرد بناء العقلاء.

أضف الى ذلك ظهور بعض ما ذكرنا في حصر الحجية في المتصف، بالأوصاف المأخوذة فيها، كقوله عليه السّلام من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه.

بل لعل دعوى استفادة حصر الحجية من مجموع الأدلة المتقدمة في المتصف بها في الرجوع الابتدائي غير مجازفة فتدبر.

وجه أخر لاعتبار الحيوة في مرجع الفتوى

و مما: يستدل لعدم جواز تقليد الميت: انه لو لم يتم الإجماع على اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى، و لم يتم ظواهر الأدلة على اعتبار الحيوة فيه، و لكن لا ينبغي الإشكال في إيجاب الشك في اعتبار قول الميت في محيط الشرع، في مذهب الإمامية، و قد تقرر في محله، انه لو دار الأمر بين التعيين و التخيير، خصوصا في الطريق، فالعقل في مقام

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 239

..........

______________________________

تفريغ الذمة، يحكم بالأخذ بما يحتمل تعيّنه.

و بالجملة لو كان هناك طريقان أحدهما موصل قطعا، و الأخر احتمالا، و دار الأمر بين الأخذ بأحدهما فالعقل يحكم بسلوك ما هو المقطوع منهما.

و يؤيد ما ذكرنا: ما يقال ان تقليد الأحياء رمز حياة المذهب و تحركه في جميع شئونه كما لا يخفى.

و قد يظهر من بعضهم ان عدم جواز تقليد الميت بلحاظ ان كثيرا ما يكون الأحياء اعلم من الأموات لتلاحق الأفكار جيلا بعد جيل.

و لكن فيه انه: كما ترى، ضرورة ان كثيرا ما يكون الأحياء عيال على أفكار السلف و رهين افكارهم

كما هو واضح لمن تدبر.

نعم ربما يكون الخلف ذات قوة، و ذكاء، و دراية لا يكون في السلف.

مضافا الى ان في لزوم تقليد الأعلم على إطلاقه كلام سيجي ء.

فهذا الوجه مضافا الى انه أخص من المدعى لا يلائم توجيه لزوم تقليد الأحياء هذا كله في الموقف الأول و هو اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى ابتداء و قد عرفت عدم جواز تقليد الميت ابتداء اما.

الموقف الثاني ففي اشتراط الحيوة في مرجع الفتوى بقاء و عدمه. الأقوال العشرة في البقاء على تقليد الميت

اشارة

اختلفوا في اعتبار الحيوة في البقاء على تقليد الميت.

فمنهم من اعتبرها بقاء كما اعتبرها ابتداء فذهب الى عدم جواز تقليد الميت مطلقا «1».

و منهم من لم يعتبرها بقاء فجوز البقاء على تقليد الميت مطلقا «2».

______________________________

(1) كالعلامة النائيني (قدس سره).

(2) كالعلامة الماتن (قدس سره).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 240

..........

______________________________

و فصل ثالث بين ما إذا كان الميت اعلم و بين غيره فقال بوجوب البقاء في الأول، و وجوب العدول إلى الحي إذا كان الحي أعلم، و التخيير إذا كانا متساويين و إن كان العدول اولى و أحوط «1».

و قال رابع: بأن الأقوى الرجوع الى الحي في جميع المسائل، إلا فيما يعلمه فعلا من فتاوى الميت التي توافق الاحتياط فيعمل بها، و لا يلزم الفحص عنها مع عدم العلم فعلا «2».

و قال خامس: بجواز البقاء في خصوص المسائل التي عمل بها «3».

و قال سادس: بأنه ان أخذ الفتوى من الميت في زمان حياته و لم يعمل به حتى مات فلا يبعد كون العمل بتلك الفتاوى داخلا في تقليد الميت ابتداء، فالأحوط في هذه الصورة الرجوع الى الحي، نعم لو عمل ببعض فتاويه بانيا على الرجوع إليه في كل مسئلة يحتاج إليها فالأقوى جواز البقاء مطلقا «4».

و قال سابع: بتعيّن

البقاء إلا إذا كان الحي أعلم من الميت و لم يكن قول الميت مطابقا للأعلم من الأموات «5».

و قال ثامن: بجواز البقاء على تقليد الميت بعد تحققه بالعمل ببعض المسائل مطلقا، و لو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر و يجوز الرجوع الى الحي الأعلم و الرجوع أحوط «6».

و قال تاسع: بجواز البقاء، و ان لم يعمل بعد، نعم لا بد من تعلم فتواه و عدم

______________________________

(1) كالعلامة الميلاني (قدس سره).

(2) كالعلامة الحاج الآقا حسين القمي (قدس سره).

(3) كاستادنا العلامة البروجردي (قدس سره).

(4) كالعلامة الحائري (قدس سره).

(5) كالعلامة السيد أحمد الخوانسارى (دام ظله).

(6) كاستادنا العلامة الخمينى (دام ظله).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 241

..........

______________________________

نسيانه فلو لم يتعلم فتاواه، أو تعلمه و لكن طرء عليه النسيان يلزم عليه الرجوع الى الحي «1».

و قال عاشر: بالبقاء على رأى الميت إذا تعلم فتواه، أو التزم بالعمل، و ان لم يعمل بفتواه حال حياته «2».

تلك عشرة كاملة الى غير ذلك من الأقوال التي لا يهم ذكرها، و فيما ذكرناها كفاية، بل فوقها، و من أرادها فليطلبها من مظانها.

استظهار من الشيخ في اعتبار الحيوة و النقاش فيه

و كيف كان: استظهر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) على ما في رسالة التقليد، و في التقريرات من كلمات الأكثر و معاقد إجماعاتهم و موارد استدلالهم على عدم جواز تقليد الميت: عدم الفرق بين تقليد الميت ابتداء، و البقاء على تقليده.

و لكن يناقش: بأنه استظهار يخصه (قدس سره) و لم يثبت الإجماع على المنع مطلقا، و القدر المتيقن منه، هو المنع عن تقليد الميت ابتداء، و قد عرفت بعض الكلام فيه في التقليد الابتدائي.

كلمة من المحقق النائيني في موقف الحيوة

و ربما يوجه لعدم جواز البقاء بان وزان الحيوة في المرجع، وزان سائر الشرائط المعتبرة فيمن يرجع إليه في الفتوى كالإيمان، و العدالة، و العقل و غيرها، فكما انها تعتبر فيه ابتداء و استدامة فكذلك الحيوة، و لم يقل أحد بجواز تقليد من كان مؤمنا ثم انحرف، أو من كان عادلا، فصار فاسقا، أو من كان عاقلا فطرء عليه الجنون، و كذا غيرها.

فكما انهم يخرجون عن صلاحية الاستناد إليهم، و العمل بفتاواهم السابقة بطرو هذه الحالات عليهم فكذلك بطرو الموت.

______________________________

(1) كالعلامة الخوئي (دام ظله).

(2) كاستادنا العلامة الگلپايگاني (دام ظله).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 242

..........

______________________________

و قد نسب هذا الوجه، والدنا العلامة (قدس سره) في الرسالة إلى شيخه المحقق النائيني (قدس سره).

و لكن رده: فيها بالفرق بين الحيوة و سائر الشرائط بلحاظ ان اعتبار سائر الشرائط لما كان بدليل لفظي فمقتضى الإطلاق اعتبارها ابتداء و استدامة، بخلاف شرطية الحياة فإنه و ان أقيم على اعتبارها بعض الأدلة اللفظية، الا انه لا يخلو عن مناقشة و الدليل الوحيد على اعتبار الحيوة الإجماع و هو دليل لبى يقتصر فيه على القدر المتيقن، و هو التقليد الابتدائي اه «1».

و لكن

فيه أولا: كما سنشير اليه ان الأمر في اعتبار سائر الشرائط أيضا لم يكن بالدليل اللفظي، بل بالإجماع و نحوه.

و ثانيا: انه ذكرنا لاعتبار الحيوة في مرجع الفتوى وجها غير الإجماع فلاحظ

توجيه للفرق بين الحيوة و سائر الشرائط بقاء و دفعه

و ربما يوجه لاعتبار الايمان، و العدالة، و العقل و نحوها في المرجع بقاء لأجل ان المتصف بها لا يليق- و لو باعتبار فتواه السابقة- لزعامة المسلمين لسقوطه عن الانظار بطرو حالة الجنون، و نحوه، لا لأجل زوال رأيه، و هذا بخلاف الموت فإنه لا يوجب نقصا على الإنسان بل كمالا للنفس لتجردها من عالم المادة، و لوازمها و وصولها الى عالم المجردات، و كمالاتها اه «2».

و لكن فيه: انه بالموت و ان كان ينتقل الإنسان إلى نشأة أخرى الا انه فيما هو المهم في المقام يشترك مع تلك الشرائط لعدم صلوح الميت لزعامة المسلمين، و لو بلحاظ فتواه السابقة فوزان الحيوة وزان سائر الشرائط حدوثا و بقاء فتدبر.

فلم يتحصل مما ذكرنا دليل و حجة على عدم جواز البقاء على تقليد الميت نعم مقتضى الأصل كما ذكرنا، و ان كان عدم الحجية الا انه يستدل للجواز بأمور.

و ليعلم ان موضوع البحث هنا ما إذا لم يعلم مخالفة الميت للحي، و اما إذا

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 8.

(2) الدروس ج 1/ 47.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 243

..........

______________________________

علم مخالفتهما تفصيلا، أو إجمالا فسيجي ء الإشارة إليه تحت عنوان الإيقاظ فارتقب حتى حين.

أدلة جواز البقاء على تقليد الميت
اشارة

و كيف كان ما قيل أو يمكن ان يقال لجواز البقاء على تقليد الميت أمور.

الأمر الأول إطلاق الأدلة اللفظية

قد عرفت ظهور الأدلة اللفظية من الآيات، و الاخبار، على اعتبار الحيوة فيمن يرجع إليه في الفتوى، و مقتضى إطلاقها شمولها لمن راجع الى المجتهد حال حياته بتعلم فتواه، أو بأخذ رسالته بانيا على العمل بها، أو نحو ذلك مما يصدق عليه عرفا الرجوع الى أهل الذكر، أو راوي الحديث، و الناظر في الحلال، و الحرام، الى غير ذلك من العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ثم مات المجتهد فعمل بفتواه جريا على رجوعه السابق.

و السر في ذلك عدم اعتبار العمل في صدق الرجوع و غيره من العناوين، فإذا سئل عن أهل الذكر، فأجاب مسئوله ثم مات فعمل بجوابه جريا على سؤاله يصدق عليه السؤال عن أهل الذكر، و كذا لو أخذ نظر راوي الحديث فمات فعمل بفتياه، يصدق عليه المراجعة إلى راو الحديث.

و بالجملة من سئل عن أهل الذكر، أو أخذ فتوى راو الحديث فعمل بقولهما بعد موتهما كان ذلك جريا على سؤاله السابق و أخذه، و ليس رجوعا، و أخذا ابتدائيا كي يمنع عنه فيعمه إطلاق الأدلة.

و بعبارة أوضح، ظاهر الأدلة يقتضي ان يكون السؤال عن أهل الذكر، أو راوي الحديث، أو غيرهما من العناوين و لا يكاد يتحقق، الاحال الحيوة، و لا تقييد فيها على تحقق العنوان حال العمل، فمن سئل و أخذ حال حياتهما كما هو المفروض

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 244

..........

______________________________

فمقتضى الإطلاق صحة العمل بقولهما، و ان كان بعد الممات و نتيجة ذلك جواز البقاء على تقليد الميت.

الأمر الثاني بناء العقلاء

و لعله عمدة ما يستدل به، لجواز البقاء و حاصله بناء العقلاء في مختلف العلوم و الحرف، و الموضوعات الخارجية، على الرجوع الى آراء خبراء الفن

من دون ملاحظة الحيوة، و لا يرون اى فرق بين حيهم و ميتهم كما تقدمت الإشارة اليه، و لذا تريهم إذا راجع المريض طبيبا حاذقا، و أخذ منه العلاج، ثم مات الطبيب من ساعته، قبل ان يعمل المريض بقوله لم يترك العقلاء العمل على طبق علاجه هذا و قد تقدم عدم كفاية مجرد البناء منهم ما لم ينضم إليه رضي الشارع، و لو بعدم الردع، و بلحاظ عدم معهودية التقليد الابتدائي للميت في الشريعة، لا يمكن استكشاف رضي الشارع به، و قد ذكرنا ما يصح الاستدلال لعدم جوازه.

و اما البقاء على آراء الخبراء بعد موتهم فلم يردع عنه بل مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية، كما تقدم في الأمر الأول إمضاء ما هم عليه، من جواز البقاء على آراء الخبراء بل وجوبه في بعض الموارد، كما إذا كان الميت اعلم مثلا، و كانت فتواه موافقة للمشهور كما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

الأمر الثالث السيرة المستمرة

ربما يتمسك لجواز البقاء بالسيرة المستمرة، في زمان أئمة أهل البيت عليهم السّلام على بقائهم على تقليد من أخذوا منه بعد موته لأنه لم يسمع الى الان عدول أهالي عصر الأئمة عليهم السّلام عمن يرجع إليه في الفتوى بعد موته، مع انه لو كان لذاع، و شاع لكثرة الدواعي على انتشار مثل هذه القضايا، و كثرة ابتلائهم، و قد صرح الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) كما تقدم بأنه كان في زمان أئمتنا عليهم السّلام: الزرارية، و اليونسية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 245

..........

______________________________

و نحوهم، و قد أمروا (صلوات اللّه عليهم) بالرجوع الى بعض أصحابهم، كما أمروا بالرجوع إلى زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و يحيى بن

زكريا و نحوهم و الظاهر ان المراد الرجوع في الفتوى دون الرواية اه «1».

و بالجملة مع شرع الإفتاء و التقليد في عصر الأئمة عليهم السّلام لم يسمع من أحد منهم العدول عمن يأخذون عنه الفتوى بعد موته، و لو كان، لنقل إلينا لتوفر الدواعي، على انتشار هذا النحو من الأمور.

و لكن يشكل التشبث بها: لإثبات مشروعية التقليد الدارج بيننا، و هو التعبد بنظر الفقيه، مع عدم حصول الاطمئنان به، بل الظن بمطابقة الرأي للواقع لان فتاوى الأصحاب على أنحاء.

أحدها: ما يعلم كونه مأخوذا من الرواية المنقولة فيؤخذ بها كما يؤخذ بالرواية، و يصنع بها كما يصنع بتلك، كما حكى غير واحد ذلك في فتاوى على بن بابويه، و لذا اشتهر أن الفقهاء كانوا يراجعون برسالته عند إعواز النصوص.

ثانيها: ما يكون من قبيل الرواية المنقولة بالمعنى مع اطمينان السامع، أو القاري، بعدم وجود المعارض له، و عدم صدوره تقية لحسن ظنه بمن أخذ منه، يطمأن بكون فتواه صادرة عن المعصوم من غير حاجة الى شي ء آخر.

ثالثها: ما يفيد القطع للسامع، و القاري خصوصا إذا كان ممن لا يلتفت الى الاحتمالات كغالب العوام، و النسوان.

رابعها: ما يكون بغير الأنحاء المذكورة فان لم تكن فتواه من قبيل الرواية المنقولة بالمعنى، و لا مأخوذة من الرواية، و لم يحصل للسامع، و القارئ، اطمئنان و لا ظن بالواقع كفتاوى أصحابنا في الأعصار المتأخرة.

و غاية ما يمكن ان يقال إثبات السيرة على الأخذ بالنحوين الأولين فلا تنفع لإثبات النحوين الأخيرين و لو تنزلنا عن ذلك فيمكن إلحاق النحو الثالث بهما،

______________________________

(1) الحق المبين في تصويب المجتهدين و تخطئة الأخباريين/ 61.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 246

..........

______________________________

و اما

إلحاق الوجه الأخير الذي نحن بصدد إثباته فغير وجيه.

الأمر الرابع الاستحسان العقلي

ربما يستدل لجواز البقاء على تقليد الميت، بل وجوبه بوجه عقلي، فإنه لو كان العدول من الميت إلى الحي جائزا، أو واجبا لزم تحمل القضية الواحدة لتقليدين، و اللازم باطل، فالملزوم مثله، بيان الملازمة واضح.

و لكن فيه أولا: انه انما يلزم لو أريد بالقضية الواحدة، الوحدة الشخصية و هي غير مراد قطعا، لان المراد بالوحدة في القضايا المبتلى بها الوحدة النوعية التي لها مصاديق شخصية.

و ثانيا: نمنع إطلاق اللازم، على ما هو الحق عندنا من القول بالتخطئة، و ان فتوى الفقيه كسائر الأمارات قد تصيب الواقع، و قد تخطى، خلافا لما عليه بعض الإمامية، من الالتزام بالمصلحة السلوكية التي يتدارك بها ما يفوت من المصلحة الواقعية، فالباب باب المعذرية و المنجزية، فلا مانع من تحمل الواقعة للتقليدين لو اقتضته الدليل.

الأمر الخامس العسر و الحرج

ربما يستدل لجواز البقاء بأنه لا بد في التقليد من معرفة فتوى المجتهد ليطابق عمله فتواه، و واضح ان تعلم الفتاوى على غالب الناس ليس امرا سهلا بل فيه صعوبة و لا بد لهم في ذلك من مراقبة أكيدة، و عناية مخصوصة، فإذا وجب العدول إلى الحي بموت المجتهد فحيث ان اختلاف فتاوى المجتهدين كثيرة فلا بد له من تحمل مثل المشقة التي صرفه في معرفة فتاوى الفقيه المتوفى، في معرفة فتوى الفقيه الحي، بل ربما يكون ذلك أشق عليه بعد ما حفظ فتاوى المتوفى، و ربما يوجب اشتباه فتوى أحدهما بالآخر، فيقع المقلد في حيرة و ضلالة، فلو فرض موت الفقيه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 247

..........

______________________________

الثاني، و وجب العدول الى الثالث يكون الأمر عليه أصعب كما لا يخفى و هكذا.

و بالجملة لو لم يجز البقاء على تقليد

الميت و وجب عليه العدول إلى الحي يلزم العسر و الحرج المنفيين في الشريعة في تعلم الفتاوى لغالب الناس بعد تخالف آراء الفقهاء و تضارب الفتاوى.

أضف الى ذلك ان اختلاف فتوى الحي و الميت ربما يوجب قضاء اعمال اتى بها المقلد في سنين متمادية، و واضح انه حرج شديد.

و فيه: انه بعد معرفة فتاوى الفقيه المتوفى و لا يكون معرفة موارد خلاف فتوى الحي، مع الميت بحيث يوجب عسرا شديدا و حيرة كما لا يخفى، بل يمكن تحصيله في مدة قليلة، مع انه لا تكون فتاوى الحي كثيرة الخلاف مع الميت، بل ربما يرجع اختلافهما من حيث إيجاب أحدهما الاحتياط، و عدم إيجاب الأخر إياه، و المقلد بحسب العادة غالبا يأتي بما هو موافق للاحتياط.

و اما استلزام العدول إلى الحي، قضاء ما اتى على رأى المتوفى ففيه ان موارد استلزام اختلاف الفتاوى قضاء الأعمال السابقة قليلة جدا كما لا يخفى بعد إمكان تصحيحها بمثل قاعدة لا تعاد في الصلاة و الإجماع فيها، و في غيرها، و لو كانت كثيرة لا يكون بحيث يصعب قضائها، و لو استلزم الحرج الشديد أحيانا فيتقدر بقدره، فيجب عليه قضاء الأعمال المتقدمة ما لم يستلزم الحرج الشديد، و عند الاستلزام يرفع اليد عن القضاء، لا عن عدم العدول إلى الحي. فتدبر.

و بالجملة المحذور يتقدر بقدره فغاية ما يقتضيه نفى العسر و الحرج عدم وجوب قضاء ما اتى به على تقليد المتوفى، لا عدم لزوم القضاء فضلا عن عدم العدول إلى الحي فتدبر.

الأمر السادس الاستصحاب
اشارة

قد تقدم تمامية الاستدلال لجواز البقاء على تقليد الميت بإطلاق الأدلة اللفظية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 248

..........

______________________________

و بناء العقلاء، و معهما

لا تصل النوبة إلى الاستصحاب لما تقرر في محله ان الأصل دليل حيث لا دليل اجتهادي، فلا موقف لإجراء الاستصحاب و ان كان موافقا لنطاق الدليل الاجتهادي.

و لكن حيث انه يمكن ان لا يقع ما ذكرناه مورد قبول بعض رواد العلم فينبغي التعرض لجريان الاستصحاب و ما وقع فيه من النقض و الإبرام تتميما للقاعدة فأقول و أجمل.

تقريبان للاستصحاب و الفرق بينهما

ان تقريب الاستصحاب تارة من ناحية حجية فتوى الفقيه بعد موته بان يقال لا إشكال في حجية فتوى الفقيه الجامع للشرائط و صحة الاستناد إليها، و جواز الأخذ بها و العمل بها حال حياته و بعد الموت يشك في بقاء حجيتها، و صحة الاستناد إليها، و جواز الأخذ بها فيستصحب.

و اخرى من جهة جواز تقليده بعد موته بان يقال لا إشكال في ان المكلف يصح له العمل بفتوى الفقيه و الاستناد إليها في مقام العمل حال حياته، و بعد مماته يشك في ذلك فيستصحب.

و الفرق بين التقريبين بعد اشتراكهما في تجويز البقاء على تقليد الميت، هو ان نطاق الاستصحاب على التقريب الأول يعم التقليد الابتدائي الا ان الدليل قام على عدم جواز التقليد الابتدائي، بخلاف التقريب الثاني بأنه يختص بمرحلة البقاء

الإشكال في التقريبين من جهتين أو جهات

أشكل على كلا التقديرين تارة بأن المستصحب لا بد و ان يكون حكما شرعيا، أو موضوعا ذا حكم شرعي و الحجية ليست شيئا منهما لأنها أمر انتزاعي من الحكم المجعول في مورده.

و اخرى: بأن حجية فتوى المجتهد في باب التقليد متقوم بالحيوة و بعد الموت يقطع بارتفاع الموضوع، و لو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من الشك في بقاء الموضوع،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 249

..........

______________________________

و معه لا مجال للاستصحاب و قد أوضح ذلك والدنا العلامة في الرسالة.

موضوعات الأحكام على أنحاء ثلاث

«ان ما يؤخذ في موضوعات الأحكام يتصور على أنحاء ثلاثة.

الأول: ان يكون لمجرد الإشارة الى ما هو موضوع للحكم واقعا من غير ان يكون له دخل في الحكم لا في مرحلة الحدوث و لا في مرحلة البقاء كقولك اعمل بما في الطومار.

الثاني: ما له دخل في مرحلة الحدوث و لكن يشك في دخالته في مرحلة البقاء كتغير الماء بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة، و لا فرق في ذلك- بين ان يؤدى بالجملة الوصفية كما إذا قيل الماء المتغير ينجس بالتغير، أو بالجملة الشرطية كما إذا قيل الماء إذا تغير ينجس- قضاء لمناسبة الحكم و الموضوع حيث ان العرف يرى ان النجاسة بالقياس الى الماء من قبيل الاعراض و ان محلها هو الجسم المائع السيّال، فيعلم ان التغير من حالات الموضوع لا من مقوماته.

و بعبارة اخرى انه واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض فعند زوال التغير بنفسه، أو بعلاج يشك في نجاسته، و طهارته، فيحكم بنجاسته تعويلا على الاستصحاب لتحقق أركانه.

الثالث: ان يكون له دخل في الحكم حدوثا، و بقاء كقوله: قلد المجتهد العادل، و أعط الفقير الزكاة، فإنه يعلم بمناسبة الحكم و

الموضوع ان وصف الاجتهاد أو العدالة أو الفقر من مقومات الموضوع لوجوب التقليد، و إعطاء الزكاة و عند زوال الوصف، في هذا القسم، كالاجتهاد و العدالة في المثال الأول، و الفقر في المثال الثاني، لا مجال للاستصحاب للقطع بانتفاء الموضوع.

إذا عرفت ذلك فنقول: ان وصف الحيوة بالنسبة إلى حجية الفتوى ان كان كوصف التغير بالنسبة إلى النجاسة في كونها من حالات الموضوع صح استصحاب بقاء حجية فتوى المجتهد بعد موته، و اما ان كان كوصف الفقر، و الاجتهاد من مقومات الموضوع، و ذا مدخلية في حجية فتوى المجتهد حدوثا و بقاء فلا مجال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 250

..........

______________________________

لاستصحاب بقاء حجية فتواه بعد موته لارتفاع الموضوع.

و الظاهر كونه من قبيل الثاني و لا أقل من الشك في كونه من قبيل الأول، و على كلا التقديرين، لا مجال للاستصحاب للعلم بارتفاع الموضوع على تقدير، و الشك في بقائه على تقدير آخر. اه «1».

و قد يقرر ذلك بان موضوع الحجية هو الرأي و قد علمنا بزواله، و لذا ترى انه إذا تبدل رأى المجتهد لا تكون فتواه الأولى حجة، و كذا إذا مرض، أو هرم بحيث عرض له النسيان أو طرء عليه الجنون.

صحة جريان الاستصحاب

و لكن الذي يقتضيه دقيق النظر جسما استفدناه من بحث أستادنا العلامة الخمينى دام ظله جريان الاستصحاب و عدم تمامية الإشكال.

أما الإشكال الأول فلان الحجية حكم وضعي مجعول لأنها عبارة عن صلوح الشي ء للاحتجاج لما تقرر في محله ان كل مقرر، و قانون، من مقنن نافذ رأيه في المجتمع يطلق عليه الحكم سواء كان تكليفيا، أو غير تكليفي، فإن كان تكليفيا يطلق عليه الحكم التكليفي، و الا يكون

وضعيا، فالأحكام الوضعية عبارة عن جميع المقررات الشرعية ما عدى الأحكام التكليفية، و هي قد تكون مجعولة اصلية، و قد تكون مجعولة بتبع التكليف به، أو بتبع اشتراط التكليف به بمعنى انتزاعه منه.

و الأول كالجزئية للمكلف به أو الشرطية أو المانعية له.

و الثاني كالاستطاعة في الحج حيث تنتزع من اشتراط تكليف الحج به.

و الحجية من الأحكام الوضعية و معناها صلوح شي ء و لو إمضاء للاحتجاج كما ان السببية مجعولة و معناها اعتبار شي ء موضوعا للاعتبار.

و خلط باب التشريع بالتكوين أوجب توهم كون الحجية و السببية، و الشرطية و غيرها من الأحكام الانتزاعية غير القابلة للجعل لا أصلا و لا تبعا.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 77.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 251

..........

______________________________

فرأوا أن السببية التكوينيّة مثلا غير قابلة للجعل لا تكوينا، و لا تشريعا، لا أصالة و لا تبعا، و الذي يقبل الجعل ذات السبب، و وجوده العيني، و اما السببية فهي من لوازم ذاته، و كذا الأمر في الحجية، مع ان السببية في الأمور التشريعية، و الاعتبارية بمعنى أخر غير السببية التكوينيّة، لأنها عبارة عن جعل شي ء موضوعا للاعتبار، فالشارع الأقدس جعل قول الزوج: هي طالق مثلا مع الشرائط المقررة في قانونه موضوعا لرفع علقة الزوجية، و يكون قوله عليه السّلام ذلك سببا لفسخ الزوجية من دون رشح، و إفاضة، و خصوصية، كما هو الشأن في السببية التكوينيّة.

فكم أورث خلط التشريع بالتكوين إشكالات و تبعات مذكورة في محالها فلاحظ فبعد ما تمهد لك ما ذكرنا يظهر لك حال الحجية فإنها عبارة عن جعل شي ء و لو إمضاء موضوعا لاحتجاج.

فاذا تحقق كون الحجية من المجعولات الشرعية فيصح ان يقال ان فتوى الفقيه الحي

كانت حجة في حياته قابلة لاحتجاج بها و بعد موته يشك في حجيتها فيستصحب.

و كذا يقال يجوز للعامي تقليد الفقيه حال حياته و بعد موته يشك في ذلك فيستصحب الجواز.

و ان أبيت عن استصحاب الحجية فنقول كما أشرنا إليه في الموقف الأول ان جواز استصحاب روح الحكم الثابت حال حياته فلعله لا اشكال فيه.

و لو نوقش في ذلك فيصح استصحاب الحكم الشرعي، في موردها الذي انتزعت منه، و هو اما وجوب العمل أو جواز العمل على طبق فتوى هذا الفقيه، في زمن حياته فيستصحب بعد موته.

هذا كله بالنسبة إلى الإشكال الأول.

و اما إشكال تقوم الرأي بالحيوة ففيه ان أخذ موضوعات الأحكام، و ان كان على أنحاء ثلاث الا ان الظاهر ان أخذ موضوع الحكم في المقام من قبيل القسم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 252

..........

______________________________

الثاني لأن الرأي له بقاء عرفا نظير اخبار المخبر فكما ان اخباره لا ينعدم بموته كذا رأى الفقيه لا ينعدم بموته، فيكون وزان موضوعية الرأي للحجية، نظير التغير للماء حيث يكون لحدوثه مدخليّة في مرحلة الثبوت، و نظير عدم جواز الصلاة خلف المحدود في زمان على بعض الأقوال، و عدم قبول شهادة من رمى المحصنة بالزنا الى غير ذلك من الأمثلة.

و تنظير المقام بتبدل الرأي في غير محله: إذ تبدل الرأي يكون نظير ما إذا أخبر المخبر بخبر ثم قال بعد ذلك انى أخطأت في خبري فدليل الحجية من أول الأمر قاصر لا يشمل صورة الاخبار خطأ و اشتباها و هكذا قضية تبدل الرأي فتدبر.

و لا يقاس المقام بالهرم الموجب للنسيان، أو الجنون الطاري، لأنهما يعدان نقصا في المجتهد بخلاف الموت فإنه كمال، و انتقال

من نشأة الى نشأة أعلى و ارفع.

مضافا الى انه لو لم يكن هناك اتفاق و ارتكاز لقلنا بجواز تقليد من طرء عليه الهرم الكذائي أو الجنون.

فظهر انه لا موقف للإشكال في جريان الاستصحاب من هاتين الجهتين.

الإشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية

و لكن قد يناقش في جريان الاستصحاب في المقام من ناحية أخرى، و هي عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية سوى استصحاب عدم النسخ، لان الشك في بقاء الحكم في غير استصحاب عدم النسخ معارض دائما باستصحاب عدم الجعل ففي المقام الشك في بقاء الحجية الفعلية لفتوى الميت المقتضى لتوسعة نطاق حجية فتواه بعد الموت، معارض باستصحاب عدم جعل الحجية على رأيه و فتواه في هذا الحال.

و بالجملة الشك في بقاء الحجية، و ان كان ناشيا من جهة سعة المجعول و ضيقه، الا انه معارض باستصحاب عدم جعل الحجية على رأيه، و فتواه، في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 253

..........

______________________________

هذا الحال.

و بعبارة أوضح استصحاب بقاء الحجية، و ان كان مقتضيا لسعة دائرة الحكم الفعلي، و استدامته لبعد حياته، الا ان الأصل المعارض له، و هو استصحاب عدم جعل الحجية ينتج ضيقه.

و هكذا الكلام في الماء المتغير، فإنه إذا تغير الماء بملاقات النجس يصير نجسا فاذا زال تغيره من قبل نفسه أو بعلاج إذا شككنا في بقاء نجاسته فمرجع الشك و ان كان الى ان المجعول هل كان وسيعا حتى يشمل ما بعد التغير، و زواله أو كان ضيقا مختصا بحال التغير فتستصحب النجاسة الى بعد زوال التغير، و لكن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم جعل النجاسة لهذا الموضوع في هذا الحال

استصحاب عدم الجعل محكوم باستصحاب الحكم الفعلي

و لكن يمكن ان يقال: ان استصحاب عدم الجعل محكوم باستصحاب الحكم الفعلي لأن الشك في جعل الحجية لرأي الميت و عدمه- الذي هو الموضوع لاستصحاب عدم الجعل- ناش عن سعة المجعول و عدمه فإذا جرى الأصل في المجعول و استصحبنا الحجية الى ما بعد الموت فلا

يبقى الشك في الجعل أصلا، لأن الأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب.

لا دليل على تقدم الأصل السببي على المسببي مطلقا

و لكن يناقش بأنه لا وجه لتقدم الأصل السببي على المسببي إلا إذا كان المسبب من آثار الشرعية للسبب كالثوب المغسول بالماء المشكوك نجاسته، و طهارته، بجريان الاستصحاب في الماء المشكوك، فاستصحاب طهارة الماء يرفع الشك عن نجاسة الثوب المغسول به، فإن أثر طهارة الماء شرعا طهارة الثوب المغسول به، و اما المقام فليس كذلك لأن السببية و المسببية عقليان.

تصحيح تقديم استصحاب الحجية على استصحاب عدم الجعل

الا انه يمكن ان يقال ان الحجية أمر مجعول كما أشرنا فباستصحاب الحجية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 254

..........

______________________________

يرتفع الشك شرعا، و مقتضاه ارتفاع الشك في عدم الجعل.

و بالجملة باستصحاب الحجية يرتفع الشك في عدم جعل الحجية، كما يرتفع الشك في طهارة الثوب شرعا باستصحاب طهارة الماء فتدبر.

كلمة في عدم جريان استصحاب عدم الجعل و الاشكال فيها

و ربما أيد ذلك بما عن بعض المحققين من ان استصحاب عدم الجعل لا يجري في حد نفسه، إذ لا يترتب على استصحاب عدم الجعل، حكم فعلى يقتضي الحركة و السكون، على طبقه، ضرورة انه من آثار الأحكام الفعلية، فلا مجال لمعارضته مع استصحاب بقاء المجعول، الأبناء على القول بالأصل المثبت.

و لكن لا يخفى أولا: ان ما افاده من عدم ترتب الأثر على استصحاب الجعل غير وجيه لأن أثر كل شي ء بحسبه، فاستصحاب الجعل عند الشك في النسخ كما يجرى، و يكون مقتضاه التحرّك، و الانبعاث فكذا يجرى استصحاب عدم الجعل، و يكون مقتضاه الترخيص، و الإباحة فتدبر.

و ثانيا: ما أشرنا إليه من ان استصحاب عدم جعل الحجية لفتوى الميت من أثار الشرعية لاستصحاب حجية فتواه فليس أثرا عقليا له حتى يكون مثبتا.

فتحصل بما ذكرنا بطوله: انه لا يبعد جريان استصحاب حجية فتوى الفقيه بعد موته، و اشكال عدم بقاء الموضوع، أو معارضة استصحاب الحجية باستصحاب عدم الجعل غير وجيه.

و لكن بعد اللّتيا و اللّتي لا يكاد ينفع هذا الاستصحاب، و لا تصل النوبة إلى إثبات حجية رأى الميت بالأصل بعد ما عرفت من تمامية الدليل الاجتهادي من إطلاق الأدلة اللفظية، و بناء العقلاء.

عدم إطلاق الأدلة لجواز البقاء في صورة العلم باختلاف الفتوى

و ليعلم ان ما ذكرنا كله فيما إذا لم يعلم مخالفة فتوى الميت لفتوى من يجوز تقليده من الأحياء تفصيلا، أو إجمالا- سواء علم بتوافقهما في الفتوى، أو احتمل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 255

..........

______________________________

توافقهما- و قد عرفت تمامية دلالة بعضها، و عدم تمامية دلالة الأخر.

و اما إذا علم المخالفة بينهما كذلك، فلا يصح الاستدلال لجواز البقاء على تقليد الميت، بإطلاق الأدلة اللفظية، لسقوطهما عن

الحجية في هذا الحال لعدم إمكان شمولها لكلا المتعارضين، للتكاذب، و لا لأحدهما لعدم المرجح.

حكم بناء العقلاء و حكم العقل في صورة اختلاف انظار الخبراء

فلا بد من الرجوع الى ما استقرت عليه بناء العقلاء عند معارضة انظار الخبراء و إذا شك في بناء العقلاء فيرجع الى حكم العقل، و يختلف ذلك باختلاف صور المسئلة.

و ذلك لأنه اما يعلم اعلمية الميت من الحي، أو بالعكس، أو يعلم تساويهما، أو يحتمل ذلك، أو يحتمل اعلمية كلا منهما من الأخر.

فإن علم اعلمية الميت فيجب البقاء على تقليد الميت إذا لم تكن فتوى الحي مطابقة للاحتياط و ذلك لأمرين.

الأول: قيام السيرة العقلائية على العمل بقول الأعلم في موارد المعارضة مع غير الأعلم من غير فرق بين ان يكون الأعلم حيا، أو ميتا، و لا فرق في ذلك بين ما إذا علم، و عمل بفتوى الميت أم لا، و لم يثبت ردع من الشارع إلا في التقليد الابتدائي الثاني: حكم العقل بالتعيين في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و محتمل التعيين انما هو تقليد الأعلم، و دعوى الإجماع على عدم وجوب البقاء على تقليد الميت غير ثابتة.

نعم إذا كانت فتوى الحي مطابقة للاحتياط فلا يجب تقليد الميت بل يجوز له العمل بفتوى الحي من باب الاحتياط لا التقليد.

و ان أحرز اعلمية الحي فيحرم عليه البقاء، بل يجب عليه العدول إذا لم تكن فتوى الميت موافقة للاحتياط للوجهين المتقدمين.

نعم إذا كانت فتواه موافقة للاحتياط فيجوز العمل بها احتياطا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 256

..........

______________________________

و ان أحرز تساويهما، أو احتمل ذلك، أو احتمل اعلمية كل منهما من الأخر، فالذي استقر عليه بناء العقلاء في تلك الموارد هو الاحتياط مهما أمكن ذلك، و

إذا لم يمكن ذلك كما في دوران الأمر بين المحذورين فبنائهم على التخيير.

و ان أبيت عن ذلك، و شككت في ثبوت البناء فيرجع الى مقتضى حكم العقل، و هو أيضا الاحتياط لا البراءة لتنجز الأحكام الواقعية إجمالا فلا بد من الاحتياط مهما أمكن، و ان لم يمكنه الاحتياط فمقتضى الأصل هو التخيير العقلي.

هذا إذا لم يكن إجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامي مع التمكن من التقليد، و ان كانت ثمة دعوى الإجماع فيتخير بين البقاء على تقليد الميت و العدول إلى الحي في هذه الموارد و اللّه العالم بأحكامه.

ينبغي التنبيه على أمور

الأمر الأول في انه لا فرق في جواز البقاء على تقليد الميت

عند عدم العلم بمخالفة فتواه للحي بين كون الميت اعلم من الحي، أو الحي أعلم، فلا يجب البقاء في الصورة الأولى كما لا يجب العدول في الصورة الثانية، و ان كان اولى كما نشير إليه إن شاء اللّه ان الأعلمية ليست من شرائط التقليد، و اعتبار من اعتبره انما هو في صورة اختلاف الفتوى.

بل على المذهب المختار في التقليد من كون التقليد عبارة عن العمل المستند بقول الغير، أو الاستناد بقول الغير في مقام العمل لا يكون لإثبات جواز البقاء على تقليد الميت فائدة مهمة لأن الميت و الحي حسب الفرض متوافقان في الرأي، لأن العمل الموافق لرأي الميت موافق لرأي الحي، كانت رأى الميت حجة أم لا.

نعم على القول بكون التقليد عبارة عن الالتزام بالعمل برأى الغير تكون لمسئلة جواز البقاء مع اتفاق الفتوى فائدة، لدوران الصحة مدار الاستناد، و عدمه، كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 257

الأمر الثاني في عدم دخالة العمل في جواز البقاء على تقليد الميت.

______________________________

قد يقال: ان جواز البقاء على تقليد الميت انما هو في خصوص المسائل التي عمل بها قبل فوت المجتهد بل قد يخص ذلك بما إذا كانت المسائل التي عمل بها موافقة للاحتياط.

و قد يبتني- و هم الكثير منهم- جواز البقاء، و عدمه على كون التقليد عبارة عن العمل برأى الغير، أو الالتزام برأيه.

فعلى الأول فلا بد في البقاء من العمل برأيه لعدم تحقق عنوان البقاء على تقليده إلا في المسائل التي عمل بها برأيه.

و على الثاني فلا يتوقف عنوان البقاء على العمل، بل يكفى مجرد الأخذ، و الالتزام للعمل في تحققه، و ان لم يعمل بعد.

و قد يقال: انه إذا أخذ الفتوى زمن حياته و لكن لم يعمل به

حتى مات فلا يبعد ان يكون العمل بتلك الفتوى داخل في تقليد الميت ابتداء فالأحوط في هذه الصورة، الرجوع الى الحي نعم لو عمل ببعض فتياه بانيا على الرجوع إليه في كل مسئلة يحتاج إليها، فالأقوى جواز البقاء مطلقا و لو بالنسبة إلى المسائل التي لم يعمل بها.

و لكن قد يقال انه إذا تعلم فتواه، و لم يطرء عليه النسيان قبل موته، يجوز له البقاء، و ان لم يعمل بفتياه أصلا، فلو لم يتعلم فتواه، أو تعلمها و لكن طرء عليه النسيان يجب عليه الرجوع الى الحي.

و لكن الذي يقتضيه النظر، هو عدم توقف جواز البقاء و عدمه على كون التقليد العمل بفتوى الغير، أو الالتزام برأيه، فيصح القول بالبقاء، و ان قلنا بان التقليد عبارة عن العمل برأى الغير، لعدم أخذ عنوان البقاء على التقليد في لسان شي ء من الأدلة حتى يراعى اعتبار ذلك، لما أشرنا ان دليل الجواز لا يخلو عن أحد هذه الأمور

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 258

..........

______________________________

1- اما إطلاق الأدلة.

2- أو بناء العقلاء.

3- أو الاستصحاب.

و ليس في شي ء منها عنوان العمل فضلا عن البقاء عليه.

و ذلك اما إطلاق الأدلة فقد تقدم ان مقتضاه اعتبار الرجوع الى المجتهد في زمن حياته، و واضح ان الرجوع يتحقق بمجرد تعلم الفتوى للعمل و ان لم يعمل بعد فمن تعلم الفتوى منه حال حياته، و لكن لم يعمل بها الى ان مات يصدق عليه الرجوع الى الحي و لعله واضح.

و اما بناء العقلاء فواضح لما أشرنا ان بنائهم على الرجوع الى آراء خبرائهم و لو كانوا ميتين خرجنا عنه في التقليد الابتدائي للردع، أو لعدم إحراز الرضى.

و اما

الاستصحاب فلان مقتضاه حجية الرأي، أو جواز البقاء أو نحو ذلك، عمل بها أم لم يعمل، ضرورة ان حجية فتواه، أو جواز العمل برأيه قبل موته غير مشروط بالعمل فلو شك في اعتباره بعد موته فيستصحب ذلك.

الأمر الثالث في عدم اعتبار تذكر الفتوى و عدم نسيانه في جواز البقاء.

فبعد ما عرفت عدم اعتبار العمل في جواز البقاء يقع الكلام في اشتراط تذكر الفتوى لجواز البقاء فذهب بعض الأساطين دام ظله الى اعتبار الذكر في البقاء فإذا نسي الفتوى بعد ما أخذها و تعلمها ينعدم أخذه السابق، و رجوعه الى الميت قبل موته فاذا تذكرها يكون رجوعا جديدا، و لا يكون فرق بين الرجوع اليه و بين الرجوع الى غيره من المجتهدين الأموات فيعمه عدم جواز تقليد الميت ابتداء اه «1» و لكن في النفس فيما أفاده شي ء و ذلك لأنه كما لم يعتبر في جواز البقاء على تقليد الميت العمل على طبقه فكذلك لا يعتبر تذكرها، و لعلهما يرتضعان من ثدي

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 112.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 259

..........

______________________________

واحد، فكما عرفت، و أشار دام ظله عدم أخذ عنوان البقاء على التقليد و العمل في لسان شي ء من أدلة جواز البقاء من إطلاق الأدلة و بناء العقلاء، و الاستصحاب، فكذلك لم يؤخذ ذكر الفتاوى في شي ء منها، فمن تعلم فتوى الفقيه للعمل يصدق عليه الرجوع الى الفقيه، حال حياته، طرء عليه النسيان أم لا، و من نسي الفتوى ثم تذكرها لا يصدق عليه الرجوع الابتدائي و لعله واضح، فاذا لم يصدق عليه الرجوع الابتدائي يظهر صحة الاستدلال لجواز البقاء ببناء العقلاء بل بالاستصحاب كما لا يخفى.

فتحصل مما ذكرنا كله ان جواز البقاء على تقليد الميت غير مشروط بالعمل بآراء

المجتهد حال حياته عمل ببعض فتاويه أم لم يعمل، و لا ببقاء الذكر، فمن تعلم فتوى الفقيه للعمل بها يجوز له البقاء على رأيه، و ان لم يعمل بفتواه أصلا بل و ان تذكرها بعد نسيانها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 261

[مسئلة 10- العدول عن تقليد الحي]

اشارة

مسئلة 10- إذا عدل عن الميت إلى الحي (1) فلا يجوز له العدول الى الميت (2).

مسئلة 11- لا يجوز العدول عن الحي (3) إلى الحي إلا إذا كان الثاني اعلم (4).

______________________________

(1) ان أخر قدس ذكر هذه المسئلة عن مسئلة العدول عن الحي إلى الحي كان اولى.

(2) ان كان الحي أعلم، أو كان مساويا للميت، و ان كان الميت اعلم فالأظهر وجوب العود الى الميت على تفصيل يأتي في مسئلة تقليد الأعلم

(3) فيما إذا اختلفا في الفتوى بالنسبة إلى المسائل التي عمل بها، و اما في غيرها فالأحوط الاولى عدم العدول.

(4) فالأقوى حينئذ العدول الى الثاني على تفصيل يأتي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 262

..........

______________________________

أقول: المسئلتان ترتضعان من ثدي واحد فيما هو المهم في المقال، و ان اختلفتا في بعض الوجوه، فالأولى البحث أولا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي، ثم تذييلها بمسئلة العدول من الحي إلى الميت فنقول.

الأقوال في العدول عن الحي إلى الحي

اشارة

اختلفوا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي على أقوال:

فعن النهاية، و وافقها المحقق، و الشهيد، الثانيان، و في الجعفرية، و المقاصد العلية، و المحقق الأصفهاني في الرسالة (قدس اللّه أسرارهم): الجواز.

و عن التهذيب، و شرحه، و الذكرى، و المحقق القمي في جامع الشتات، و العلامة الأنصاري في رسالة التقليد، بعد العمل برأى الأول (قدس اللّه أسرارهم):

عدم الجواز.

و ذهب الماتن (قدس سره) الى عدم جواز العدول- سواء كانا متساويين، أو كان الأول أعلم- إلا إذا كان الثاني اعلم.

و عن العلامة الحائري (قدس سره) التفصيل بين العدول في واقعة شخصية بعد الأخذ و العمل به كما لو صلى بلا سورة بفتوى أحدهما فأراد تكرار الصلاة في السورة، بفتوى الأخر، و بين

العدول في الوقائع المستقبلة التي لم يعمل، أو العدول قبل هذا الالتزام و الأخذ، فذهب الى عدم الجواز في الأول مطلقا، و عدم الجواز في الأخيرين، ان قلنا بان التقليد هو الالتزام، و الأخذ، و الجواز ان قلنا بأنه نفس العمل مستندا الى الفتوى.

و ذهب بعضهم إلى الأخذ بأحوط القولين ان كانا متساويين، أو كان الثاني اعلم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 263

..........

______________________________

الى غير ذلك من الأقوال:

و كيف كان يستدل لجواز العدول بوجهين.
الوجه الأول: إطلاق ما دل على جواز التقليد
اشارة

فإنه يشمل فتوى المجتهد الثاني بعد الأخذ بفتوى المجتهد الأول.

و بالجملة لم يقيد ما دل على حجية فتوى المجتهد، و جواز الأخذ بها بما إذا أخذ بفتوى غيره، فمقتضى الإطلاق حجية فتوى المجتهد و ان كان العامي، أخذ بفتوى غيره.

قلت: لا يتم الاستدلال بالإطلاق في جميع صور المسئلة لان المعدول عنه، و المعدول اليه، اما يكونا متساويين في الفضيلة، أو يكون المعدول عنه أعلم، أو بالعكس، و على اى تقدير، اما يكونا متفقين في الفتوى، أو مختلفين فيها.

فمع إحراز اتفاقهما في الفتوى، أو عدم إحراز مخالفتهما في الفتوى، فحيث لا يجب تقليد الأعلم عند ذاك لما سنشير اليه- من ان وجوب تقليد الأعلم مخصوص بما إذا أحرز المخالفة بينه و بين غيره- فلا مانع من الاعتماد على فتوى كل من المجتهدين عملا بإطلاق أدلة الحجية، فإن مقتضاه حجية صرف الوجود من الفتوى، الصادق على الواحد، و المتعدد.

و اما مع إحراز تخالفهما في الفتوى فمع اعلمية من قلده لا يجوز العدول عنه الى المجتهد الثاني، و لو عدل يكون واقعا في غير محله فيلزم عليه الرجوع الى المجتهد الأول، لحكم العقل و العقلاء بلزوم تقليد الأعلم، عند الاختلاف في الفتوى كما انه إذا

كان المجتهد الثاني، اعلم، يجب العدول اليه للوجه المتقدم.

و اما مع تساويهما في الفضيلة، و لعل محل الكلام في التمسك بالإطلاق هو هذه الصورة، فنقول كما قرر في محله، ان إطلاق دليل الحجية لا يشمل المتعارضين المتكافئين، لاستلزامه الجمع بين المتنافيين، و لا أحدهما المعين، لكونه ترجيحا بلا مرجح فيتساقط الدليلان عن الحجية، و لذا يقال ان الأصل الأولي في الأمارتين المتعارضتين التساقط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 264

ثبوت التخيير في الأمارتين المتعارضتين مطلقا

______________________________

و لكن مقتضى ما ورد في الخبرين المتكافئين، هو التخيير بينهما و عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) الإجماع على ثبوت التخيير بين الفتويين المتعارضتين.

و بعبارة أخرى الإجماع على إلحاق الفتويين المتعارضتين بالخبرين المتعارضين و ربما يدعى وجود السيرة المتشرعة في زمن الأئمة المعصومين عليهم السّلام على الرجوع الى المفتين و الرواة، و لو مع العلم الإجمالي بمخالفة بعضهم مع بعض.

بل صرح أستادنا العلامة الخمينى دام ظله بتسالم الأصحاب على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين، و عدم وجوب الاحتياط، أو الأخذ بأحوط القولين «1»

لا يستفاد التخيير الاستمراري مما دل على التخيير

و لكن موضوع الأمر بالتخيير في اخبار التخيير، و الإجماع، هو صرف وجود التخيير فبعد الأخذ بأحد الخبرين، أو الفتويين يسقط الأمر، فلا موقف لبقاء التخيير فلا يجوز طرح أحد الخبرين بعد الأخذ به، و الأخذ بالآخر، و لا يجوز كما لا يصح العدول من أحدهما إلى الأخر.

و بالجملة موضوع الأمر بالتخيير، المتحيّر، و من تعارض لديه الخبرين، أو الفتويين، و بعد الأخذ بأحدهما يخرج عن التحيّر، و عمن تعارض لديه الخبران أو الفتويان.

و الحاصل انه لا يكاد يستفاد من الاخبار التخيير، و الإجماع: التخيير الاستمراري، و غاية ما يستفاد، هو التخيير الابتدائي فلا يجوز العدول من أحد الفقيهين المتساويين الى الأخر.

و لا يخفى ان هذا واضح ان قلنا بان التقليد عبارة عن الالتزام بقول الغير و عقد القلب عليه.

و اما ان قلنا بان التقليد عبارة عن الأخذ العملي، و العمل بأحدهما من باب

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 15.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 265

..........

______________________________

التسليم فعن العلامة الحائري قدس انه يستفاد من الأدلة جواز العدول.

و لكن فيه انه انما يتم إذا كان لدليل التخيير

إطلاق، و الا فان لم يكن له إطلاق أو كان الدليل لبيا، فلا يستفاد منه جواز العدول، و غايته، و القدر المتيقن منه هو الأخذ بما هو المتيقن منه، و هو التخيير الابتدائي، و قد أشرنا ان التخيير في الفتويين المتعارضتين مما عليه تسالم الأصحاب، و هو دليل لبى فلا يكاد يستفاد منه الا التخيير الابتدائي فبعد الأخذ بأحدهما، و العمل به لا دليل على بقاء التخيير.

الوجه الثاني: استصحاب الحجية التخييرية لفتوى من يريد العدول اليه.

و ذلك لان المكلف قبل الأخذ بفتوى أحد المجتهدين المتساويين كان مخيرا في الأخذ بأيهما شاء، و بعد الرجوع الى أحدهما يشك في بقاء حجية فتوى الأخر على حجيتها التخييرية، أو سقوطها عن الحجية و مقتضى الاستصحاب ان المكلف مخير بين البقاء على ما قلده و العدول منه الى المجتهد الأخر.

نوقش فيه أولا: بأنه كما قرر في محله انه يعتبر فى جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة، و المشكوكة، و لا يتحقق ذلك الا ببقاء الموضوع، و لم يحرز بقائه في المقام للشك في ان موضوع الحكم بالتخيير هل هو من لم يقم عنده حجة فعلية، أو هو من تعارض عنده الفتويان، فان كان الموضوع الأول فالظاهر ارتفاعه بالأخذ بإحدى الفتويين، و هو ظاهر، و ان قلنا بالثاني فواضح انه باق بالأخذ بفتوى أحدهما، و حيث انه لم يحرز ما هو الموضوع فلا يكاد يجرى الاستصحاب و السر في ذلك هو ان مستند التخيير في الأخذ بفتوى أحد المجتهدين المتساويين دليل لبى اما الإجماع، أو السيرة، أو تسالم الأصحاب فلا إطلاق له حتى يستظهر منه بقاء الموضوع «1».

و ثانيا: بأنه مع الغض عما ذكرنا يكون استصحاب الحجية التخييرية معارض باستصحاب الحجية الفعلية للفتوى المختارة لأن فتواه صارت حجة فعلية

بالالتزام بالعمل بها، و لا يعقل اجتماع الحجية الفعلية مع بقاء الطرف الأخر على الحجية التخييرية

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 120.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 266

..........

______________________________

و عن شيخنا العلامة الأنصاري في الرسالة في رد المعارضة: بأن استصحاب الحجية التخييرية حاكم على استصحاب الحجية الفعلية.

و لكن رد بأن الملازمة بين بقاء الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الثاني، و عدم الحجية الفعلية التعينية لفتوى المجتهد الأول، و ان كانت ثابتة الا انها عقلية لا شرعية، من باب ان وجود أحد الضدين ملازم لعدم الأخر عقلا للتضاد بين الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الثاني مع الحجية الفعلية لفتوى الأول فليس عدم الحجية الفعلية من الآثار الشرعية لبقاء الحجية التخييرية حتى يكون استصحاب الثاني حاكما على الأول كما في استصحاب طهارة الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الماء المغسول به «1».

فتحصل مما ذكرنا: عدم تمامية ما استدل به لجواز العدول مطلقا فحان التعرض لما استدل به لعدم جواز العدول.

أدلة عدم جواز العدول يستدل لعدم جواز العدول بوجوه
الوجه الأول: ما حكاه المحقق القمي في القوانين

عن الموافق، و المخالف الإجماع على عدم جواز العدول، «2» و في بعض الحواشي عليه استفاضة نقل الإجماع على ذلك في لسان جماعة.

و فيه أولا: انه لا يلائم دعوى الإجماع مع ما أشرنا من ذهاب جمع من المحققين الى الجواز كالمحقق الأول، و العلامة، و المحقق، و الشهيد الثانيين، و واضح ان هؤلاء الأعاظم ممن يعتنى بخلافهم فالإجماع غير متحقق.

و ثانيا: كما قيل: انه لا سبيل الى استكشاف الاتفاق لان المسئلة لم تكن معنونة في كلام القدماء و انما هي حادثة من زمن المحقق، و العلامة.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 65.

(2) القوانين ج 2/ 264.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 267

..........

______________________________

و ثالثا: انه

إجماع منقول بخبر الواحد و قد تقرر في محله عدم حجيته فتأمل و رابعا: انه على فرض تحقق الإجماع منهم لا يكاد ينفع لما تقرر ان حجية الإجماع لاستكشافه رأى المعصوم عليه السّلام و لا يكاد يستكشف في مسئلة يعلم، أو يظن ان يكون مدرك المجمعين هو الوجه، أو الوجوه التي يستدل بها لعدم الجواز.

الوجه الثاني: ان القول بجواز العدول يستلزم العلم الإجمالي بالمخالفة القطعية في بعض الموارد

بل العلم التفصيلي في العملين المترتبين إذا قلد في أحدهما مجتهدا ثم عدل الى مجتهد أخر في الثاني.

و ذلك لان من قلد من يفتي بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير مريد للرجوع من يومه فقصر صلاته فاذا عدل عنه الى فتوى فقيه يفتي بوجوب التمام في المفروض فأتم صلاته فذلك منه يستلزم العلم الإجمالي ببطلان احدى الصلاتين- المقصورة، أو التامة.

فإذا وقع ذلك في العملين المترتبين بان قلد أحد الفقيهين، في أحدهما ثم عدل إلى الأخر في الثاني يعلم تفصيلا ببطلان الثاني.

و ذلك في المثال المفروض إذا قلد من يفتي بقصر الصلاة فصلى الظهر مثلا قصرا فاذا عدل عنه في صلاة العصر فقلد من يفتي بوجوب التمام، فيعلم فساد صلاة العصر تفصيلا، اما لاحتمال فساد الظهر فالعصر المترتب عليه لم يقع موقعه، أو لاحتمال فساد العصر في نفسه.

هذا حال العدول في بعض الموارد و بعدم القول بالفصل يعم سائر الموارد.

قلت: يمكن انتقاض ذلك بموارد وجوب العدول كما إذا فرض في المفروض انه كان المجتهد الثاني اعلم، أو ان المجتهد الأول مات، أو جن عليه، أو طرء عليه الفسق، الى غير ذلك من الأمور المعتبرة في مرجع الفتوى، أو عدل المجتهد عن فتواه بعد ما عمل المكلف على طبقها فان العدول في هذه الموارد واجب بلا اشكال فما يتفصى به

هناك عن الاشكال يتفصى به في المقام.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 268

..........

______________________________

و حل الإشكال في جميع موارد العدول هو ان مقتضى القاعدة الأولية على القول بالطريقية كما هو الحق عند أصحابنا الإمامية هي إعادة الأعمال التي اتى بها على طبق فتوى السابقة، لأنه بالفتوى الثانية يستكشف عدم مطابقتها، و غايتها انه كان معذورا فيما اتى به على طبقها قبل كشف الخلاف.

نعم لو قام دليل عام على صحة ما اتى به، كما ادعى الإجماع على ذلك في الجملة، و سنشير إليه في ذيل مسئلة (53) فتنقلب القاعدة الأولية الى عدم الإعادة في الوقت، و عدم القضاء في خارجه من غير فرق بين كون العدول موجبا للعلم الإجمالي بل التفصيلي بالبطلان أم لا يستلزم شيئا منهما، لكفاية صحة الأعمال تعبدا في ترتب الأعمال اللاحقة المترتبة على صحتها فارتقب حتى حين.

اما لو نوقش في الإجماع، و لم يقم دليل عام على الاجتزاء بالأعمال السابقة فلا بد من ملاحظة دليل كل مورد بخصوصه، فان دل على الاجتزاء، فنقول بالكفاية و الا فلا.

و قد ورد في باب الصلاة صحيحة زرارة «1» نطاقها عدم إعادة الصلاة الا من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، الركوع، و السجود.

فعلى مسلك المشهور من اختصاص لا تعاد بالناسي، فلا تنفع المقام، لأن الإخلال فيه لم يكن عن نسيان، بل كان عن عمد و التفات، مستندا إلى رأي المجتهد الأول.

نعم ان قلنا بشمول لا تعاد لموارد الجهل عن قصور- كما لا يبعد- إذا اتى بالعمل متقربا اليه تعالى، كما قرر في محله، و القدر المتيقن الخارج عن دليل لا تعاد صونا لدليل الجزئية، أو الشرطية، عن اللغوية هو خروج ترك

الاجزاء و الشرائط عمدا عن نطاق لا تعاد فيعم صورتي النسيان و الجهل القصورى.

______________________________

(1) و هي ما رواه زرارة عن ابى جعفر (ع) قال: لا تعاد الصلاة الأمن خمسة:

الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود. أوردها في الوسائل في أبواب متعددة بمناسبات، أورد تمامها في الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ح/ 14.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 269

..........

______________________________

فالقاعدة الثانوية في الصلاة تقتضي عدم الإعادة فضلا عن القضاء فيما إذا كان النقص فيها بسبب التقليد الأول في غير الخمسة المستثناة، و الإعادة في الخمسة المستثناة.

أما الإعادة في الخمسة فواضحة، و اما عدم الإعادة في غير الخمسة ففيما إذا كان عمله السابق مستندا الى فتوى المجتهد الأول فلوضوح ان المفروض من أظهر موارد الجهل القصورى.

هذا إذا كان في الوقت.

و اما القضاء فحيث انه بأمر جديد كما قرر في محله، و موضوعه، عنوان الفوت فان كان مستند فتوى الذي يريد العدول اليه امارة فحيث ان لوازم الامارة حجة فيثبت بذلك عنوان الفوت فيجب عليه القضاء.

و اما ان كان مستند فتواه غير الامارة، كما إذا شك في الإتيان و عدمه، كاستصحاب عدم الإتيان بالواجب و لا يكاد يثبت بذلك عنوان الفوت فلا يجب القضاء هذا.

و لا يخفى ان لا تعاد لا تكاد تنفع مسئلة القصر و التمام بل لا بد فيها من الإعادة في الوقت، فضلا عن القضاء خارجه إذا عدل الى من يفتي بوجوب التمام لان النقص في الركعتين، فيكون داخلا في الخمسة المستثناة.

فظهر مما ذكرنا ان غاية ما يقتضيه هذا الوجه هو لزوم الاحتياط و تكرار العمل الذي اتى به حسب فتوى المجتهد الأول لا عدم جواز العدول.

الوجه الثالث: و هو قريب من الوجه السابق و مقتبس منه أشار إليه المحقق الأصفهاني:

«و

هو ان العدول يستلزم أحد الأمرين على سبيل منع الخلو، و لا يمكن المساعدة على شي ء منهما، اما التبعيض في المسئلة الكلية، أو نقض آثار الأعمال السابقة إذا قلد المجتهد الثاني في المسئلة الكلية» «1».

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 270

..........

______________________________

و ذلك لان أحد المجتهدين في الفرض المتقدم إذا أفتى بوجوب القصر مثلا و الأخر بوجوب التمام فيه، فاذا قلد المكلف أحدهما فقصر صلاته، ثم عدل إلى الأخر، و أتم فيها، فاما نلتزم بصحة كلتا الصلاتين، حيث قلد أحد المجتهدين في واقعة من تلك المسئلة، و قلد الأخر في الوقائع المستقبلة منها و هو معنى التبعيض في المسئلة الكلية.

أو نلتزم ببطلان ما صلاه أولا فيجب عليه اعادة ما صلاه قصرا، و الالتزام بكل منها كما ترى.

و فيه: انه قد أشرنا ان هذا الوجه مقتبس من الوجه المتقدم فجوابه يظهر مما ذكرناه في دفعه، و حاصله:

ان مورد الفتوى دائما هو المسئلة الكلية دون كل جزئي من جزئياته، فلا يلزم من العدول، التبعيض في المسئلة الكلية.

نعم يلزم من العدول نقض آثار الوقائع المتقدمة، و لا مناص من الالتزام به لمخالفتها لما هو الحجة فعلا على المكلف، و قد أشرنا ان القاعدة الأولية تقتضي عدم الاجزاء، الا ان يقوم دليل على الاجزاء.

و بالجملة أحد الأمرين، و هو التبعيض في المسئلة الكلية غير لازم، و الأمر الأخر و هو بعض آثار الوقائع المتقدمة، و ان كان لازما، الا انه ليس في الالتزام به اى محذور كما هو الشأن في موارد العدول الواجب كما أشرنا.

الوجه الرابع: الاستصحاب.

تقريبه ان فتوى المجتهد الأول بأخذها، و الالتزام بالعمل بها صارت حجة فعلية في حقه

فان شك في كون الأخذ، و الالتزام علة لحجية فتواه حدوثا، و بقاء حتى يتعين البقاء على فتواه، أو انه علة لحجية فتواه حدوثا حتى لا يتعين عليه البقاء فمع الشك في ذلك يستصحب حجية فتواه الفعلية و نتيجة ذلك عدم جواز العدول الى المجتهد الأخر لأنه لا معنى لحكمين فعليين لشخص واحد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 271

..........

______________________________

و فيه: انه أشرنا في ذيل الوجه الثاني لجواز العدول بعض الكلام في عدم استقامة جريان هذا الاستصحاب للشك في بقاء الموضوع المعتبر إحرازه في جريان الاستصحاب، و معارضته باستصحاب الحجية التخييرية الثابتة قبل الأخذ بفتوى أحدهما

الوجه الخامس: قاعدة الاشتغال

هذا الوجه عمدة مستند القائل بعدم جواز العدول.

يمكن تقريبه على كل من مذهبي الطريقية، أو السببية و الموضوعية، في الطرق و الأمارات.

اما تقريب الاشتغال على القول بكون حجية الطرق و الأمارات من باب الطريقية، كما هو الحق من مذهب الإمامية فهو انه بعد تنجز أحكام الشريعة بالعلم الإجمالي يستقل العقل تحصيلا للمؤمن من العقاب بلزوم امتثالها، أو إتيان ما جعله الشارع مبرءا للذمة تعبدا.

و لا إشكال في مفروض المقام في حجية فتوى المجتهد الأول الذي أخذ فتواه و الشك انما هو في كونها حجة تعيينية في حق المكلف، أو تخييرية فالعمل بفتواه مبرء للذمة بخلاف العمل بفتوى المجتهد الثاني فإنه مشكوك فيه فيكون المقام من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و قد تقرر في محله ان العقل يحكم بلزوم الأخذ بمحتمل التعيين و هو في المقام ليس الا فتوى المجتهد الأول.

و اما تقريب الاشتغال على القول بكون حجيتها من باب السببيّة و الموضوعيّة فلان الفتويين المتعارضتين تدخلان في باب التزاحم،

و العقل يحكم في المتزاحمين كإنقاذ الغريقين بالجمع بينهما مهما أمكن، فان لم يقدر على الجمع بينهما فالواجب الأخذ بما هو أهم ان كان معلوما، أو ما هو محتمل الأهميّة، و الا فالتخيير.

ففي المقام حيث ان الفتويين متعارضتان لا يتمكن من امتثالهما معا فالواجب الأخذ بأحدهما، و حيث ان فتوى المجتهد الأول محتمل الأهمية فيتعين الأخذ بها.

و بعبارة أخرى المكلف في الحكمين المتعارضين لما لم يتمكن من امتثالهما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 272

..........

______________________________

معا لم يمكن التحفظ على إطلاق خطابيهما، و حيث انه متمكن من امتثال أحدهما فلا موجب لكلا الخطابين على سبيل الإطلاق، بل لزم التحفظ على إطلاق الخطاب في أحدهما إذا كان مهما، أو محتمل الأهمية، أو لزوم تقييد إطلاق كل منهما بعدم الإتيان بالآخر لو لم يكن أحدهما كذلك.

و في المقام حيث ان فتوى المجتهد الأول محتمل الأهمية فيؤخذ بإطلاقه و يقيد بذلك إطلاق فتوى المجتهد الثاني.

فظهر مما تقدم عدم تمامية ما استدل به لجواز العدول و لم تخلو الوجوه التي استدل بها لعدم جواز العدول عن إشكال إلا هذا الوجه فقاعدة الاشتغال تقتضي عدم جواز العدول فالأحوط الأقوى هو عدم جواز العدول من مجتهد حي إلى مجتهد مساو له في الفضيلة.

هذا كله في جواز العدول من حي إلى حي.

حكم العدول عن الحي إلى الميت له صور يختلف الحكم بحسبها

اشارة

بقي الكلام فيما إذا عدل عن الميت إلى الحي فهل له العدول الى الميت أم لا؟.

فنقول لا يخفى انه لا يصح الاتكال و الاستناد بآراء المجتهد بعد موته للشك في حجيتها بعد ما عرفت من اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى فلا بد من المراجعة الى من تكون فتواه حجة في حقه من الأحياء، فهو اما يكون

مساويا للميت من حيث الفضيلة، أو يكون اعلم منه، أو بالعكس.

فان كان الميت اعلم و قلنا بوجوب تقليد الميت عند العلم بالمخالفة بينهما، كما سيمرّ بك، و جوزنا تقليد الميت فكان الواجب عليه البقاء على تقليد الميت فعدوله إلى الحي بلا وجه و غير واقع محله فعليه العدول الى الميت الأعلم.

و ان كان الحي اعلم فيجب تقليده و لا يجوز العدول منه الى الميت.

و ان كانا متساويين فقد تقدم آنفا ان الأحوط الأقوى عدم جواز العدول من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 273

..........

______________________________

أحد المجتهدين المتساويين الى الأخر إذا كانا حيين فما ظنك فيما إذا كان المعدول اليه ميتا.

و قد تقدم عدم تمامية الوجوه التي استدل بها لعدم جواز العدول من أحد المجتهدين المتساويين الحيين الى الأخر سوى قاعدة الاشتغال.

وجهان لعدم جواز العدول عن الحي إلى الميت
اشارة

و لكن ربما يوجه عدم جواز العدول من الحي إلى الميت في المفروض بوجهين.

الوجه الأول: ما في المستمسك من انه من التقليد الابتدائي الذي قام الإجماع على المنع عنه «1».

و ربما يوجه ذلك بأنه ان قلنا بان التقليد هو الالتزام كما ذهب اليه الماتن (قدس سره) فظاهر لان المكلف بعد رفع اليد عن الالتزام بقول الميت و الالتزام بقول الحي يكون مقلدا له فيكون رجوعه الى الميت بعد ذلك تقليدا ابتدائيا.

و اما ان قلنا بان التقليد هو العمل المستند بفتوى الغير و قلنا بكفاية الرجوع في جواز البقاء فلان مجرد الالتزام بفتوى الحي من دون ان يعمل على طبقه لا يوجب صدق العدول فلا يضر ببقائه و تقليده السابق فلا يكون رجوعه اليه تقليدا ابتدائيا.

الا ان يقال بكفاية الالتزام بفتوى الحي في صدق العدول الى الميت و لا يعتبر في تحقق التقليد في صدق مفهوم العدول فيكون الرجوع الى الميت رجوعا ابتدائيا لرفع اليد عن التزامه السابق.

الوجه الثاني: ان حجية فتوى الميت بعد العدول منه الى الحي مشكوكة و الأصل عدمها.

و لكن الذي يقتضيه النظر عدم تمامية الوجهين:

اما الوجه الأول: فواضح لان التقليد الابتدائي عبارة عما إذا لم يراجع

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى/ ج 1/ 24.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 274

..........

______________________________

و لم يسئل عن حكم المسئلة قبل موت المجتهد، أو لم يعمل برأيه قبل موته بناء على اعتبار العمل في جواز البقاء و المفروض خلافه لأنه كان مقلدا له بأي معنى فرض ثم رجع منه الى الحي فلم يكن عدوله الى الميت تقليدا ابتدائيا، و لعله واضح.

و اما الوجه الثاني: فلان مقتضى الأصل في المفروض بناء على جريانه هو استصحاب الحجية كما لا يخفى.

الا ان يرجع الى أصل الاشتغال من باب دوران الامر بين التعيين و التخيير و هو الذي ذهبنا إليه في عدم جواز العدول من الحي إلى الحي فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 275

[مسئلة 12- تقليد الأعلم]

اشارة

مسئلة 12- يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط (1) و يجب الفحص عنه (2)

______________________________

(1) بل على الأقوى فيما إذا علم بوجود الأعلم خارجا- و لو إجمالا- أو احتمل اعلمية واحد منهما، أو منهم، و علم مخالفة فتواه مع غيره فيما هو محل الابتلاء، و كانت فتوى الأعلم، أو محتمل الأعلمية موافقة للاحتياط بالنسبة إلى فتوى غير الأعلم، فإذا لم يعلم بوجود الأعلم، أو لم يعلم مخالفته معه على تقدير وجوده، أو على تقدير مخالفته تكون فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط فلا يجب تقليد الأعلم، و الظن بالأعلمية أو بالمخالفة، ان كان معتدا به فملحق بالعلم، و الا فملحق بالاحتمال.

(2) في إطلاقه منع، و انما يجب الفحص إذ أعلم، أو قامت الحجة على وجود الأعلم، و لو إجمالا، أو احتمل اعلمية واحد منهما، أو منهم و علم مخالفة فتواه مع غيره فيما هو محل الابتلاء، و عدم موافقة فتوى غيره للاحتياط بالإضافة إليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 276

..........

______________________________

أقول: توضيح المرام في هذه المسئلة يستدعي البحث عن جهات.

الجهة الأولى تصويران لاعتبار الأعلمية

اشارة

ان اعتبار الأعلمية، و تقديم الأعلم على غيره يتصور على نحوين.

الأول: ان يراد انحصار الحجية في كل عصر و زمان بشخص واحد و هو الأعلم.

الثاني: ان يراد ترجيحه على غيره عند التعارض.

و بعبارة أخرى عند تعدد الفقهاء و اختلافهم في الفضيلة هل لا تكون فتوى المفضول حجة أصلا بحيث يكون ترجيح نظر الفاضل عليه من باب ترجيح الحجة على غير الحجة، أو يكون لفتواه حجية ذاتية، و لكن يرجح نظر الفاضل عليه نظير تقديم أحد الخبرين المتعارضين حيث انه من باب ترجيح أقوى الحجتين على الأخرى.

و لا يخفى ان اعتبار الأعلمية على

النحو الأول يرتضع من ثدي الإمامة، و من فروعها بلحاظ ان الفقيه واسطة بين الامام المعصوم عليه السّلام، و بين الأمة الإسلامية، كما ان الامام عليه السّلام واسطة بين النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و بينهم و قد نصب الامام عليه السّلام الفقيه مقام نفسه كما نصب النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله الامام بعده.

فكما ان الحجة في كل عصر منحصرة بإمام معصوم واحد فليكن الأمر في المفتين، و المجتهدين كذلك، فتكون الحجة من بينهم منحصرة بشخص واحد منهم و هو أعلمهم و رأى غيره ليس بحجة، فتكون الأعلمية من مقومات الحجية.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 277

..........

______________________________

فعلى هذا لا يكون رأى غير الأعلم حجة مطلقا حتى بالنسبة إلى نفسه فلا يجوز للمجتهد المفضول اتباع نظر نفسه، بل يجب عليه اتباع نظر الأعلم، كما هو الشأن في مجتهدى عصر الامام عليه السّلام حيث يجب عليه اتباع نظره عليه السّلام و لا يجوز مخالفته باتباع نفس نظره.

و بالجملة لا يجوز لأحد و لو كان مجتهدا التخطي عن رأي الأعلم.

لا يمكن ارادة المعنى الأول في مرجع الفتوى

و الذي يقتضيه النظر و التأمل هو عدم إمكان المساعدة على ارادة هذا المعنى لعدم دلالة دليل من آية، أو رواية، أو عقل، على ذلك، و يبعد جدا ان يكون ذلك مراد الأصحاب بل المعلوم خلافه.

و كم فرق بين الامام المعصوم عليه السّلام و المجتهد لان المجتهد المخالف للأعلم يرى خطأ الأعلم و هو بمكان من الإمكان بخلاف المخالف نظره للإمام عليه السّلام- لو فرض- فإنه يقطع بخطاء نفسه واقعا، و كيف يعقل تكليف من يرى خطأ غيره. و لو كان اعلم، و يؤمر باتباعه و لعله واضح إلى

النهاية.

تقريب كون المراد بالأعلمية المعنى الثاني

و من القريب جدا بل من المعلوم من أصول المخطئة ان يكون مرادهم باعتبار الأعلمية اعتبارها من حيث المرجحية، و هو الحق لأن رأي كل منهما أمارة إلى الحكم الواقعي المجعول غاية الأمر يرجح رأى الأعلم على غيره حال المعارضة.

يشهد لذلك بأنه لو لم يكن لرأي المفضول أمارية و كاشفية لم يكن للمراجعة اليه، عند فقد نظر الفاضل، وجه، و يكون المراجعة اليه، و المراجعة إلى الجاهل سيان، مع ان الوجدان و العقل اصدقا شاهد على خلافه.

فلرأى كل منهما كاشفية و طريقية و حجية، غاية الأمر لا يكون رأى المفضول مع رأى الفاضل حجية فعلية بل حجية شأنية، و الحجة الفعلية انما هي رأي الفاضل فيكون وزان تقديم الأعلمية وزان تقديم أحد الخبرين على الأخر فكما يؤخذ بذي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 278

..........

______________________________

المزية منهما، و يقدم على الأخر الفاقد لها فكذلك يؤخذ برأى الفاضل و يقدم على رأى المفضول.

فعلى هذا يكون لكل من نظري الفاضل، و المفضول كاشفية ذاتية غاية الأمر تكون رأى الفاضل حجة فعلية و رأى المفضول عند ذلك حجة شأنية، و لذا يرجع اليه عند فقد الفاضل، أو خروجه عن صلاحية التقليد، و لا يرون لرأيه عند ذلك الا ما كان لرأي الفاضل من الكاشفية.

و بما ذكرنا يندفع ما ربما يتوهم ان وزان فتوى المفضول عند المعارضة مع فتوى الفاضل وزان الأصل مع الامارة فكما لا مورد للأصل عند الامارة فكذلك لا يكون لرأي المفضول حجية شأنية عند ذلك.

توضيح الدفع: ان كاشفية فتوى كل من الفاضل، و المفضول كشفا ناقصا مما هو ذاتي لهما، و لا معنى لإعطاء الكاشفية لما لم تكن واجدة لها

بخلاف الأصل فإنه وظيفة شرعت عند فقد الدليل الاجتهادي، و الامارة.

الجهة الثانية في الأقوال في لزوم تقليد الأعلم و عدمه

اختلفوا في لزوم تقليد الأعلم، و عدمه على أقوال.

حكى القول بوجوب تقليد الأعلم عن جملة من كتب الأصحاب. كالمعارج و الإرشاد، و النهاية، و التهذيب، و الدروس، و القواعد، و الذكرى، و الجعفرية، و جامع المقاصد، و تمهيد القواعد، و المعالم، و الزبدة، و حاشية المولى صالح على المعالم.

و قال شيخنا العلامة الأنصاري المشهور على تعين العمل بقول الأعلم، بل لم يحك الخلاف فيه عن معروف «1».

بل عن النهاية انه كلام من وصل إلينا كلامه، و عن المحقق الثاني التصريح

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 76.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 279

..........

______________________________

بدعوى الإجماع عليه، و عن ظاهر علم الهدى في الذريعة كونه من مسلمات الشيعة، و عن منية الشهيد الثاني انه لا يعلم في ذلك خلافا.

و لكن عن جماعة ممن تأخر عن الشهيد الثاني التخيير بين الفاضل، و المفضول وفاقا للحاجبى، و العضدي، و القاضي، و جماعة من العامة، و حكى استظهاره من صاحب الفصول.

لم استحضر مقالة هؤلاء القائلين بوجوب تقليد الأعلم حتى يعلم أنهم قائلون بذلك مطلقا، أو في خصوص ما إذا علم تفصيلا اختلاف فتوى الفاضل و الأفضل، أو بالأعم مما علم تفصيلا أو إجمالا.

ثم انه لم يعلم ان القائلين بالوجوب في صورة اختلاف الفتوى تفصيلا أو أو إجمالا هل يوجبونه مطلقا حتى فيما إذا كانت فتوى الأعلم مخالفة للاحتياط، أو مخالفة للمشهور أو للأعلم منهما من الأموات و الأحياء أو خصوص ما إذا كانت فتوى الأعلم موافقة للاحتياط، أو للمشهور، أو للأعلم منهما.

و كيف كان حدثت، في الأدوار المتأخرة و فيما قارب عصرنا بل في عصرنا هذا أقوال

عديدة و إليك الإشارة إلى عمد الأقوال في المسئلة.

فمنهم: من ذهب الى وجوب تقليد الأعلم مطلقا.

و منهم: من أوجبه عند العلم بمخالفة فتواه لفتوى غيره تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها.

و منهم: من احتاط لزوما تقليد الأعلم مطلقا مع الإمكان و أوجب الفحص عنه و منهم: من احتاط فيما إذا علم بوجود الأعلم، و مخالفته مع غيره فيما هو محل الابتلاء، و عدم موافقة غيره للاحتياط.

و منهم: من ذهب الى التخيير بين الأعلم و غيره.

الى غير ذلك من الأقوال التي يجدها المتتبع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 280

الجهة الثالثة فيما يقتضيه عقل العامي في نفسه- من غير تقليد في المسئلة- و ان وظيفته هل هي الرجوع الى الأعلم أو مخير بين الرجوع اليه و الرجوع الى غير الأعلم.

اشارة

______________________________

قد أشرنا عند قول الماتن في المسئلة الاولى: يجب على كل مكلف إلخ:

أن مسئلة التقليد، و رجوع الجاهل الى العالم أمر فطري لا سبيل للتقليد فيها، و نقول هنا أيضا ان من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، و ان بلغ من العلم ما بلغ فأول ما يدركه عقله بعد لزوم المراجعة إلى العالم، و الفقيه و ما يلزمه فطرته السلمية عن التشكيكات المدرسى هو الرجوع الى الأعلم، و يرى بحسب فطرته ان آراء الأعلم أقرب الى الواقع من غيره، بل يرى نفسه في خطر عظيم إذا لم يؤد وظيفته على طبق آراء الأعلم، و لعمر الحق انه واضح لا سترة فيه بل جار في جميع أموره المهمة: دنيوية كانت أم أخروية.

و ان كنت مع ذلك في شك مما ذكرنا فاختبر عقلاء قومك و ملتك الذين لم يشب أذهانهم بالتشكيكات المدرسية فترى بنائهم العملي على ما ذكرنا، بل ينادونك، و يناجونك بما اوعزناه فتدبر:

و لتوضيح المقال بنحو لا يشوبه شك نشير الى ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) و وافقه بعض الأساطين دام

ظله.

بيان من المحقق الأصفهاني في حكم عقل العامي بلزوم تقليد الأعلم

و هو انه لو التفت من لم يبلغ درجة الاجتهاد الى تنجز الأحكام الشرعية عليه بالعلم الإجمالي، و انه ليس بمطلق العنان في أفعاله و تروكه قبال تلك الأحكام، و بعد عدم وجوب الاحتياط، أو عدم جوازه، لا طريق له الى امتثالها لا بآراء المجتهدين و لو بملاحظة بناء العقلاء على الرجوع الى أهل الخبرة فيستقل عقله بلزوم تقليد الأعلم خصوصا عند العلم بمخالفة فتوى الأعلم مع غيره لدوران الأمر عند ذلك بين التعيين و التخيير في الحجية، و العقل يستقل بلزوم ترجيح محتمل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 281

..........

______________________________

التعيين «1».

فتحصل ان عقل غير البالغ درجة الاجتهاد يستقل بلزوم المراجعة الى من يقطع بحجية رأيه و هو الأعلم عند دوران الأمر بين فتواه و فتوى غيره المعارضة لرأيه- سواء استند في مشروعية التقليد الى عقله الارتكازي، أو بناء العقلاء، أو دليل الانسداد- و اما الرجوع الى غيره فمشكوك فيه فلا يغني من الحق شيئا، و ليس كل ذلك تقليدا، و الا لزم الدور و هو ظاهر.

و لا يخفى انه بعد المراجعة إلى الأعلم ان كانت فتواه جواز تقليد غير الأعلم فيصح له تقليده عند ذلك، و كم فرق بين الحالتين كما لا يخفى على اللبيب.

الجهة الرابعة فيما يقتضيه وظيفة المجتهد حسبما يتظهره من الأدلة العقلية و النقلية في الإفتاء بلزوم تقليد الأعلم أو جواز تقليد غيره.

اشارة

قبل ذكر أدلة كل من القائلين بلزوم تقليد الأعلم، أو جواز تقليد غيره نشير الى ما تقضيه القاعدة، و الأصل الاولى في المسئلة لو لم يتم شي ء من أدلة الطرفين.

و حيث ان باب التقليد و أخذ الفتوى من المجتهد عند أصحابنا الإمامية ليس من باب السببية، و لم يحدث بأداء نظر المجتهد الى وجوب شي ء، أو حرمته مثلا مصلحة ملزمة، أو مفسدة كذلك في

المؤدى، بل غاية ما هناك هي ان آراء المجتهد طرق إلى الأحكام الواقعية، كما هو الشأن في سائر الطرق، و الأمارات المعتبرة، و ليس لها الا التنجيز في صورة الإصابة، و التعذير عند المخالفة.

فعلى هذا لا يهمنا تقرير الأصل على السببية فنقتصر على تقريره على الطريقية فنقول:

ان الأصل قد يقرر تارة بنحو ينتج عدم لزوم تقليد الأعلم، بل يكون مقتضاه التخيير بين الأخذ بفتوى الأعلم، و بين فتوى غيره.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 33- التنقيح ج 1/ 134.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 282

..........

______________________________

و اخرى بنحو ينتج لزوم الأخذ بفتوى الأعلم فالكلام يقع في موردين.

المورد الأول في تقرير الأصل بنحو لا يوجب الأخذ بفتوى الأعلم و ذلك بتقربين.

التقريب الأول: هو انه إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة لا ثالث لهما يحكم العقل بعد عدم وجوب الاحتياط، أو عدم جوازه بتخيير العامي في الأخذ بفتوى أيهما شاء فبعد الأخذ، و العمل بفتوى أحدهما لو صار الأخر اعلم يشك في بقاء التخيير و عدمه، فيستصحب، و بالقول بعدم الفصل يتم التخيير في غير المفروض و حكم العقل في دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و ان كان بالتعيين- و هو الأخذ بفتوى الأعلم في المفروض- الا انه إذا لم يكن هناك دليل على التخيير، و استصحاب التخيير كما ذكرنا حاكم عليه.

و فيه أولا: ان حكم العقل بالتخيير انما هو بمناط تساويهما في الفضيلة، و لذا لو كانت لأحدهما مزية، أو محتمل المزية لا يكاد يحكم العقل بالتخيير، و هو واضح.

و غاية ما يستفاد من قانون الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع هو استكشاف الحكم الشرعي على العنوان الذي حكم به العقل لا أزيد.

نعم يحتمل طرو ملاك للتخيير في الشرع عند زوال ملاك

العقل، و لكن لا دليل على إثباته، لأن استصحاب شخص الحكم السابق لا يجري لأن الحكم الشرعي المنكشف انما هو على عنوان المتساويين، و قد زال.

و استصحاب الكلى- و هو الجامع بينهما- غير مفيد لما ذكرنا من ان استصحاب الكلى القسم الثالث و ان كان جاريا في نفسه الا انه لا بد و ان يكون حكما شرعيا، أو موضوعا لذي حكم شرعي، و من الواضح ان الجامع بين الحكمين لم يكن حكما شرعيا و لا موضوعا لحكم شرعي بل أمر انتزاعي اختراعى، و الحكم المنكشف شرعا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 283

..........

______________________________

هو حكم واحد لعنوان المتساويين.

و بما ذكرنا يظهر ان استصحاب الكلي إذا لم يكن حكما شرعيا، و لا موضوعا لذلك لا يكاد يجرى، سواء كان من استصحاب القسم الأول، أو الثاني، أو الثالث و ثانيا: لو سلم جريان هذا الاستصحاب لأمكن ان يقال من طرف المقابل بنحو أخر ينتج عدم التخيير.

و ذلك لأنه عند انحصار المجتهد في شخص واحد، يجب تقليده متعينا و لم يجز له تقليد غيره فبعد ان ترقى و صار غير المجتهد، مجتهدا، و مساويا لآخر في الفضيلة يشك في كون المقلد مخيرا عند ذلك أم لا، لاحتمال تعيّن فتوى المجتهد السابق في حقه فيستصحب لزوم المراجعة على المجتهد السابق، و يتم في غيره بالقول بعدم الفصل.

و ثالثا: انه لا معنى، و لا وجه للتمسك في المسئلة العقلية بالقول بعدم الفصل و لعله واضح.

التقريب الثاني: هو انه لو انحصر المجتهد- العياذ باللّه- في الخارج بشخص واحد يتعين على العامي تقليده، فلو وجد مجتهد أخر فصار اعلم من المجتهد الذي تعين على العامي تقليده، فيشك في

بقاء وجوب المراجعة إليه فيستصحب بقاء التعين و لا يجب تقليد الأعلم و يتم في غير الفرض بالقول بعدم الفصل.

يظهر النظر: في هذا التقريب مما ذكرناه في تضعيف التقريب المتقدم من تبدل الموضوع، لان وجوب المراجعة اليه كان بملاك انحصار المجتهد به، و قد وجد مجتهد أخر أعلم منه فالموضوع غير باق فلا معنى لاستصحاب تعيّن البقاء على ما كان بعد وجود مجتهد آخر اعلم منه، مع انه كما أشرنا لا وجه للتمسك في المسئلة العقلية بمثل القول بعدم الفصل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 284

المورد الثاني في تقرير الأصل بنحو ينتج لزوم الأخذ بفتوى الأعلم و ذلك أيضا بتقريبين.

______________________________

التقريب الأول: هو انه لا ينبغي الإشكال في ان جميع الناس مكلفون بالأحكام الواقعية، فلا بد من امتثالها بنحو يعلم تفصيلا فراغ العهدة عنها أو يظن بالظن الاطمئناني كذلك- الذي هو كالعلم- بل هو العلم عرفا، أو العلم إجمالا بالاحتياط و لا يجوز التنزل، و الاكتفاء بغيرها في مقام الامتثال الا مع قيام الدليل عليه.

و حيث قام الإجماع، و الضرورة على عدم لزوم الامتثال التفصيلي بقسميه، بل الإجمالي أيضا حفظا للنظام، بل يصح ان يقال بعدم الجواز لاستلزامه اختلال النظام كما لا يخفى، مع ما نشاهده من معهودية مراجعة الجاهل الى العالم المتلقاة يدا عن يد، و خلفا عن سلف الى عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و بعد المعهودية في عصرهم، و عدم الردع منهم، يستكشف رضاهم به، فلو شككنا في اعتبار الأعلمية في ذلك، بلحاظ انه قد يقال ان القدماء الى زمان الشهيد (قدس سره) قائلون بوجوب تقليد الأعلم، و القول بالتخيير بينه، و بين غير الأعلم وليدة الأعصار المتأخرة.

فاذا القدر المتيقن من الخروج عن حرمة العمل بالظن هو العمل بفتوى الأعلم و

اما فتوى غيره فمشكوك فيه، فقاعدة الاشتغال تقضى بلزوم الفراغ اليقيني عما اشتغلت ذمته كذلك، و ذلك لا يكون الا بالعمل بفتوى الأعلم.

التقريب الثاني: هو ان المكلف بعد ما اشتغلت ذمته بالتكليف لا بد و ان يأتي بعمل يصلح للاحتجاج به على مولاه، و بعد عدم وجوب الامتثال التفصيلي، و الإجمالي بل بطلانهما يدور امره بين كون فتوى الأعلم هو الحجة متعينا أو انه أحد فردي الحجة مخيرا، و القول الأخر فتوى المفضول، فالاحتجاج بفتوى الأعلم معلوم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 285

..........

______________________________

و يقيني بخلاف الاحتجاج بفتوى المفضول، فإنه مشكوك فيه، و كلما دار الأمر بين التعيين، و التخيير في مقام الإطاعة، و الامتثال، و سقوط التكليف الثابت فالعقل يحكم بالأخذ بما يحتمل التعيين، خصوصا بالنسبة إلى الطريق هذا.

فتحصل مما ذكرنا انه لو وصلت النوبة إلى الشك في اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى فمقتضى الأصل لزوم الأخذ و العمل بفتوى الأعلم.

الجهة الخامسة في ذكر أدلة الطرفين

اشارة

و الكلام يقع في موردين.

المورد الأول في ذكر ما استدل، أو يمكن ان يستدل به لجواز الرجوع الى المفضول مع وجود الأفضل.
اشارة

و ذلك من وجوه.

الوجه الأول: الآيات المباركات.
منها قوله تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «1».

تقريب الدلالة هو ان اختلاف أهل الذكر، و العلماء في الفهم و الفتوى كثير شائع، و تساويهم من حيث الفهم، و العلم، و اتفاقهم في الآراء قليل نادر، و المسئول في الآية الشريفة، إما جميع أهل العلم، أو الواحد المعين منهم، أو الواحد غير المعين، و ارادة الأول مقطوع البطلان، و هو أوضح من ان يخفى، و لم يفهم العرف بل و لا أحد هذا المعنى من الآية، و اما الثاني، أو الثالث، فغير مراد كما لا يخفى، فاذا المراد بالاية الشريفة السؤال عمن شاءوا من أهل العلم و الذكر، فإطلاق الآية تقتضي بجواز الرجوع الى كل من كان من أهل الذكر، سواء كان غيره

______________________________

(1) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 286

..........

______________________________

أفضل منه، أولا، كانا مختلفين في الفتوى أم لا.

و فيه: انه بعد الغض عن بعض المناقشات في الآية الشريفة:- من اختصاص أهل الذكر ببني إسرائيل بلحاظ سياق الآيات، فلا يعم غيرهم، أو اختصاصه بأئمة أهل البيت عليهم السّلام بلحاظ الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت فلا يشمل غيرهم، أو بلحاظ ان موردها النبوة، و هي أصل من أصول الدين بل من أساسها و لا بد فيها من العلم و المعرفة فلا تدل على المراجعة إلى الفقيه في الفروع الفقهية- فغاية ما يستفاد منها- كما أشرنا في الاستدلال بها لمشروعية التقليد- هي ان للجاهلين المراجعة الى أهل العلم و المعرفة، و العمل على طبق آرائهم، نظير ما يقال: ان المريض لا بد له و ان يرجع الى الطبيب، و لا إطلاق لها بالنسبة

إلى صورة اختلاف أهل النظر فضلا عما إذا تعارض نظر الأفضل مع الفاضل.

و بالجملة الآية الشريفة بصدد إفهام المعنى العرفي الارتكازي، و هو رجوع الجاهل بكل حرفة، أو صنعة إلى العالم بها، فليس لها إطلاق يشمل صورتي المخالفة في الفتوى، و الفضيلة أيضا.

و منها آية النفر

تقدم ذكر الآية الشريفة، و تقريب دلالتها، و ما يتعلق بها عند بيان مشروعية التقليد/ 148 و حاصله:

انها تدل على وجوب التحذر العملي عند إنذار المنذر مطلقا سواء حصل له العلم بإنذار المنذر أم لا، و سواء كان هناك من هو اعلم منه أم لا.

و لكن أشرنا: ان الظاهر من الآية الشريفة هو التحذر النفساني من إنذار المنذر و تخويفهم عباد اللّه عن الجحيم، و نيرانها، و حيّاتها، و عقاربها، و لا يكاد يحصل الانذار بمجرد الفتوى و الاخبار، و قد أيدنا المقال بما افاده سيد مشايخنا (قدس سره) في حقائق الأصول فلاحظ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 287

..........

______________________________

و بما ذكرنا يظهر ضعف الاستدلال للمدعي بايتى الكتمان و الشهادة «1» فلا يهم ذكره، و من أراد فليلاحظ المفصلات.

الوجه الثاني: الروايات
اشارة

فمنها: مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاث محل الاستشهاد قول ابى عبد اللّه عليه السّلام.

من كان منكم ممن روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فانى قد جعلته عليكم حاكما الرواية «2».

فقد دلت على نفوذ حكم من كان راويا لأحاديثهم و ناظرا في حلالهم، و حرامهم و عارفا بأحكامهم و مقتضى إطلاقها نفوذ حكمه و ان كان هناك من هو أفضل منه و في ذيل المقبولة قيّد إطلاق الصدر في صورة اختلاف الحكمين، بترجيح ما حكم به أعدلهما، و أفقههما، و أصدقهما في الحديث، و أورعهما، و عدم الالتفات الى ما حكم به الأخر ففي غير صورة الاختلاف في الحكم يكون إطلاق الصدر محكما فيستفاد منه عدم اعتبار الأعلمية في نفوذ الحكم.

و مورد المقبولة و ان كان القضاء، و فصل الخصومة، الا ان

الحكم و القضاء تارة يكون في الموضوعات، و اخرى في الأحكام و هي كثيرة فللمقبولة إطلاق يشمل اعتبار الحكم في الشبهات الحكمية بل يمكن ان يقال ان ظاهر قوله عليه السّلام حكم بحكمنا

______________________________

(1) المراد باية الكتمان قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ، وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ. البقرة:

2/ 159.

و المراد باية الشهادة قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ البقرة: 2/ 140، و قوله عز من قائل وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ، وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. البقرة: 2/ 182.

(2) أو رد صدرها في الوسائل في باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

و ذيلها في باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 288

..........

______________________________

إلخ. ظاهر في الشبهات الحكمية، و الشبهات الحكمية هي التي تكون أمرها، و رفع الشبهة عنها بيد الحاكم، فدلت على نفوذ حكم الحاكم فيما يرجع اليه و لو في الشبهات الحكمية التي استنبطها.

و لازم نفوذ حكم الحاكم نفوذ فتواه المستندة لحكمه ضرورة انه لا معنى لاعتبار الحكم دون مستند الحكم.

فبعد حجية فتوى الحاكم في باب القضاء يمكن تعميم حجية فتواه في غير باب القضاء اما بتنقيح المناط، و إلغاء خصوصية باب القضاء أو الأولوية القطعية.

و ذلك بدعوى ان العرف لا يرى خصوصية باب القضاء في نفوذ فتواه نظير إلغاء خصوصية الرجولية في قوله عليه السّلام: الرجل يشك بين الثلاث و الأربع مثلا و تعميم حكم الشك لكل من الرجل و المرية.

بل يمكن ان يقال: ان فتوى الحاكم

لو كانت حجة فيما يرتبط بحقوق الناس فاعتباره فيما يرجع الى حقوق اللّه اولى.

و لك ان تستفيد التعميم من قوله عليه السّلام فاذا حكم بحكمنا إلخ فإن الظاهر منه ان مقتضى حكمهم، و فتويهم بلحاظ كونهم عارفين بأحكامهم، و ناظرين في حلالهم و حرامهم فجعل نظرهم، و رأيهم طريقا الى حكمهم فيعم اعتبار فتويهم في غير باب القضاء.

أضف الى ذلك انه بمناسبة ذيل المقبولة حيث أنفذ حكم الأعلم عند الاختلاف في الحكم، يمكن ان يستفاد ان لقوله عليه السّلام في الصدر: من كان منكم إلخ إطلاق يشمل نفوذ حكم من كان كذلك و ان كان هناك من هو اعلم منه.

هذا غاية التقريب في المقبولة لعدم اعتبار الأعلمية في نفوذ الحكم و الفتوى و لكن ناقش بعض الأساطين دام ظله بضعف السند بلحاظ ان عمر بن حنظلة لم يرد في حقه توثيق، و لا مدح، و ان سميت روايته هذه بالمقبولة، و كأنها مما تلقته

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 289

..........

______________________________

الأصحاب بالقبول، و ان لم يثبت هذا أيضا «1».

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 289

و لكن في النفس فيما افاده نظر فعن شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح الدراية: ان عمر بن حنظلة و ان لم ينص الأصحاب فيه بجرح و لا تعديل و لكن امره عندي سهل لأني حققت توثيقه من محل أخر و ان كانوا قد أهملوه «2».

و في وجيزة شيخنا العلامة المجلسي (قدس سره): انه ممدوح و قد

وثقه الشهيد الثاني «3».

و قد ترجمه العلامة المامقاني (قدس سره) مفصلا، و ذكر بعض روايات تدل على وثاقة الرجل و مؤيدات لذلك الى ان قال الأقوى وثاقة الرجل «4».

و ذكر العلامة التستري دامت بركاته روايات يمكن إثبات وثاقة الرجل الى ان قال. و قبول الأصحاب روايته ثم قال: و مستند خيار الرؤية منحصر بروايته، و قد روى في كيفية الترجيح بين الخبرين المتعارضين وجوها لم يروها غيره «5».

و لا يخفى انه يكفى في اعتبار الرواية تلقى الأصحاب إياها بالقبول، و اشتهارها عندهم بالمقبولة.

أضف الى ذلك وقوع صفوان بن يحيى في سندها، و هو من أصحاب الإجماع مع انه قد عرفت منا عدم الاحتياج إلى ملاحظة سند رواية واقعة في مثل الكتب الأربعة و قد رواها المشايخ الثلاثة في الكافي، و الفقيه و التهذيب.

فالرواية من حيث السند لا غبار عليها كما عليه الأصحاب هذا ما يتعلق بسند المقبولة.

و اما دلالتها فلا ينبغي الإشكال في دلالة المقبولة على نفوذ حكم الحاكم في

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 143.

(2) تنقيح المقال ج 2/ 342.

(3) الوجيزة/ 78.

(4) تنقيح المقال ج 1/ 342.

(5) قاموس الرجال ج 7/ 183/ 184.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 290

..........

______________________________

كل من الشبهات الموضوعية، و الحكمية و مقتضاها كما ذكر حجية فتواه المستندة للحكم، و لكن التعميم لحجية فتوى الفقيه بأحد الأنحاء المذكورة مشكل، و تخرص بالغيب لعدم العلم بملاكات الأحكام لغير علام الغيوب، و من خصّهم بمعرفتها مع ما ترى من الاختلاف في المتشابهات، و الجمع بين المتخالفات ا لا ترى؟! ان الصلح مثلا يشبه بالبيع، مع ان اختلافهما في الأحكام كثير، و الربا مثل البيع، و قد أحل اللّه البيع

و حرم الربا الى غير ذلك.

نعم يمكن إلغاء الخصوصية، و تنقيح المناط بل إثبات الأولوية في بعض الموارد الا ان المقام ليس منها.

و ذلك لان مورد إلغاء الخصوصية و تنقيح المناط هو ما إذا القى أمر إلى العرف و العقلاء، فاذا فهموا منه ان المذكور من باب ذكر المثال، و انه أحد مصاديق الحكم كقول زرارة: أصاب ثوبي دم رعاف، حيث يفهم العرف و العقلاء منه انه لا خصوصية لدم رعاف زرارة، و لا لثوبه، بل و لا الثوب. في ترتب الحكم و انما أخذ مثالا لموضوع ملاقي الدم فينسحب الحكم المعلق في ظاهر الخبر على اصابة دم رعاف زرارة بثوبه: إلى اصابة الدم بل النجس الرطب بكل شي ء.

و كالمثال المذكور في الاستدلال لإلغاء الخصوصية، قوله عليه السّلام: الرجل إذا شك إلخ فإنه إذا عرض على العرف فلا يفهم منه خصوصية، للرجولية في أحكام الشك بل يرى ان الموضوع لها كل مكلف، الى غير ذلك من الأمثلة.

فإذا احتمل دخالة خصوصية معتدة بها في مورد لترتب الحكم عليه فلا يصح إلغاء الخصوصية و التعدي منه الى الفاقد لها، و ما نحن فيه من هذا القبيل ضرورة أن للقضاء، و الحكومة خصوصية لم تكن في الإفتاء لأنها لفصل الخصومة، و إطفاء النائرة، و اراحة الرعية، و قلما يمكن التصالح، و الاحتياط أو الحكم بالتخير فيها بل ربما يوجب ذلك امتداد الخصومة و بل اشتداد نائرة الخلاف، فاذا اعتبر حكم فقيه في مورد القضاء فلا يكاد يمكن انسحابه في باب الإفتاء التي لم توجد تلك الخصوصية فيه الا بدليل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 291

..........

______________________________

و بما ذكرنا تعرف حديث الأولوية، لأن الأولوية القطعية

انما هي في مورد إذا القى الى العرف يفهمه ذلك من دون فكر، و روية، كحرمة ضرب الوالدين من حرمة (الاف) لهما المستفادة من قوله تعالى فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ «1».

و أنت خبير بان المقام ليس منها لما أشرنا من الخصوصية في باب الحكومة و القضاء لم تكن في باب الإفتاء، لأنه كما أشرنا لا بد من فصل الخصومة، و إطفاء النائرة، فلا بد و ان يكون شخص، أو أشخاص لرفع الخصومة، و قد عين لذلك راوي أحاديثهم. و الناظر في حلالهم، و حرامهم، و العارف بأحكامهم، و لو اعتبرت الأعلمية في القاضي- خصوصا الأعلمية المطلقة، بالنسبة الى جميع البلدان، و الأصقاع- لأوجب بقاء المنازعات، و الهرج و المرج، لان فقيها واحدا لا يقدر على حل اختلافات بلدة واحدة فضلا عن جميع البلدان و هو واضح إلى النهاية.

و اما الإفتاء فهو عبارة عن استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها فللفقيه الواحد استنباط كثير من الأحكام، بل للأوحدي منهم استنباط جل الأحكام لو لا كلها، و انتشار آرائه و فتاويه في البلدان، و اصقاع العالم، و يصح للأمة الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم العمل بفتاويه من دون اى مشقة و اشكال، فالغاء خصوصية باب القضاء فضلا عن إثبات أولوية باب الفتوى بالنسبة الى باب القضاء دون إثباته خرط القتاد.

و اما حديث استفادة الإطلاق من قوله عليه السّلام: فاذا حكم بحكمنا إلخ في باب الحكومة و ان كان بدوا لا يخلو عن وجه، الا انه بقرينة إنفاذ حكم الأعلم عند الاختلاف يشكل استفادة الإطلاق من الصدر. و لو فرض استفادة الإطلاق فإنما هو في باب القضاء، و الحكومة، فلا يكاد يسرى الى باب الفتوى.

و الإنصاف عدم صحة التمسك

بمثل المقبولة رأسا لمسئلة التقليد، فكما لا يصح التمسك لصدرها لجواز تقليد المفضول فكذلك لا يصح التمسك ببعض فقرأت

______________________________

(1) الاسراء: 17/ 23.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 292

..........

______________________________

ذيلها على وجوب تقليد الأعلم لدى مخالفة فتواه مع غيره.

و منها: روايتا ابى خديجة ففي إحديهما.

قال بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام الى أصحابنا فقال: قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى في شي ء «1» من الأخذ و العطاء، ان تحاكوا الى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا و إياكم ان يخاصم بعضكم بعضا الى السلطان الجائر «2».

و قريب منها روايته الثانية قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام: إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (قضائنا ن خ) فاجعلوه بينكم فأنى قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه «3».

تقريب الاستدلال بهما يظهر مما ذكرناه في تقريب المقبولة: كما ان جوابه يظهر مما ذكرناه في دفعه فلاحظ.

و منها التوقيع المبارك الذي رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين و الشيخ في كتاب الغيبة، و الطبرسي في الاحتجاج، عن إسحاق بن يعقوب قال:

سئلت محمد بن عثمان العمرى ان يوصل لي كتابا قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت علىّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السّلام: اما ما سئلت عنه أرشدك اللّه و ثبتك الى ان قال و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم

______________________________

(1) اى تدافع في الخصومة.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات

القاضي ح/ 5.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 293

..........

______________________________

حجتي عليكم و انا حجة اللّه. «1»

تقريب الدلالة هو ان المراد بالحوادث الواقعة في التوقيع المبارك بمناسبة الحكم و الموضوع الأمور و الحوادث المرتبطة بالدين، فالحوادث الواقعة: اما خصوص الأحكام المشتبهة التي تحدث و لا يعلم حكمها، بقرينة إرجاعها الى الإمام أو الأعم منها و من الموضوعات المشتبهة بدعوى مرجعية الإمام عليه السّلام في جميع الأمور المشكلة فله الحكم في الموضوعات أيضا.

و الظاهر من إرجاع الأمر إلى رواة الأحاديث بقرينة قوله عليه السّلام: فإنهم حجتي هو رفع حكم الواقعة إليهم ليحلّوا لهم العقدة، و المشكلة بارائهم، و أنظارهم لا مجرد روايتهم، و قد أشرنا ان رواة الحديث كانوا من أهل الفتوى، و الرأي لا مجرد نقلة الحديث.

نعم كانوا يلقون فتويهم، و آرائهم بصورة الحديث، و الرواية كما هو الظاهر من كتب الصدوقين.

يدلك على حجية آرائهم، قوله عليه السّلام فإنهم حجتي عليكم، فإنه لا معنى محصل لحجية رواة الحديث بما هم رواة الا بلحاظ حجية آرائهم و فتاويهم.

أضف الى ذلك قوله عليه السّلام: انا حجة اللّه عقيب قوله: فإنهم حجتي عليكم فإنه يدل بوضوح بأنه كما تكون نفسه المقدسة حجة اللّه يجب المراجعة إليه في معرفة الحلال و الحرام بارائه المقدسة فكذلك تكون رواة أحاديثهم حجج من قبله فيجب المراجعة إليهم في معرفة الأحكام الصادرة من قبلهم فرواة الحديث مراجع فيما يكون فيه الامام عليه السّلام مرجعا فيستفاد حجية آرائهم و فتاويهم.

و إياك ان تتوهم من الأمر بالمراجعة إلى رواة الحديث بصيغة الجمع إرجاع أمر كل مسئلة واحدة الى جميع الرواة أو خصوص الأعلم منهم لان الظاهر المترائى منه هو استفادة مرجعية كل

راو لأحاديثهم، و مقتضى إطلاقه جواز المراجعة اليه و أخذ

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 294

..........

______________________________

رأيه للعمل كان هناك من يكون اعلم منه أم لا، خالفه في الفتوى أم لا.

المناقشة في سند التوقيع و دفعها

نوقش أولا: بضعف السند لعدم الاطلاع على حال إسحاق بن يعقوب، و لم ينقل منه في الفقه شي ء الا هذا التوقيع، و التوقيع منقول من قبله، و مجرد ذكر هذا التوقيع في جوامعهم لا يكشف عن وثاقته، لأنهم قد ينقلون أحاديث في جوامعهم و لم يعملوا بها.

قلت: الإنصاف ان المناقشة في سنده غير وجيه، لان الظاهر ان إسحاق بن يعقوب هذا هو أخ محمد بن يعقوب الكليني كما صرح بذلك العلامة التستري «1» و قد صرح بذلك في أخر التوقيع برواية إكمال الدين بقوله عليه السّلام: السلام عليك يا إسحاق بن يعقوب الكليني «2».

و إليك الإشارة الى بعض ما قيل في جلالة الرجل ففي جامع الرواة بعد ذكر التوقيع عن رجال الأمين الأسترآبادي: و قد يستفاد مما تضمنه علو رتبة الرجل فتدبر «3» و يظهر من العلامة الأنصاري في شرائط المتعاقدين، و المحقق النائيني (قدس سرهما) جلالة الرجل فلاحظ «4»، و في تنقيح المقال بعد نقل التوقيع: يستفاد من توقيعه عليه السّلام هذا جلالة الرجل و علو رتبته، و كونه هو الراوي غير ضائر بعد تسالم المشايخ على نقله «5» الى غير ذلك من العبارات.

أضف الى ذلك ان آثار الصحة لائحة من التوقيع المبارك لمن لاحظه و تدبر فيه مع انه يمكن ان يقال انه كيف يروي الكليني مع جلالة شأنه عن شخص مجهول الحال لا يعلم حاله مع ادعاء

الرجل إرسال كتابه إلى الناحية المقدسة بواسطة

______________________________

(1) قاموس الرجال ج 1/ 506.

(2) إكمال الدين طبع الكمپاني/ 262.

(3) جامع الرواة ج 1/ 89.

(4) منية الطالب ج 1/ 330.

(5) تنقيح المقال ج 1/ 122.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 295

..........

______________________________

أحد نواب الناحية، مع ادعائه أن التوقيع كان بخط الصاحب عليه السّلام و لو كان مجهولا عنده فيبعد حكايته عنه بلا إيماء و لا إشارة الى عدم الاطمئنان بالواقعة.

ضع نفسك مقام الكليني فهل تحكي مثل هذه الواقعة مع عدم اطمينانك لنقل الواقعة، و لو كنت شاكا و مترددا لنقله، لما أشرت إليه؟! حاشاك.

ثم انه كيف يروى الصدوق الخبير الرجالي المولود بدعاء الصاحب عليه السّلام عن الكليني هذه المهمة في إكمال الدين، ثم شيخ الطائفة في كتاب الغيبة، ثم الطبرسي في الاحتجاج مع عدم اشارة من هؤلاء الأجلاء الى حاله.

و بالجملة من أمعن النظر فيما ذكرنا بعين الإنصاف يطمئن بكون إسحاق بن يعقوب من الثقات و ان كان اسمه غير موجود في التراجم و كم له من نظير.

و ثانيا: ان صدر التوقيع، و متن السؤال غير مذكور و لم يعلم المراد بالحوادث الواقعة، و من المحتمل ان يكون المراد حوادث خصوص باب القضاء اى حجية حكمهم في الشبهات الموضوعية، أو الأعم منها، و الشبهات الحكمية، و كان الإرجاع في القضاء لا في الفتوى، و مع احتمال ذلك يشكل استفادة العموم منه.

و دعوى ان احتمال ذلك مدفوع بالأصل مدفوعة لأنه فرق بين احتمال وجود القرينة و بين قرينية أمر موجود، و الأول مدفوع بالأصل دون الثاني فتدبر.

و ثالثا: لو سلم التعميم لكن لا يستفاد منه إطلاق يشمل صورة معارضة فتواه للأعلم أيضا ضرورة ان

العقلاء لا يرون ان نظر كل من الفاضل، و المفضول في صورة المعارضة امارة للواقع ليكون الجاهل مخيرا في الأخذ بأيهما شاء بل بنائهم على سقوطهما عن الحجية أو حجية نظر الأعلم فقط.

و رابعا: انه قد يقال لعل المراد برواة الحديث حيث لم يذكر السؤال رواة بلد السائل و عصره، فاستفادة التعميم لا بد و ان يكون بإلغاء الخصوصية. و إلغاء خصوصية بلد السائل، و ان كانت غير بعيدة. و اما المعاصرية فانى لكم بذلك؟! مع وجود الفرق الواضح، و هو الاختلاف في الفتوى كثيرا في هذه الأعصار دون الصدر الأول

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 296

..........

______________________________

كذا أفاد أستادنا العلامة الخمينى دام ظله في الدورة الأخيرة، و لكن الإنصاف انه غير فارق فيمكن استفادة التعميم فتدبر.

و منها: رواية مذكورة في تفسير الإمام العسكري عليه السّلام و الرواية طويلة الذيل روى شطر منها في الوسائل عن احتجاج الطبرسي «1» و القطعة المستشهد بها قوله عليه السّلام.

و اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه.

تقريب الدلالة هو ان ظاهرها يدل على ان من كان واجدا للصفات الموجودة و المذكورة في الرواية يصح المراجعة اليه و إطلاقها يقتضي الجواز لصورتي مخالفة فتوى غير الأعلم مع الأعلم.

أضف الى ذلك ان اختلاف المراتب و اختلاف الفتاوى كثيرة و الاتفاق فيهما قليل فاختصاص الرواية بصورة تساوى الفضيلة، و الاتفاق في الفتوى حمل لها على الفرد النادر.

المناقشة في سند التفسير و دفعها

نوقش أولا: بضعف السند لأنه لم يثبت اعتبار سند التفسير، و قال بعض المشايخ ان هذا التفسير مشتمل على أمور يعلم بعدم صدورها عن الامام عليه السّلام و لعل

منها هذه الفقرة، و قد أفرط العلامة التستري في النقاش عليه و ذكر مواقع النظر فيه «2» فلا يصح عنده ان يثبت حكما شرعيا برواية انفرد التفسير به نعم جعلها تأييدا له.

و ثانيا: تضعيف الدلالة لأن صدرها في بيان تقليد عوام اليهود من علمائهم في أصول الدين فان موردها نبوة نبينا محمد و امامة على صلوات اللّه عليهما، و التقليد في أصول الدين خصوصا فيما هو الأساس منها باطل و إخراج المورد مستهجن فلا يصح الاستدلال بها للمقام هذا.

______________________________

(1) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

(2) الاخبار الدخيلة ج 1/ 152.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 297

..........

______________________________

و الذي تحصل هنا بعد المراجعة الى ما افاده العلمان شيخنا النوري في خاتمة المستدرك، و شيخنا التهرانى في الذريعة مضافا الى ما افاده شيخنا الحر العاملي في خاتمة الوسائل عدم تمامية الإيرادات الواردة و من لاحظها بعين الإنصاف يطمأن باعتبار سنده.

نعم حيث ان اختلاف نسخ التفسير كثيرة فيشكل إثبات حكم شرعي على النسخة الموجودة بأيدينا إلا إذا كانت هناك قرينة على اعتبارها، و السّر في ذلك عدم قراءة المشايخ و السلف الصالح عليها، كما هو الشأن في غير الكتب الأربعة و ما ضاهاها و قد كان سماحة أستادنا العلامة البروجردي (قدس سره) يناقش في الاستناد الى اخبار غير الكتب الأربعة و نحوها مما لم يكن متداولا بين المشايخ و رواة الأحاديث قراءة و إملاء و كتابة.

و كيف كان حيث استند بالرواية في مواضع من هذه الرسالة، و نوقش فيها بضعف السند تارة و بضعف الدلالة اخرى أحببت إيراد ما قيل أو يمكن ان يقال فيها سندا و دلالة عند تعرض الماتن

لنفس الرواية في ذيل مسئلة 22 في اعتبار شرائط من يرجع اليه و التعرض لدفعها فارتقب حتى حين.

هذا بالنسبة الى ما نوقش فيها من حيث السند و الدلالة من بعض الجهات.

نعم يتوجه اشكال عليها بالنسبة إلى التمسك بها لتقليد المفضول مع وجود الأفضل و هو انما هو بصدد بيان تسوية عوامنا مع عوام اليهود من جهة و التفرقة من جهة أخرى و لم تكن بصدد بيان المراجعة إلى الفقيه حتى يتمسك بإطلاقها لحال وجود الأفضل أو مخالفته له في الرأي.

و بالجملة ان الرواية بصدد بيان حكم آخر و هو تسوية عوامنا مع عوام اليهود من جهة و التفرقة من جهة أخرى فلا إطلاق لها لحال وجود الأفضل فضلا عن صورة العلم بمخالفة رأيه لرأي الأفضل.

و منها: رواية أحمد بن ماهويه قال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 298

..........

______________________________

كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث عليه السّلام- اسئله عمن آخذ معالم ديني و كتب أخوه أيضا بذلك فكتب إليهما فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبّنا و كل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه «1».

قد أشرنا من ذي قبل وجه دلالته على مشروعية التقليد و مقتضى إطلاقه جواز الاعتماد على كل مسن من الفقهاء سواء كان هناك من يكون اعلم منه أم لا كان مخالفا له في الفتوى أم لا.

نوقش فيها مضافا الى ضعف السند

أولا:

بأن ظاهرها مثل ما ورد في حق يونس بن عبد الرحمن حيث سئل الراوي أ يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني، و ما ورد في حق غيره: يدل على معهودية المراجعة إلى الفقيه الثقة و السؤال انما هو عن تعيين المصداق و

تشخيص الثقة فلم يكن له إطلاق يشمل صورتي المعارضة و الاختلاف.

و ثانيا: ان الخبر جواب عن سؤال أحمد و أخيه و استفادة التعميم لا بد و ان يكون بإلغاء الخصوصية و هو مشكل مع وجود الاختلاف الكثير في الفتوى في أمثال زماننا و قلة الاختلاف في الصدر الأول.

و لكن عرفت عند البحث عن التوقيع الشريف انه غير فارق.

و ثالثا: ان استفادة الإرجاع إلى الفقيه في الفتوى من الخبر مشكل كما لا يخفى.

و لكن لا يخفى ما فيه.

و منها: الخبر المشهور عند الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم.

ذكر الاستدلال به في تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره).

تقريب الدلالة انه بعد إلغاء خصوصية الصحابية يستفاد منه ان من كان في رتبتهم

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 299

..........

______________________________

أو كان له منزلة من العلم من حيث العلم و الفضيلة يصح المراجعة اليه و اتباعه في آرائه و مع وجود الاختلاف من حيث الفضيلة بين أصحابه صلّى اللّه عليه و آله يستفاد منه صحة المراجعة الى كل من كان بتلك المثابة و ان لم يكن اعلم.

و فيه أولا: انه لم يرد الخبر من طرقنا و انما ورد من طريق العامة و بهذا الخبر صححوا بعض أعمال الصحابة المخالفة لكتاب اللّه و سنة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فهو ينفعهم و لا يكاد ينفعنا، و لعل تعرض الشيخ له انما هو لأجل وقوعه في مقال مثل الحاجبي، و العضدي، و غيرهما من علماء العامة.

و ثانيا: انه لو سلم اعتباره، و لكن لم يعلم المراد بالاقتداء بهم، و

انه هل المراد: اتباعهم و تقليدهم في الفروع الفقهية؟ أو اتباعهم في أعمالهم الصالحة الحسنة، و لعل الظاهر منه المعنى الثاني فلا ينفع المقام كما لا يخفى فتدبر.

و ثالثا: انه لو سلم كون المراد اتباعهم، و تقليدهم في الفروع فواضح انهم لم يكونوا في الصدر الأول مختلفين في الفتوى الا نادرا. فما ظنك؟؟؟ بمقايستهم فقهاء أمثال زماننا المحرومين عن درك حضورهم، و المختلفين كثيرا في الفتاوى و منها: الأخبار الدالة على إرجاع الناس الى أشخاص من فقهاء أصحابهم و هي كثيرة مذكورة في الباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي من الوسائل، تعرضنا لجملة منها في مسئلة مشروعية أصل التقليد فلاحظ ص 162.

تقريب الدلالة: انه يستفاد منها ان أخذ معالم معالم الدين الذي عبارة عن التقليد كان مرتكزا في أذهان أصحاب أئمة أهل البيت عليهم السّلام و متعارفا في عصرهم كانوا يرجعون شيعتهم الى الفقهاء من أصحابهم مع تفاوتهم في الفضيلة، و اختلافهم في الفتوى.

و فيه: انه على تقدير كون المراد بأخذ معالم الدين ما يعم أخذ الفتوى في الفروع الفقهية. لا يستفاد منها جواز المراجعة الى غير الأعلم و أخذ فتواه مع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 300

..........

______________________________

العلم بمخالفة فتواه مع فتوى الأعلم تفصيلا أو إجمالا، لعدم العلم بالمخالفة في الفتوى و لو إجمالا في تلك الأعصار خصوصا من مثل هؤلاء المحدثين و الفقهاء الذين كانوا بطانة أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و لو فرض وجود الخلاف بينهم فإنما هو أقل قليل لا يعتنى به، لتمكنهم من المراجعة إليهم (سلام اللّه عليهم)، و وضوح مستندهم في الأحكام: لقلة الوسائط و احتفاف الاخبار بالقرائن الموجبة للاطمئنان، فلا يقاس بهم العصور

المتأخرة عن زمنهم التي وقع الخلاف بينهم كثيرا بلحاظ ضياع جملة من الكتب و الدس في الكتب الباقية، و اختلاط غث الاخبار بسمينها و نحو ذلك مما أدى الى عدم الوثوق بها الأبعد الفحص الأكيد عن مستندها و التوفيق بين معارضاتها و نحو ذلك و لو سلم وقوع الخلاف بهذا المقدار في عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام فذلك لا يوجب قرينة على صرف الإطلاقات إلى الحجية التخييرية لأن حال الفتوى حال الرواية بعينها في ان الأدلة الأولية الدالة على حجيتها لا تفي بحال المعارضة، و الشاهد على ذلك وقوع السؤال عن علاج الأخبار المتعارضة.

و بالجملة: إطلاقات الأدلة لا تتكفل الا لبيان حجية فتوى المجتهد في حد نفسه و اما حجيتها لحال المعارضة فهي خارجة عن نطاقها فلا بد من التماس دليل أخر.

و الاخبار العلاجية دلت على الأخذ بما فيه المزية و عند عدمها فالتخيير.

و مقتضى تسالم الأصحاب، و إجماعهم على جريان حكم الخبرين المتكافئين على الفتويين المتساويتين فلا ينفع صورة تخالفهما في الفتوى و الفضيلة.

و لو سلم: لها إطلاق يعم صورة العلم بالمخالفة مع الأفضل، فلا بد من تقييدها بما دل على وجوب تقليد الأعلم كما سيتلى عليك.

الوجه الثالث: لزوم العسر و الحرج

يستدل لعدم لزوم تقليد الأعلم: استلزام لزوم تقليده العسر و الحرج المنفيان في الشريعة، للحرج الشديد في تشخيص مفهوم الأعلم أولا، و في تمييز مصداقه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 301

..........

______________________________

ثانيا و في تعلم آرائه و فتاويه ثالثا.

و ذلك لاختلافهم في مفهوم الأعلم على ما سيجي ء فيصعب معرفة مفهوم الأعلم و على تقدير معرفة مفهومه يصعب تطبيق مفهومه على من يكون اعلم، ثم على تقدير معرفة مفهوم الأعلم، و تطبيقه

على من هو أعلم في الخارج يصعب تحصيل فتاويه على كل مكلف من اى بلد، و اى صقع من اصقاع العالم خصوصا لمن يكون في القرى و البوادي و من يكون في أقصى بلدان العالم. فلزوم تقليد الأعلم حرج عظيم فينفى وجوب تقليده بدليل نفى الحرج و لو ببعض هذه المراحل الثلاث.

و فيه: انه كما أفيد:

«لا حرج في شي ء من المراحل: اما تشخيص مفهوم الأعلم فلما يأتي في مسئلة السابع عشر ما هو المراد منه، و إجماله: انه عبارة عمن يكون أقوى استنباطا، و أحسن سليقة في تطبيق الكبريات على الصغريات، و الأعلم في الأحكام الشرعية، كالأعلم في سائر الصنائع و العلوم، كالهندسة، و الطب، و غيرهما، فكما لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم في تلك الموارد فكذلك في المقام.

و اما تمييز مصاديق الأعلم، و معرفتها فكذلك لا حرج فيه لأن الأعلمية من الأمور تثبت بالعلم الوجداني و بالشياع المفيد للعلم، و بالبينة و بغيرها.

و بالجملة تمييز مصداقه لا يزيد على بقية موارد تشخيص الأعلم- كما في الأطباء، و غيرهم من أرباب العلوم المختلفة- فيحصل العلم أو الاطمئنان به من الاختبار، أو الشياع و نحو ذلك، و يزيد تشخيص الأعلم بالاكتفاء بالبينة.

و اما تعلم فتواه فعدم استلزامه الحرج أوضح من ان يخفى ضرورة أنه يتيسر أخذ رسالة الأعلم و نشرها إلى أقصى نقاط العالم و بالأخص في زماننا هذا.

و الشاهد على ذلك كله شهرة القول بوجوب تقليد الأعلم بين الأعلام و تبعهم في ذلك العوام فقلدوا الأعلم في عصرهم بزعمهم و لم يقعوا في حرج من ذلك كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 302

..........

______________________________

هذا كله على تقدير لزوم

تقليد الأعلم مطلقا، و اما ان قلنا بلزوم تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى بينه و بين غيره و العلم بالمخالفة انما يتحقق إذا علم فتوى كليهما، و واضح ان معرفة الفتوى عند العلم بالمخالفة تفصيلا أو إجمالا ليست فيها شائبة أي حرج كما لا يخفى» «1».

الوجه الرابع: سيرة المتشرعة

قد يقال انه قد جرت و استمرت سيرة المتشرعة من زمن الأئمة المعصومين الى زماننا هذا على الرجوع الى كل مجتهد من دون فحص عن الأعلم مع ان مراتب العلماء في الفضيلة متفاوتة و درجاتهم العلمية غير متساوية كما ان عدم اتفاقهم في جميع الآراء غير خفية.

و بالجملة السيرة المستمرة بين أهل التقليد من السلف الصالح الى الخلف اللاحق الى الآن على أخذ الفتوى عمن له صلاحية الفتوى مع اختلاف ذي الصلاحية في مراتب العلم و الفضل و الرأي و لم ينكر أحد منهم ذلك.

و فيه: ان السيرة و ان كانت ثابتة الا أنها في الجملة لا بالجملة فتكون أخص من المدعى.

و ذلك لثبوت السيرة في ذلك فيما إذا لم يعلم بالاختلاف، تفصيلا، أو إجمالا بين الفقهاء، و المفتين، و لم يحرز وجود الأعلم في البين.

و لعل إنكار السيرة عند عدم العلم بالخلاف في الفتوى، و عدم إحراز وجود الأعلم مكابرة فكانوا يراجعون الى اى شخص من العلماء الواجدين لشرائط الإفتاء عند عدم علمهم بالخلاف، و عدم علمهم بوجود الأعلم من دون فحص عن الأعلم.

و لكن إثبات السيرة عند العلم بالاختلاف بالفتوى تفصيلا، أو إجمالا مع إحراز وجود الأعلم التي هي معركة الآراء فدون إثباته خرط القتاد، فإن الأمر في المفروض بالعكس، و السيرة جارية على المراجعة إلى الأعلم عند ذاك كما

______________________________

(1) الدروس ج 1/

78- التنقيح ج 1/ 140.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 303

..........

______________________________

هو المشاهد منهم في غير الأحكام، فتريهم إذا عين الطبيب دواء لعلاج المريض و خالفه في ذلك من هو اعلم منه لم يعتمدوا برأيه لعلاجه بوجه خصوصا إذا كان نظره مخالفا للاحتياط و انما يتبعون رأى الأعلم.

الوجه الخامس: ما حكى عن صاحب الفصول من انه لو كان تقليد الأعلم واجبا لما جاز الأخذ بفتاوى أصحاب أئمة أهل البيت عليهم السّلام مع إمكان الاستفتاء منهم عليهم السّلام فإنهم أولى بأن يؤخذ منهم من الأعلم.

و فيه أولا: كما عن تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) ان قياس الامام عليه السّلام بغيره مما يشمئز منه أصحاب المروة و الإنصاف كما هو ظاهر.

و ثانيا: ان محط البحث في لزوم تقليد الأعلم، و عدمه انما هو في صورة مخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم، و في صورة العلم بمخالفة فتوى أصحاب الإمام المعصوم له عليه السّلام لم يكن لفتويهم اعتبار أصلا بل زخرف و باطل و مع ذلك كيف يمكن التفوّه بجواز تقليدهم.

و بالجملة حجية فتاوى أصحاب الإمام عليه السّلام انما هي في طول رأيه و كاشف عن رأيه المقدسة، لا في عرضه و مقابله، و لا يكاد يتفوه أحد من أصحابنا، و لا يتجرء انقداح مخالفة رأيه له عليه السّلام فهذا من غرائب الاستدلال.

و قد يقال ان عبارة الفصول تأبى عن ذلك، و لم يحضرني عبارته فليلاحظ و ليتأمل.

فقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما استدل به لعدم لزوم تقليد الأعلم مطلقا حتى في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى.

فبعد ما عرفت ذلك فحان عطف عنان البحث الى ذكر ما يستدل به للزوم تقليد الأعلم، و ملاحظته،

فان تم فيها، و الا و المرجع هو الأصل العملي الذي قربناه بتقريبين في صدر المسئلة فنقول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 304

المورد الثاني في ما قيل أو يمكن ان يقال للزوم تقليد الأعلم
اشارة

______________________________

و هو أيضا وجوه.

الوجه الأول: بناء العقلاء

بناء العقلاء، الممضى شرعا و لو بعدم الردع، و هو الأساس القويم للقول بلزوم تقليد الأعلم.

و لكن لا يستفاد منه اعتبار الأعلمية مطلقا، بل في خصوص ما إذا خالفت فتوى الأعلم مع فتوى غيره و كانت فتوى غيره مخالفة للاحتياط.

و ذلك لأنه عند تعدد الفقيهين، و اختلافهما في الفضيلة تارة يعلم بموافقة الأعلم مع غيره في الفتوى، و اخرى يعلم بمخالفتهما في ذلك تفصيلا، أو إجمالا في المسائل التي تعم بها البلوى، و ثالثة، لا يعلم الموافقة و لا المخالفة.

ففي صورة توافقهما في الفتوى، بل و في صورة احتمال مخالفتهما في ذلك لم يكن لهم بناء على لزوم اتباع رأى الأعلم بل يجوزون المراجعة الى كل منهما نعم يرجحون اتباع رأى الأعلم خصوصا في صورة احتمال المخالفة.

و السر في ذلك هو وجود تمامية الملاك في رأي كليهما، و لذا ترى أبواب بيوت غير الأعلم مفتوحة كباب بيت الأعلم و يراجعون إليهم كما يراجعون اليه، و يعتذرون لعدم المراجعة إلى الأعلم باعذار تكشف عن عدم لزوم المراجعة إليه.

كقولهم ان الوصول إلى الأعلم مشكل، أو ان الوصول اليه يستلزم صرف وقت كثير أو ان مؤنة المراجعة إليه كثيرة، أو ان طريق الوصول اليه بعيد الى غير ذلك من الاعذار.

و بالجملة موضوع رجوع الجاهل الى العالم لأجل كاشفية رأى العالم، و اماريته للواقع بحيث يطمئن الجاهل برأيه و يلغى احتمال خلاف الواقع، لان احتمال خلاف الواقع في رأي المفضول مرجوح فيلزمه مرجوحية مخالفة رأيه للفاضل، و لا يعقل عدم إلغاء مخالفة رأى المفضول للفاضل مع إلغاء احتمال رأيه للواقع فتدبر

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 305

..........

______________________________

و يلحق بصورة

احتمال المخالفة ما لو علم إجمالا بالمخالفة من حيث الفتوى لكن كان أطراف المعلوم بالإجمال كثيرا بحيث يلحق بالشبهة غير المحصورة من حيث عدم التنجز، فإنه لا يبعد ان يقال: ان بناء العقلاء في أطراف المعلوم بالإجمال الكذائي مثل صورة احتمال الخلاف بدوا في عدم لزوم المراجعة إلى الأعلم.

و اما إذا علم مخالفتهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا ملحقا بالتفصيل من حيث التنجيز، و كانت فتوى المفضول مخالفة للاحتياط، أو كانت فتوى كل منهما موافقة للاحتياط من جهة، و مخالفة له من جهة أخرى، فالظاهر من بنائهم هو لزوم المراجعة إلى الأعلم.

و ان كنت في شك من ذلك، فاختبر حالهم في مهام أمورهم في غير الأحكام تجدهم أصدق شاهد على ما ذكرنا.

نعم ان كانت فتوى الأعلم على خلاف الاحتياط و كانت فتوى غير الأعلم موافقة له- كما إذا أفتى الأعلم بالإباحة في مورد، و افتى غير الأعلم فيه بالوجوب- فالظاهر من بناء العقلاء عند ذلك جواز الرجوع الى غير الأعلم من باب الاحتياط.

و بالجملة عند مخالفة رأى الأعلم للاحتياط يعملون برأى غير الأعلم من باب الاحتياط و يأتون به برجاء درك الواقع كما يعملون برأى الأعلم و لا يرون لمخالفة رأيه للاحتياط محذورا و قدحا.

الوجه الثاني: الإجماع

قد عرفت حكاية دعواه عن المحقق الثاني، و عن صاحب المعالم انه قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم، بل عن السيد في الذريعة كونه من مسلمات الشيعة.

و فيه: مضافا الى بعد تحقق الإجماع بعد ما عرفت من ذهاب جماعة من الفقهاء الى جواز تقليد المفضول: ان محصل الإجماع فضلا عن منقولة في مثل هذه المسئلة التي يتمسك فيها بحكم العقل، و بناء العقلاء، و الروايات و غيرها لا مسرح له

و لا يكاد ينتفع بداهة انه من القريب بل المظنون لو لم يكن مقطوعا ان أكثر المجمعين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 306

..........

______________________________

اتكلوا و استندوا بهذه الوجوه، و الإجماع إنما ينفع في مورد لم يكن كذلك ليستكشف به عن وجود نص معتبر عثر المجمعون عليه و لم نظفر به.

الوجه الثالث: الروايات
منها: ذيل مقبولة عمر بن حنظلة.

قال سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث الى ان قال:

فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما و اختلف فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا ن خ) فقال الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما، و أصدقهما في الحديث، و أورعهما، و لا يلتفت الى ما يحكم به الأخر الرواية «1».

تقريب الدلالة هو انه بعد فرض سؤال السائل ان منشأ اختلاف الحكمين هو الاختلاف في الحديث عنهم عليهم السّلام- اما في حديث واحد اختلف في فهمه، أو في حديثين- أجاب عليه السّلام بالأخذ بالأفقه منهما، و هو ظاهر في ان الاختلاف في خصوص الشبهة الحكمية لا الموضوعية، بل الترجيح بالأفقهية بمناسبة الحكم و الموضوع لا يناسب الشبهة الموضوعية كما لا يخفى.

و ان أبيت عن ذلك فنقول بشمول المقبولة لكل من الشبهة الحكمية، و الموضوعية فدلت المقبولة على ترجيح فتوى الأفقه في المنازعة في الدين أو الميراث، و بعد إلغاء خصوصية بابى الميراث، و الدين، و باب القضاء، للقطع بوحدة الملاك يستفاد ان فتوى الأعلم بما انه فتواه مقدم على فتوى غيره، و ان لم يكن في باب القضاء، فيثبت المطلوب و هو لزوم تقليد الأعلم.

و قد يناقش: تارة من حيث السند و

اخرى من حيث الدلالة، اما المناقشة

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 307

..........

______________________________

من حيث السند فقد تقدم أنفا ذكرها و دفعها فلاحظ.

و اما من حيث الدلالة فنوقش.

أولا: بأن ظاهر المقبولة بقرينة عطف الافقهية، و الاصدقية و الأورعية بالواو دون (أو): ان الأوصاف الأربع مجتمعة توجب التقديم، و فرض الراوي صورة التساوي، لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها، فالمقبولة تعطي بان في صورة اختلاف الحكمين يرجح حكم من كان واجدا للصفات الأربع زائدة على المقدار الذي يكون في الأخر لا الأخذ بفتوى الأعلم فقط كما هو المدعى.

و ثانيا: ان غاية ما يستفاد منها بالملازمة العرفية من قوله عليه السّلام: الحكم ما حكم به إلخ. هو نفوذ مستند حكم الأعلم في الشبهات الحكمية، و هو فتواه، فنفوذ حكم الأعلم يلازم نفوذ فتواه.

و لكن لا يستفاد منها سلب نفوذ فتوى غير الأعلم حتى يتم المطلوب لاحتمال سلب نفوذ حكم غير الأعلم فقط دون فتواه، و ذلك لان المركب، أو ما هو بحكمه يسلب بسلب أحد أجزائه فسلب نفوذ حكم الأعلم كما يمكن ان يكون لسلب حجية فتوى غير الأعلم يمكن ان يكون لسلب صلاحية حكمه فلا ملازمة بين نفوذ حكم الأعلم و طرح فتوى غير الأعلم فلا يستفاد من المقبولة تعيّن المراجعة إلى فتوى الأعلم و سقوط فتوى غير الأعلم عن الحجية.

فإذا لا مانع من المراجعة الى كل من الأعلم و غيره عند المعارضة.

و بالجملة سلب الأمر المتوقف على مقدمات لا يلازم سلب جميع المقدمات لأنه من الممكن ان يكون سلبه بسلب واحد منها فغاية ما يقتضيه نفوذ حكم الأعلم هو عدم نفوذ

حكم غير الأعلم لا سلب حجية فتوى غير الأعلم فتدبر.

و ثالثا: ان مورد الترجيح هو الحكمين، و انى لنا؟! و إلغاء الخصوصية مع وجود الفرق الفاحش بين باب القضاء، و باب الفتوى ضرورة انه لا بد عند النزاع من فصل الخصومة بين المتنازعين، و لا معنى للحكم بالتخيير فيها لاستدامة بقاء الترافع بحاله لأن كلا من المتخاصمين يختار ما هو الأصلح لنفسه، و لذا لم يحكم الامام عليه السّلام

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 308

..........

______________________________

في مورد الحكمين بالتخيير بعد فقد الوجوه المرجحة، و انما أمر بالتوقف و تأخير الواقعة إلى لقاء الامام عليه السّلام بقوله: فارجه حتى تلقى إمامك.

فاذا للشارع إيجاب الاحتياط في حقوق الناس بالأخذ بفتوى الأعلم ضرورة انه لا إشكال في كون الأخذ بفتواه أحوط، فجعل حكم الأعلم فاصلا لا قربيته الى الواقع بنظره.

و هذا بخلافه في باب الفتوى فلم يلاحظ ذلك فيه توسعة على الناس.

فدعوى القطع بوحدة الملاك في البابين مجازفة.

أضف الى ذلك انه لا معنى، و لا اثر للاصدقية في حجية الفتوى بالنسبة إلى الأخرى، بخلاف حجية أحد الحكمين بالنسبة إلى الأخر، و قد لوحظ ذلك في المقبولة فهذا أصدق شاهد على ان الترجيح مخصوص بباب القضاء دون الفتوى.

و رابعا: انه لو سلم إلغاء الخصوصية و تنقيح المناط فمقتضى التعدي من باب القضاء الى باب الإفتاء، هو الأخذ بفتوى الأفقه منهما في البلد، مثلا بالنسبة إلى الفقيه الأخر كما رجح في باب القضاء حكم الأفقه من الحاكمين في البلد بالنسبة إلى الأخر، و لا يكاد يتم ذلك في باب الإفتاء ضرورة انه لا بد فيه من ملاحظة الأعلم من الكل في كل مكان، و لذا

لو كان في البلد فقيهان أحدهما أعلم من الأخر لا يجوز تقليد الأعلم منهما، إذا كان في بلد أخر من هو اعلم منهما.

فالإنصاف كما أشرنا: انه لا يصح التمسك بمثل المقبولة لمسئلة التقليد رأسا كما لا يصح التمسك بذيلها للزوم تقليد الأعلم.

و منها: ما عن الصدوق و الشيخ بإسنادهما عن داود بن الحصين عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

في رجلين اتفقا على عدلين، جعلاهما بينهما في حكم، وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما، يمضي الحكم؟ قال ينظر الى افقهما،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 309

..........

______________________________

و أعلمهما بأحاديثنا، و أورعهما فينفذ حكمه، و لا يلتفت الى الأخر «1».

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حق، فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال و كيف يختلفان؟ قال حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان فقال ينظر إلى أعدلهما، و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه «2».

تقريب الاستدلال بالروايتين يظهر مما ذكرناه في المقبولة كما ان جوابه يظهر مما ذكرناه في ردها فلاحظ.

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السّلام في عهده الى مالك الأشتر
اشارة

. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم الى ان قال و أفقههم في الشبهات و آخذهم بالحجج إلخ «3».

تقريب الدلالة انه عليه السّلام أوجب على مالك اختيار الأفضل من رعيته للحكم الذي هو أعم من القضاء المصطلح، فيعم مقام الفتوى فيصح استفادة وجوب تقليد الأعلم نوقش بضعف السند و الإرسال.

موقف نهج البلاغة

و لكن فيه ان نهج البلاغة الذي جمعه السيد الأجل الرضى المتوفى 404 ه ق، و هو الموجود بأيدينا هو مختار خطب أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

(2) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

(3) نهج البلاغة الكتاب 53.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 310

..........

______________________________

و كتبه، و رسائله، و كلماته، و له منها أصدق شاهد على انها منه عليه السّلام خصوصا بعض خطبه، و كتبه، التي تكون فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق و منه، هذا الكتاب الذي يكون أطول عهده، و اجمع كتبه للمحاسن الذي من متنه شواهد صدق، على انه منه عليه السّلام.

و قد اشتهر كتابه هذا بين أنديه علماء الإسلام و تلقته. الأصحاب بالقبول خلفا عن سلف و اعتنوا به أشد العناية فصار انتسابه إليه أبين من الأمس، و أوضح من النهار، بل كل ما في النهج كذلك.

أضف الى ذلك ما يقال: ان ما في النهج منقول عن جماعة من الموثقين بل يصح ان يقال ان صدور ما فيه عنه عليه السّلام مستفيض و قد طبع أخيرا ما يتعلق بمصادر نهج البلاغة في مجلدات فليلاحظ.

و لقد أجاد العلامة الشهرستاني (ره)

فيما يتعلق باعتبار نهج البلاغة، و دفع بعض الشبهات الطارية عليه حيث قال:

«بان الشريف الرضى اختار من مختار كلام أمير البلاغة و امام الإنشاء، مجموعة وافية بالغرض، وثق من إسنادها و هو الثقة عند الجميع» «1».

و قال في موضع أخر: «و أنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا و أسلوبا فاردا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية، و هو كالقرآن العزيز. اوله كأوسطه، و أوسطه كآخره، و كل سورة منه و كل آية مماثلة في المأخذ، و المذهب، و الفن، و الطريق و النظم لباقي الآيات و السور «2».

فالبحث حول اعتبار نهج البلاغة مما لا ينبغي فسند الكتاب لا غبار عليه.

المناقشة في دلالة ما في العهد على لزوم تقليد الأعلم

و لكن وقع الإشكال في دلالته للمقال و ذلك من وجوه:

______________________________

(1) ما هو نهج البلاغة/ 22/ 50.

(2) ما هو نهج البلاغة/ 22/ 50.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 311

..........

______________________________

الأول: انه غير معمول به في مورده لعدم لزوم مراعاة الأعلمية في الرعيّة بالنسبة إلى القضاء، لان مقتضاه لزوم اختيار مالك الأشتر من يكون اعلم من غيره في حوزة امارته من مصر و نواحيه للقضاء.

و هو مع بعده في نفسه، و عدم قدرة الأفضل لفصل خصومات مصر، و اعماله بل لا بد من أدائها من عدة قضاة و حكام كما لا يخفى.

و بهذا، و بذلك يمكن ان يستفاد عدم اشتراط ما ذكر فيها للقضاء، و انما يكون شرط كمال له فلا يستفاد منه لزوم اعتبار أفضلية الرعيّة، فلا يثبت المطلوب كما لا يخفى.

الثاني: انه لو سلم لزوم مراعاته فغاية ما تقتضيه: الأعلمية الإضافية بالنسبة إلى رعيّة الوالي المعين له، و هو غير اعتبار

الأعلمية المطلقة في الفتوى.

الثالث: كما أشرنا في المقبولة أن التعدي من باب القضاء الذي هو مورد الكتاب، الى باب الإفتاء لا يكاد يمكن إلا بإلغاء الخصوصية، و تنقيح المناط، أو الأولوية و قد ذكرنا في الجواب عن المقبولة عدم استفادة شي ء منها.

الرابع: كما قيل ان غاية ما يقتضيه هو انه يعتبر في القاضي المنصوب من قبل الامام عليه السّلام أو نائبه الخاص ان يكون متصفا بتلك الصفات، فلا يستفاد منه العموم بالنسبة إلى المنصوب العام.

قلت: و لا يخفى انه يمكن إثبات التعميم منه بالنسبة إلى المنصوب العام بإلغاء الخصوصية، أو تنقيح المناط فتأمل.

الخامس: ان الأفضلية غير مساوقة للاعلمية لصدق الأفضلية على مطلق المزية و لو من جهة الأعدلية، أو نحوها من الأمور التي توجب الفضيلة فإذا يكون أخص من المدعى من جهة، و أعم منه من جهة أخرى.

و منها: ما في اختصاص المفيد

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 312

..........

______________________________

من تعلم علما ليماري «1» به السفهاء، و يباهي به العلماء و يصرف به الناس الى نفسه، يقول انا رئيسكم فليتبوء مقعده من النار، ثم قال ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعا الناس الى نفسه و فيهم من هو اعلم منه لم ينظر اليه يوم القيمة «2».

تقريب الدلالة: انه يدل على انه لا يجوز لغير الأعلم دعوة الناس الى نفسه مع وجود الأعلم، فهذا يشعر، بل يدل على انه لا يجوز له الإفتاء عند ذلك، فلا يجوز لغيره تقليده لأنه لو كان تقليده جائزا لما كان محرما، بل كان راجحا شرعيا، و واجبا كفائيا.

نوقش أولا: بضعف السند للإرسال.

______________________________

(1) قلت: ان لشيخنا الشهيد الثاني كلمة

نفيسة في المراد من المراء و اقسامه يعجبني ذكرها، و لعله لا تخلو عن فائدة و ان كان خارجة عن موضوع البحث قال قدس:

«و اعلم ان حقيقة المراء: الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه لفظا، أو معنى، أو قصدا، لغير غرض ديني أمر اللّه به، و ترك المراء يحصل بترك الإنكار و الاعتراض بكل كلام يسمعه فان كان حقا وجب التصديق به بالقلب و إظهار صدقه حيث يطلب منه، و ان كان باطلا و لم يكن متعلقا بأمور الدين فأسكت عنه ما لم يتمحص النهى عن المنكر بشروطه.

و الطعن في كلام الغير اما في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو، أو اللغة أو من النظم، و الترتيب، بسبب قصور المعرفة، أو طغيان اللسان، و اما في المعنى بان يقول: ليس كما تقول، و قد أخطأت فيه لكذا، و كذا، و اما في قصده مثل ان يقول: هذا الكلام حق و لكن ليس قصدك منه الحق و ما يجرى مجراه.

و علامة فساد مقصد المتكلم تتحقق بكراهة ظهور الحق على غير يده ليتبين فضله و معرفته للمسئلة، و الباعث عليه الترفع بإظهار الفضل و التهجم على الغير بإظهار نقصه، و هما شهوتان رديتان للنفس الى آخر ما ذكره فلاحظ منية المريد الطبعة الحديثة الجيدة 172.

(2) الاختصاص 251، و رواه في البحار ج 2/ 110.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 313

..........

______________________________

و ثانيا: كما أفيد: «لعل المراد الرئاسة التوأمة للخلافة و الإمامة فإنها التي لا تصلح إلا لأهلها، و الا فالرئاسة المجردة عن دعوة الخلافة، و الإمامة، لا يشترط فيها الأعلمية بوجه «1».

و لا يخفى ما فيه: لان دعوى عدم اشتراط الأعلمية

في الرئاسة المجردة عن دعوى الإمامة مصادرة، و هو أول الكلام، و قد ذهب المشهور الى اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى، و قد قيل باعتبار اعلمية قاضي البلد.

فاذا: لو تم سنده يصح الاستدلال به لاعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى، الا ان يستظهر منه عدم الوجوب و ان الحكم فيه أخلاقي، لأنه لا يلائم، و لا يناسب ان يدعوا الرجل الناس الى نفسه و فيهم من هو اعلم منه و اللّه العالم.

و منها: ما عن عيون المعجزات

انه لما قبض الرضا عليه السّلام كان سن ابى جعفر عليه السّلام نحو سبع سنين فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد، و في الأمصار في حقه فخرج جماعة من الفقهاء إلى مدينة، و أتوا دار جعفر الصادق عليه السّلام فسئلوا عن عبد اللّه بن موسى عن مسائل فأجابهم عنها بغير الواجب، فأوجب حيرتهم، و غمهم، و اضطرابهم، الى ان دخل عليهم الإمام أبو جعفر الجواد عليه السّلام فسئل عن مسائل فأجاب عنها بالحق ففرحوا و دعو اللّه، و أثنوا عليه فقالوا له: ان عمك عبد اللّه قال كيت، و كيت، فقال عليه السّلام: لا إله إلا اللّه: يا عم: انه عظيم عند اللّه ان تقف غدا بين يديه، فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لا تعلم، و في الأمة من هو اعلم منك «2».

تقريب الدلالة واضح.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 145.

(2) بحار الأنوار/ ج 50/ 100.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 314

..........

______________________________

نوقش: أولا: بضعف السند للإرسال.

و ثانيا: انه بمناسبة مخاطبة الإمام الجواد عليه السّلام لعمه بشهادة صدر الخبر هو تصدى عمه للخلافة، و الإمامة فلا يرتبط بما نحن فيه.

مع ان صريحها ان فتوى عمه كانت بما لا يعلم فتخرج عن موضوع

البحث.

و لو أغمض عن ذلك كله و تم سندها فدلالتها على اعتبار الأعلمية المطلقة في المفتي لا غبار عليه.

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤا به «1».

قال شيخنا العلامة التهرانى في الذريعة يستفاد من ذلك تعيّن تقليد الأعلم زائدا على ما استدلوا به عليه «2».

تقريب الدلالة واضح.

و لكن فيه: ان مقتضاه أولوية من كان اعلم الناس بما جاء به الأنبياء- أصولها، و فروعها- و محل البحث تقديم ما يكون اعلم من غيره في استنباط الأحكام الفرعية عن مداركها، و ان كان غيره اعلم منه في سائر معارف الدين، و أصولها.

مع انه لا ينبغي الإشكال في رجحان تقديم الأعلم، و الكلام في لزوم مراعاته، و لا يكاد يستفاد اللزوم من هذه الفقرة.

فتحصل مما ذكرنا ان الاخبار التي يستدل بها بين ما لا دلالة لها على اعتبار الأعلمية المطلقة في المفتي. و بين ما تكون ظاهرة فيه، و لكن لا يصح الاتكال بسنده.

الوجه الرابع: حكم العقل
اشاره

قد يقرر حكم العقل بلزوم اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى بغير ما ذكر في تقرير الأصل، و بناء العقلاء، و هو مركب من صغرى وجدانية، أو عقلية، و كبرى عقلية، حاصله ان رأى الأعلم أقرب الى الواقع من رأى غيره، و كلما كان كذلك فيجب اتباعه.

______________________________

(1) قصار الحكم من نهج البلاغة/ 96.

(2) الذريعة ج 4/ 390.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 315

..........

______________________________

اما بيان الصغرى: فلان الأعلم بلحاظ اطلاعه على مزايا و خصوصيات يجهلها غير الأعلم يكون أحسن دركا، و اصابة، و أقوى فهما من غيره فيكون الظن الحاصل من رأيه أقرب من غيره، و المراد بذلك ليس خصوص الأحكام التي أوحاها اللّه تعالى الى نبيه صلّى اللّه عليه و آله، بل الأعم منها و من الطرق العقلائية الممضاة شرعا، و من الأحكام، الظاهرية و الأصول الشرعية، و من الأعذار العقلائية المجعولة عند فقد الأمارات و

الطرق الشرعية: من الاحتياط، و الاشتغال، و البراءة و غيرها.

و بالجملة نظر الفقيه، و فتواه طريق إلى الأحكام الواقعية الأولية، و الطرق، و الأصول الظاهرية الشرعية، و الأحكام العذرية، فإذا كان أحد الفقهين اعلم يكون نظره و فتواه أقرب من غيره بالنسبة إلى تلك الأمور.

و اما بيان الكبرى: فلحكم العقل و صريحه بذلك، لأنه على مذهب من يرى حجية الفتوى من باب الطريقية يكون المطلوب الأصلي الواقعيات بمعناها الأعم فيجب الأخذ بكل طريق يكون أقرب من غيره بالنسبة إلى تلك الأمور فيؤخذ به و لا يجوز العدول عنه الى ما يكون ضعيفا.

نوقش تارة في صغرى الدليل و اخرى في كبراه

أما المناقشة في الصغرى: فبالمنع من أقربية فتوى الأعلم من غيره دائما ضرورة انه قد يوافق نظر غير الأعلم لفتوى الميت الأعلم منهما، أو للحي الأعلم منهما غير الواجد لشرائط التقليد- بان كان فاسقا مثلا- أو لفتوى المشهور الى غير ذلك مما يوجب أقربية فتوى غير الأعلم، فاقربية فتوى الأعلم إنما يتطرق في مثل ما إذا انحصر الفقيه في الخارج في فقيهين كان أحدهما أعلم من الأخر.

نعم: ان أريد بالأقربية خصوص الأقربية الاقتضائية- بمعنى ان الأعلم من شأنه أن تكون فتواه أقرب من غيره- فتتم الصغرى لأن أقربية فتوى غير الأعلم في المورد المذكور ليست في نفسه، بل بالخارج و العرض، و ما يكون أقرب ذاتا و طبعا انما هو فتوى الأعلم كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 316

..........

______________________________

و لكن لا يكاد ينفع ضرورة ان العقل لا يرى اى فرق بين الأقربية الذاتية، و الأقربية العرضية فيما هو المهم في المقام.

و بعبارة أخرى لا يرى العقل اى تفاوت بين ان تكون الأقربية في الامارة لنفسها أو

لأجل موافقتها لامارة اخرى.

و اما المناقشة في الكبرى: فذكرها جماعة من الأصحاب منهم المحقق الخراسانى (قدس سره) و حاصل ما أفيد فيها بتوضيح منا:

ان الأحكام الفعلية على نحوين.

أحدهما: حكم العقل القطعي البتي نظير حكمه بامتناع اجتماع النقيضين، و ارتفاعهما- بحيث لا يمكن التعبد بخلافه- و إذا ورد نص على خلافه يؤول، أو يطرح نظير قوله تعالى الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ «1» و قوله تعالى جٰاءَ رَبُّكَ الآية «2» الى غير ذلك حيث يؤولان لما تقرر في محله: انه تعالى ليس بجسم و لا جسماني الثاني: حكم العقل في مقام الامتثال فان العقل يحكم بوجوب امتثال ما اشتغلت الذمة به يقينا، و علما، فان حكمه بذلك انما هو لو خلي و نفسه و يجوز ان يتعبدنا الشارع بجعل الطرق و الأمارات في عرضه بحيث لو عمل بالأمارة المعتبرة لكفاه عن الامتثال العلمي القطعي، بل يجوز جعل أصل مفرغ عند ذلك كما جعل قاعدة الفراغ، و التجاوز لتصحيح المأتي به بعد الفراغ، أو التجاوز عنه.

فبعد ما عرفت حكم العقل في الموردين لا سبيل الى كون حكم العقل بلزوم الأخذ بالطرق، و الأمارات من قبيل النحو الأول بداهة حكم الوجدان على خلافه لإمكان التعبد من الشارع في اتباع رأى المفضول، أو التخيير بينه و بين الفاضل إذا رأى مفسدة في تعيين الرجوع الى الأعلم، أو رأى مصلحة في التوسعة على المكلف فهل ترى من نفسك انه إذا ورد نص قاطع لا يمكن تأويله في ذلك تطرحه، أو تضربه على الجدار؟! أ معتذرا بأنه خلاف صريح حكم العقل كما كنت تطرح، أو تؤل إذا ورد دليل كذلك في إمكان اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما حاشاك!!.

______________________________

(1) طه: 20/ 5.

(2) الفجر: 89/

22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 317

..........

______________________________

فاذا يكون المراد بحكم العقل النحو الثاني الذي يتطرق فيه التعبد.

فمع تجويز العقل إمكان التعبد بخلاف رأى الأعلم لم تتم الكبرى كلية فلم تنتج القضية.

و ذلك لأنه ان قيل: ان كل إنسان جسم، و كل جسم متحيّز، و لكن يمكن ان لا يكون متحيزا لا ينتج ان كل إنسان متحيز، و انما النتيجة كل إنسان أما متحيز، أو يمكن ان لا يكون متحيزا.

و لسماحة أستادنا العلامة الخمينى دام ظله بيان أخر في المناقشة في الكبرى حاصله: ان المدعى لوجوب تقليد الأعلم لا بد له من إثبات أحد أمرين.

اما إثبات ان الأخذ بفتوى غير الأعلم، أو التخيير بينه و بين الأعلم ترجيح للمرجوح على الراجح، أو حكم بالتساوي بينهما و العقل يدرك قبحه، و امتناعه من الحكيم نظير حكمه بامتناع اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما.

أو إثبات انه علم من الشارع عدم رضاه بترك الواقعيات بل يريد إتيانها، و ان لزم ما لزم، و دون إثباتهما خرط القتاد.

اما بالنسبة الى الأمر الأول فلان الضرورة، و الوجدان حاكمان على انه إذا ورد نص قاطع غير قابل للتأويل في ذلك لا يطرح و لا يضرب بالجدار كما يضرب النص الوارد في إمكان اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما بل يؤخذ به.

و اما بالنسبة الى الأمر الثاني فقد ورد من الشرع إمضاء الأمارات و الأصول العقلائية، و جعل الأحكام العذرية عند فقدها و ان لزم ما لزم من الوقوع في خلاف الواقع، و ذلك يكشف عن عدم لزوم مراعاة الأحكام الواقعية الأولوية مهما أمكن و ان لزم ما لزم.

فاذا جاز ذلك فللشارع الإرجاع الى غير الأعلم. و ان لزم ما لزم.

مضافا الى

انه لو تم الأمر الثاني، و ان الشارع لم يرفع اليد عن الأحكام الواقعية، و لا يرضى بتركها فمقتضاه لزوم تحصيل تلك الواقعيات مهما أمكن و لو

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 318

..........

______________________________

بالاحتياط و ان أوجب العسر، و الحرج، بل و اختلال النظام لا الأخذ بفتوى الأعلم بداهة ان فتوى الأعلم كفتوى غيره لا تكون مصيبة إلى الواقع تمام الإصابة، و غاية ما فيه هو ان احتمال أصابتها الى الواقع أكثر من غيره.

فلا يكاد يخفى: ان القول بالأمر الثاني يستلزم انهدام أساس الفقه و الشريعة لأن معظم أساس الفقه مبني على الاخبار الآحاد، و الأصول العقلائية و الاعذار الشرعية

الوجه الخامس: حكم العقل أيضا
اشارة

أشار إليه المحقق الأصفهاني فقال:

انه يمكن اقامة دليل أخر لتعيّن تقليد الأعلم، و ان لم نقل بأقربية فتواه الى الواقع و لم نقل بأن الملاك كلا أو بعضا هو القرب الى الواقع فأفاد ما حاصله:

«انه ذكرنا في لزوم التقليد عقلا أن العامي الذي لم يحصل له الحجة لا بد و ان يستند الى من له الحجة، و حيث ان فتوى الأعلم أكثر إحاطة بالجهات الموجبة للاستنباط لبلوغ نظره الى ما لم يبلغ نظر غيره فيكون أوثق بمقتضيات الحجج الشرعية و العقلية فهو بالنسبة إلى المفضول نسبة العالم بالجاهل، فالعقل في مقام إبراء الذمة يرى حجية رأيه ليس الا، لإذعانه بمقتضى فرض الأعلمية و كون المجتهد ذا حجة على الحكم بكون رأيه أوثق بمقتضيات الحجج و ان التسوية بينه و بين غيره يؤل إلى التسوية بين العالم و الجاهل» «1».

و فيه أولا: انه في الحقيقة تقريب للاقربية لا شي ء أخر فإن إحاطة الأعلم بالجهات الدخيلة في الاستنباط التي غفل عنها

العالم ربما يوجب كون خطأ الأعلم أقل بالنسبة إلى خطأ العالم فتكون فتوى الأعلم أقرب الى الواقع من فتوى العالم الا ان يقال: ان هذا تأويل لدليله (قدس سره) لان المترائى من كلامه انه بصدد بيان ان الأعلم بلحاظ إحاطته بالجهات، و الدقائق التي لم يبلغها نظر المفضول، تكون النسبة إليه نسبة العالم الى الجاهل، و مرجع التسوية بينهما إلى التسوية بين العالم،

______________________________

(1) التعليقة ج 3/ 110.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 319

..........

______________________________

و الجاهل و هو غير جائز بحكم العقل فتأمل.

و ثانيا: انه لو كان إذعان العقل بالتسوية بين العالم و الأعلم، كالتسوية بين الجاهل و العالم، فلازمه انه لو ورد نص غير قابل للتأويل في الأخذ بفتوى غير الأعلم يلزم ان يطرح كما يطرح لو ورد في رجوع الجاهل الى الجاهل، و لا يلتزم هذا المحقق به.

و ثالثا: ان نسبة العالم إلى الأعلم و ان كانت في وجه نسبة الجاهل الى العالم الا انه بالنسبة إلى المزايا و الخصوصيات الدخيلة في حسن السليقة و الاستدلال، و اما بالنسبة إلى أصل الاستنباط ورد الفروغ إلى الأصول فهما على حد سواء كيف لا؟!! و كلاهما مجتهدان و من ثمة لا يسوغ للعالم الرجوع الى الأعلم بل قد يخطئه، و كيف يجوز تقليده على تقدير فقد الأعلم.

فتحصل مما ذكرنا بطوله ان الأحوط الأقوى لزوم تقليد الأعلم فيما إذا علم بوجوده في الخارج اما تفصيلا أو إجمالا مع العلم التفصيلي، أو الإجمالي بالمخالفة في الفتوى فيما يعم به البلوى.

بل و كذا فيما إذا احتمل اعلمية شخص معين تفصيلا أو إجمالا مع مخالفة فتواه لغيره تفصيلا أو إجمالا.

هذا إذا كانت فتوى الأعلم أو محتمل

الأعلمية موافقة للاحتياط بالنسبة إلى فتوى غير الأعلم.

فإذا لم يعلم بوجود الأعلم أو لم يعلم مخالفته معه على تقدير وجوده، أو على تقدير مخالفته تكون فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط، فلا يجب تقليد الأعلم، و الظن بالأعلمية، أو بالمخالفة ان كان معتبرا فملحق بالعلم، و الا فملحق بالاحتمال.

قول الماتن بلزوم الفحص عن الأعلم و النقاش فيه

بقي الكلام في فتوى الماتن (قدس سره) بلزوم الفحص عن الأعلم بعد الاحتياط بلزوم تقليد الأعلم مع الإمكان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 320

..........

______________________________

فنقول قد عرفت عدم وجوب تقليد الأعلم مطلقا، و انما يجب في بعض الصور و مقتضاه عدم لزوم الفحص عن الأعلم كذلك، و انما يجب في بعض الصور فالحري الإشارة إلى الصور المتصورة في المقام ثم الإشارة الى ان حكم العقل بلزوم الفحص في أي منها.

و ليعلم أولا ان وجوب الفحص في مورده انما هو وجوب عقلي إرشادي إلى دفع العقاب المحتمل عند تركه، لا شرعي تعبدي لعدم دلالة من الشرع على وجوبه كما لا يخفى.

فنقول: اما يعلم وجود الأعلم تفصيلا، أو إجمالا، أو لا يعلم بذلك بقسميه، و لكن يحتمل الأعلمية اما في واحد معين- بمعنى ان واحدا منهما، أو منهم يحتمل ان تكون اعلم مع احتمال التساوي- أو يحتمل الأعلمية في كل منهما، أو منهم.

و على اى حال اما يعلم توافقهما أو توافقهم في الفتوى، أو يعلم الاختلاف كذلك تفصيلا أو إجمالا، أو يكون كل منهما محتملا، و بضرب الأربعة في الأربعة ترتقي الصور إلى ستة عشر صورة.

ففيما إذا علم بوجود الأعلم تفصيلا و علم بمخالفة فتواه لغيره- اما تفصيلا أو إجمالا فيما يعم به البلوى- لا موقع للفحص عن الأعلم في هاتين الصورتين لمعلومية الأعلم، فالواجب

حينئذ لزوم تقليده ان كانت فتواه موافقة للاحتياط، و الا فيتخير بين تقليده، و بين الأخذ بأحوط القولين، أو الأقوال.

و كذا فيما إذا احتمل اعلمية مجتهد خاص و لا يحتمل الأعلمية في غيره مع العلم بمخالفة فتواه لغيره تفصيلا، أو إجمالا فيما تعم به البلوى، فإنه لا موقع للفحص في المفروض، و الواجب تقليده ان كانت فتواه موافقة للاحتياط، و الا فالتخيير أو الأخذ بما هو الأحوط منهما، أو منهم.

نعم فيما إذا علم إجمالا بوجود الأعلم، أو احتمل اعلمية واحد منهما، أو منهم، مع العلم بالمخالفة من حيث الفتوى تفصيلا أو إجمالا فيجب الفحص عن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 321

..........

______________________________

الأعلم، فإن عرف الأعلم فإن كانت فتواه موافقة للاحتياط فيجب الأخذ بها، و الا فيتخير بينها و بين الأخذ بما هو الأحوط، و ان لم يعرفه فإن أمكن الأخذ بما هو الأحوط فيتعين و الا فمخير بالأخذ بأي منهما، أو منهم.

و اما باقي الصور:

و هي ما لو علم بالتفاضل تفصيلا، أو إجمالا مع العلم بتوافقهما في الفتوى، أو احتمل التخالف في الفتوى، أو احتمل التفاضل في كليهما، مع العلم باختلافهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا، فبعد ما عرفت من عدم وجوب تقليد الأعلم في هذه الصور فيسقط وجوب الفحص مع عدم موقع للفحص في بعضها.

و قد أشرنا الى ان الظن بالأعلمية، أو المخالفة ان كان معتبرا فيلحق بالعلم و الا فيلحق بالاحتمال.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 323

[مسئلة 13- المجتهدان المتساويان في الفضيلة]

اشارة

مسئلة 13- إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخير بينهما (1) إلا إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع (2)

______________________________

(1) إذا لم يعلم مخالفتهما في الفتوى

فيما هو محل الابتلاء، و يجوز تقليدهما معا، ان علم بتوافقهما فيها و اما إذا علم مخالفتهما فالأحوط الأخذ بأحوط القولين ان أمكن، و الا نخير في تطبيق العمل على احدى الفتويين

(2) على الأحوط، مع العلم بمخالفتهما في الفتوى، و عدم إمكان الاحتياط ان كانت الأورعية في مقام الاستنباط و الفتوى- بان يكون اهتمامه و تحفظه على خصوصيات الأدلة أكثر كالفحص الأكيد عن القرائن و غيرها، و الدقة الشديدة في الاستنباط و مبالغته في بذل جهده في الإحاطة بمدارك الحكم- و ان كانت الأورعية في مقام العمل فالأحوط الأولى الأخذ بأحوط القولين ان أمكن، و الا فالتخيير، كما انه في صورة عدم العلم بالمخالفة يتخير بينهما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 324

..........

______________________________

أقول: تنقيح المقال في المسئلة يستدعي البحث في مقامين الأول: فيما إذا كان المجتهدان متساويين في الفضيلة و الثاني فيما إذا كان أحدهما أورع.

المقام الأول في التخيير عند تساوى المجتهدين في الفضيلة مطلقا.

اشارة

المجتهدان المتساويان في الفضيلة إما يعلم توافقهما في الفتوى، أو يعلم تخالفهما فيها- تفصيلا أو إجمالا- أو يحتمل التخالف فالصور اربع.

اما صورة توافقهما في الفتوى فالظاهر ان المقلد، كما يجوز له تقليد أحدهما لشمول أدلة جواز التقليد له، كذلك يجوز له تقليدهما معا، فيكون وزان الفتويين وزان الخبرين المتوافقين من حيث المضمون، فكما يصح الاتكال و الاستناد بأحدهما يصح الاستناد بكليهما.

و اما صورة احتمال تخالفهما في الفتوى فكذلك، لما تقدم من جواز تقليد غير الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة في الفتوى بينه و بين الأعلم، فإذا جاز تقليد غير الأعلم عند ذاك فجواز تقليد كل من المجتهدين المتساويين في تلك الصورة بطريق اولى، و لا مانع من شمول إطلاق أدلة حجية الفتوى لكل من

المجتهدين المتساويين و اما صورة تخالفهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا فقد وقع الخلاف بينهم فيها فالمشهور على التخيير، و ذهب بعض الأساطين دام ظله: إلى الأخذ بأحوط القولين و اختار ثالث: الأخذ بما هو الأحوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 325

الأصل الاولى في الخبرين المتعارضين المتكافئين

______________________________

و ليعلم: ان مقتضى حكم العقل، و بناء العقلاء في الأمارتين المتعارضتين المتكافئتين عدم كاشفيتهما الفعلية للواقع عند المعارضة للتكاذب بينهما، و الواقع ليس الا واحد منهما، و حيث انه لا ترجيح لإحديهما على الأخرى يكون الأخذ بإحداهما المعينة ترجيحا بلا مرجح فتتساقطان عن درجة الاعتبار، و لذا قرر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في باب التعادل و الترجيح: ان الأصل الاولى في الخبرين المتعارضين التساقط، و عدم حجيتهما.

و لكن حكم العقل و العقلاء بالتساقط ليس بنحو لا يمكن التعبد بأحدهما، فإن كان هناك دليل على الأخذ بأحدهما فيؤخذ به.

و قد ورد في الخبرين المتكافئين: أنه بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك.

وجوه لإلحاق الفتويين المتعارضتين بالخبرين و تزييفها

و اما في المقام فقد يقاس الفتوى بالخبر: اما لكون الفتوى بحسب الدقة الخبر أو بعد إلغاء خصوصية الخبرية، أو لإحراز المناط القطعي و ان البابين من واد واحد.

و لكن لا يخفى عدم تمامية شي ء منها، و لا أقل من الشك في ذلك، للفرق الواضح بين الفتوى و الخبر، و لذا لا يصدق كتاب الحديث على الرسالة العملية و بالعكس و لو سلم كون الفتوى بحسب الدقة خبرا، الا انه لم يفهم العرف ذلك مما دل على التخيير في الخبرين المتكافئين لانصرافه الى الروايتين.

كلمة حول إحراز المناط القطعي

و إحراز المناط القطعي تخرص بالغيب. و انى لنا و الاطلاع على علل الأحكام و مصالحها؟! إلا في موارد مخصوصة، مع ما ترى من نهى أئمة أهل البيت عليهم السّلام عن القياس في الدين يرشدك الى ما ذكرنا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 326

..........

______________________________

ما روى من ردع الامام الصادق عليه السّلام: ابان بن تغلب الذي هو من أجلاء أصحابه عن الحكم بالمقايسة مع ان الظاهر انه كان ابان يعتقد جزما من طريق القياس ان دية قطع أربع أصابع المرية أربعون إبلا، و كان يرى خلاف ذلك رأى الشيطان و يتبرء من القائل به، و مع ذلك قال عليه السّلام: مهلا يا أبان أخذتني بالقياس و السنة إذا قيست محقت ان المرية تعاقل الرجل الى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف، فحكم عليه السّلام بأن دية قطع أربع أصابع المرية عشرون، و انه حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

يستدل للتخيير في المقام بوجوه أخر
اشارة

منها: إطلاقات الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه فإنها كما تشمل فتوى هذا المجتهد كذلك تشمل فتوى المجتهد الأخر و النتيجة هو التخيير.

و فيه: انه ذكرنا ان إطلاق الأدلة لا يشمل المتعارضين و لا أحدهما المعين لان شموله لهما معا يستلزم الجمع بين الضدين، أو النقيضين، و لأحدهما ترجيح بلا مرجح.

و منها: بناء العقلاء حيث يدعى انه على التخيير في أمثال المقام و لم يسمع توقفهم في العمل برأى واحد من أهل الخبرة عند المخالفة.

بل سيرة المتشرعة جارية على ذلك لأنهم يعتمدون على فتوى أحد المجتهدين المتساويين و لا يتوقفون في ذلك بوجه.

و لكنه: يدفع بعدم تحقق البناء كذلك من العقلاء لما نشاهد منهم انهم عند مخالفة

نظر الطبيب لطبيب آخر مساوي له لا يعتمدون برأي أحدهما و انما يحتاطون إن أمكنهم ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب 44 من أبواب دية الأعضاء ح 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 327

..........

______________________________

كما انه لم يثبت سيرة المتشرعة على التخيير، و لو سلم فلم يحرز اتصالها بعصر المعصوم عليه السّلام حتى يستكشف رضاه و لو بعدم الردع لأنه من الجائز ان تكون السيرة على تقدير كونها كذلك ناشئة من فتوى المفتين من أصحابنا.

و منها: الإجماع على التخيير في المسئلة

و نوقش أولا: بأن المسئلة حادثة و لم يتعرضها القدماء في كلماتهم فكيف يدعى الإجماع؟!.

و ثانيا: ان الإجماع على تقديره محتمل المدرك لو لم يكن مقطوع المدرك فلم يحرز كونه إجماعا تعبديا حتى يستكشف به قول المعصوم عليه السّلام.

و ثالثا: انه إجماع منقول بخبر الواحد و قد تقرر عدم حجيته.

فتحصل ان الأصل في تعارض الفتويين المتساويتين من حيث الفضيلة التساقط و لم يكن ما يدل على التخيير.

اللهم الا ان يقال كما صرح أستادنا العلامة دام ظله: بتسالم الأصحاب على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين و عدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين اه «1».

المقام الثاني في المتساويين في الفضيلة إذا كان أحدهما أورع

اشارة

حكى عن النهاية و التهذيب، و ذكري، و الدروس، و الجعفرية، و المقاصد العلية، و المسالك و غيرها ترجيح الأورع من الفقيهين المتساويين من حيث الفضيلة و قواه شيخنا العلامة الأنصاري في الرسالة و استظهر الشهرة على ذلك بل حكى عن المحقق الثاني الإجماع عليه «2».

______________________________

(1) الرسائل بحث الاجتهاد و التقليد/ 150.

(2) رسالة التقليد/ 90.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 328

..........

______________________________

و قال الشهيد الثاني: إذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتائهم فان اتفقوا في الفتوى أخذ بها، و ان اختلفوا وجب عليه الرجوع الى الأعلم الأتقى، فإن اختلفوا في الموضعين رجع الى اعلم الورعين و أورع العالمين، فان تعارض الأعلم و الأورع قلد الأعلم، فإن جهل الحال أو تساووا في الوصف تخيّر و ان بعد الفرض و ربما قيل بالتخيير مطلقا لاشتراك الجميع في الأهلية و هو قول أكثر العامة و لا نعلم به قائلًا منا، بل المنصوص عندنا هو الأول اه «1».

توضيح الحال: يستدعي البحث أولا فيما يقتضيه عقل العامي في نفسه ثم فيما

يقتضيه وظيفة المجتهد فيما يستظهره من الأدلة.

مقتضى حكم عقل العامي في أورع الفقيهين

اما ما يقتضيه عقل العامي نفسه من غير تقليد فاجماله ان أول ما يدركه عقله هو الرجوع الى الأورع بل الى كل ماله مزية و ترجيح حسبما فصلناه في مسئلة تقليد الأعلم و ان كان في نفسك شي ء مما ذكرنا فراجع مقالتنا هناك.

ما يقتضيه نظر الفقيه في المسئلة

و اما ما يقتضيه وظيفة المجتهد فتوضيح المقال فيه يستدعي البحث عن صور المسئلة، لأنه تارة يعلم موافقة الأورع مع غيره في الفتوى، و اخرى يعلم مخالفته مع غيره فيها و ثالثة لا يعلم شي ء منهما.

و قد أشرنا في مسئلة تقليد الأعلم عدم لزوم تعين تقليد الأعلم فيما إذا كانا متوافقين في الفتوى فما ظنك لتعين الأورع منهما في ذلك فلا تكون الأورعية مرجحة عند التوافق في الفتوى.

و كذا في صورة عدم العلم بالمخالفة في الفتوى لما عرفت من قيام السيرة على المراجعة الى غير الأفضل مع احتمال مخالفته للأفضل فلا تكون الأورعية مرجحة أيضا.

______________________________

(1) منية المريد/ 304.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 329

وجوه لترجيح فتوى الأورع عند العلم بالمخالفة بينه و بين الورع

______________________________

و اما في الصورة الثالثة فغاية ما يمكن ان يوجه لترجيح فتوى الأورع مضافا الى دعوى الإجماع بوجوه أشار الى ما عدى الوجه الثالث منها شيخنا العلامة الأنصاري في الرسالة «1».

الأول: مقبولة عمر بن حنظلة.

قال عليه السّلام الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما، و أصدقهما.

في الحديث، و أورعهما و لا يلتفت الى الأخر «2».

فإنه عليه السّلام في مقام ترجيح أحد الحكمين رجح الأورعية فيستفاد منه لزوم الأخذ بما يقوله أورعهما عند المعارضة.

و نحوها: رواية داود بن حصين عن ابى عبد اللّه عليه السّلام.

في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال ينظر إلى أفقههما، و أعلمها بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت الى الأخر «3».

الثاني: المرسل المروي انه لا يحل الفتيا الا لمن كان اتبع أهل زمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قد جعله العلامة الأنصاري مؤيدا

للمقبولة.

الثالث: كون فتوى الأورع أقرب الى الواقع من غيره.

الرابع: الأصل العقلي و هو دوران الأمر بين التعيين و التخيير بلحاظ ان فتوى الأورع مقطوعة الحجية بخلاف غيره.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 90.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(3) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 330

..........

______________________________

و بالجملة بعد ما كان العامي مكلفا بالرجوع الى أحد الفقيهين المتساويين في الفضيلة فإذا كان أحدهما أورع و دار الأمر بين ان تكون فتوى كل منهما حجة تخييرية أو تكون فتوى الأورع حجة تعينية فالعقل يحكم عند ذلك بالأخذ بفتوى الأورع.

استشهد سيد مشايخنا في المستمسك بهذا الوجه «1».

تضعيف الوجوه المذكورة

و لكن لا يتم شي ء من هذه الوجوه.

اما الإجماع: فدعواه في مسئلة لم تكن معنونة في كلمات القدماء كما ترى، مع انه محتمل المدرك، أو مقطوعة، لأنه من القريب جدا كون مدرك المجمعين سائر الوجوه التي يذكر في المسئلة، أضف الى ذلك انه إجماع منقول بخبر الواحد و لم يثبت حجيته كما قرر في محله.

و اما المقبولة و رواية داود ففيهما انهما واردتان في باب القضاء و قد ذكرت الأورعية مرجحة لأحد الحكمين، و أين هذا مما نحن فيه لما أشرنا أن المرجح في باب الحكومة لا يلزم ان يكون مرجحا في باب التقليد.

و اما المرسل ففيه أولا: انه ضعيف سندا و لم يعلم استناد شخصه به.

و ثانيا: ان مقتضاه مرجحية الأورعية في أصل التقليد لا في مورد التعارض الذي هو مفروض البحث، و لم يقل به أحد.

و بالجملة اعتبار الأورعيّة في المقلد و اتبعيّته برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أهل زمانه كما هو مفاد

الخبر مخالف للإجماع و لم يقل به أحد، و لا يبعد ان يكون المقصود من المرسل بيان منصب الإمامة تعريضا بمن تصدى لمنصب الإمامة ممن ليس أهلا له.

و اما حديث الأقربية: فمضافا الى عدم تطرق ذلك غالبا في الأورعية في مقام العمل فقد عرفت عدم تماميته صغرى، و كبرى، و انه ربما تكون فتوى غير الأورع موافقة للاورع من الأموات الذين يكون أورع من الحي بمراتب.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 31.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 331

..........

______________________________

و اما الأصل العملي: فللقطع بعدم مدخلية الأورعية في مقام العمل في زيادة المناط في حجية الفتوى فلا يكاد تجري أصالة التعيين عند الدوران بينه و بين غيره، و انما تجري فيما احتملنا دخل الخصوصية المشكوكة في الحجية و الكاشفية لا في كل خصوصية و جهة و الا فلا بد فيما إذا كان أحدهما أسن من الأخر، أو أحفظ من الأخر، و نحو ذلك ان يقال بتعين الأخذ بفتوى الأسن و الاحفظ الى غير ذلك و هو كما ترى و بالجملة لا تكون لفتوى الأورع قوة لم تكن لفتوى غير الأورع حتى يوجب انقلاب ما علله العقلاء من التخيير إلى الأخذ بفتوى الأورع.

نعم لو كانت الأورعية دخيلة في شدة اهتمامه و تحفظه على خصوصيات الأدلة كالفحص الأكيد عن القرائن و غيرها، و الدقة الشديدة في الاستنباط بان يبالغ في بذل جهده في الإحاطة بمدارك الحكم فلا يبعد القول باعتبارها.

الاحتياط اللزومي لترجيح الأورعية في مقام الاستنباط

فما افاده بعض الأساطين (دام ظله): من عدم دليل على الترجيح بالاورعية الكذائية ما لم يرجع الى الأعلمية بعد اشتراكهما في المقدار اللازم في بذل الجهد في مقام الاستنباط «1» لا يخلو عن ضعف

لاحتمال مدخليتها في قوة الاستنباط بعد ذهاب ثلة من الفقهاء على لزوم الأخذ به و دعوى الإجماع عليه و رجوع بعض مراتب الأورعية الى الأعلمية.

فتحصل مما تقدم ان الأحوط الأولى الترجيح بالاورعية في مقام العمل و اما الأورعية في مقام الاستنباط فبالاحتياط اللازم و اللّه العالم بأحكامه.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 95.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 333

[مسئلة 14- الرجوع إلى فالأعلم في الاحتياطات]

اشارة

مسئلة 14- إذا لم تكن للأعلم فتوى في مسئلة من المسائل يجوز (1) في تلك المسئلة الأخذ من غير الأعلم (2) و ان أمكن الاحتياط.

______________________________

(1) هذا إذا لم تكن للأعلم فتوى بالحكم الواقعي، و لا الظاهري، كما إذا احتاط في الشبهة قبل الفحص عن الدليل، أو لاحتياج الفتوى الى فحص زائد لم يتيسر له بعد، و احتمل مطابقة فتوى غير الأعلم للواقع، و ذلك مثل ما قد يجاب بالاحتياط في بعض الاستفتاءات، و يقال مثلا ان المسئلة محتاجة إلى مزيد التأمل، و اما إذا رأى الأعلم فتوى غير الأعلم خطأ و انه لم يتفحص في المسئلة كما هو حقه، أو كان احتياطه للخدشة و الاشكال في مستند فتوى غير الأعلم، فلا وجه للرجوع الى غير الأعلم، و المتعين عليه حينئذ الاحتياط، و بالجملة كل مورد إذا اخطاء الأعلم غير الأعلم في فتياه لا يجوز له المراجعة اليه، و اما في غير ذلك فيجوز.

(2) مع مراعاة الأعلم فالأعلم حسب ما علقناه في المسئلة الثانية عشر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 334

أنحاء احتياطات الأعلم

أقول: عدم الفتوى للأعلم في الحكم الواقعي تارة يكون لعدم مراجعته كما هو حقه بمدارك المسئلة لاحتياج المسئلة الى فحص زائد لم يمكنه بعد و ذلك كما قد يقال: ان المسئلة محتاجة إلى التأمل، أو مزيد التأمل، أو لا يخلو عن النظر، أو غير خال عن الاشكال. و نحو ذلك من العبائر، فاحتياط الأعلم في هذه الموارد بلحاظ عدم تيسره للفحص اللازم عن الأدلة، و كون الشبهة بدوية قبل الفحص.

و اخرى للخدشة، و الاشكال بمدرك المسئلة، و عدم تمامية ما يحتج به غير الأعلم بفتواه.

و ثالثة: يكون للأعلم فتوى بالحكم

الظاهري كما إذا أفتى بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي و تعارض الأدلة، فالأعلم و ان لم يكن له علم بالحكم الواقعي في المسئلة الا انه يكون عالما بالحكم الظاهري و لذا يفتي بوجوب الاحتياط

جواز المراجعة الى غير الأعلم في بعض أنحاء احتياطات الأعلم

______________________________

ففي صورة الأولى، يجوز المراجعة الى غير الأعلم لكونه عالما و فقيها تشمله أدلة حجية الفتوى، من غير معارض له.

و بعبارة أخرى، حيث لم يكن للأعلم رأى و لا هو عالم بالحكم فعلا فلا مانع للمراجعة الى غير الأعلم.

و بعبارة ثالثة، وجوب تقليد الأعلم انما هو في فرض وجود الفتوى له، فاذا لم تكن له فتوى فعلا فلا موقع للمراجعة اليه بل تكون المراجعة إليه مراجعة الجاهل الى مثله.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 335

..........

______________________________

و لكن في الفرض لا بد له من مراعاة الأعلم فالأعلم إذا علم بمخالفة فتواه مع غيره تفصيلا أو إجمالا: أعني لا بد للمراجعة الى من هو دون الأعلم و لكنه أعلم بالإضافة إلى غيره إذا كانت فتواه مخالفة لفتوى غيره تفصيلا أو إجمالا، و إذا لم يكن للأعلم الإضافي أيضا رأى رجع الى غير الأعلم بالإضافة اليه مع اشتراط ان يكون أعلم بالإضافة إلى غيره من المجتهد إذا علم بمخالفة فتواه تفصيلا أو إجمالا لغيره و هكذا.

و بالجملة لا بد له من مراعاة الأعلم فالأعلم مع العلم بمخالفة فتواه لغيره إجمالا أو تفصيلا.

و لا يخفى انه لا يفرق في جواز المراجعة الى غير الأعلم بين إمكان الاحتياط و عدمه لإطلاق ما دل على رجوع الجاهل الى العالم و لو في صورة إمكان الاحتياط، و قد عرفت ان المشهور يرون بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد، و لا يرون

الاحتياط في عرضهما، و نحن و ان ناقشنا ذلك الا انه يمكن الاستيناس بذلك لعدم الإشكال في جواز الرجوع الى غير الأعلم.

و اما على الثاني فلا وجه للرجوع الى غير الأعلم لان مدرك فتوى غير الأعلم حسب الفرض مخدوش في نظر الأعلم و هو يرى فساد فتواه المستندة الى ما لا يصلح للاحتجاج به.

و بالجملة الأعلم حسب الفرض يرى عدم استقامة فتواه و عدم صلوحه للاحتجاج ففي الفرض يتعين على العامي الاحتياط و لا يجوز له العمل بفتوى غير الأعلم.

و كذا في الصورة الثالثة لا يجوز له المراجعة الى غير الأعلم فان الأعلم و ان لم تكن له فتوى بالحكم الواقعي الا انه عالم بالحكم الظاهري، و لذا حكم و افتى بالاحتياط كما في موارد العلم الإجمالي و تعارض الأدلة فلا بد له من تقليده لأنه لم يشترط في وجوب تقليده ان يكون للأعلم فتوى بالحكم الواقعي، فافتاء الأعلم بالحكم الظاهري أيضا يمنع عن حجية فتوى غير الأعلم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 336

..........

______________________________

و من أمثلة ذلك ما إذا سافر الرجل إلى أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع من يومه، أو خرج الى ما دون المسافة من محل إقامته أو غير ذلك من موارد تعارض الأدلة و وجود العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام.

و بالجملة كل مورد إذا اخطاء الأعلم غير الأعلم في فتياه لا يجوز المراجعة اليه و العمل بفتواه و اما في غير ذلك فيجوز.

و بما ذكرنا يظهر ضعف جواز المراجعة في المفروض الى غير الأعلم بلحاظ انه عالم بالحكم، و لم يكن يعلمه الأعلم توضيح الضعف لائح مما ذكرنا فتدبر و اللّه العالم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 1، ص: 337

[مسئلة 15- يجب في نفس مسئلة البقاء تقليد الحي الأعلم]

اشارة

مسئلة 15- إذا قلد مجتهدا كان يجوز البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسئلة، بل يجب (1) الرجوع الى الحي الأعلم في جواز البقاء و عدمه.

______________________________

(1) بحكم العقل الارتكازى، فلا ينافي جواز البقاء على تقليد الميت من ناحية فتوى الحي بالجواز.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 338

..........

______________________________

يجب في مسئلة البقاء تقليد الحي الأعلم أقول: تنقيح المقال فيها يستدعي البحث في جهات.

الجهة الاولى في تفسير العبارة

قال سيد مشايخنا (قدس سره):

«ان ظاهر العبارة يعطي ان المراد ان من قلد مجتهدا في المسائل الفرعية و كان ذلك المجتهد يرى جواز البقاء على تقليد الميت لا يجوز للمقلد البقاء على تقليده في هذه المسئلة بل يجب الرجوع الى الحي الأعلم في جواز البقاء و عدمه، و احتمل ان يكون المراد ان من قلد مجتهدا في خصوص مسئلة البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد لا يجوز البناء على تقليده إلخ». «1»

و قد يوجه عبارة المتن بإرادة الأعم من المسائل الفرعية و مسئلة البقاء على تقليد الميت.

«بان الظاهر من العبارة بضميمة أن التقليد عند المصنف هو الالتزام بالعمل هو انه قلد المجتهد حتى في مسئلة جواز البقاء على تقليد الميت بمعنى انه التزم في نفسه ان يعمل بجميع ما في رسالة مقلده مثلا و كان من جملته هذه المسئلة لا انه

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 32.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 339

..........

______________________________

قلده في خصوص المسائل الفرعية، و لا في خصوص مسئلة البقاء» «1».

الجهة الثانية في مدرك الفتوى

من الواضح ان ما يدركه عقل العامي في باب التقليد هو تحصيل المؤمّن الشرعي، أو العقلي، و حيث وقع الكلام في اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى فبعد موت المجتهد الذي كان يقلده لا يكاد يحصل له المؤمّن إلا بتقليد الحي الأعلم أو بإجازته للقطع بحجية فتواه عند ذلك، و عدم استقلال عقل العامي لجواز البقاء في مسئلة البقاء و لا غيره، و لا يجوز له البقاء على تقليد الميت بفتوى الميت لسقوط فتواه عن الحجية بموته. و لا يصح ان يعتمد على فتواه بفتوى نفسه بجواز البقاء لأنه دور واضح.

و بالجملة عقله الارتكازي كما

يلزمه في الخروج عن عهدة التكاليف بأصل التقليد، و في دوران الأمر بين الأعلم و غيره بالرجوع إلى الأعلم، فكذلك يلزمه بعد موت مجتهده الرجوع الى المجتهد الحي و هو واضح.

الجهة الثالثة في رفع التنافي بين ما في هذه المسئلة و ما في المسئلة التاسعة.

قد يقال ان ما أفتاه في هذه المسئلة- و هو عدم جواز البقاء في مسئلة البقاء- ينافي ما أفتاه في المسئلة التاسعة من جواز البقاء على تقليد الميت و يكون ما أفتاه في هذه المسئلة مقيدا لما أطلقه في تلك المسئلة فيصير مرجع المسئلتين الى جواز البقاء على تقليد الميت إلا في مسئلة البقاء.

و لكن يناقش بأنه لا وجه للتفرقة في جواز البقاء على تقليد الميت بين مسئلة

______________________________

(1) الجوهر النضيد/ 38.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 340

..........

______________________________

البقاء و بين سائر المسائل لأنه ان قلنا ان التقليد عبارة عن الالتزام أو التعلم للعمل و قد التزم بالعمل في جميع المسائل، أو تعلم المسائل للعمل فيصح البقاء بالنسبة إلى مسئلة البقاء و ذلك واضح.

و ان قلنا بان التقليد عبارة عن العمل فلا بد من فرض العمل في هذه المسئلة من زمان حياة المفتي و لا وجه للتفصيل بين هذه المسئلة و سائر المسائل بجواز البقاء فيها دون هذه المسئلة.

قلت: ان قلنا بان التقليد عبارة عن العمل فكيف يفرض العمل في هذه المسئلة فتأمل.

و كيف كان يدفع التنافي بينهما: بان ما ذكره الماتن (قدس سره) هنا انما هو بالنظر الى ما يستقل به عقل العامي و ما هو وظيفته بحكم عقله الارتكازي بعد فوت مجتهده الذي كان مقلده و ما ذكره هناك انما هو بلحاظ ما اقتضاه ما دل على جواز البقاء، و ما هو وظيفة المجتهد من حيث الإفتاء في

هذه المسئلة، و من هنا لو رجع الى الحي الأعلم و أفتاه بجواز البقاء يجوز له البقاء على تقليد الميت في نفس هذه المسئلة اه.

الجهة الرابعة فيما يتصور لفتوى المجتهد الميت و المجتهد الحي في مسئلة البقاء على تقليد الميت و الأحكام المتفرعة عليها.

اشارة

لا يخفى ان فتوى المجتهد الميت في مسئلة البقاء لا تخلو عن: جواز البقاء أو وجوبه، أو حرمته، و كذلك الأمر في فتوى الحي: اما جواز البقاء، أو وجوبه أو حرمته، و بضرب الثلاثة في مثلها ترتقي الصور الى تسع صور.

قد أشرنا ان وظيفة العامي الرجوع الى الحي الأعلم و لا يجوز له البقاء على تقليد الميت لسقوط فتواه عن الحجية بموته و لا يجوز للمقلد ان يعتمد على فتاواه، بفتوى نفسه بجواز البقاء لأنه دور ظاهر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 341

..........

______________________________

فإذا افتى الحي بحرمة البقاء لم يجز له البقاء على تقليد الميت، سواء كانت فتواه جواز البقاء، أو وجوبه، أو حرمته.

و بالجملة مع فتوى الحي بحرمة البقاء لا يبقى اى مجال لملاحظة ان الميت يفتي بأي شي ء و هو واضح.

و اما إذا أفتى الحي بجواز البقاء، أو وجوبه و كانت فتوى الميت حرمة البقاء فسيجي ء التعرض لهما من الماتن في المسئلة السادسة و العشرين (26).

و حاصله لزوم متابعة الحي و العمل بفتواه فيجوز له البقاء، أو يجب البقاء في غير مسئلة البقاء و لا مانع من البقاء على تقليد الميت فيها بفتوى الميت بحرمته لسقوط فتواه عن الحجية بموته فارتقب حتى حين.

و ان افتى كلاهما بالجواز فلا إشكال في جواز البقاء في سائر المسائل على رأى الميت مستندا بفتوى الحي القائل بجواز البقاء.

وجهان لعدم جواز البقاء في نفس مسئلة البقاء و دفعهما
اشارة

و اما جواز البقاء في نفس مسئلة البقاء فربما يقال بعدم الجواز لأمرين.

الأول: اللغوية و لزوم تحصيل الحاصل

لأنه بعد فتوى المجتهد الحي بجواز البقاء صارت فتاوى المجتهد الميت حجة معتبرة في جميع المسائل الفرعية- غير مسئلة البقاء- فيكون إثبات حجية فتوى الميت بالنسبة إلى تلك الفتوى من ناحية جواز البقاء لغوا ظاهرا غير محتاج اليه بل يكون من تحصيل الحاصل.

و بالجملة بعد ان صارت فتوى الميت بالنسبة إلى سائر الأحكام الفرعية بفتوى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت منجزا للواقع عند الإصابة و معذرا عند المخالفة فلا حاجة الى جعل الحجية، و المعذّرية للمرة الثانية لفتوى الميت بالنسبة إلى تلك الأحكام بتوسط مسئلة جواز البقاء و يكون من اللغو الظاهرة و تحصيل للحاصل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 342

الثاني: استلزام ذلك أخذ الحكم في موضوع نفسه و هو محال.

______________________________

و ذلك لان جواز البقاء حكم، فان شملت فتوى الحي بجواز البقاء لنفس جواز البقاء على فتوى الميت بجوازه يستلزم أخذ الحكم- و هو جواز البقاء- في موضوع نفس الجواز.

و لكن يمكن التخلص عن الأمرين

اما عن حديث اللغوية و لزوم تحصيل الحاصل فبفرض اختلاف نظر الميت و الحي فيما هو الموضوع للحكم بجواز البقاء و كانت دائرة موضوعه بنظر الحي أضيق منها عند الميت.

و ذلك لما عرفت ان دائرة موضوع مسئلة جواز البقاء مختلف فيها فبعض يرى جواز البقاء في خصوص المسائل التي عمل بها و بعض يرى اعتبار تعلم الفتوى و استحضارها و ان لم يعمل بعد، و بعض يرى كفاية التعلم و الالتزام لكن بشرط العمل في بعضها، الى غير ذلك من الأقوال.

فإن كان موضوع جواز البقاء عند الحي مثلا مشروطا بما إذا عمل بالفتوى حال حيات المفتي و لكن كان موضوع البقاء عند الميت مجرد الالتزام بالعمل و ان لم يعمل بعد، فحيث ان فتاوى الميت قد صارت حجة شرعية بفتوى الحي بجواز البقاء- كما هو الشأن بالنسبة إلى سائر فتاويه بالنسبة إلى الأحكام- فكأنه حيّ لم يمت فتصير فتوى الميت بجواز البقاء بالإضافة الى من التزم فتاواه للعمل و ان لم يعمل حجة.

فتحصل انه لا يلزم من شمول جواز البقاء لنفس البقاء محذور اللغوية و كونه تحصيلا للحاصل و لكن لا بد و ان يكون المكلف واجدا لشرطية العمل بفتوى الميت في مسئلة جواز البقاء، و ذلك بان يكون قد عمل بها حال حياة المجتهد الميت- كما إذا قلده في تلك المسئلة و بقي على تقليد مجتهد ثالث من الأموات في المسائل التي التزم بها للعمل و لم يعمل بعده و ثمرتها جواز البقاء على

تقليد الميت حتى فيما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 343

..........

______________________________

لم يعمل به من المسائل و انما التزم بالعمل بهذا.

و اما التخلص عن أخذ الحكم في موضوع نفسه فواضح لأنه بفتوى الحي بجواز البقاء صارت فتاوى الميت حجة شرعية و من جملة فتاويه جواز البقاء، و أثر حجية ذلك جواز البقاء على تقليده حتى فيما لم يعمل به من المسائل فهناك أحكام على موضوعاتها الثلاثة:

1- فتوى الحي بجواز البقاء.

2- فتوى الميت بجواز البقاء.

3- حكم موضوعات المسائل من وجوب السورة في الصلاة، و نجاسة عرق الجنب من الحرام الى غير ذلك.

و هذه أحكام مترتبة لأنه بثبوت حجية فتوى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت تثبت حجية فتوى الميت بالجواز، و إذا ثبتت حجية فتواه تثبت أحكام موضوعات المسائل فلم يلزم أخذ الحكم في موضوع شخص حكمه.

و اما إذا كانت فتوى كل من الحي و الميت وجوب البقاء

فالكلام فيه هو الذي ذكرناه في الصورة المتقدمة إشكالا و جوابا طابق النعل بالنعل فلاحظ و تدبر.

و اما إذا أفتى الحي بوجوب البقاء، و الميت بجواز البقاء

فقال شيخنا العلامة الأنصاري.

«ان فتوى الحي بوجوب البقاء لا تشمل مسئلة البقاء بل تخص سائر المسائل للزوم التناقض على تقدير الشمول و هو كون فتوى الميت حجة تعيينية؟؟؟ و حجة تخييرية و ذلك لان مقتضى فتوى الحي بوجوب البقاء على تقليد الميت في المسئلة حجية قول الميت تعيينا مع ان مقتضى فتوى الميت في المسئلة بجواز البقاء حجية قوله تخييرا فلو فرض شمول فتوى الحي بوجوب البقاء لفتوى الميت بجواز البقاء فمقتضاه جواز الرجوع من الميت إلى الحي مع ان الحي يفتي بعدم جواز الرجوع و يعيّن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 344

..........

______________________________

البقاء و هذا مما لا يجتمعان» «1».

و أجيب عنه كما عن بعض الأساطين دام ظله:

ان ذلك انما يلزم إذا كان موضوع الجواز عند الميت متحدا مع ما هو الموضوع لمسئلة الوجوب عند الحي، إذ على تقدير الاختلاف كانت دائرة موضوع الوجوب عند الحي أوسع منها لدى الميت.

و اما إذا كان موضوع الجواز عند الميت أوسع منها لدى الحي فإن كانت فتوى الميت بجواز البقاء بمجرد الالتزام و ان لم يعمل و كانت فتوى الحي بوجوب البقاء مع العمل فلا يلزم المحذور المتوهم، لان فتوى الحي بوجوب البقاء قد جعلت فتاوى الميت حجة بالنسبة الى ما عمل به المقلد و قد فرضنا انه عمل بفتوى الميت بالجواز في مسئلة البقاء، و بعد حجية فتواه. في تلك المسئلة جاز للمقلد كل من العدول و البقاء فيما افتى به المجتهد الميت حتى فيما لم يعمل به مع الالتزام به ففي المسائل التي لم

يعمل بها المقلد حال حياة الميت لم تجتمع حجتان لان كون فتوى الميت حجة تعينيية انما هو في خصوص المسائل التي عمل بها، و اما فيما لم يعمل بها فليس فيها الا فتوى الميت بجواز البقاء و هي حجة تخييرية فحسب.

هذا أولا.

و ثانيا: انه لا مانع من اجتماع الحجية التعينية و الحجية التخييرية في مورد واحد لأن الحجية التعينية انما تثبت لفتوى الميت ببركة فتوى الحي بوجوب البقاء بما هي فتوى الميت، و لا ينافي ذلك كونها حجة تخييرية بلحاظ ان الحجة قامت على جواز العدول بتوسط فتوى الميت بالجواز.

و هذا نظير ما إذا أفتى غير الأعلم بوجوب تقليد الأعلم و الأعلم أفتى بجواز تقليد غير الأعلم، فإن فتوى غير الأعلم و ان لم تكن حجة بعنوان انه فتوى غير الأعلم الا انها بعنوان ان الحجة- و هي فتوى الأعلم- قامت على حجيتها متصفة بالحجية

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 70.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 345

..........

______________________________

من دون ان يكون بين الحكمين اى تهافت لأنهما بعنوانين مختلفين و هو من اجتماع عدم الحجية بالعنوان الاولى و الحجية بالعنوان الثانوي انتهى ملخصا «1».

حكم ما إذا أفتى الحي بجواز البقاء و الميت بوجوبه

و اما عكس الصورة السابقة و هي ما إذا أفتى الحي بجواز البقاء و افتى الميت بوجوبه فحيث ان فتوى الحي بجواز البقاء معناها ان المكلف مخير حدوثا و بقاء بين البقاء على تقليد الميت و العدول عنه فيجوز البقاء على آراء الميت كما يجوز له العدول عنه.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1،

ص: 345

و لا موقف لفتوى الميت بوجوب البقاء لسقوطه عن الحجية الفعلية بموته و لذا يجب العدول عنه بموته إلى الحي الأعلم.

فاذا المقلد مخير بين العدول عن الميت إلى الحي و البقاء على آرائه، و معه إذا رجع الى الميت في مسئلة البقاء لم يجب عليه ان يبقى على تقليده في بقية المسائل الفرعية له ان يعرض عن البقاء و يعدل إلى الحي.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 187.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 347

[مسئلة 16- حكم عمل الجاهل المقصر و القاصر]

اشارة

مسئلة 16- عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل (1) و ان كان مطابقا للواقع، و اما الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلا حين العمل و حصل منه قصد القربة، فإن كان مطابقا لفتوى المجتهد الذي قلده بعد ذلك كان صحيحا و الأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.

______________________________

(1) الأظهر صحة عمل الجاهل إذا طابق عمله للواقع مطلقا، قاصراً كان أو مقصرا، ملتفتا كان أو غير ملتفت، سواء كان العمل مما يعتبر فيه قصد القربة أو لا- معاملة كانت أم لا- و عدم تمكن المقصر الملتفت من الجزم بالنية، و عدم إمكان استناده اليه تعالى جزما، لا يضر بصحته بعد كفاية مجرد الإضافة إليه تعالى، و هي حاصلة باحتمال تعلق التكليف بها واقعا فيأتي بالعمل برجاء درك الواقع على تقدير المطابقة، و لا ينافي ذلك ترك باقي المحتملات بدواع آخر كما لا يخفى، هذا إذا أحرز مطابقة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 348

..........

______________________________

العمل المأتي به للواقع علما، و لكنه لا يتفق للعامي إلا نادرا كما في اليقينيات و المسائل الواضحة، و لكن مطابقته لما يكون بحكم

الواقع- و هو فتوى من يجب عليه تقليده- غير عزيز. و لا وقع للإشكال في الصحة فيما إذا طابق رأى من يجب عليه تقليده و كان من يجب تقليده حين العمل هو الذي يجب عليه تقليده فعلا، و كذا إذا كان غيره و لكن كانت فتواه موافقة له، و انما الإشكال فيما إذا طابق عمله لأحدهما دون الأخر فهل الميزان مطابقة عمله لمن كان يجب عليه تقليده حال العمل، أو فعلا، أو يكفي مطابقته لأيهما، أو لا بد من مطابقته لهما فيحكم بالبطلان في المفروض وجوه و القول الأول أشبه شي ء بتقليد الميت ابتداء لسقوط فتوى المجتهد السابق عن الحجية بموته قبله و الا لما صح تقليد المجتهد الثاني، و لا يصلح فعلا للاستناد اليه، و الأشبه بالقواعد مطابقته لفتوى من يجب عليه تقليده فعلا، و رأيه و ان لم يكن حجة في ظرف العمل الا انه بعد اتصافه بالحجة يكون مفاده حكم كلي الهى يعم جميع الأزمنة فيستكشف به بطلان الأعمال التي لا تطابقها، و لم تكن مستندة الى الحجة، و مقتضاه لزوم الإعادة، أو القضاء، و بما ذكرنا يظهر ضعف الوجهين الآخرين، و لا يخفى ان الصحة حسب ما فصلناه لا ينافي استحقاق عقاب الجاهل المقصر المتهاون لحرمات اللّه غير المبالي بمخالفته للواقع أو ما هو بحكمه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 349

..........

______________________________

حكم عمل الجاهل المقصر و القاصر أقول: تقدم منه قدس في المسئلة السابعة: ان عمل العامي بلا تقليد، و لا احتياط باطل.

توهم منافاة ما في هذا المسئلة مع ما في المسئلة السابعة و دفعه

ربما يتوهم ان المسئلتين ترتضعان من ثدي واحد و ان ما ذكره قدس هنا تفصيل ما أجمله هناك، و لذا ترى بعض المحشين يعلق

ما هو نظره الشريف في إحدى المسئلتين، و يحيل المراجع فيها الى المسئلة الأخرى.

و لكن يبعد ذلك: لأنه من البعيد جدا ذكر مسئلة واحدة في محلين من باب واحد لم يفصل بينهما أكثر من صفحة واحدة.

لبطلان العمل معنيان

فالمراد بالبطلان في المسئلة السابعة ليس البطلان رأسا حتى لو انكشف الحال و ظهر مطابقة عمله للواقع أو ما هو بحكمه حتى يجب الإعادة بعد انكشاف الحال بل المراد هو البطلان بنظر العقل بمعنى عدم جواز الاكتفاء بعمله ما لم ينكشف مطابقة عمله للواقع أو ما بحكمه قضاء لقاعدة الاشتغال اليقيني المقتضية للبراءة اليقينية و لا يكاد يحصل الأمن من العقاب ما دام الجهل بالواقع أو ما بحكمه باقيا فاذا انكشفت مطابقة عمله لأحدهما فلا يحتاج إلى الإعادة أو القضاء.

و اما ما أفاده في هذه المسئلة فهو لبيان حكم أقسام الجهل بالحكم بلحاظ مطابقة العمل المأتي به للواقع أو ما بحكمه و عدم مطابقته لشي ء منهما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 350

الفرق بين الجاهل المقصر و القاصر

______________________________

و ذلك لان الجاهل بالحكم الاتى بعمل اما يكون مقصرا، و المراد به من لم يتعلم الحكم و الوظيفة تهاونا، أو قاصراً، و المراد به من يقصر دركه عن معرفة الحكم

الأنحاء المتصورة لعمل الجاهل المقصر

و الجاهل المقصر اما يكون ملتفتا حين العمل، أو يكون غافلا عند ذاك، و على كل العمل المأتي به تارة يكون مطابقا للواقع، و اخرى يكون مطابقا لفتوى من يجب عليه تقليده حين العمل، و ثالثة يكون مطابقا لفتوى من يجب عليه تقليده بعد ذلك.

و على اى حال يقع الكلام طورا في استحقاق الجاهل بقسميه للعقاب إذا لم يكن اعماله مطابقة للواقع، أو ما بحكمه، أو مطلقا و ان كان مطابقة لهما، أو فيه تفصيل بين المقصر و القاصر و اخرى في صحة إعمال الجاهل بقسميه و بطلانه.

حكم الجاهل بقسميه من حيث استحقاق العقاب و عدمه

فنقول: لا ينبغي الإشكال في ان الجاهل القاصر لقصوره و قلة باعه و دركه و استعداده لا يستحق العقاب على شي ء من اعماله سواء كانت مطابقة للواقع أم مخالفة له.

و يحكمه من استند إلى أمارة شرعية أو فتوى من يجوز تقليده و كانتا مخالفتين للواقع لاستناده في اعماله إلى الحجة الشرعية و هذا واضح.

و اما الجاهل المقصر فحيث انه تهاون في أمر المولى و قصّر في الفحص و السؤال مع تنجز الواقعيات عليه في حقه فاذا خالف عمله للواقع أو ما بحكمه فيستحق العقاب و هو واضح.

بل قد يقال بإمكان الالتزام باستحقاق العقاب و لو وافق عمله للواقع، أو ما بحكمه إذا كان ملتفتا حال العمل لأنه مع الالتفات و احتمال صحة الفعل و فساده إذا اتى بالعمل غير مبال بمخالفته للواقع لكان مصداقا للتجري القبيح و بذلك يستحق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 351

..........

______________________________

العقاب على عمله و ان كان مطابقا للواقع.

صحة عمل الجاهل بقسميه إذا طابق عمله للواقع

و اما حكم عمل الجاهل من حيث الصحة و الفساد فلا بد و ان يفرض في أفعال يترتب على صحتها و فسادها اثر عملي بالإضافة إلى زماني الحال و الاستقبال.

كما إذا اتى بالعبادة جاهلا بحكمها في أول وقتها و التفت الى حكمها في أثناء الوقت أو خارجه حيث يترتب الإعادة، أو القضاء على بطلانها و عدمهما على صحتها.

و كذلك بالنسبة إلى المعاملة بالمعنى الأخص كما إذا أوقع عقد النكاح مثلا بغير العربية فإن قلنا بفساده فلا يحل الاستمتاعات فلا يجب الحقوق المترتبة على الطرفين بخلاف ما إذا قلنا بالصحة فيحل الاستمتاعات و يجب عليهما الحقوق.

و كذا الأمر في المعاملة بالمعنى الأعم فإنه إذا غسل المتنجس بالبول مرة

واحدة في الماء الكثير فان قلنا باعتبار التعدد في طهارة الثوب المتنجس بالبول- و لو كان الماء كثيرا- يكون الثوب متنجسا بعد و يجب غسل ملاقيه إذا لاقاه مع الرطوبة و ان لم نقل باعتبار التعدد في الغسل في الماء الكثير فلا يجب ذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا اتى الجاهل القاصر أو المقصر الغافل حين العمل بل الملتفت عند ذاك بعمل و كان مطابقا للواقع فلا وجه للحكم بالبطلان و ذلك لأنه ليس الاجتهاد أو التقليد شرطا لصحة عمل توصلي أو معاملي أو عبادي بل لأجل كونه طريقا لامتثال الأحكام الواقعية.

فاذا اتى المكلف بعمل من دون معرفة اجزائه و شرائطه باجتهاد أو تقليد و اتفق مطابقة عمله للواقع يترتب عليه آثار الصحة.

اما في التوصليات فواضح لأنه لا يعتبر في الأمر التوصلي غير كون المأتي به مطابقا للواقع قصد أم لم يقصد، ففي تطهير الثوب المتنجس مثلا إذا غسل بالماء مرتين مثلا تحصل الطهارة للثوب كان الآتي به قاصراً أو مقصرا بل غير قاصد أصلا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 352

..........

______________________________

و كذا في المعاملات فيترتب عليها ما هو المترتب من صحة المعاملة ان كان المأتي بها واجدة لما اعتبر فيها واقعا و هو واضح.

و اما في العبادات فكذلك أيضا لأنه لا فرق بين العمل العبادي و العمل التوصلي الا انه يعتبر في العبادي زائدا على إتيانها حسب ما قرر في الشريعة إضافتها إليه تعالى و من الواضح إمكان صدوره من الجاهل بأقسامه.

اما القاصر، و كذا المقصر غير الملتفت فواضح لإمكان قصد القربة منهما و استناد العمل العبادي إليه تعالى.

و كذا المقصر الملتفت حال العمل.

نعم الملتفت حال العمل لا يمكنه الجزم

بكون المأتي به مأمورا به و لا يمكنه استناده اليه تعالى جزما الا بالتشريع المحرم.

عدم اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة و دفع ما ينافيه

و قد أشرنا عدم اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة لأن غاية ما يعتبر في صحتها إضافتها و استنادها اليه تعالى بنحو، و من الواضح ان الجاهل المقصر الملتفت يمكن اضافة عمله و استناده اليه تعالى برجاء امره فبعد مطابقة المأتي بها للواقع يكفي في صحتها و امتثالها و سقوط أمرها.

و بالجملة لا دليل على اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة بل يكفى فيها مجرد الإضافة إليه تعالى، و هي حاصلة باحتمال تعلق التكليف بها واقعا فيأتي بالعمل برجاء درك الواقع على تقدير المطابقة و لا يتأتى ذلك ترك باقي المحتملات لدواع أخر، و قد اوعزنا في مسئلة جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ما له نفع للمقام.

و توهم ان ما ذكرنا ينافي ما حكاه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عن المشهور بل ما حكى عن السيد الرضى في مسئلة الجاهل بحكم القصر الإجماع على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها، و عن أخيه السيد المرتضى تقريره على هذه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 353

..........

______________________________

الدعوى «1».

مدفوع أولا: بأنه إجماع منقول لم نقل باعتباره.

و ثانيا: بأنه لم يحرز كونه إجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم عليه السّلام لاحتمال ان يكون مستند المجمعين بعض الاعتبارات التي يذكر في المقام من اعتبار الجزم بالنية في العبادة، أو عدم تمشي قصد القربة من الجاهل الملتفت حال العمل الى غير ذلك.

و ثالثا: كما أفيد «يحتمل ان يكون مراد المجمعين بذلك»، البطلان العقلي بمعنى عدم الاكتفاء بالصلاة ما لم يحرز مطابقتها لحجة معتبرة» «2».

و لكن يبعد ارادة

ذلك لعدم اختصاص البطلان العقلي بالعبادة و الصلاة بل كما أشرنا سار في جميع الأعمال من غير فرق بين العباديات، و المعامليات و التوصليات

ذكر و تعقيب

ربما يحكى عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في موضعين من الرسائل ما يستفاد منه عدم الصحة في المفروض.

الأول: ما أفاده في الشبهة الوجوبية و هو ان من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لامتثاله الأعلى تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا و هذا غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبد بها.

و بالجملة الاقتصار على بعض المحتملات مع البناء على عدم الإتيان بسائر المحتملات يدل على ان الباعث له ليس أمر المولى و إرادته و الا لأثر في سائر المحتملات.

الثاني: ما ذكره في خاتمة الأصول في مسئلة العمل قبل الفحص من عدم تحقق نية القربة لأن الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرب به و لكن يمكن دفع ما أفاده أولا: بأنه من الممكن ان يكون الاقتصار على

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 47.

(2) الدروس ج 1/ 104.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 354

..........

______________________________

بعض المحتملات لأجل ضعف الايمان في امتثال أوامر اللّه، فيكف عن إتيان جميع المحتملات بمجرد طرو المشقة و بعض الاعذار غير الموجهة، كما انه قد يوجب ذلك ترك العمل الواجب بالمرة، كما ان من له ايمان قوي يأتي بتمام المحتملات و ان بلغ ما بلغ، كما ان بينهما متوسطات، فعدم إتيان جميع المحتملات ليس لعدم ارادة الامتثال كيف؟! و هو بحسب الفرض بصدد إتيان امره تعالى، و منبعث عن بعثه.

و بالجملة ربما يكون المكلف لضعف ايمانه خائفا من المخالفة القطعية لأوامره تعالى و لا يخاف من المخالفة الاحتمالية فعند

الإتيان ببعض المحتملات تكون مخالفته لأوامره احتماليا.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده ثانيا: مع انه لم يأت (قدس سره) وجها لمدعاه الا الاستعجاب و لعله لا وجه له، لان لاحتمال كون المأتي به مأمورا به كالعلم بذلك تأثير في داعوية الأمر الواقعي فتدبر.

فتحصل مما ذكرنا صحة إعمال الجاهل قاصراً كان أو مقصرا ملتفتا كان أو غير ملتفت إذا طابق عمله للواقع.

فلا يمكن المساعدة على ما هو المترائى من المتن من بطلان عمل الجاهل المقصر الملتفت مطلقا عبادة كانت أو غيرها.

فيمكن ان يقال ان الماتن (قدس سره) لا يقول بذلك مطلقا بل يريد بقرينة قوله في المقصر غير الملتفت:- و حصل منه قصد القربة- بطلان خصوص الأعمال العبادي من المقصر الملتفت، وجه البطلان عنده (قدس سره) بقرينة المقابلة عدم تمشي قصد القربة منه في عباداته، و يمكنه ذلك عند عدم الالتفات.

و قد أشرنا عدم تماميته لتمشي قصد القربة منه و صحة اضافة العمل اليه تعالى و لا فرق بينه و بين الجاهل غير الملتفت إلا في عدم تمشي الجزم بالنية منه و تمشيه من غير الملتفت و قد أشرنا عدم اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة و ان الإتيان بها برجاء المطلوبية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 355

..........

______________________________

إذا كانت مطابقة للواقع يكفي في سقوط أمرها و امتثالها.

و لا يخفى ان ما ذكرنا كله لا ينافي حكم العقل بان عمل الجاهل محكوم بالبطلان في مرحلة الظاهر ما لم ينكشف مطابقته للواقع- بلحاظ ان الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية و لا يرى العقل الاكتفاء بذلك في مرحلة الظاهر و يرتفع إذا انكشفت مطابقة ما اتى به للواقع.

فتوى المجتهد الذي يجب تقليده بحكم الواقع

هذا كله إذا انكشف

و أحرز علما مطابقة العمل المأتي به للواقع و لكنه لا يتفق ذلك للعامي إلا نادرا كما في الضروريات و القطعيات و المسائل الواضحة و هي قليلة جدا.

نعم انكشاف مطابقة عمله لما يكون بحكم الواقع- اعنى فتوى المجتهد الذي يصح تقليده- فغير عزيز فلا بد من عطف عنان البحث حوله فنقول:

تارة يكون المجتهد الذي كان يجب على العامي تقليده حين العمل هو الذي يجب عليه تقليده بعد ذلك.

و اخرى يكون غيره، و على الثاني اما تكون فتاواهما متوافقتين، أو متخالفتين ففي الصورة الأولى تكون فتوى المجتهد بحكم الواقع في حقه فمع مطابقة عمله لها لا وقع للإشكال في صحته، و كذا فيما إذا تعدد الفقيهان و كانا متفقين في الفتوى كما لا إشكال في فساد عمله، و وجوب إعادته إذا كان مخالفا لكلتى الفتويين.

و انما الاشكال و الكلام فيما إذا كان عمله مطابقا لفتوى أحدهما و مخالفا للآخر فهل الميزان في الصحة مطابقة عمله لفتوى من كان يجب تقليده حال المراجعة، أو يكفي مطابقته لفتوى أحدهما، أو لا بد من مطابقة العمل لفتوى كليهما فيحكم بالبطلان في الفرض؟ وجوه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 356

مناط كون صحة العمل فتوى من كان يجب تقليده حين العمل و دفعه

______________________________

علق أستادنا العلامة البروجردي (قدس سره) على المتن بما نصه: مناط صحة عمل الجاهل قاصراً كان أو مقصرا عبادة كان العمل أو غيرها هو وقوعه مطابقا للواقع أو لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل نعم يكفي في إحراز الواقع فتوى من يجب عليه تقليده فعلا اه.

قلت: ما افاده (قدس سره) مبني على اجزاء الحكم الظاهري عن الواقع و سيجي ء التعرض لمقالة ففتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل هي الحجة في

حقه في ذلك الحال و فتاواه منجزة علم بها المقلد و استند إليها حال العمل أو لا هذا.

و لكن فيه انه كما قرر في محله و سيجي ء بعض الكلام فيه هو ان القول بالإجزاء انما يتم على القول بالسببيّة في الطرق و الأمارات و اما على القول بالطريقيّة كما هو الحق في اعتبار الأمارات مقتضاه عدم الاجزاء لان الأحكام الواقعية فعلى في حق كل أحد لا يتغير عما هو عليه بتغير الفتاوى و قيام الأمارات على خلافها، و حيث لم يستند الجاهل حال العمل بفتوى من يجب عليه تقليده، فلا يترتب على فتواه بصحة ذلك العمل أو فساده اثر بالإضافة إلى المكلف عند الشك في وجوب الإعادة أو القضاء لأنها قد سقطت عن الحجية بموت المجتهد حال المراجعة، و واضح ان الفتوى غير المتصفة بالحجية الفعلية لا يترتب عليها اثر بوجه فالمتعين في حقه الرجوع الى من يجب عليه تقليده في ظرف الرجوع.

و بالجملة بعد ثبوت الأحكام الواقعية و تنجزها لا بد للجاهل من الخروج عن عهدة التكاليف من مؤمّن و حيث لم يستند الى من كان يجب عليه تقليده حال العمل الى ان مات و سقط عن دائرة الحجية فاعماله غير مستندة بالحجة.

و نحن و ان نقول بعدم الاجزاء في صورة الاستناد أيضا الا انه يمكن الاحتجاج على عدم الإعادة و القضاء في صورة الاستناد و لعله القدر المتيقن من الإجماع على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 357

..........

______________________________

تقدير ثبوته، أو يقال ان مقتضى قاعدة لا تعاد في باب الصلاة «1» عدم إعادتها في غير الخمسة المستثناة إذا أخل بشي ء منها بنحو من الأنحاء غير صورة العمد.

و القول بحجية

فتوى من كان يجب عليه تقليده حال العمل في الفرض أشبه شي ء بتقليد الميت ابتداء و قد عرفت بطلانه.

مناط صحة عمل الجاهل مطابقته لفتوى من يجب تقليده حال المراجعة

و فتوى المجتهد الذي يجب المراجعة اليه و ان لم تكن حجة في ظرف العمل- اما لعدم وجوده أو لعدم استجماعه الشرائط المعتبرة في مرجع الفتوى- و انما صارت حجة بعد موت المجتهد، أو فقدانه لشرط المرجعية الا انه بعد ما اتصفت بالحجية الفعلية يكون مفادها حكم كلي إلهي لا يختص بوقت دون وقت بل يعم الأزمنة الثلاثة- الماضي و الحال و الاستقبال- فبالفتوى المتأخرة الحادثة حجيتها يستكشف بطلان الأعمال السابقة في ظرف الصدور و مقتضاه لزوم الإعادة أو القضاء.

و الحاصل ان وجوب إعادة الأعمال السابقة و عدمه من المسائل التي يجب الرجوع الى المجتهد الذي تتصف فتواه بالحجية، و ليس هو الا المجتهد الفعلي لسقوط فتاوى المجتهد السابق في ظرف العمل عن الحجية بالموت أو زوال الصفة المعتبرة و لو لا سقوط فتاواه لما صح تقليد المجتهد الحاضر.

و بما ذكرنا كله ظهر حال سائر الأقوال في المسئلة فلا يحتاج الى تعرضها و ذكر الخلل فيها فتدبر و اغتنم.

______________________________

(1) و هي مفاد صحيحة زرارة المتقدم ذكرها في/ 268.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 359

[مسئلة 17- المراد من الأعلم]

اشارة

مسئلة 17- المراد من الأعلم من يكون اعرف (1) بالقواعد و المدارك للمسئلة، و أكثر اطلاعا لنظائرها و للأخبار، و أجود فهما للأخبار، و الحاصل ان يكون أجود استنباطا، و المرجع في تعيينه أهل الخبرة و الاستنباط (2).

______________________________

(1) و الحقيق ان يقال: كما أفيد ان المراد بالأعلم من يكون أقوى استنباطا من غيره في معرفة الكبريات و القواعد، و أحسن سليقة في تطبيقها على مصاديقها، كما هو المراد به في سائر الصناعات، و لا يبعد ان يكون مراده (قدس سره) بما في المتن: تعريف الأعلم بما

يكون من آثاره لا نفسه و اللّه العالم.

(2) لا تنحصر معرفة الأعلمية بالمجتهد كما سيجي ء منه (قدس سره) بل ربما تحصل لمن كان من أهل الخبرة و الدراية، و ليعلم ان معرفة الأعلمية المطلقة و لو للمجتهد لا يكاد يحصل الا بعد تحمل المشاق و السفر الى مظان وجود المجتهدين، و إتعاب النفس بعد إسقاط الأهواء النفسانية بالنظر الدقيق في آرائهم، و الحضور في مباحثاتهم الى غير ذلك فدون إثبات الأعلمية المطلقة غالبا تخرص بالغيب، كما لعله واضح لمن كان له قلب، أو القى السمع، و هو شهيد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 360

..........

______________________________

أقول: توضيح المسئلة يستدعي البحث في مقامين الأول في المراد بالأعلم و الثاني في المرجع في تعيينه.

المقام الأول المعاني المتصورة لمعنى الأعلم

اشارة

يحتمل بدوا ان يكون المراد بالأعلم أحد هذه المعاني.

الأول: ان يكون المراد بالأعلم: أكثر معلوما بحيث يشترك الأعلم مع غيره في العلم بعدة مسائل و يترجح عليه في العلم بمسائل آخر، مثلا يشتركان في استنباط الأحكام في باب العبادات و يختص أحدهما باستنباط أحكام المعاملات.

و الى هذا المعنى يشير ما يقال: ان المراد بالأعلمية من يكون أكثر إحاطة بالفروع و التضلع بكلمات الأصحاب و أقوالهم كما إذا تمكن من الجواب عن أية مسئلة ترد عليه و لو من الفروغ التي لا يبتلى بها الا قادرا، و لا يتحقق في الخارج أصلا، مع التضلع على أقوالها و موارد التعرض للمسئلة في كلماتهم.

و فيه: أن الملحوظ في العالم و الأعلم انما هو في موضوع واحد فيقال زيد عالم بباب العبادات مثلا و عمرو اعلم بها من زيد، و اما في المفروض فزيد غير عالم بباب المعاملات فلا يصح ان يقال ان عمرا

اعلم من زيد، ضرورة أنها متساويان في العلم بباب العبادات و في باب المعاملات يكون أحدهما عالم و الأخر ليس بعالم و ان شئت قلت كما أفيد الظاهر ان هذا المعنى و ان كان أقرب الى معنى التفضيل المدلول عليه لهيئة (أفعل) الا ان الظاهر كونه غير مراد القائلين بوجوب

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 361

..........

______________________________

تقليد الأعلم و لا يقتضيه الدليل المتقدم عليه «1».

الثاني: ان يكون المراد بالأعلم: أقوى و أشد علما بحسب مراتب الانكشاف بحيث يكون الجازم بحكم من دليله مقدما على المطمئن به، و هو على الظان به.

و فيه: ان الاجتهاد كما أشرنا يدور مدار قيام الحجة على الحكم و عدمه سواء انكشف بها الحكم الشرعي جزما، أو ظنا أو لم ينكشف و قد أشرنا في تقديم قول الأعلم عند المناقشة في ان الاقريبة لا كبرى لها، و لا صغرى، بعض ما ينتفع به للمقام فلاحظ.

و بالجملة لم يكن الأمر في باب الاجتهاد دائرا مدار شدة الانكشاف و ضعفه بل المدار على قيام الحجة و عدمه.

الثالث: ان يكون المراد بالأعلم: من يكون أقوى مبني من غيره بحيث لا يزول اعتقاده بتشكيك المشككين في قبال من يمكن التشكيك في مبناه و أخذ المبنى منه.

و فيه: انه كما أشرنا لم يكن الأمر في باب الاجتهاد يدور مدار قوة المبنى و عدم إمكان زواله بالتشكيك، و انما تدور مدار قيام الحجة و عدمه، و من الواضح ان مجرد قوة المبنى مع عدم الإحاطة بجهات أخر للمسئلة لا تكفي في الأعلمية في الوظيفة الرابع: ما ذكره الماتن بعد قوله: و الحاصل ان يكون أجود استنباطا. و مال إليه العلامة الخوانسارى دام

ظله قال ان هذا التفسير للأعلم أولى.

و لكن في تعليقة العلامة الشاهرودي: ان تصوير الأعلم بهذا المعنى مشكل و تمييزه أشكل فلا يقاس بالصناعات نعم على التفاسير الأخر لا إشكال في تفسيره و تمييزه. فتأمل.

الخامس: ما يتراءى من عبارة المتن و حاصله ان يكون المراد بالأعلمية من كان واجدا لهذه الأمور:

1- اعرف بالقواعد و المدارك للمسئلة.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 37.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 362

..........

______________________________

2- و أكثر اطلاعا لنظائرها و أشباهها.

3- و أكثر اطلاعا للأخبار في المسئلة.

4- و أجود فهما للأخبار.

و فيه: انه عرفت مما ذكرنا في المعاني الثلاثة عدم دخالة بعض منها فيما هو الملاك في الأعلمية فما ظنك بضم بعضها ببعض.

و لعله يبعد ان يكون مراد المصنف (قدس سره) أيضا ذلك بل مراده تعريف الأعلم بما هو أثره فيكون المراد من الأعلم من تكون ملكته أشد و أقوى من ملكات غيره، و تلك الأمور من آثار الأشديّة.

و بالجملة الأمور المذكورة طرق معرفة الأعلمية لأنفسها فنسئل من جنابه و من يقول بمقاله ما المراد بأشدّية الملكة و اقوائيتها؟ فإن أراد بالأقوائية و الأشدية بحسب مراتب الانكشاف فقد عرفت حاله مما ذكرناه في المعنى الثاني للأعلم، و ان أراد الأقوى مبني بحيث لا يزول اعتقاده بتشكيك المشككين فقد عرفت حاله مما ذكرناه في المعنى الثالث فلاحظ و تأمل.

السادس: ان يكون أشد اقتدارا في القواعد و الكبريات اعنى المبادي التي تستنتج الأحكام منها كما إذا كان المجتهد في المطالب الأصولية و بعض المبادي أقوى من غيره.

و فيه: ان مجرد ذلك لا يكفى ما لم ينضم اليه حسن السليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها كما سنشير اليه عن قريب

لأنه رب شخص له اقتدار شديد بالكبريات الا انه ضعيف في تطبيقها على الصغريات.

المعنى اللائق لمفهوم الأعلم

و الذي ينبغي ان يقال في معناه كما أفيد: انه لم يرد في آية و لا رواية معتبرة لفظة الأعلم ليلاحظ ان المتفاهم من لفظتها بلحاظ هيئة التفضيل ماذا؟ بل الحكم بلزوم تقليد الأعلم انما هو لبناء العقلاء، أو حكم العقل من باب قاعدة الاشتغال،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 363

..........

______________________________

فيكون وزان الأعلم في الفقه حال الأعلم في بقية العلوم، و من الواضح ان الأعلم في سائر العلوم هو الذي يكون أقوى استنباطا من غيره في معرفة الكبريات و قواعدها و أحسن سليقة في تطبيقها على مصاديقها.

ضرورة ان مجرد الأقوائية في معرفة الكبريات و القواعد لا يكفي في ذلك بل لا بد مع ذلك ان يكون اعرف بتطبيق تلك الكبريات و القواعد على مصاديقها.

فاذا كانت الأعلمية؟؟؟ في سائر العلوم عبارة عما ذكر فنقول بذلك في الفقه أيضا فيكون المراد بالأعلمية ما يكون أقوى و أدق في استنباط الكبريات الفقهية، و امتن استنتاجا للاحكام عن مباديها، و أدلتها، و أحسن من حيث تطبيقها على صغرياتها و مجرد الأشدية في معرفة الكبريات لا ينفع ما لم ينضم إليها حسن السليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها.

الا ترى ان الطبيب الأعلم ليس هو مجرد من كان أقوى معرفة بقواعد كلية الطب، أو كان أكثر اطلاعا على أقوال الأطباء و أنواع الأمراض، و طرق معالجتها و ادويتها ما لم ينضم إليها حسن تطبيق تلك الكبريات على مصاديقها «1».

المقام الثاني في المرجع في تعيين معنى الأعلم

اشارة

ربما يتوهم ان تفسير الأعلمية بالاجودية في مقام الاستنباط، أو المعنى الذي ذكرنا، أو بغيرهما يكون امرا غير محسوس لا طريق الى معرفته و تعينه و الشهادة عليه كما هو الشأن في سائر الأمور غير المحسوسة، و

لا بد في الشهادة ان تكون محسوسة مشاهدة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: لمثل هذه (مشيرا الى الشمس) أشهد أو دع «2».

و لكن فيه: ان الأمر غير المحسوس إذا كان له طريق أو طرق محسوسة يمكن نيله و معرفته و يصح الشهادة له أو عليه، فكما يمكن معرفة شجاعة الرجل، و سخاوته،

______________________________

(1) الدروس ج/ 110. و التنقيح ج 1/ 202.

(2) باب 20 من أبواب الشهادات ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 364

..........

______________________________

و عدالته الى غير ذلك من الصفات و الملكات النفسانية بالآثار و العلامات الظاهرة المحسوسة الموجبة لصيرورة تلك الأمور كالمحسوس فكذلك الأمر في المقام فإن حقيقة القوة القدسية التي يعبر عنها بأنها نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء و ان لم تكن محسوسة الا انه يمكن التيل بها بواسطة الآثار اللائحة و الأمارات الواضحة، و لعل درك اجتهاد المجتهد، و واجديته لملكة الاجتهاد غير خفي على من زاوله، و باحثه في غير واحد من المسائل، و بعد معرفته و واجديته لملكة الاجتهاد إذا قايسه مع غيره من المجتهدين مرة بعد أخرى و كرة بعد كرة يقرب له معرفة الأعلمية كما لا يخفى.

و قد تحصل معرفته بكثرة الاطلاع على خصوصيات المسائل و قد تكون كثرة الاطلاع على المباني و جودة الفهم من الاخبار مطابقة و التزاما الى غير ذلك من الأمور مورثه لمعرفتها و يدركها الخبير و ان لم يمكنه بيانها و لعله مما يدرك و لا يوصف.

و لكن لا بد و ان يعلم ان حصول معرفة ذلك ليس سهلا قريبا بل لا بد من إتعاب النفس و الممارسة التامة و الدقة الشديدة، و تخلية النفس عن

الأهواء النفسانية التي لا تخلو منه الا الأوحدي من طلبة العلم، و تحمل المشاق في السفر الى البلدان و لا أقل إلى مظان وجود المجتهدين و الحوازات العلمية و مطالعة ما صدر عن أقلامهم الشريفة ان كانت لهم تأليف و تصانيف، أو ما صدر عن مقرري ابحاثهم، الى غير ذلك.

و الا فالحكم باعلمية شخص بمجرد حضور بحثه أو مطالعة آثاره و مقايسته مع فقيه، و مجتهد واحد، أو اثنين أو ثلاث، أو ما يقرب من ذلك في محل أو محلين فأمر عصير بل لعله يمكن ان يقال دون إثباته خرط القتاة، عصمنا اللّه و إياكم من الزلل و التقول بما لا يعلم و لعل ما ذكرناه واضح لمن كان له قلب أو القى السمع و هو شهيد.

لا يختص تشخيص الأعلم بالمجتهد

ثم انه بعد الفراغ عن معرفة مفهوم الأعلم، و إمكان معرفة الأعلم في الخارج يقع الكلام في المرجع في تعيينه فهل يخص ذلك بالمجتهد أو يعم غيره وجهان بل قولان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 365

..........

______________________________

يظهر الأول من الماتن (قدس سره) في هذه المسئلة حيث قال: و المرجع في تعيينه أهل الخبرة و الاستنباط، كما يظهر الثاني من العلامة القمي (قدس سره) حيث علق على المتن بأنه لا تنحصر ذلك بأهل الخبرة و الاستنباط.

لا يبعد القول بعدم انحصار ذلك بالمجتهد و يصح لغير المجتهد معرفة ذلك أيضا ان كان من الخبراء و أهل العلم، كما هو الشأن في سائر أرباب الصنائع و الحرف فترى ان من لم يحسن الكتابة يمكنه تشخيص الخط الحسن عن غيره، و من لم يكن خطيبا بليغا يمكنه تشخيص الخطيب البليغ عن غيره الى غير ذلك من الأمثلة.

و ما

ذكرناه هو الظاهر مما ذكره الماتن (قدس سره) في مسئلة العشرين حيث قال: فإنه يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة اه فإن الجملة الأخيرة تدل على ان من لم يكن مجتهدا يمكنه معرفة اجتهاد المجتهد فإذا أمكنه ذلك أمكن معرفة الأعلم أيضا، و كذا إطلاق ما ذكره أخيرا في تلك المسئلة بقوله: و كذا الأعلمية فإنه يدل على ان غير المجتهد يمكنه معرفة الأعلمية.

و لكن و ليعلم انه كما أشرنا ان معرفة الأعلمية للأوحدي من المجتهدين لا يخلو من صعوبة فما ظنك بغير المجتهد فلا يكاد يحصل ذلك للاذكياء من أهل العلم الا مع تحمل المشاق و العناء الشديد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 367

[مسئلة 18- تقليد المفضول]

اشارة

مسئلة 18- الأحوط عدم تقليد المفضول (1) حتى في المسئلة التي توافق فتواه فتوى الأفضل.

______________________________

(1) قد أشرنا في المسئلة الثانية عشر الى موارد جواز تقليد المفضول، و انه في المسئلة التي توافق فتوى الأفضل فكما يجوز تقليد كل منهما يجوز تقليدهما معا بمعنى صحة الاستناد إليهما في مقام العمل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 368

جواز تقليد غير الأعلم في المسئلة التي توافق فتواه لفتوى الأعلم

______________________________

أقول: تقدم عند الكلام على المسئلة الثانية عشر: ان تقليد الأعلم انما يلزم إذا كانت فتواه مخالفة لفتوى غيره، و لم تكن مخالفة للاحتياط، و إجماله عدم اقتضاء حكم العقل، و لا بناء العقلاء، أكثر من ذلك، فيجوز تقليد غير الأعلم فيما إذا وافقت فتواه لفتوى الأعلم، بمعنى جواز الاستناد الى فتواه و تطبيق العمل على رأيه، بل يجوز تقليد غير الأعلم في صورة عدم العلم بمخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم فيما هو محل الابتلاء.

ثمرة لتقليد غير الأعلم فيما توافق فتواه لفتوى الأعلم

قد يقال: انه لا ثمرة لتقليد غير الأعلم فيما إذا توافق فتواه لفتوى الأعلم لعدم دخل حيثية الأخذ و الالتزام في التقليد الذي هو موضوع الوجوب الشرعي، بمقتضى ما دل على رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها، و لا في مقام المصححية للعمل، و لا في مقام المعذرية، فلا محالة يكون العمل على طبق فتوى المعالم بعينه عملا على طبق فتوى الأعلم لكونهما مع توافقهما من قبيل تعدد الرواية في حكم المسئلة «1».

و لكن يمكن ان يقال بوجود الثمرة فيما إذا مات غير الأعلم فبناء على جواز البقاء على تقليد الميت يجوز البقاء على تقليده.

بل تظهر الثمرة فيما إذا مات الأعلم و قلنا بعدم جواز البقاء على تقليد الميت فيتعين تقليد غير الأعلم فتدبر.

______________________________

(1) نهج الهدى/ 7.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 369

[مسئلة 19- تقليد غير المجتهد]

اشارة

مسئلة 19- لا يجوز تقليد غير المجتهد و ان كان من أهل العلم كما انه يجب على غير المجتهد التقليد (1) و ان كان من أهل العلم.

______________________________

(1) بالوجوب العقلي التخييري بينه و بين الاحتياط كما تقدم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 370

عدم جواز تقليد غير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ

______________________________

أقول: تعرض الماتن (قدس سره) في هذه المسئلة لفرعين.

الأول: انه لا يجوز تقليد غير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ و ذلك لاختصاص أدلة مشروعية التقليد بالفقيه العارف بالأحكام، و الناظر في الحلال و الحرام، و أهل الذكر الى غير ذلك من العناوين المنطبقة على من يكون واجدا لملكة الاستنباط و الاجتهاد فغير المجتهد و ان كان من أهل العلم و الفضل لكن حيث لا ينطبق عليه شي ء من العناوين فلا يجوز تقليده بل يتعين عليه تقليد المجتهد ان لم يمكنه الاحتياط و معه يتخير بينهما.

وجوب التقليد لغير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ

الثاني: انه يجب التقليد على غير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ لتطابق أدلة مشروعية التقليد، على مشروعية التقليد لغير العارف بالأحكام بل تعينه عليه ان لم يمكنه الاحتياط و الا فمخير بينه و بين الاحتياط لما تقدم منه قدس سره التصريح بذلك في المسئلة الاولى، و ذكرنا وجهه في ذيل المسئلة: ان العقل يحكم ان المكلف لا بد له في جميع أفعاله و تروكه ان يكون مجتهدا أو مقلدا أو محتاطا فاذا لم يكن مجتهدا فيجب عليه التقليد أو الاحتياط، و ان لم يمكنه الاحتياط فيتعين عليه التقليد.

إيقاظ

و قد ذكرنا في ذيل المسئلة الاولى وظيفة كل من كان واجدا لملكة الاجتهاد و لم يجتهد بعد فلاحظ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 371

[مسئلة 20- طرق معرفة الاجتهاد و الأعلمية]

اشارة

مسئلة 20- يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني (1) كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة (2) و علم باجتهاد شخص، و كذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة (3) إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد و كذا يعرف بالشياع المفيد للعلم (4) و كذا الأعلمية (5) تعرف بالعلم، أو البينة غير المعارضة، أو الشياع المفيد للعلم

______________________________

(1) و يلحق به الظن الاطمئناني.

(2) و ان لم يكن مجتهدا.

(3) و ان لم يكن مجتهدا.

(4) و في عده قسيما للأول نوع تسامح لأنه حسب الفرض أحد أسباب حصول العلم، و كيف كان يلحق به الشياع المفيد للاطمئنان، و الوثوق.

(5) حسبما علقناه في معرفة الاجتهاد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 372

..........

______________________________

طرق معرفة الاجتهاد أو الأعلمية أقول: ظاهر العبارة بل صريحها هو ان اجتهاد المجتهد، أو أعلميته يثبت و يعرف بأحد الطرق الثلاث:

1- العلم الوجداني.

2- البينة إذا كانت من أهل الخبرة و لم تكن معارضة ببينة تنفى الاجتهاد، أو الأعلمية.

3- الشياع المفيد للعلم.

و في عد الثالث قسيما للأول نوع تساهل لأنه حسب الفرض أحد أسباب حصول العلم.

و كيف كان ثبوتهما بالعلم الوجداني واضح لان القطع عند القاطع كاشف عن الواقع و نفس الأمر بلا احتمال خلاف فيه، و هذا يكفي في حكم العقل و العقلاء بالتنجيز، و التعذير، و صحة الاحتجاج، و صحة الاحتجاج من الأحكام العقلائية الثابتة للقطع نفسه بلا جعل جاعل.

و بالجملة إذا قطع بشي ء فحيث ان القاطع

حال قطعه لا يحتمل الخلاف بل ينكشف الواقع لديه بزعمه و يرى الواقع على ما هو عليه، يكون ذلك موضوع احتجاج المولى على عبده و بالعكس من دون احتياج الى توسيط جعل تشريعي.

هذا مما لا اشكال و لا خلاف فيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 373

توهم عدم إمكان تحديد حجية القطع ببعض المبادي و دفعه.

______________________________

و لكن وقع الكلام في إمكان تحديده و تضييقه بلحاظ حصوله من بعض المبادي فقد يقال:

ان حجية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل إثباتا و لا نفيا و لذا قد يقال: ان مقال الأخباريين بأنه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب و السنة غير معقول، كما لا يعقل ردع قطع القطاع عن قطعه الى غير ذلك.

و لكن الذي يقتضيه حقيق النظر وفاقا لبعض المحققين (قدس سره) إمكان ذلك و للشارع تحديد حجية القطع و تضييقه بلحاظ حصوله من بعض المبادي كأن ينهى عن العمل بالقطع الحاصل من القياس، أو الحاصل من الجفر أو الرمل أو المنام و غيرها من الطرق غير المتعارفة لمصالح يراها، أو لمفاسد يترتب عليها.

كلمة من الامام (ع) مع أبان في الحكم بالقياس

و خبر ابان بن تغلب في مسئلة قطع أصابع المرية المتقدم ذكره أنفا شاهد صدق على ما ذكرنا «1» حيث نهى الامام عليه السّلام عن العمل بالقياس مع ان ابان كان عالما بان في قطع أربعة أصابع المرية يوجب أربعين من الإبل من طريق القياس و لذا تعجب من حكم الامام عليه السّلام حيث قال بثلاثين و قال فيما قال:- و لا ينبغي صدوره من مثله- ان هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنتبرء عن قائله و نقول الذي جاء به شيطان.

و مع ذلك صاح الامام عليه السّلام في وجهه و نهاه عن العمل بعلمه بقوله: مهلا يا ابان هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا أبان أخذتني بالقياس، و السنة إذا قيست محق الدين. فقد قطع بكلامه عليه السّلام على الظاهر عرق القياس من قلب ابان «2».

و ان شئت قلت كما عن المحقق النائيني (قدس سره): «ان مرجع نهى الشارع في الحقيقة

ليس نهيا عن العمل بالعلم بل مرجعه الى التصرف في المعلوم و الواقع

______________________________

(1) لاحظ/ 326.

(2) الوسائل باب 44 من أبواب دية الأعضاء ح/ 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 374

..........

______________________________

الذي أمره بيد الشارع فالتصرف يرجع الى ناحية المتعلق لا إلى ناحية العلم و بعد الالتفات الى هذا التصرف لا يمكن ان يحصل له العلم بالحكم من طريق القياس إذ الحكم الواقعي قيد بغير ما ادى اليه القياس» «1».

توجيه معقول لقول الأخباريين بعدم حجية العلم الحاصل من غير الكتاب و السنة

و بما ذكرنا يمكن تصحيح مقال الأخباريين، و القول بعدم اعتبار قطع القطاع الى غير ذلك.

فلا يرد عليهم: ان مقالهم غير معقول نعم دون إثبات مقالهم خرط القتاة فتدبر و اغتنم.

فظهر ان الحجية من الأحكام العقلية للقطع بلحاظ ان القاطع حال قطعه لا يحتمل الخلاف و يكون ذلك موضوع احتجاج المولى على عبده و بالعكس من دون تطرق جعل عليها.

نعم للشارع تحديد الاحتجاج ببعض المبادي فما دام لم يحرز تحديده و تضييقه لا ينبغي الإشكال عند العقلاء في حجية العلم الوجداني في إثبات متعلقة.

فاذن لا إشكال في ثبوت الاجتهاد، أو الأعلمية بالعلم الوجداني، و حيث لا فرق بين العقلاء في أسباب حصوله، فلا فرق بين العلم الحاصل بالاختبار، أو الشياع أو غيرهما.

الإشكال في حجية الشهرة و ان حصل منها العلم و دفعه

نعم يظهر من بعض شراح المتن منع حجية الشهرة و ان حصل منها العلم و يرى حالها حال القياس و الرمل، و الجفر، و نحو ذلك، و صرح بان الشهرات الواقعة في طول حياته كلها على خلاف الواقع، و أشار الى العوامل و الأسباب المحصلة لها فقال كلها باطلة «2».

______________________________

(1) مبحث حجية القطع من فوائد الأصول/ 6 ط. النجف الأشرف.

(2) لاحظ معالم الزلفى/ 35.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 375

..........

______________________________

و لكن لم يتم ما ذكره و غاية ما يستفاد مما أطنب ذكره، و أتعب نفسه عدم صحة الاعتماد بمجرد الشهرة لوجود عوامل و دواعي فاسدة في بعضها فالحري بنا المراقبة الكاملة في الشهرات و ملاحظة مباديها و عواملها، فرب شهرة و ان كانت لا أصل لها الا ان في كثير منها له أصل و مبادي صحيحة عصمنا اللّه و إياكم من الزلل.

الظن الاطمئناني ملحق بالعلم الوجداني في الحجية

و يلحق بالعلم الوجداني بثبوتهما الظن الاطمئناني بهما لأنه علم عادى و حجة عقلائية لم يردع عنها في الشرع.

مع انه يمكن الاستدلال لاعتباره بما في موثقة مسعدة بن صدقة ففيها. الأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة «1».

لأن الاستبانة أعم من العلم الوجداني و يعم الظن الاطمئناني المتاخم للعلم كما لا يخفى فتدبر.

و بالجملة يعبّر عن الظن الاطمئناني بالعلم العادي لتداوله بين العقلاء لقلة حصول العلم الوجداني لهم فهو حجة عندهم و الشارع أبقاهم على ما هم عليه بل يصح دعوى الإمضاء عليه مما دل على تحصيل العلم و اتّباع العلماء و نحو ذلك فان الظاهر منه ما يعم الاطمئناني بل يعم العلم التعبدي لا خصوص العلم الوجداني و الا لانسد باب

معرفة الأحكام لعدم العلم الوجداني لغالب الناس و لا يكاد تحصل ذلك في أمثال المقام الا بعد عناء شديد و لزوم اعتباره يستلزم العسر و الحرج المنفيين في الشريعة.

ثبوت الاجتهاد أو الأعلمية بالبينة

و اما ثبوتهما بشهادة عدلين من أهل الخبرة- و يعبر عنها بالبينة- و حيث انها من الأمارات الظنية فلا تصلح للاحتجاج بها ما لم تقم دليل على اعتبارها، لما تقدم ان الأصل الأولي حرمة العمل بالظن و عدم صلوحه للاستناد اليه الا ما قام الدليل على اعتباره.

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 376

..........

______________________________

لا اشكال و لا خلاف في حجية شهادة العدلين في باب القضاء و فصل الخصومة و اما في غير باب القضاء فقد يناقش في حجيتها بحيث يشمل أمثال المقام، بل قد يقال انه لم يثبت أن للفظة البينة حقيقة شرعية، أو متشرعة في شهادة العدلين، بل كلما استعملت لفظة البينة في الكتاب، و السنة فهي بمعناها اللغوي و هو ما به البيان و ما يثبت به الشي ء فينبغي الإشارة إجمالا إلى معنى البينة و الدليل على اعتبارها فنقول:

معنى البينة لغة

لفظة البينة صفة مشبهة من باب يبين بيانا، و تبيانا: بمعنى اتضح و ظهر فاذا كان موضوعها مذكرا يقال هو بيّن، و إذا كان مؤنثا يقال هي بيّنة، و حيث ان موضوعها هي الحجة يقال انها بينة، اى حجة واضحة لا سترة فيه، و هي بهذا المعنى موجبة لليقين فتكون مرادفة للبرهان.

معنى البينة في الكتاب العزيز

و قد استعملت بهذا المعنى في غير موضع من الكتاب العزيز، و قد أنهاه بعض الأعلام الى خمس عشر موضع و الظاهر انها أكثر.

فترى انه عبر في الكتاب العزيز عن المعجزتين اللتين لموسى (على نبينا و إله و عليه السلام) تارة بكلمة البرهان، و اخرى بلفظة البينة.

فقال تعالى فَذٰانِكَ بُرْهٰانٰانِ مِنْ رَبِّكَ «1» و قال تعالى حكاية عن قول موسى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الى ان قال تعالى فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ، وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ «2».

______________________________

(1) القصص: 28/ 32.

(2) الأعراف: 7/ 105- 106- 107.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 377

معنى البينة في لسان الاخبار

______________________________

و لكن الظاهر ان البينة في لسان الاخبار و كلمات الفقهاء أطلقت و أريد منها شهادة العدلين على أمر من الأمور: و لم يتعارف إطلاقها فيها على معناها اللغوي، نعم ربما أطلقت و أريد منها ذلك خصوصا عند تفسير الآيات التي فيها تلك اللفظة، و لكنه قليل.

فلفظة البينة في لسان الأخبار منصرفة إلى شهادة العدلين، و السر في إطلاق البينة عليها واضح، لأنه بعد ان جعل الشارع شهادة العدلين حجة، و امارة معتبرة- كما سنشير إليها- تكون من مصاديق الحجة الواضحة.

و بالجملة مرجع تبادر هذا المعنى في لسان الشرع الى انصراف المفهوم الكلي الى بعض مصاديقه.

و مما يرشدك الى ما ذكرنا قوله صلّى اللّه عليه و آله كما في صحيح جميل و هشام:

البينة على من ادعى، و اليمين على من ادعى عليه إلخ «1» و قوله صلّى اللّه عليه و آله كما في مرسل صدوق:

البينة على المدعى، و اليمين على المدعى عليه إلخ «2» و قوله صلّى اللّه عليه و آله كما في

صحيح هشام بن الحكم.

إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان إلخ «3» و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بين الناس بالبينات و الايمان في الدعاوي إلخ «4» الى غير ذلك من الاخبار الواردة فيها لفظة البينة فإن المتبادر منها- كما عليه

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب كيفية الحكم ح/ 1.

(2) الوسائل باب 3 من أبواب كيفية الحكم ح/ 5.

(3) الوسائل باب 2 من أبواب كيفية الحكم ح/ 1.

(4) الوسائل باب 2 من أبواب كيفية الحكم ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 378

..........

______________________________

الفقهاء- انها عبارة عن شهادة العدلين، لا مطلق الحجة الواضحة- كما ادعى- بداهة ان اليد مثلا امارة على الملكية عند العقلاء و ممضاة شرعا، فاذا ادعى عليها أحد لا يكتفى بقول ذي اليد، مع ان قوله مطابق للحجة الفعلية- و هي اليد- و لو كان المدعى مالكا سابقا لكان ينبغي ان يكتفى باستصحاب ملكيته عند الشك في ذلك من دون احتياج الى حجة أخرى مع انه لا يكتفى به عند المعارضة، و لو أريد من البينة مطلق الحجة فلا مجال للتفصيل بين المدعى أو المنكر مع انه لكل من المدعى و المنكر حجة.

و مما يرشدك إلى إرادة شهادة العدلين من البينة قول الصادق عليه السّلام في موثق مسعدة بن صدقة: الأشياء كلها على هذا، حتى تستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة «1».

و ذلك لأنه لو أراد عليه السّلام بقيام البينة مطلق الحجة الواضحة يلزم ان يكون قسم الشي ء قسيما له، لوضوح ان الاستبانة- أي العلم- قسم من الحجة الواضحة بل من أعظم مصاديقها و أجلاها.

و ان شئت

قلت: انه لو أراد عليه السّلام: بالبينة معناها اللغوي يلزم ان تكون الاستبانة و العلم من مصاديق البينة فيكون قوله عليه السّلام في الخبر: (أو تقوم به بالبينة) من عطف العام على الخاص، و لا يخفى انه خلاف ما هو المتفاهم عرفا.

و بالجملة لفظة البينة و ان كان معناها اللغوي الحجة الواضحة، و قد استعملت في الكتاب العزيز في ذلك في غير موضع منها الا انه بواسطة كثرة الاستعمال في شهادة العدلين على أمر، عند عرف المتشرعة صارت منقولا إليها عرفا، و ان أبيت فلا أقل من كونها منقولا شرعيا.

كلام من العلامة الكنى في معنى البينة

و ان كنت مع ذلك في شك مما ذكرنا فلاحظ ما أفاده العلامة الكنى فقال:

«البينة و هي في اللغة من البيان و هو الاتضاح لازم و متعد كغيره من مشتقاته على

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 379

..........

______________________________

ما في القاموس، و في الشريعة على الثاني كاختصاصها فيها بالإطلاق على ما فوق الواحد على ما هو من الواضحات بأدنى رجوع الى كلماتهم و الاخبار، فبسببه بعد اشتهار قوله صلّى اللّه عليه و آله: البينة على المدعى جعلت شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين و سمى حتى اشتهر بذي الشهادتين، و به اتفقت الأخبار الحاكية لقضاياهم على شهادة اثنين الى آخر ما ذكره» «1».

و لمزيد الإيضاح و ازالة عرق اى شك منك لئلا ينقدح في نفسك بملاحظة ما ربما يقال في المقام نشير إلى جملة من الاخبار التي ذكرت فيها لفظة البينة، و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد و ان كان في بعضها أريد منها أربعة شهادات منها و لا يضر

ذلك بما نحن بصدده كما لا يخفى.

و حيث ان ذكر متن تلك الاخبار يطول بنا، و يوجب ملال الخواطر، مع انه لا يهم ذكرها في المقام فنقتصر إلى الإشارة إلى مواقع ذكرها من كتاب وسائل الشيعة من الطبعة الجديدة.

الأخبار التي ذكر فيها لفظة البينة و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد

باب 48 من أبواب الشهادات. ح: 3/ 4- ج: 18/ 290.

باب 18 من أبواب مقدمات الحدود. ح: 3- ج: 18/ 331.

باب 10 من أبواب حد الزنا. ح: 8/ 9- ج: 18/ 365.

باب 14 من أبواب حد الزنا. ح: 2- ج: 18/ 374.

باب 15 من أبواب حد الزنا. ح: 1- ج: 18/ 376.

باب 2 من أبواب حد اللواط. ح: 3- ج: 18/ 419.

باب 1 من أبواب حد السحق و القيادة. ح: 4- ج: 18/ 425.

باب 2 من أبواب حد المسكر. ح: 5- ج: 18/ 467.

باب 10 من أبواب حد السرقة. ح: 2- ج: 18/ 501.

______________________________

(1) القضاء و الشهادة/ 259.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 380

..........

______________________________

باب 18 من أبواب حد السرقة. ح: 4- ج: 18/ 509.

باب 30 من أبواب حد السرقة. ح: 3- ج: 18/ 529.

باب 33 من أبواب حد السرقة. ح: 2- ج: 18/ 531.

باب 7 من أبواب بقية الحدود. ح: 2- ج: 18/ 580.

باب 8 من أبواب دعوى القتل. ح: 5- ج: 19/ 112.

باب 9 من أبواب دعوى القتل. ح: 3/ 4/ 6- ج: 19/ 114- 115.

باب 10 من أبواب دعوى القتل. ح: 7- ج: 19/ 119.

باب 13 من أبواب دعوى القتل ح: 1- ج: 19/ 121.

باب 20 من أبواب موجبات الضمان. ح: 1- ج: 19/ 192.

باب 9 من أبواب العاقلة. ح: 1- ج: 19/ 307.

الى غير ذلك من الاخبار التي

ذكرت فيها لفظة البينة و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد مما يجدها المتتبع في الاخبار و فيما ذكرناه كفاية للمطلوب.

كلمة من بعض الأساطين في معنى البينة و تزييفها

و مع ذلك كله ذهب بعض الأساطين دام ظله على ما في تقريري بحثه الى ان لفظة البينة لم يثبت لها حقيقة شرعية، و لا متشرعة و انما استعملت في الكتاب و الاخبار بمعناها اللغوي و هو ما به البيان و ما به يثبت به الشي ء و منه قوله تعالى بِالْبَيِّنٰاتِ وَ الزُّبُرِ «1»، و قوله حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ «2»، و قوله إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي «3» و غيرها من الموارد و من الظاهر انها ليست في تلك الموارد الا بمعنى الحجة و ما به البيان.

و كذا فيما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان، اى

______________________________

(1) الفاطر: 35/ 25.

(2) البينة: 98/ 1.

(3) هود: 11/ 28.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 381

..........

______________________________

بالايمان و الحجج و ما به يبين الشي ء و لم يثبت في شي ء من هذه الموارد ان البينة بمعنى عدلين و غرضه صلّى اللّه عليه و آله: من قوله إنما أقضي إلخ على ما نطقت به جملة من الاخبار بيان ان النبي و سائر الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين سوى خاتم الأوصياء عجل اللّه فرجه لا يعتمدون في المخاصمات و المرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النبوة أو الإمامة، و انما يقضون بين الناس باليمين و الحجة سواء طابقت الواقع أو خالفته كما هو صريح ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في مخاصمة امرء القيس. نعم يقضى القائم عجل اللّه فرجه على طبق الواقع من

دون ان يعتمد على شي ء.

و بالجملة لم يثبت ان البينة بمعنى عدلين في شي ء من تلك الاستعمالات فإنما هي بمعناها اللغوي كما مر، و البينة بهذا المعنى بيّن و لعله أيضا كان ثابتا في الدور الأخير من زمانهم عليهم السّلام، و على هذا فالرواية المتقدمة- يعني رواية مسعدة بن صدقة- لا دلالة لها على اعتبار البينة بمعنى شهادة العدلين بل لا بد من إحراز حجيتها من الخارج انتهى موضع الحاجة «1».

قلت: و لعله بعد الإحاطة بما ذكرنا يظهر لك النظر فيما افاده بل لا تخلو عن تعجب، و ذلك لأنه كما أشرنا ان لفظة البينة و ان كانت في الكتاب العزيز مستعملة في ما به البيان، و ما يثبت به الشي ء الا انه في الاخبار الصادرة عنهم و في طليعتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرد تلك المعنى الا نادرا و انما أريد منها شهادة ما فوق الواحد بقرينة فهم المشهور منها كما أشرنا، و صريح جملة من الاخبار بذلك، و قد عرفت مقال العلامة الكنى (قدس سره) بأنه اتفقت الأخبار الحاكية لقضاياهم على إرادة شهادة ما فوق الواحد من البينة و أشرنا إلى جملة من الاخبار التي ذكرت فيها لفظة البينة و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد.

مضافا الى عدم استقامة إرادة ما به البيان في رواية مسعدة بن صدقة لما أشرنا إليه انه يلزم عليه ان يكون قسم الشي ء قسيما له، أو يكون من قبيل عطف العام على الخاص

______________________________

(1) التنقيح ج 2/ 285- الدروس ج 1/ 113.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 382

..........

______________________________

و هما خلاف المتفاهم عرفا منها.

الفرق بين البينة و قيامها

و قد تفطن بعض الأفاضل

دام بقاه: انه كلما استندت لفظة القيام بالبينة في في الكتاب و السنة و غيرهما أريد منها شهادة ما فوق الواحد فمعنى قامت البينة- أي جاءت البينة- فتدبر، و إطلاق البينة بمعنى ما به البيان و الوضوح لم يكن كذلك فقيام البينة عبارة أخرى عن مجي ء العدلين و شهادتهما فاذا معنى قوله عليه السّلام في رواية مسعدة:

الأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة: ان الأشياء على حالتها حتى يعلم و يظهر خلافه أو تقوم شاهدان على غير ذلك و اللّه العالم.

هذا كله في معنى البينة

دليل اعتبار البينة

اما دليل اعتبار البينة و انها هل معتبرة أم لا و على تقدير الاعتبار هل في جميع الموارد و الموضوعات أو مخصوصة ببعضها فنقول:

الظاهر انه لا خلاف و لا الإشكال في اعتبار البينة و شهادة ما فوق الواحد في الجملة و لم ينكره أحد من الصدر إلى الساقة و لعل اعتبارها في الجملة من مسلميات الشريعة المقدسة و النصوص و الفتوى متطابقتان على اعتبارها كذلك.

و القدر المتيقن من حجيتها في موارد الترافع و الخصومات بل تقديمها على غير الإقرار من معارضاتها و الكلام انما هو في عموم حجيتها في سائر الموضوعات و الموارد.

فعن الجواهر بعد نفى الخلاف في إثبات النجاسة بالبينة قال الا عن القاضي ابن البراج و الكاتب، و الشيخ.

و الحق عموم حجيتها في سائر الموضوعات محسوسة كانت أو قريبة من الحس بحيث تكون محسوسة بالآثار و العلائم الواضحة.

نعم لا تعتبر في الأمور غير المحسوسة التي لا طريق إليها من الحواس الظاهرة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 383

..........

______________________________

كما سنشير اليه.

الوجوه التي يستدل بها لعموم حجية البينة لسائر الموضوعات

اشارة

و كيف كان يستدل لعموم حجية البينة لسائر الموضوعات بوجوه:

الوجه الأول: الروايات
اشارة

منها: و في طليعتها موثقة مسعدة بن صدقة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول كل شي ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو أمرية تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة «1».

تقريب الدلالة هو انه بعد ما عرفت ان المتبادر من لفظة البينة في الاخبار هو شهادة الشاهدين تكون دلالة هذه الرواية على عموم حجيتها في كل موضوع و عدم اختصاصها بباب القضاء، واضحة، إذ الجمع المعرف باللام يفيد العموم مضافا الى تأكيدها بكلمة، كلها.

فحاصل معنى الرواية ان جميع الموضوعات الخارجية على حالها الى ان تستبين لك و تعلم خلافها، أو تقوم عليه ما هو بمنزلة العلم و هو البينة، فجعل عليه السّلام البينة بمنزلة العلم في حصول غاية الحكم بالحلية في جميع الأشياء سواء كانت في باب القضاء أو غيرها.

و بعبارة أخرى كما أفيد: «الرواية تدل على ان اليد في مثل الثوب، و المملوك، و أصالة عدم تحقق النسب و الرضاع في المرأة، حجة معتبرة لا بد من العمل على طبقها الا ان يعلم أو تقوم البينة على الخلاف فاذا يستفاد منها ان البينة حجة شرعية لإثبات

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 384

..........

______________________________

الموضوعات المذكورة في الرواية، و بما ان كلمة الأشياء من الجمع المحلى

باللام و هو من اداة العموم و لا سيما مع التأكيد بكلمة (كله) فيتعدى عنها إلى بقية الموضوعات التي يترتب لها أحكام و منها الاجتهاد و الأعلمية» «1».

كلمة من سيد مشايخنا في عدم عموم حجية البينة و دفعها

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده سيد مشايخنا (قدس سره).

«بأن البينة فيها انما جعلت غاية للحل الذي هو المراد من اسم الإشارة و كونها حجة على الحرمة لا تقتضي حجيتها على الموضوع فضلا عن عموم الحجية لما لم يكن موردا للحل و الحرمة من موضوعات سائر الأحكام» «2».

و ذلك لأن الظاهر المترائى من قوله عليه السّلام كلها على هذا إلخ حيث عبر بالجمع المعرف باللام مع تأكيدها بكلمة (كل) هو عمومية المورد بالنسبة الى جميع الأشياء و حيث ان الشك في الحلية في الأمثلة المذكورة في الرواية كلها من الشبهات الموضوعية فيستفاد عموم حجية البينة في كل شبهة موضوعية فالمشهود به نفس الموضوع كالسرقة أو بيع الحر نفسه لا الحكم المترتب عليه و ان صح الشهادة على الحكم أيضا.

و لك ان تتفطن من قوله: الأشياء كلها على هذا ان المراد ان الأشياء على حالتها الاولى الذي يقتضيه أصل كل شي ء بحسبه من الحلية أو الوجوب أو غيرها فيكون ذكر الحلية فيها من باب ذكر المورد لا لخصوصية فيها فتدل الرواية على ان كل شي ء على الحال الذي يقتضيه الأصل فيه من التكليف سواء كان إلزاميا أو غيره، و الإلزامي وجوبيا كان أو غيره، و سواء كان التكليف نفسيا أو غيريا فثبت حجية البينة في الجميع.

و لمزيد الإيضاح في استفادة عموم حجية البينة من الرواية نقول ان البينة فيها و ان جعلت غاية للحل فكأنه قال عليه السّلام كل شي ء لك حلال حتى تعلم أو تقوم به

البينة

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 209.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 203.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 385

..........

______________________________

على حرمته و مقتضى الجمود عليه و ان كان عدم دلالتها الأعلى خصوص حجية البينة في إثبات نفس الحرمة فلا يستفاد منها إثبات موضوع خمرية مائع، أو كرية ماء أو اجتهاد شخص، أو عدالته الى غير ذلك من الموضوعات بل لا يستفاد منها إثبات سائر الأحكام للموضوعات المذكورة فيها كنجاسة ذلك الشي ء أو ملكيته لشخص أو زوجية أمرية لرجل الى غير ذلك هذا.

تقريبات من أساطين الفقه لاستفادة عموم حجية البينة لسائر الموضوعات و الأحكام من الموثقة

و يمكن استفادة عموم حجية البينة من الرواية في سائر الموضوعات و سائر الأحكام بوجوه أشار إليها أساطين الفقه.

الأول: ما يستفاد من العلامة البجنوردى.

ان ظاهر جعل البينة في عرض العلم و الاستبانة في إثبات خلاف ما ذكر في الرواية يؤتى بعدم اختصاص حجية البينة في خصوص إثبات الحرمة كما هو ظاهر سياق الرواية بل يعم سائر الأحكام، و سائر الموضوعات كما هو الشأن في العلم، فكما ان العلم مثبت لجميع الموضوعات و الأحكام فكذلك البينة، و لا فرق بينهما الا ان طريقية العلم غنية عن الجعل و الاعتبار ذا حجة بنفسه بخلاف البينة و سائر الأمارات فإنها محتاجة إلى الجعل و لو إمضائيا.

و الحاصل انه يستفاد من الرواية انه كما يثبت بالعلم اى موضوع من الموضوعات و اى حكم من الأحكام فكذلك بالبينة «1».

الثاني: ما تكلف به العلامة الحكيم قدس و حاصله:

ان المراد من قيام البينة بالحرمة أعم من كونها مدلولا مطابقيا، أو تضمنيا، أو التزاميا لا خصوص مدلولها المطابقي فإذا قامت البينة و شهدت بموضوع خارجي تلزمه الحرمة، أو لازم لها، أو كان ملازم لها مثل كون المائع خمرا،

أو بولا، أو دما، أو نحوها، و كذا أعم من شهادتها بعنوان اعتباري مثل إخوة أمرية، أو

______________________________

(1) القواعد الفقهية ج 3/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 386

..........

______________________________

نجاسة مائع أو حرية رجل إذا كان بينه و بين الحرمة ملازمة فإن البينة في جميع ذلك قائمة بالحرمة فلا يختص اعتبار البينة بالشهادة على خصوص الحرمة بل يعم سائر الموضوعات «1».

الثالث: ما تشبث به قدس أيضا.

و هو ان البينة لما كانت من سنخ الأمارات العرفية كان الظاهر من ثبوت الحرمة عند قيامها بها كونها طريقا إلى مؤداها لا تعبدا كما في موارد الأصول فإذا شهدت البينة بكون الثوب سرقة فثبوت الحرمة ظاهرا لثبوت موضوعها و قيام الامارة عليه، و عليه لا فرق بين الحرمة و غيرها من الأحكام المترتبة على السرقة، فكما تثبت الحرمة تثبت تلك الأحكام لان طريقيتها بنظر العرف لا تختص بجهة دون جهة فيحمل الدليل على إطلاق الحجية، و مقتضى ذلك حجية البينة مطلقا قيامها بالحرمة فيترتب عليها جميع الأحكام و الآثار، فلم يبق مورد خارج عن الرواية إلا ما لا يترتب عليه أثر الحرمة أصلا بحيث لا تدل عليه البينة أصلا و لو بلا التزام لكنه نادر.

و لا يبعد التعدي إليه بعدم القوم بالفصل، أو لعدم التفكيك عرفا بينه و بين مورد الرواية بحيث تكون البينة حجة حيث يكون في موردها حكم الحرمة و لا تكون حجة في غير ذلك فلاحظ «2».

اعتبار سند رواية مسعدة

بقي الكلام في سند الرواية: لم يقع إشكال في سندها الا من جهة وقوع مسعدة بن صدقة فيها و قد صرح الشيخ (قدس سره) بكونه عاميا، و قد ذكره العلامة الحلي قدس في القسم الثاني،

و ضعّفه العلامة المجلسي في الوجيزة.

الا انه يمكن توثيقه مما يحكى عن بعض الأتقياء منهم العلامة المجلسي الأول حيث قال: انه و ان كان عاميا الا انه معتمد في النقل، و من تتبع اخباره يحصل له العلم

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 203.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 204.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 387

..........

______________________________

بأنه أثبت من كثير من العدول هذا.

مع وقوعه في سند كتاب كامل الزيارة و قد صرح ابن قولويه في ديباجة الكتاب بأنه لم يرو فيه الا الاخبار التي رواها الثقات غير المتصفة بالشذوذ.

مضافا الى ان عمل الأصحاب بالرواية يوجب الوثوق بصدورها و لعل ما ذكرنا، أو بعضه صار منشأ لتعبير شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عن الرواية بالموثقة، و اشتهارها بهذه الصفة بينهم، فيصح الاستناد إليها، كما ان دلالتها على عموم حجية البينة واضحة.

و منها: ما رواه الكليني (قدس سره) عن عبد اللّه بن سليمان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في الجبن قال:

كل شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة «1».

تقريب الدلالة: ان مورد الرواية و ان كان في قيام الشاهدين على وجود الحرمة- أي كون الميتة في الجبن- و لكن الظاهر منها بمناسبة الحكم و الموضوع: ان شهادة الشاهدين طريقة معتبرة كالعلم في إحراز متعلقة، و يكون ذكر الميتة من باب المورد فتكون شهادة الشاهدين من الطرق المعتبرة على نحو العموم من دون اختصاصها بمورد دون مورد.

و منها: ما رواه الصدوق (قدس سره) في الأمالي عن علقمة عن الصادق عليه السّلام: و فيه:

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و

الستر إلخ «2».

تقريب الدلالة هو ظهورها في ان شهادة العدلين في ارتكاب الذنب في عرض رؤيته طريق مثبت لارتكاب الذنب فكما لا تكون لرؤية الذنب خصوصية لا تكون في سائر الموضوعات فكذلك شهادة الشاهدين الا ما خرج.

______________________________

(1) الوسائل باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح/ 2.

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 13.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 388

..........

______________________________

و منها: ما رواه الكليني عن أبي ضمرة، عن أبيه عن جده قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أحكام المسلمين على ثلاثة:

شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمة الهدى عليهم السّلام «1».

يمكن استفادة عموم البينة لسائر الموضوعات من قوله عليه السّلام: أحكام المسلمين ثلاثة، فكما تعم سيرة أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و اليمين سائر الموضوعات فكذلك البينة و لكن في استفادة التعميم نوع خفاء.

و منها: غير ذلك من الروايات التي يجدها المتتبع و فيما ذكرناه كفاية.

و يمكن ان يستأنس لعموم اعتبار البينة مما ورد في عدم اعتبار شهادة النساء في موارد مثل روية الهلال، و الرجم، و القتل و نحوها حيث يستفاد منها اعتبارها في حق الرجال في جميع الموارد، كما انه يمكن ان يستأنس مما ورد في جواز شهادة النساء في موارد مخصوصة: كالعذرة و البكارة، و النفاس، و فيما لا تستطيع الشهادة للرجال نفوذ شهادتهم في كل ما يمكنهم الشهادة إلا ما خرج.

تقريب لعموم حجية البينة من أية النباء

الوجه الثاني: مفهوم آية النباء بضميمة موثقة مسعدة

يستدل لعموم حجية البينة بمفهوم أية النباء بضميمة موثقة بن صدقة لأن مفهوم الاية الشريفة يدل على حجية خبر العادل مطلقا في الأحكام و الموضوعات خرجنا عن تحت عموم خبر العدل الواحد في الموضوعات بالحصر المستفاد من

موثقة مسعدة فتصير البينة معتبرة مطلقا.

تسالم الأصحاب على عموم حجية البينة

الوجه الثالث: الإجماع

ادعى جماعة من الأصحاب عموم اعتبار البينة، و لا ريب ان المتتبع في

______________________________

(1) فروع الكافي ج 7/ 432.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 389

..........

______________________________

كلمات الأصحاب يجد تسالمهم على إثبات كل موضوع ذي حكم شرعي بها إلا في موارد خاصة و تريهم يعترفون بثبوت النجاسة و الطهارة و القبلة، و الوقت للصلاة، و أسباب التحريم في باب النكاح من النسب، و الرضاع، و ثبوت الوكالات للأشخاص، و عزلهم، و الوصايا الى غير ذلك من الموضوعات و الأحكام الجزئية من غير نكير لأحدهم في إثبات هذه الأمور بها الا الشاذ منهم.

و خلاف من خالف مع شذوذه انما هو في بعض الموارد من جهة أخرى غير إنكار حجية البينة بلحاظ دعوى ان ارتفاع الطهارة مثلا لا يكون الا بالعلم بالنجاسة و البينة ليست بعلم، نسب ذلك الى ابن براج في إثبات النجاسة بها.

و هو توهم لما تقرر في محله من ان أدلة حجية البينة و اخبار ذي اليد، بل كل حجة شرعية على النجاسة و لو كانت استصحابا حاكمة على قاعدة الطهارة.

نعم ربما يحكى عن السيد في الذريعة، و المحققين في المعارج و الجعفرية انه لا دليل على إثبات الاجتهاد بشهادة عدلين، و قد عرفت تواتر الأدلة على عموم حجية البينة.

و بالجملة الفقهاء لا يزالون يستدلون على ثبوت الموضوعات و ترتب آثارها عليها بقيام البينة عليها.

نعم هنا اشكال، و هو عدم استشكاف قول المعصوم عليه السّلام بهذا الإجماع لأنه من القريب ان يكون مستند المجمعين بعض الوجوه التي ذكرناها، فالإجماع محتمل المدرك لو لم يكن مظنونا أو معلوما فلا يصلح لاستناد.

نعم

يكون هذا الاتفاق و التسالم من الأصحاب يؤيد ما استظهرناه من موثقة مسعدة من كون البينة مثل العلم في إثبات الموضوعات بها.

تقريب لعموم حجية البينة من حجيتها في مورد الترافع و دفعه

الوجه الرابع: الفحوى بل الأولوية
اشارة

بتقريب ان الشارع جعل البينة حجة في مورد الترافع و المخاصمة، و قد قدمها

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 390

..........

______________________________

على ما في قبالها من الحجج كاليد و نحوها- غير الإقرار فإنه مقدم على البينة- فإذا ثبت حجيتها في باب القضاء و فصل الخصومة مع وجود المعارض و تكذيب المنكر إياها فهي حجة فيما لم يكن لها معارض بطريق اولى.

و لكن يناقش: بأنه لا دلالة لاعتبار شي ء في مورد الترافع و المخاصمة على اعتباره في غيره فضلا عن ان يكون أولى لأن بقاء النزاع و التخاصم مبغوض لدى الشرع، و ربما تنجر الى اختلال النظم و لذا تصدى الشارع لرفعه بأي وسيلة ممكنة، و لذا ترى ان اليمين مما يفصل به الخصومات شرعا مع انه غير معتبر في غير باب الخصومات فما تكون حجة في موارد الترافع لا يلزم ان تكون حجة على الإطلاق، فما ظنك بالأولوية.

و لكن الإنصاف كما أفيد ان استفادة عمومية اعتبارها لا من باب الأولوية بل من باب لحن الخطاب من حيث اعتبارها فيما يتعلق بحقوق الناس غير بعيد فتدبر.

و ربما يذكر وجوه أخر لعموم اعتبار البينة، و فيما ذكرناه كفاية.

فتحصل مما ذكرناه: عدم اختصاص حجية البينة و شهادة العدلين بموضوع دون موضوع و باب دون باب، بل تعم سائر الموضوعات إلا إذا ورد دليل على خلاف ذلك كما في باب الشهادة على الزنا و اللواط فاعتبر فيهما اربع شهادات الى غير ذلك.

الإشكال في حجية البينة في مثل الاجتهاد و الأعلمية و دفعه

بقي في المقام إشكال في حجية البينة في مثل الاجتهاد و الأعلمية و غيرهما مما لم تكن محسوسة بزعم ان الشهادة لا بد و ان تكون في الأمور المحسوسة فما لم تكن محسوسة

لا تقبل الشهادة لها أو عليها، و ملكة الاجتهاد أو أقوائيتها لا تكون محسوسة، و انما يحدس من يكون من أهل الخبرة و الاختبار.

و لكنه يدفع: بأن الأمور الحدسية على نحوين فتارة لا تكون لها طريق أو طرق محسوسة، و اخرى تكون لها ذلك فتكون قريبة من الحس و هو الذي يقل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 391

..........

______________________________

فيه الخطاء و تكون مقدماته موجبة للحدس عند أغلب الناس، فالشهادة على النحو الثاني حجة ببناء العقلاء الممضاة كالشهادة على الأمور المحسوسة حسبما قرر في محله و ما نحن فيه من قبيل الثاني كما لا يخفى.

ثم انه يظهر من المتن انه يعتبر في شهادة العدلين باجتهاد المجتهد أو باعلميته ان يكونا من أهل الخبرة، و لم تعارضها بينة تنفى ذلك.

اما اعتبار الخبروية فواضح لان ما يقع عليه الشهادة على قسمين فقسم منه لا يحتاج الشهادة عليه الى النظر و اعمال الفكر كالمحسوسات الواضحة و لا يعتبر ان يكون الشاهد فيه من أهل الخبرة و هو ظاهر.

و قسم أخر منه ما تكون محتاجة إليهما كباب التقويمات و الاروش و نحوهما و منه مسئلة الاجتهاد و الأعلمية فلا بد و ان يكون الشاهد في ذلك من أهل الخبرة لأن غير الخبير لا يكاد يعرفها و هو واضح فاعتبار الخبروية في هذا القسم شرط واقعي يعتبره العقلاء في مثل هذه الموضوعات، فامضاهم الشارع على ما هم عليه.

و بالجملة من لم يكن من أهل الخبرة لا يكاد يطلع على ملكة الاجتهاد.

نعم لا يلزم ان يكون مجتهدا بل إذا كان من أهل العلم و التمييز قريبا من الاجتهاد يمكن تشخيص الاجتهاد، بل الأعلمية، لكن مع مراقبة شديدة

و مزاولة مستمرة كما لا يخفى.

ينبغي الإشارة إلى أمرين.

الأمر الأول: انه هل يعتبر في البينة حصول الظن بصدقها، أو عدم الظن بخلافها، أو لا يعتبر شي ء منهما

وجوه.

الظاهر عدم اعتبار الظن بصدقها، بل لا يضر الظن بخلافها أيضا، لإطلاق دليل حجيتها فالبينة حجة سواء ظن بوفاقها، أم بخلافها، أم لا. نعم يعتبر عدم معارضتها بمثلها لعدم إمكان شمول الدليل للمتعارضتين لاستحالة التعبد بالنقيضين، أو الضدين و لا لأحدهما المعين، لأنه ترجيح بلا مرجح فتتساقطان، و قد تقدم ان المتسالم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 392

..........

______________________________

عليه عند الأصحاب في ذلك التخيير، ان لم يكن لإحديهما مزية، و الا فيؤخذ بذي المزية.

الأمر الثاني: إذا كانت احدى البينتين المتعارضتين أكثر عددا من الأخرى فهل ترجح على الأخرى أم لا؟
اشارة

وجهان.

فربما ترجح لوجود مزية فيها، و قد يقال بالعدم لان الترجيح بالأكثرية يختص بباب المراجعة عند القاضي لفصل الخصومة، و التعدي عنه يحتاج الى دليل غير موجود.

نعم إذا كان مستند البينة النافية الاستصحاب، و مستند البينة العلم الوجداني يقدم الثاني، و وجهه واضح، و المسئلة محتاجة إلى التأمل.

الأقوال في ثبوت الموضوعات بخبر الثقة

ينبغي تذييل البحث بالتعرض لثبوت الاجتهاد، أو الأعلمية بخبر الثقة و عدمه.

فنقول:

اختلف في ثبوت الموضوعات الخارجية بخبر الثقة، فقيل ثبوتها بخبر الثقة كما تثبت الأحكام به، و ذهب بعض الأعلام الى عدم الثبوت و انه فرق بين الموضوعات و الأحكام، كما أنه أشكل ثالث فلم يهتد الى ثبوت الموضوعات بخبر الثقة فاحتاط فيما قام عليه خبر الثقة، و فصل رابع بين الموضوعات فقال بالثبوت لو كان الموضوع مما يقع في إثبات الحكم الكلى و عدم الثبوت لو لم يكن كذلك.

سيوافيك ان شاء اللّه تفصيل المقال فيه في مسئلة طرق مثبتات النجاسة و إجماله

ما استدل به لثبوت الموضوعات بخبر الثقة و دفعه

هو ان مستند القائل بثبوت الموضوع بخبر الثقة هو انه لا فرق فيما أقيم لحجية خبر الثقة بين الاخبار عن الحكم و الاخبار عن موضوع ذي حكم، فإن عمدة ما يستدل لحجية خبر الثقة هو بناء العقلاء و سيرتهم على العمل بخبر الثقة فتريهم لا يفرقون بين قيامه على الموضوع أو الحكم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 393

..........

______________________________

و كذا مفهوم آية النباء الدال على حجية خبر العادل مطلقا، سواء كان في الأحكام أو في الموضوعات- بل مورد الآية الشريفة هو الاخبار عن الموضوع- و هو الاخبار عن ارتداد الوليد، و إخراج المورد قبيح.

مضافا الى ما في الاخبار الخاصة التي دلت على اعتبار خبر الثقة في الموضوعات و هي على طوائف مختلفة في أبواب متفرقة بحيث يمكن اصطياد عموم حجية خبر الثقة عن جلها.

فمنها: ما دل على ثبوت الوقت بأذان الثقة «1».

و منها: ما دل على ثبوت عزل الوكيل باخباره «2».

و منها: ما دل على ثبوت الوصية به «3».

و منها: ما دل على ثبوت استبراء الأمة بأخبار

الرجل إذا كان بايعا «4».

و منها: ما دل على ثبوت أصل النجاسة بخبره «5».

و منها: ما دل على النهى عن أعلام الغير بنجاسة ثوبه في أثناء الصلاة فلو لا ثبوت النجاسة بمجرد الأعلام لم يكن وجه لهذا النهي «6».

الى غير ذلك من الموارد.

و لكن لا يخفى: ان بناء العقلاء و ان كان على العمل بخبر الثقة مطلقا الّا انه كما ذكرنا غير مرة ان بناء العقلاء بما هو لم يقم على اعتباره آية أو لا رواية حتى يؤخذ بإطلاقها أو عمومها.

نعم ان أمضاه الشرع و لو بعدم الردع يكون حجة، و قد تقدم في إثبات

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب الأذان و الإقامة.

(2) الوسائل باب 2 من أبواب الوكالة.

(3) الوسائل باب 97 من أبواب الوصايا.

(4) الوسائل باب 5 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

(5) الوسائل باب 33 من أبواب مقدمات التجارة.

(6) الوسائل باب 47 من أبواب النجاسات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 394

..........

______________________________

حجية البينة ما دل على الردع عن بناء العقلاء في الموضوعات الخارجية فإن مقتضى موثقة مسعدة بن صدقة هو انحصار ثبوت الأشياء و الموضوعات الخارجية بالاستبانة، و البينة فلا يكاد تثبت بغير العلم و البينة.

و بها يخصص مفهوم آية النباء في الموضوعات فيعتبر فيها التعدد.

مضافا الى ان مفهومه يدل على حجية خبر العادل و واضح ان بين خبر العادل و خبر الثقة عموم من وجه.

و اما الاخبار الخاصة فمضافا إلى المناقشة في دلالتها على اخبار خبر الثقة و لو لم يكن في موردها- يد، أو اطمئنان، و علم بالمؤدى- انها موارد جزئية لا يظهر منها و لا يكاد يستفاد منها عموم حجية خبر الثقة في جميع الموارد

و في أي موضوع من الموضوعات فيقتصر على مواردها.

و بما ذكرنا يظهر وجه القول بعدم ثبوت الموضوعات بخبر الثقة فلا يبعد القول بعدم ثبوت الموضوعات الخارجية بخبر الثقة.

حجية خبر الثقة في الموضوع الواقع في طريق الحكم الكلى

و لكن يمكن الفرق بين الموضوعات فإن الاخبار عن الموضوع تارة يكون اخبارا عن الحكم الكلى بمدلوله الالتزامي، و اخرى لا يكون كذلك بل يكون اخبارا بمدلوله الالتزامي عن الحكم الجزئي.

فعلى الأول لا يبعد ان يقال انه حيث يكون في طريق إثبات الحكم الكلى يكون حجة لا تكاد تشمله موثقة مسعدة بن صدقة، و الا لا يكاد يمكن إثبات حجية خبر الواحد في الأحكام الكلية، ضرورة انه دائما يكون الاخبار بخبر الواحد اخبارا عن الموضوع حتى الاخبار عن السند لان فعل المعصوم عليه السّلام، أو قوله، أو تقريره، كسائر الموضوعات التي يصدر منه كإكرامه لزيد، أو توبيخه لعمرو، فان من جملة الحركات الخارجية الصادرة من الإنسان: القول، و الكلام، و الفعل، و العمل، و التقرير، و الإمضاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 395

..........

______________________________

فالحاكى عن هذه الأشياء في الحقيقة حاك عن موضوع خارجي، فالراوي إذا قال: حدثني جعفر بن محمد عليهما السّلام: أخبر بقوله هذا: عن كلام صدر منه، و هو مثل ما لو أخبر عن فعل خارجي تحقق منه، غاية الأمر ان ههنا متعلق القول حكم شرعي، بخلاف ما لو حكى عن شي ء ليس من مقولة الحكم فإنه يكون كشي ء تاريخي.

فتحصل: ان الاخبار دائما تحكي عن موضوع خارجي و أدلة حجية خبر الثقة انما تدل على حجية خبر الثقة في الموضوعات التي تقع في طريق إثبات الحكم الكلى، و موثقة مسعدة بقرينة المورد تدل على عدم حجية خبر الواحد في الموضوعات التي

تقع في طريق إثبات الحكم الجزئي.

و بالجملة الموضوع على نحوين فتارة يكون من طرق إثبات الحكم الكلى، و مرآة له، و اخرى يكون طريقا و مصداقا للحكم الجزئي.

و الخبر المثبت للقسم الأول اخبار عن شئون الحكم الشرعي الكلي بخلاف الثاني، فإن قلنا بحجية خبر الثقة في خصوص إثبات الحكم الكلى فالاعتبار مساعد لحجية ما يقع في طريق إثباته.

و على كل الشهادة بالاجتهاد أو الأعلمية من إثبات الموضوع في طريق الحكم الكلي فان لم نقل باعتبار خبر الثقة في إثبات الموضوعات الخارجية و قلنا بأنه لا بد فيها من شهادة العدلين و لكن يمكن ان يقال باعتبار اخبار الثقة بالاجتهاد، أو الأعلمية، لما أشرنا أنه إخبار عما يكون في طريق إثبات الحكم الكلى.

ذكر و تعقيب

لسيدنا العلامة الحكيم (قدس سره) بيان لثبوت الاجتهاد بخبر الثقة فقد وقع النقاش فيه فقال ما حاصله:

ان مقتضى عموم ما دل على حجية خبر الثقة في الأحكام الكلية حجية خبره باجتهاد المجتهد لان المراد منه ما يؤدي الى الحكم الكلى- سواء كان بمدلوله المطابقي، أو الالتزامي- و الاخبار باجتهاد المجتهد من قبيل الثاني لأن مدلوله المطابقي و ان كان أصل الاجتهاد، و هو اخبار عن الموضوع، الا ان مدلوله الالتزامي هو ثبوت

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 396

..........

______________________________

الحكم الواقعي الكلي الذي يؤدي إليه نظر المجتهد نظير أخبار زرارة عن قول الإمام الذي هو اخبار عن الموضوع يكون أيضا اخبارا عن الحكم الكلى و يكون حجة على المجتهد.

و توهم اختصاص أدلة حجية خبر الثقة بالأخبار عن الحس فلا تشمل الاخبار عن الاجتهاد الذي هو أمر حدسي.

مدفوع بأن الاخبار عن الاجتهاد من قبيل الاخبار عن الحس كالاخبار عن قول

الامام عليه السّلام، و دلالتهما على الحكم الكلى بالالتزام انما هو بتوسط الحدس غاية الأمر ان الحدس في الثاني من المجتهد و حجة عليه، و الحدس في الأول من المجتهد و حجة على العامي المقلد له.

و على هذا المبنى يكفى توثيق رجال السند بخبر الثقة و كذا في إثبات المعنى بأخبار اللغوي الثقة.

و لو قلنا بحجية خبر الثقة في الموضوعات كما عليه بناء العقلاء فالحكم أظهر لكنه محل تأمل لإمكان دعوى تحقق الردع عنه اه «1».

و لكن نوقش فيه أولا: بأن أدلة حجية خبر الثقة التي عمدتها بناء العقلاء، غير مختصة بما إذا كان المخبر به حكما كليا بل تعم الاخبار بالموضوع الخارجي فلا يلائم البحث عن شمول أدلة حجية خبر الثقة للموضوعات الخارجية بل الحرى بالبحث بعد شمول أدلة حجية خبر الثقة لكل من الاخبار عن الحكم الكلى و الموضوع الخارجي بخبر الثقة و قد عرفت مانعية موثقة مسعدة من ثبوت الموضوع الخارجي بخبر الثقة فلاحظ.

و ثانيا: بان مجرد الاخبار عن الاجتهاد لا يكون اخبارا عن الحكم الكلى بمدلوله الالتزامي لأن غاية ما يقتضيه هو ثبوت ملكة الاجتهاد، و تحقق القدرة على الاستنباط لا فعلية الاستنباط خارجا فمن الممكن تحقق ملكة الاجتهاد من دون ان يكون

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 38.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 397

..........

______________________________

استنباطا أصلا.

و ثالثا: بالفرق بين الاخبار عن اجتهاد المجتهد و اخبار زرارة عن قول المعصوم عليه السّلام و ذلك لأنه في اخبار زرارة عن الحكم الواقعي لا يرى للموضوع الخارجي- و هو قول المعصوم- واسطة أصلا بخلاف الاخبار عن اجتهاد المجتهد فإنه لا يتجاوز عن المخبر به و لا يعد اخبارا

عن الحكم بوجه «1».

قلت: و لا يخفى ما في النقاش الثاني لأن تحقق ملكة الاجتهاد بدون مزاولة الاستنباط أمر نادر لو لم يكن محالا عادة فالأخبار عن اجتهاد المجتهد يلازم الاخبار عن الحكم الإلهي فتدبر.

و بهذا يظهر ضعف النقاش الثالث لأن الاخبار عن اجتهاد المجتهد في الحقيقة عبارة عن الأحكام التي استنبطها، و في كلا الخبرين يكون اخبارا عن الموضوع و يلازم الاخبار عن الحكم و مجرد خفاء الواسطة في خبر زرارة، بخلافه في الاخبار عن اجتهاد المجتهد غير فارق فتدبر.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة ج 1/ 198.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 399

[مسئلة 21- إذا كان مجتهدان لا يمكن العلم باعلمية أحدهما]

اشارة

مسئلة 21- إذا كان مجتهدان لا يمكن العلم باعلمية أحدهما و لا البينة (1) فإن حصل الظن باعلمية أحدهما (2) تعين تقليده (3)، بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية يقدم، كما إذا علم انهما متساويان، أو هذا المعين اعلم و لا يحتمل اعلمية الأخر، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميته.

______________________________

(1) و لا غيرهما من الطرق المثبتة كالاطمينان.

(2) بخصوصه و لم يحتمل اعلمية الأخر، و مع احتمال اعلمية الأخر ففي صورة اختلافهما في الفتوى يأخذ بأحوط القولين ان أمكن، و الا فيتخير بينهما.

(3) الأقوى لزوم تقليد مظنون الأعلمية، أو محتملها في صورة العلم باختلافهما من حيث الفتوى تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها و الا فيتخير في تقليد أيهما شاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 400

..........

______________________________

أقول: كان ينبغي ان يضيف (قدس سره) الى قوله و لا البينة: و لا غيرها من الطرق المعتبرة كالاطمينان و اخبار العدل على اشكال في الأخير.

ظاهر المتن التفرقة بين الظن بالأعلمية و احتمالها و توجيهه

ثم ان ظاهر قوله: تعيّن تقليده في صورة الظن بالأعلمية بقرينة احتياطه في صورة محتمل الأعلمية هو الفتوى بتعيّن تقليد مظنون الأعلمية في المفروض مع انه قدس لم يفت في المسئلة الثانية عشر بلزوم تقليد الأعلم مع الإمكان بل احتاط. فما ظنك في صورة الظن بالأعلمية.

و قد تقدم ان تعيّن تقليد الأعلم انما هو في صورة العلم بالمخالفة بينه و بين غيره تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها و الا فمخير في تقليد أيهما شاء.

فإذا في مفروض المسئلة ان لم يعلم بالمخالفة بينهما فيتخير في تقليد أيهما شاء، و مع العلم بالمخالفة و لو إجمالا يأخذ بأحوط القولين ان أمكن الاحتياط، و الا فإن دار الأمر بين المحذورين،

أو كان الوقت ضيقا، لا يمكن الجمع بين الفتويين فمخير في تقليد أيهما شاء.

و الظاهر انه لا فرق بين صورتي الظن بالأعلمية و احتمالها (فتوى، و احتياطا) في مفروض المسئلة كما لا يخفى، فما يتراءى من المتن من التفرقة بينهما بالفتوى بالتعيين في صورة الظن بالأعلمية و الاحتياط في صورة احتمالها غير ظاهر مع انه لا يساعد ما ذهب إليه في المسئلة الثانية عشر من الاحتياط بلزوم تقليد الأعلم مع الإمكان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 401

..........

______________________________

الا ان يقال انه لم يفت في مفروض المسئلة بقرينة ما ذهب إليه في المسئلة المتقدمة، و قوله في نفس المسئلة بتقديم محتمل الأهمية أولا مع تصريحه بالاحتياط أخيرا فتدبر.

ثم ان الظاهر ان مفروض المسئلة ما هو ما إذا ظن أو احتمل اعلمية أحدهما و لم يظن أو لم يحتمل اعلمية الأخر، و اما مع ذلك فله حكم أخر سنشير اليه.

صور الظن أو الاحتمال باعلمية أحد المجتهدين و حكمها

و كيف كان يمكن تصوير المسئلة ثلاثية الأطراف بان احتمل اعلمية زيد مثلا من عمرو، و اعلمية عمرو من زيد و احتمل تساويهما، كما يمكن تصويرها ثنائية الأطراف بان احتمل تساويهما مع احتمال اعلمية أحدهما المعين. و لكل منهما صورتان.

اما صورتا ثلاثية الأطراف: فلأنه مع احتمال تساويها تارة يكون احتمال اعلمية كل من زيد بالنسبة إلى عمرو، و بالعكس احتمالا مساويا، و اخرى يكون مع مظنة اعلمية أحدهما.

و اما صورتا ثنائية الأطراف: فلانة تارة يكون مقرونا بالعلم الإجمالي باعلمية أحدهما و لكن يحتمل كونه زيدا، أو عمرا، و اخرى لا يكون مقرونا بذلك و هو ما إذا احتمل تساويهما، و احتمل اعلمية خصوص أحدهما.

و على جميع التقادير اما يعلم بمخالفتهما من حيث الفتوى

تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها، أو لا يعلم ذلك، و مع العلم بالمخالفة اما يتمكن من الاحتياط بين الفتويين، أو لا يتمكن من ذلك.

و قد تقدم منا في ذيل المسئلة الثانية عشر، ان الأقوى لزوم تقليد الأعلم في صورة الاختلاف في الفتوى إذا كانت فتواه مطابقة للاحتياط، سواء كانت فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط من جهة أخرى أم لا.

و اما مع عدم العلم بالمخالفة فلا يجب تقليد الأعلم مع العلم التفصيلي بالأعلمية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 402

..........

______________________________

فضلا عما علم إجمالا، أو ظن أو احتمل بها فلا يلزم الأخذ بمظنون الأعلمية أو محتملها عند عدم المخالفة في الفتوى بل يتخير في تطبيق العمل بأي منهما.

و اما عند مخالفتهما من حيث الفتوى تفصيلا، أو إجمالا فذهب بعض الأساطين دام ظله إلى الأخذ بأحوط القولين لمناقشته في أدلة التخيير، و حكمه بتساقط الفتويين و لا اثر للظن باعلمية أحدهما فضلا عن احتماله لعدم الدليل على اعتبار الظن في المقام «1» و لكن تقدم منا عدم المساعدة معه: بعد تسالم الأصحاب على التخيير عند المعارضة و عدم وجوب الاحتياط، اما لتمامية ما دل على التخيير بين الخبرين بضميمة عمل الأصحاب بخبر الضعيف الدال على التخيير و إلحاق الفتويين بالخبرين أو لتحقق الإجماع على التخيير بين الفتويين المختلفتين.

فعلى هذا إذا كان أحدهما المعين مظنون الأعلمية أو محتملها يكون داخلا في باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية، و قد تقدم ان العقل مستقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيينه للعلم بأنه حجة و معذرة على كل حال، و حجية الآخر و معذريته غير محرزة.

هذا كله إذا أمكن الاحتياط.

و اما إذا

لم يتمكن من الاحتياط اما لعدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين، أو لأن أحدهما افتى بوجوب الشي ء و الأخر بحرمته، فلا محالة يتخير بينهما، و قد صرح بذلك بعض الأساطين دام ظله و قال في وجهه.

«انه للعلم الإجمالي بوجوب تقليد الأعلم و هو مردد بين شخصين، و لا مرجح لأحدهما على الأخر.

و في هذه الصورة إذا ظن باعلمية أحدهما، أو احتملها وجب الأخذ به للفرق بين صورة إمكان الاحتياط و عدمه لتساقط الفتويين في الأولى دون الثانية، لأن الأحكام الواقعية منجزة عليه بالعلم للاجمالى غير مرتفعة عنه فحيث لا يمكنه الاحتياط فلا مناص

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 117.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 403

..........

______________________________

الا من اتّباع احدى الفتويين فاذا احتمل أو ظن باعلمية أحدهما، يدور أمر المكلف بين التعيين و التخيير و العقل يستقل بالأخذ بما يحتمل تعيينه» «1».

تنبيه

و لا يخفى ان ما ذكرنا من لزوم الأخذ بمظنون الأعلمية، أو محتمله انما هو في التقليد الابتدائي، و اما بعد التقليد الصحيح ان ظن، أو احتمل اعلمية غير المجتهد الذي كان يقلده فالأحوط تركه.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 213.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 405

[مسئلة 22- يشترط في المفتي أمور]

اشارة

مسئلة 22- يشترط في المجتهد (1) أمور: (2)

______________________________

(1) و من يصح تقليده.

(2) يشكل اعتبار بعض الأمور المسطورة، و يقوى عدم اعتبار بعضها الأخر، نعم يمكن المساعدة على اعتبار بعضها و سنشير الى المختار منها، و ربما يذكر أمور أخر يتجشم في اعتبار بعضها و يستغنى عن بعضها الأخر بهذه الأمور.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 406

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 406

البلوغ (3) و العقل، و الايمان، و العدالة، و الرجولية و الحرية، على قول (4) و كونه مجتهدا مطلقا (5) فلا يجوز تقليد المتجزى، و الحيوة (6) فلا يجوز تقليد الميت ابتداء، نعم يجوز البقاء (7) كما مر، و ان يكون اعلم، (8) فلا يجوز على الأحوط (9) تقليد المفضول مع التمكن من الأفضل، و ان لا يكون متولدا من الزنا، و ان لا يكون مقبلا على الدنيا (10) و طالبا لها مكبا عليها مجدا في تحصيلها، ففي الخبر من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه.

______________________________

(3) على الأحوط.

(4) ينبغي مراعاتها.

(5) لم يشترط ذلك، و الأقوى جواز تقليد المجتهد المتجزى فيما اجتهد فيه

إذا استنبط مقدارا معتدا به بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه، و العارف بالأحكام، و نحوها، بل قد يجب تقليده إذا كان اعلم من غيره أو كانت فتواه المخالفة للمجتهد المطلق موافقة للاحتياط.

(6) يعنى ابتداء.

(7) بل يجب البقاء إذا كان الميت أعلم في المسائل التي عمل بها.

(8) ليست الأعلمية شرطا للتقليد نعم فيما إذا علم اختلاف فتواه الموافقة للاحتياط لفتوى غيره فالأقوى تقليده.

(9) بل على الأقوى كما تقدم لكن في صورة العلم بالمخالفة و كون فتواه مخالفة للاحتياط.

(10) على الأحوط، و المستفاد من الخبر الشريف اعتبار التقوى الأكيد و الورع الشديد، و ان شئت قلت المرتبة العالية من العدالة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 407

..........

______________________________

أقول: تنقيح المقال في المسئلة يستدعي البحث في مقامين- كما أشرنا إليهما في أصل التقليد، و في مسئلتي تقليد الأعلم، و تقليد الميت- من مقتضى عقل العامي في المسئلة، و ما يقتضيه الأدلة.

المقام الأول في حكم عقل العامي في المراجعة إلى المجتهد

لا ينبغي الإشكال في ان عقل ارتكازي العامي، و من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد في تفريغ ذمته عما اشتغلت بالتكاليف يدعوه الى الرجوع الى مجتهد جامع لجميع الشرائط التي يحتمل دخالتها في مرجع الفتوى لأنه بالمراجعة الى غير الواجد لها و لو لشرط واحد منها فمشكوك فيه، فلا يكاد يكتفى به في مقام تفريغ الذمة.

نعم ان كانت فتوى الفقيه الجامع للشرائط عدم اعتبار شرط في التقليد- مثلا إذا رأى جواز تقليد المتجزى- فيصح للعامي تقليد المتجزى من ناحية فتوى الفقيه الجامع، و الفرق بينهما واضح.

المقام الثاني فيما تقتضيه الأدلة في المراجعة إلى المجتهد مقتضى الأصل في المسئلة

و ليعلم أولا انه إذا شك في اعتبار شرط في حجية فتوى المجتهد فمقتضى الأصل اعتباره، لان الشك في مقام الامتثال و إسقاط التكليف المعلوم ثبوته بأصل الشريعة، لا في أصل التكليف، و قد قرر في محله ان الشك كلما كان في مقام الامتثال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 408

..........

______________________________

و سقوط التكليف المعلوم و لو بالإجمال يكون المرجع الاشتغال، و كلما كان الشك في أصل التكليف يكون المرجع البراءة، و المقام من قبيل الأول لأن مرجع الشك الى سقوط التكاليف المعلومة بأصل الشريعة بالتقليد، و المراجعة إلى المجتهد و العمل بفتياه.

نعم ان دل دليل على عدم اعتبار ما احتمل اعتباره فيؤخذ به.

و بالجملة كلما شك في اعتباره في المجتهد فمقتضى الأصل اعتباره ما لم يدل من الشرع عموما أو خصوصا على عدم اعتباره.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:

عمدة الدليل على حجية الفتوى هي بناء العقلاء الممضاة شرعا و لو بعدم الردع فان ثبت في مورد نرفع اليد عن ذلك الأصل و نأخذ بما بنو عليه الا إذا ثبت ردع من الشرع عنه فاذا لم يثبت

ردع من الشرع نأخذ بما بنو عليه.

الشرائط التي ذكر في المتن لمرجع الفتوى

اشارة

الشرائط التي يذكر في المجتهد و من يصح تقليده أمور عدها الماتن أحد عشر امرا، و ربما يذكر غيرها فنذكر أولا ما أورده (قدس سره) و نشير الى ما هو المختار فيها، ثم نعقّبها بما أضيف إليها، و نعطف النظر إليها فنقول:

الشرط الأول: البلوغ
اشارة

و ليعلم انه لا بد من ملاحظة كل واحد من الشرائط بحياله منفكا عن سائر الشرائط بحيث لو كان المجتهد واجدا لجميع الشرائط ما عدى البلوغ مثلا فيبحث فيه بأنه هل يصح المراجعة إلى المجتهد الواجد لجميع الشرائط ما عدى البلوغ أم لا بد من كونه بالغا، و هكذا في اعتبار العقل لا بد من قصر النظر على اعتبار العقل بخصوصه مع استجماعه لسائر الشرائط، و هكذا بقية الشرائط.

فما يظهر من بعضهم لاعتبار البلوغ مثلا- من انه لا اطمينان بآراء الصبي و استنباطاته بعد رفع القلم عنه و عدم تكليف له و عدم رادع و حاجز له في ارتكاب المعاصي فلا طريق الى عدم خيانته، و كذبه و لو تعبدا- فغير وجيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 409

..........

______________________________

لان محط البحث كما أشرنا هو فيما إذا اجتمع في الصبي سائر الشرائط المعتبرة و منها العدالة و ترك المعاصي و إتيان الواجبات و بالجملة لا بد من قصر النظر على جهة الصباوة.

فالصبي الذي إذا رأيناه و زاولناه سرا و علانية، و لم نر منه عملا مخالفا للعرف و العقلاء، و الشريعة المقدسة بل آتيا بجميع محامد الصفات، و الواجبات تاركا لمساوي الأخلاق تاركا للمحرمات يحصل لنا الاطمئنان و الوثوق بإيمانه بل ربما يحصل الاطمئنان منه ما لم يحصل من البالغ، و لعمر الحق انه واضح.

الوجوه التي يستدل بها لعدم اعتبار البلوغ و دفعها

يستدل لعدم اعتبار البلوغ في مرجع الفتوى بوجوه.

منها: بناء العقلاء حيث لم يفرقوا بين البالغ و غيره إذا حاز غير البالغ مراتب الفضل حتى صار كالبالغ فتريهم لا يعتبرون البلوغ في رجوع الجاهل منهم الى العالم فاذا كان غير البالغ واجدا لكل ما يجده البالغ، و ماهرا

في صنعة الطبابة مثلا فيراجعون اليه من غير نكير و لو فرض كون الصبي أعلم من غيره لكان المراجعة إليه منهم بلا ريب و اشكال.

و لكنه لا يخلو عن مناقشة: لعدم تعارف حيازة غير البالغ مراتب الفضل الا نادرا في قرون متطالية فما ظنك بوجود البناء منهم عليه.

و غاية ما يمكن ان يقال انه على فرض حيازة غير البالغين تلك المراتب لا يكادون يفرقون العقلاء بينهم و بين البالغين، فالبناء منهم إذا تقديري لا فعلى، و قد تقرر في محله ان مجرد بناء العقلاء على أمر ما لم ينضم إليه رضي الشارع لا يكاد يكون حجة و متبعا، و لذا يتجشم في تقرير بناء العقلاء بكونه في مرئي من الشارع و مسمع منه ليستكشف من عدم ردعه رضائه به، و أنت خبير بان هذا في البناء الفعلي بمكان من الإمكان، و اما إجرائه في البناء التقديري فدون إثباته خرط القتاد.

فظهر ان التمسك ببناء العقلاء و السيرة العقلائية على المراجعة الى غير البالغ

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 410

..........

______________________________

ليس كما ينبغي.

و منها: إطلاقات أدلة التقليد لصدق عنوان أهل الذكر، و العالم، و الفقيه، و الناظر في الحلال و الحرام، و راوي الحديث و نحو ذلك على غير البالغ كصدقها على البالغ.

و لكن يناقش في ذلك أولا: بدعوى انصرافها الى الإفراد المتعارفة لما أشرنا من ندرة وجود غير البالغ الحائز لمراتب الفضل في طول القرون و الأعصار الموجب لندرة استعمال تلك الألفاظ فيه فتأمل.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في الإطلاق و معه لا يتم الاستدلال.

و ثانيا: على تقدير الإطلاق فقد يقال بتقييدها بما يستفاد منه اعتبار الرجولية

كقول الصادق عليه السّلام في رواية ابى خديجة. و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا إلخ «1» حيث أمر عليه السلام بالمراجعة الى رجل منهم يعلم شيئا من قضاياهم.

و قوله في رواية أخرى لأبي خديجة: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا إلخ «2» فقد أمر عليه السّلام بجعل رجل منهم لذلك.

و قوله عليه السّلام في مقبولة عمرو بن حنظلة: ينظر ان من كان منكم ممن روى حديثنا و نظر في حلالنا إلخ «3» حيث ان المتبادر من لفظة (منكم) كون الراوي من الرجال.

و قوله عليه السّلام في خبر الاحتجاج: من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه الى قوله فللعوام ان يقلدوه «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(4) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 411

..........

______________________________

حيث ان المتبادر من الجمع المذكر كون الفقهاء من الرجال الى غير ذلك من الاخبار.

و بالجملة اعتبار الرجولية المقابلة للصباوة في القاضي يقتضي اعتبارها في الفتوى مع ان الخبر الأخير في مورد الفتوى.

و لكن لا يخفى ما فيه أولا:

بأنه لو كان لأدلة التقليد إطلاق، و لم نقل بانصرافها عن الصبي غير البالغ لا يصلح ما ذكر للتقييد، بداهة ان ذكر عنوان الرجولية فيما ذكر وارد مورد الغالب، لا بلحاظ مقابلتها للصباوة، كما هو الشأن في كثير من الموضوعات المأخوذة موضوعات للأحكام في الأبواب المتفرقة، و لذا ترى في اخبار الشكوك: عبر: ان الرجل إذا شك كذا. فله كذا. مع عدم اختصاص

أحكام الشكوك بالرجل، بل يعم مطلق الشاك و لو كان أمرية، أو صبيّا، و لأجل ذلك يرى المشهور مشروعية عبادة الصبي مع ان لسان أكثر أدلة مشروعية العبادات مخصوصة بالمكلف كما لا يخفى.

و ثانيا: ان أبيت إلا عن لحاظ عنوان الرجولية فيما ذكر فيمكن ان يقال ان غاية ذلك هي مقابلتها لعنوان المرية كما سيجي ء لا ما يعم الصبي فتدبر.

و ثالثا: ان مورد غير خبر الأخير باب القضاء و لا ملازمة بين بابى القضاء و و الفتوى، الا ان يقال ان منصب القضاء ملازم للفتوى و لا عكس، فما دل على اعتباره في القضاء يكون في الفتوى فتأمل.

و منها: حكم العقل الارتكازي حيث انه لا يفرق بين البالغ و غيره، و لا يرى للبلوغ اى شأن في صحة المراجعة، ما لا يراه لغير البالغ الحائز مرتبته.

و بالجملة العقل المصحح لمراجعة الجاهل الى العالم لا يفرق بين البالغ و غيره إذا حاز غير البالغ مراتب الفضل كالبالغ فيصح المراجعة الى غير البالغ الحائز مراتب الفضل فيتم الاستدلال به الا إذا قام دليل على اعتبار البلوغ، فربما يذكر وجوه لاعتباره في مرجع الفتوى فان تم نرفع اليد عن حكم العقل و الا فحكم العقل متبع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 412

الوجوه التي يستدل لاعتبار البلوغ في مرجع الفتوى
الوجه الأول: الإجماع

______________________________

قال شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره): «يعتبر في المجتهد أمور: البلوغ، و العقل، و الايمان، و لا إشكال في اعتبار الثلاثة» «1».

فتراه (قدس سره) جعل اعتبار البلوغ فيه من الأمور المسلمة.

و المحقق الأصفهاني (قدس سره) بعد ذكر أمور منها البلوغ في المفتي قال: «و لو لا التسالم على الكل من الكل لأمكن المناقشة في الكل» «2».

يظهر منه تسالمهم على اعتبار

البلوغ فيه.

و قال والدنا العلامة (قدس سره) بعد ذكر أمور في مرجع الفتوى التي منها البلوغ:

«ان اعتبار تلك الأمور في مرجع الفتوى مما تسالم عليه الكل فلا جدوى في تطويل الكلام فيها ببيان المناقشة» «3».

قلت: ان تم الإجماع التعبدي فبها، و الا فلو كان تسالمهم عليها من جهة سائر الوجوه، أو ظن، أو احتمل ذلك فلا ينفع.

الوجه الثاني: بعد تصدى الصبي المراهق لمرجعية العظمى للمسلمين،
اشارة

و لعل تصدى غير البالغ للإفتاء، و المرجعية أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدسة بحيث يتنزهون مقام الإفتاء و المرجعية عن غير البالغ.

و ربما يتنزهون عن بعض البالغين ممن لم يمض عن بلوغه مدة كثيرا، بل ربما يستشمّ اعتبار الشيخوخة فيه من قوله عليه السّلام: اصمدا في دينكما على كل مس في حبنا، و كل كثير القدم في أمرنا «4» فما ظنك باعتبار البلوغ.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 59.

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 50.

(3) رسالة التقليد/ 14.

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 413

..........

______________________________

و فيه: انه لم يقم دليل على ذلك سوى الاستبعاد و لا يعول على الاستبعاد بعد مساعدة الدليل، و كان الصبي المراهق مستجمعا لسائر الشرائط المعتبرة في مرجع الفتوى بل إذا كان اعلم من البالغين.

و لقد أجاد المحقق الأصفهاني (قدس سره): حيث قال ان الواضح ان أمر الفتوى من حيث المنصب ليس بأعظم من النبوة، و الإمامة فليس شمول الأدلة له مع وجود سائر الشرائط امرا مستشبعا «1».

و بالجملة كما أفيد: استبعاد ان يكون المقلد للمسلمين صبيا مراهقا إذا كان واجدا لسائر الشرائط مما لا وقع له كيف؟! و من الأنبياء، و الأوصياء عليهم أفضل الصلاة من بلغ مرتبة النبوة، أو الإمامة فلا تكون

منافية للمرجعية ابدا و لم نستفد من مذاق الشارع ان تصدى غير البالغ للإفتاء و المرجعية أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدسة «2».

تصدى عيسى و يحيى عليهما السّلام للنبوة حال الصباوة

قلت: أشار بقوله تصدى بعض الأنبياء أو الأوصياء للنبوة، أو الإمامة إلى نبوة عيسى عليه السّلام و قد فوضت اليه منصب النبوة و قد كان في المهد صبيا قال تعالى حكاية عنه إِنِّي عَبْدُ اللّٰهِ آتٰانِيَ الْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً «3» و الى نبوة يحيى بن زكريا (على نبينا و آله عليهما السّلام): قال تعالى يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «4».

تصدي الإمام الجواد (ع) للإمامة و هو ابن سبع سنين

و الى إمامه سيدنا و مولانا جواد الأئمة عليهم السلام، و قد فوض اليه منصب

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 50.

(2) التنقيح ج 1/ 215.

(3) مريم: 19/ 30.

(4) مريم: 19/ 12.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 414

..........

______________________________

الإمامة و قد بلغ من العمر سبع سنين.

و ذلك لأنه عليه السّلام كما في إرشاد المفيد: ولد في شهر رمضان سنة خمس و تسعين و مأة بالمدينة، و قبض بالبغداد في ذي القعدة سنة عشرين و مائتين، و له يومئذ خمس و عشرون سنة، و كانت مدة خلافته لأبيه، و إمامته من بعده سبع عشرة سنة اه «1» فيكون سنه عند وفاة أبيه عليهما السّلام سبع سنين.

تصدي الإمام الهادي (ع) للإمامة و هو ابن ثمانية سنة

و الى إمامه سيدنا الامام الهادي عليه السّلام، فقد فوض اليه منصب الإمامة و قد بلغ من العمر ثمانية سنة.

و ذلك لأنه عليه السّلام كما في إرشاد المفيد: كان مولده بصربا بمدينة للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة و مائتين و توفي بسر من رأى في رجب سنة أربع و خمسين و مأتين و له يومئذ احدى و أربعون سنة و أشهر. الى ان قال: و كانت مدة إمامته ثلاثا و ثلاثين سنة «2» فيكون سنه عند وفاة أبيه ثمانية سنة.

تصدي الإمام الحجة بن الحسن (ع) للإمامة و هو ابن خمس سنين

و الى إمامه سيدنا صاحب الأمر حجة بن الحسن العسكري عجل اللّه فرجه الشريف و قد فوض اليه منصب الإمامة و هو ابن خمس سنين.

و ذلك لان مولده عليه السّلام كما في إرشاد المفيد: كان ليلة النصف من شعبان سنة خمس و خمسين و مأتين و امه أم ولد يقال لها نرجس، و كان سنه عند وفاة أبيه خمس سنين أتاه اللّه فيها الحكمة و فصل الخطاب و جعله آية للعالمين، و أتاه اللّه الحكمة، كما أتاها يحيى صبيا، و جعله اماما حالة الطفولية الظاهرة كما جعل عيسى بن مريم في المهد صبيا «3».

______________________________

(1) المصدر ط النجف الأشرف/ 356.

(2) المصدر ط النجف الأشرف/ 367.

(3) المصدر ط النجف الأشرف/ 390.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 415

الوجه الثالث: ان المحجورية المطلقة للصبي بحيث لا يجوز له التصرف في أموال نفسه و لا في أموال الغير إلا بإذن وليه،

______________________________

تنافي المرجعية للفتوى فان من وظائف المرجع حفظ أموال القصّر و الغيّب، و الأموال المجهولة مالكها و صرفا في مواردها المقررة و التصدي للأمور الحسبية و غيرها.

و فيه: ان محل البحث حجية فتوى الصبي و آرائه و جواز العمل بما استنبطه و لا ينافي ذلك محجوريته للتصرف في أموال نفسه و غيره.

و بالجملة باب المرجعية في الفتوى و حجية آراء الصبي غير باب المرجعية في حفظ الأموال و صرفها في مواردها فيصح ان يقال بجواز الإفتاء للصبي و حجية فتواه لغيره و لكن لا يجوز تصرفاته في أموال نفسه و غيره فتدبر.

الوجه الرابع: ما ورد: ان عمد الصبي و خطاءه واحد

كما في خبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال عمد الصبي و خطأه واحد «1».

و خبر إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه ان عليا عليهم السّلام كان يقول عمد الصبيان خطا يحمل على العاقلة «2».

تقريب الدلالة هو انه يستفاد منهما إلغاء أفعال الصبي عن الاعتبار و منها أقواله و آرائه و فتاواه فلا حجية للفتاوى الصادرة خطأ.

و فيه أولا: ان المستفاد منهما أجنبي عما نحن بصدده لان المراد من ان عمد الصبي خطأ بقرينة ما في ذيل خبر إسحاق هو ان دية الصبي في القتل خطا على عاقلته لا ان كل ما يصدر عنه فهو بحكم الخطاء في الشريعة بحيث لو قلنا بمشروعية عبادات الصبي كما هو المشهور لم تبطل صلاته إذا تكلم فيها عمدا فتدبر.

و ثانيا: أو ان أبيت عن اختصاصهما بمورد القتل فلا أقل لا إطلاق لهما بحيث يشمل كل ما يصدر منه حتى أقواله، و آرائه، و القدر المتيقن منه هو خصوص

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب العاقلة ح/ 2.

(2) الوسائل باب 11 من

أبواب العاقلة ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 416

..........

______________________________

أفعاله الصادرة منه و المعاملة مع أفعاله و تروكه معاملة الخطاء و عدم المؤاخذة بهما فلا يشمل أقواله و آرائه فلا يستفاد بطلان آرائه و عدم اعتبار فتواه و هو واضح.

الوجه الخامس: ما ورد من رفع القلم عن الصبي
اشارة

كخبر ابن ظبيان قال اتى عمر بامرئة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال على عليه السّلام: اما علمت ان القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى يستيقظ «1».

و بمضمونه أخبار كثيرة في أبواب متفرقة.

يستفاد من رفع القلم عن الصبي محجوبيته عن التصرف، و انه مولّى عليه و من كان بهذا الشأن كيف يصح تقليده و أخذ آرائه.

و فيه: ان ظاهر الرفع هو رفع المؤاخذة بأفعاله و تروكه و انه لا يعاقب عليها و ظاهر ان ذلك لا يقتضي عدم جواز تقليده و الحكم ببطلان أقواله و عدم اعتبار آرائه و فتاواه.

فتحصل انه بعد عدم تعارف حيازة غير البالغ تلك المراتب يحكم العقل الارتكازي بعدم الفرق في الرجوع الى العالم بين كونه صغيرا أو كبيرا إذا اجتمع في الصغير ما اعتبر في الكبير، فلو اعتبر البلوغ فإنما هو بتعبد من الشرع، و قد عرفت عدم تمامية الوجوه المذكورة لاعتبار البلوغ في مرجع الفتوى.

و لكن عرفت حكاية الإجماع و تسالم الأصحاب على اعتبار البلوغ فان تم و كان بحيث يكشف و يحدس عن رأى المعصوم عليه السّلام و لم يظن ان مستندهم تلك الوجوه المزيّفة فهو و الا فلا يكاد ينفع.

و لكن مع ذلك كله تحفظا للخروج عما ادعى تسالم الأصحاب عليه فالأحوط اعتباره، و الذي يهون الخطب عدم كون المسئلة مبتلى

بها.

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب مقدمات العبادة ح/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 417

تنبيه

______________________________

و لا يخفى ان محل الكلام اعتبار بلوغ المجتهد في زمان العمل بفتياه، و اما إذا استنبط الأحكام قبل البلوغ على الموازين المقررة و لم يعدل عنها بعد البلوغ فلا ينبغي الإشكال في جواز الرجوع اليه قال شيخنا الأعظم قدس في الرسالة:

«الظاهر ان الاجتهاد في حال الصغر، أو عدم الايمان و كذا الإفتاء حالهما لا يضر إذا كان في زمان العمل بالغا مؤمنا» «1».

الشرط الثاني: العقل
اشارة

لا إشكال في اعتبار العقل حال الاستنباط، و جميع الأدلة من الآيات، و الروايات و حكم العقل، و بناء العقلاء متطابقة على اعتباره، ضرورة ان عنوان الفقيه و العارف بالأحكام، و الناظر في الحلال و الحرام و غيرها من العناوين لا تكاد تنطبق على من لم يكن له عقل و دراية و لا ميزان لفهمه و درايته و لا لشي ء من اعماله و أقواله، و بناء العقلاء جار على رجوع الجاهل منهم الى العالم العاقل، لا الى من لا عقل له و من يفعل ما يريد بلا دراية، و لا ميزان، و يهرول في الشوارع و الأسواق بلا غرض و هدف، و يضرب هذا و يهتك ذاك، و يأكل ما تمكن من اكله الى غير ذلك.

و بالجملة لا إشكال في اعتبار العقل حال الاستنباط و قد عرفت من شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) حكاية تسالم الأصحاب عليه فالأدلة متطابقة على اعتبار العقل حال الاستنباط.

حكم اعتبار العقل حال العمل بالفتوى

و لكن وقع الكلام في اعتبار العقل بحسب البقاء في حجية ما استنبطه حال درايته و عقله و ان وزان العقل هل وزان الحيوة أم لا؟.

فاذا استنبط حال الدراية و العقل و أخذ العامي الفتوى منه في ذلك الحال- و افرض

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 59.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 418

..........

______________________________

انه عمل بفتياه حال إفاقته- ثم طرء عليه الجنون هل يجوز له البقاء على تقليده كما هو الشأن بالنسبة إلى الحيوة- و قد تقدم- أولا يجوز بل لا بد من بقائه على صفة العقل حال العمل بفتياه؟ وجهان.

ربما يتوهم من ان مقتضى جواز الرجوع الى الميت و جواز البقاء على تقليد الميت هو جوازه في المقام.

و

لكن الحق اعتبار العقل حال العمل بفتياه أيضا و ذلك لا من جهة الأدلة اللفظية و بناء العقلاء، لان مقتضى إطلاقات الأدلة و بناء العقلاء فيه هو الشأن في اعتباره الحيوة بل اعتباره بلحاظ ان المرتكز في أذهان المتشرعة الواصل إليهم يدا بيد هو عدم رضي الشارع الأقدس بزعامة المجنون و من لا عقل له للفتوى، و يرون الجنون منقصة للرجل دون الموت.

الفرق بين الحيوة و بين الجنون و الهرم و المرض

و قد أشرنا سابقا الى ضعف ما استشهد به المحقق الخراساني (قدس سره) و مقايسة الحيوة بالجنون و الهرم، و المرض من جهة عدم بقاء الرأي في شي ء منها، و لذا ذهب الى عدم جواز بقاء تقليد الميت كما لم يجز البقاء على تقليد المجنون الذي كان حال الاستنباط عاقلا.

توضيح الضعف هو ان عدم الجواز عند طرو الجنون و الهرم و المرض ليس لعدم بقاء الرأي بل لجهة أخرى و هو ان المتصف بالجنون مثلا لا يليق- و لو باعتبار فتاواه السابقة- بزعامة المسلمين و مرجعية الفتوى لسقوطه عن الانظار بطرو حالة الجنون و نحوه عليه، و هذا بخلاف الموت فإنه لا يوجب نقصا على الإنسان بل هو كمال للنفس لتجردها من عالم المادة و لوازمها و انتقالها الى عالم المجردات و كمالاتها و لذا طرء الموت على أشرف الأنبياء و المرسلين و لم يطرء الجنون على أحد من الأنبياء.

مضافا الى دعوى الإجماع القطعي و تسالم الأصحاب على اعتبار العقل في مرجع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 419

..........

______________________________

الفتوى حالتي العمل بفتياه و حال استنباطه فالأحوط الأقوى اعتبار العقل في مرجع الفتوى في الحالتين.

هذا كله في الجنون الإطباقي.

حكم تقليد المجنون الأدواري

و اما المجنون الأدواري- و هو الذي يعقل زمانا و يجنّ أحيانا- فهل يجوز تقليده حال إفاقته أم لا؟ وجهان.

من عدم المحذور في الرجوع اليه حال إفاقته لشمول إطلاقات الأدلة، و حكم العقل، و بناء العقلاء.

و من ان طرو الجنون لشخص يوجب منقصة فيه بحيث يوجب انحطاط درجته بين الناس، و سقوطه من أعينهم.

الأحوط عدم جواز تقليد المجنون الأدواري حال إفاقته.

الشرط الثالث: الايمان
اشارة

و المراد بالايمان معناه الأخص فمرجعه الى اعتبار كون مرجع الفتوى اثنى عشريا، فلا يصح تقليد الكافر، و المخالف، و من انتحل الى أحد من المذاهب الباطلة في الدين و المذهب.

و لا يخفى ان حكم العقل و بناء العقلاء و ان كان على عدم اعتبار الايمان في مرجع الفتوى ضرورة ان حكم العقل، و بناء العقلاء مستقر على رجوع الجاهل الى العالم من غير فرق بين كونه مؤمنا، أو مسلما، أو كافرا، و لا يرون اى فرق بين المؤمن و المخالف، و الكافر في المراجعة إليه بعد إحراز خبرويته و كونه من أهل الاطلاع.

الوجوه التي يستدل بها لاعتبار الايمان في مرجع الفتوى
اشارة

و لكن يستدل لاعتبار الايمان فيه بوجوه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 420

الوجه الأول: الكتاب العزيز

______________________________

فقد ورد آيات مباركات في النهي عن اتّباع الظالم، و عدم الركون اليه، و التحذر عن الضال و المضلّ، و المنحرف، و صاحب الأهواء الباطلة، و ان كانوا من ذوي الأرحام، و العشيرة يجدها المتتبع فمع ذلك كيف يصح جعله سندا، و وسيلة بين الخلق، و الخالق، و لا بأس بالإشارة إلى ثلاثة منها تبيينا للمرام.

قال تعالى لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «1».

تقريب الاستدلال ان غير المؤمن من الكافر و المخالف و صاحب المذاهب الباطلة ظالم لنفسه قطعا و واضح ان الاستناد و الاعتماد على فتاوى المجتهد و تقليده في أمور الدين و الدنيا من أظهر مصاديق الركون.

و فرق واضح بين أخذ الفتوى من المجتهد و تقليده و بين العمل بأخبار الثقة و لذا ترى الطائفة عملت بأخبار الثقات من العامة و الفطحية، و الواقفية و غيرها من المذاهب الباطلة و لكن لم يعملوا بارائهم و اجتهاداتهم.

و قال تعالى لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ «2».

و ذلك لأنه لا ينبغي الإشكال في كون مقام الإفتاء و المرجعية و رجوع الأمة الإسلامية إلى الشخص فيما يرتبط الى معاشهم و معادهم خلافة إلهية، و عهد منه تعالى كما عن صاحب الجواهر احتماله و لا إشكال في ان غير المؤمن ظالم لنفسه فلا تناله الخلافة الإلهية.

و قال تعالى مٰا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «3».

لوضوح انه اى ضلالة أعظم مما يعتقده الكافر، و المخالف، و صاحب المذهب الفاسد، و اى عضد أعظم من مرجعية الفتوى.

الى غير ذلك من الآيات المباركات و فيما ذكرناه كفاية.

______________________________

(1) هود: 11/ 113.

(2) البقرة: 2/ 124.

(3) الكهف:

18/ 51.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 421

الوجه الثاني: السنة الشريفة
اشارة

______________________________

لا يخفى ان هنا اخبارا إذا لاحظها المتدرب الخبير يطمئن بصدورها عن ناحيتهم المقدسة بحيث لا يحتاج إلى ملاحظة اسناد كل منها، و لا يضر وقوع بعض إفراد مجهول لم يذكر اسمه في كتب الرجال، أو ذكر و لكن لم يذكر بمدح و لا ذم، أو بعض المنتحلين ببعض المذاهب الباطلة في اسناد بعضها.

فمنها: مكاتبة أبي الحسن عليه السّلام و هو في السجن لعلى بن سويد السّابي قال:

و اما ما ذكرت يا على ممن تأخذ معالم دينك؟ لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا اللّه و رسوله و خانوا أماناتهم، إنهم ائتمنوا على كتاب اللّه فحرّفوه و بدلوه فعليهم لعنة اللّه، و لعنة رسوله و لعنة ملائكته و لعنة آبائي الكرام البررة و لعنتي و لعنة شيعتي إلى يوم القيمة «1».

تقريب الدلالة ان الخيانة المذكورة لا تنفك عن اعتقاد الخلاف، و ليس المراد من عدم الايتمان مجرد الفسق الظاهري الذي يصدر من الشيعة أحيانا غير معتقد الخلاف

ذكر و تعقيب

و لكن ناقش سيدنا العلامة الحكيم (قدس سره) في دلالتها: بان الظاهر منها هو كون المانع عدم الايتمان لا مجرد اعتقاد الخلاف، مع ان منصرفها القضاة الذين كانوا يعتمدون على القياس و نحوه من الحجج الظنية في قبال فتوى المعصومين عليهم السّلام و ليس مثلهم محل الكلام «2».

و بعبارة أخرى كما في التنقيح و الدروس و اللفظ من التنقيح: «ان الظاهر ان النهى فيها عن الأخذ عن غير الشيعة انما هو من جهة عدم الوثوق و الاطمئنان

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 42.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 42.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 1، ص: 422

..........

______________________________

بهم لأنهم خونة حيث خانوا اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و خانوا أماناتهم كما في الرواية، و أين هذا مما هو محل الكلام لان البحث انما هو في جواز الرجوع الى من كان واجدا لجميع الشرائط و تصدى لاستنباط الأحكام عن أدلتها على الترتيب المقرر عندنا و لم يكن فيه اى نقص غير انه لم يكن شيعيا و معتقدا بالأئمة عليهم السّلام» «1».

قلت: و لكن الإنصاف ان دلالة المكاتبة لا تخلو عن وجه لظهور صدرها في انهم لما خانوا اللّه و رسوله لا يجوز أخذ معالم الدين منهم و لو كانوا غير خائنين في نقل الخبر، و ظهور الصدر في النهي عن أخذ معالم الدين عن غير الشيعة و حصر أخذها من الشيعة أقوى من ظهور الذيل في عدم الأمانة في النقل فتدبر.

و بالجملة كما أفيد ان الاشكال في الرواية بأن الظاهر منها عدم الايتمان لا مجرد اعتقاد الخلاف لا وقع له إذ ظهور صدرها في الحصر أقوى من الذيل في التعليل.

ان قلت: كما في التنقيح أخذ معالم الدين كما يتحقق بالرجوع الى الفتوى كذلك يتحقق بالرجوع الى رواة الحديث و من الظاهر ان حجية الرواية لا يتوقف على الإيمان في رواتها لما تقرر في محله حجية خبر الثقة و لو كان غير الاثني عشري قلت: الإنصاف ان الظاهر من مكاتبته عليه السّلام هو أخذ معالم الدين و مناهجه من غير فكر و روية و إتعاب النفس و تحمل المشاق في جرحه و معرفة وثاقته، و لعله بقرينة ما ذكرنا لا يريد عليه السّلام الرجوع إليهم في الرواية فتدبر.

ثم ان دعوى انصراف المكاتبة إلى قضاة العامة غير

واضح كما لا يخفى.

فالإنصاف ان استفادة اعتبار الايمان فيمن يؤخذ منه معالم الدين و الاستناد اليه من هذه المكاتبة غير بعيدة و قد أشرنا انه بلحاظ كثرة الاخبار لا يهمنا ملاحظة سندها و منها: ما كتبه أبو الحسن الثالث لأحمد بن حاتم بن ماهويه و أخيه بعد ما سئلاه عمن نأخذ معالم الدين فكتب عليه السّلام:

فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا و كل كثير القدم

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 219. الدروس ج 1/ 121.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 423

..........

______________________________

في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه «1».

تقريب الدلالة ظاهر.

النقاش في خبر ابن ماهويه و دفعه

و لكن نوقش بعدم العمل بظاهره لدلالته على اعتبار شدة الحب و الثبات التام في أمرهم و لم يعتبرا في مرجع الفتوى لأن غاية ما يعتبر فيه هو الايمان على الوجه المتعارف بين المؤمنين فيحمل على بيان أفضل الإفراد مع إمكان شمول معالم الدين للرواية أيضا.

قلت: يمكن ان يقال ان المراد بقوله عليه السّلام كل مسنّ في حبنا و كل كثير القدم في أمرنا: من كان الايمان و حب الأئمة عليهم السّلام ثابتا في قلبه بحيث صار ملكة له لا من كانت المحبة غير ثابتة في قلبه، و لعل اعتبار الايمان بهذا المعنى في مرجع الفتوى قريب جدا.

و بالجملة جملة كل مسنّ في حبهم و كثير القدم كناية عن رسوخ المحبة فيهم، و ثبات القدم في أمرهم.

و حديث شمول معالم الدين للرواية قد عرفت حاله في الرواية المتقدمة فلاحظ.

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتكرر ذكرها. و فيها ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا الرواية «2».

و نحوها: رواية ابى خديجة و فيها. و لكن انظروا الى رجل

منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم «3».

و قريب منهما روايته الأخرى «4».

تقريب الدلالة هو ان المراد بالضمير في (منكم) فيهما من يكون من شيعة أئمة

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 424

..........

______________________________

أهل البيت عليهم السّلام و من ولاتهم، و حماتهم.

المناقشة في المقبولة و أختيها و دفعها

نوقش أولا: بأنها وردت في الترافع و مسئلة القضاء، و لا ملازمة بين بابى القضاء و الفتوى.

و لكن تقدم ان ما يعتبر في القضاء معتبر في الفتوى إلا إذا كانت هناك قرينة على اعتباره في القضاء بخصوصه كالأعلمية في البلد في القاضي على القول به لما أشرنا أن الأعلمية المعتبرة في مرجع الفتوى أوسع.

و بالجملة استفادة اختصاص اعتبار الايمان في خصوص القضاء دون الفتوى جمودا على المورد غير وجيه بعد ما تقرر في محله انه لا فرق بينهما فيما هو المهم، بل هما يرتضعان من ثدي واحد.

و ثانيا: ان استفادة اعتبار الايمان منها ليس امرا تعبديا، بل بلحاظ أمر اعتباري و هو ان غير الشيعة غالبا لا يروى عنهم عليه السّلام و انما يروى عن المفتي في مذهبه و من اعتنق به في عقيدته فلا يكون راويا عنهم و عارفا بأحكامهم و قضاياهم، فاذا افتى غير المؤمن بحكمهم عليهم السّلام و على موازين ما صدر عنهم فلا مضايقة في نفوذ فتواه.

و لا يخفى ما فيه: لان مقتضاه ان القاضي غير الشيعي إذا حكم على الموازين المقررة عند الشيعة يكون حكمه نافذا و هو

كما ترى.

و الذي يسهل الخطب ان هذه التحليلات المدرسية لا يلائم الكلمات الصادرة عنهم عليهم السّلام المنزلة على الأفهام الساذجة العرفية، و من لاحظ الروايات يفهم بالفهم العرفي الساذج الذي هو المعيار في فهم كلماتهم ان اعتبار الايمان في الحاكم لخصوصية فيه لا بلحاظ ان غير الشيعة لا يحكم على موازين ما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام فتدبر فالإنصاف ان دلالة الروايات على اعتبار الايمان في القاضي واضحة، و قد عرفت الملازمة بين ما يعتبر في منصب القضاء و الفتوى.

و منها: ما عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 425

..........

______________________________

و فيه. ان من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه، و ذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة «1».

فإنه يدل بوضوح على ان الفقيه المتصف بالصفات المذكورة فيه المأمور بتقليده لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة فما ظنك بغيرهم من المخالفين و من يذهب المذاهب الباطلة.

الوجه الثالث: الإجماع

حكى إجماع السلف الصالح، و الخلف الأصيل على اعتبار الايمان في المفتي، و قد أشرنا عند اعتبار البلوغ فيه الى دعوى الشيخ (قدس سره) عدم الإشكال في اعتباره، و انه من الأمور المسلمة، و عرفت من مقال المحقق الأصفهاني (قدس سره) تحقق الاتفاق من الكل عليه فلاحظ.

الاستيناس لاعتبار الايمان في مرجع الفتوى

و يمكن الاستيناس لاعتبار الايمان في مرجع الفتوى من اعتبار العدالة في إمام الجماعة، فإذا لم يرض الشارع بامامة غير الإمامي فما ظنك بالزعامة العظمى التي هي أعظم المناصب بعد الإمامة.

أضف الى ذلك دلالة غير واحد من الاخبار على ان المخالف، و تارك الولاية كافر، و لا ينافي كفرهم ترتيب بعض أحكام الإسلام عليهم في الدنيا على ما سيجي ء في مبحث الطهارة فهل ترى مع ذلك مرجعية المخالف في الفتوى حاشاك.

و الإنصاف ان المناقشة في اعتبار الايمان في مرجع الفتوى بلحاظ ما يقتضيه البحث و المذاكرة و المناقشات المدرسية و الا فلا ينبغي المناقشة في عدم جواز رجوع الشيعة إلى مخالفيهم في العقيدة، و قد جبّلوا على ذلك و لا يرون لمن لا يتدين بمذهب أهل البيت عليهم السّلام و يذهب الى المذاهب الباطلة موقفا و شأنا يرجع اليه بحيث يستند

______________________________

(1) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 426

..........

______________________________

إليه في أمر دينه و دنياه.

بل إذا اعتقد المجتهد الاثني عشري بعض العقائد الانحرافى و انتحل الى بعض المشارب الباطلة تريهم ينعزلون عنه و يتركونه بل ربما يتهمونه.

مناقشة بعض الأساطين في اعتبار الايمان بقاء و دفعها

ثم انه بما ذكرنا كله يظهر ضعف مناقشة بعض الأساطين دام ظله فإنه قال لو سلم جميع ذلك و بنينا على شرطية الايمان و الإسلام في حجية الفتوى بحسب الحدوث فلا ملازمة بينها و بين اعتبارهما في حجيتها بقاء أيضا بحيث لو أخذ العامي فتوى المجتهد حال استقامته و ايمانه ثم انحرف عن الحق لم يجز له ان يبقى على تقليده لسقوط فتواه عن الاعتبار فإنه يحتاج الى دليل أخر غير ما دل على اعتبارهما في

الحدوث» «1».

توضيح الضعف لائح مما ذكرنا الا ان يرجع مناقشته الى عدم دليل لفظي على شرطية الايمان و الإسلام فزعم عدم دليل لفظي على اعتبارهما بعد اقتضاء إطلاق الأدلة و بناء العقلاء على عدم اعتبارهما، و الا فقد صرح كما في تقرير بحثه الأخر باعتباره الايمان فقال:

«لا ينبغي التردد في اعتبار الايمان في المقلد حدوثا و بقاء لارتكاز أذهان المتشرعة الواصل إليهم يدا بيد عدم رضي الشارع زعامة من لا ايمان له بالأئمة الهداة و لا يحتمل أحد التدين و أخذ الفتوى ممن لا يتدين بدين أئمة أهل البيت عليهم السّلام و يذهب يمينا و شمالا الى مذاهب باطلة» «2».

و قد عرفت استفادة اعتبارهما من الكتاب و السنة و غيرهما فلاحظ.

الشرط الرابع: العدالة
اشارة

وزان اعتبار العدالة في مرجع الفتوى وزان اعتبار البلوغ، و الايمان من جهة انها غير معتبرة في محيط العرف و العقلاء و يرون ان مقتضى إطلاق الأدلة عدم اعتبارها،

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 220.

(2) الدروس ج 1/ 22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 427

..........

______________________________

و لا يكاد يفرقون في صدق إنذار المنذر، و العالم، و الناظر في الحلال و الحرام بين كونه عادلا أو غير عادل، و غاية ما يقتضيه بنائهم هي اعتبار الوثاقة، و هي غير العدالة كما لا يخفى.

الوجوه التي يستدل لاعتبار العدالة في المرجع
اشارة

الا انه يستدل لاعتبارها بوجوه.

فمنها: قوله تعالى:

وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «1» تقريب الدلالة ان الفاسق ظالم لنفسه و جعله مرجعا في المهمات و المشكلات، و الاستناد إلى آرائه من أعظم أنحاء الركون.

قد يناقش فيه لشك في شمول الظالم لمطلق مرتكب المعصية، لاحتمال اختصاصه بمعصية الظلم فلا بأس لجعله تأييدا للمقال.

و منها: الإجماع

فعن جملة من الأساطين حكاية الإجماع على اعتبار العدالة في مرجع الفتوى.

و نوقش بأنه لم يحرز كونه إجماعا تعبديا بحيث يستكشف منه قول المعصوم عليه السّلام فلعل اتفاقهم للوجه أو للوجوه التي يذكر لاعتبارها.

و منها: خبر الاحتجاج المروي عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام المتقدم ذكره في اشتراط الايمان.

تقريب الدلالة لاعتبار العدالة واضح بل كما سيجي ء من الماتن و غيره انه يستفاد منه المرتبة العالية منها.

و مناقشة بعض الأعلام في سنده، و دلالته، و انه لا يستفاد من ملاحظة مجموعه الا اعتبار الامانة و الوثوق دون العدالة، و انه لو استفيد منه اعتبار العدالة في المفتي فإنما هو بحسب الحدوث فلا يستفاد منه اعتبارها فيه بقاء الى غير ذلك من المناقشات لعلها غير وجيهة سنتعرض لها عند تعرض الماتن (قدس سره) للخبر في نفس هذه المسئلة فارتقب.

______________________________

(1) هود: 11/ 113.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 428

و منها: أولوية اعتبارها في الشاهد و امام الجماعة.

______________________________

بتقريب انه بعد ما كانت العدالة معتبرة في قبول الشهادة و صحة الاقتداء فالأولى اعتبارها فيمن يستند اليه و يعتمد إليه في أمر دينه و دنياه هذا.

و منها: قوله عليه السّلام في التوقيع الشريف بعد الأمر بإرجاع الحوادث الواردة إلى رواة أحاديثهم

معللا بأنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه «1».

قد تقدم ما يتعلق بسند التوقيع.

تقريب الدلالة ان المناسبة المركوزة في أذهان المتشرعة تعطي بأن الحجة من قبله جعلني اللّه من كل مكروه فداه الذي هو حجة اللّه لا يصلح ان يكون فاسقا بل يمكن استفادة اعتبار المرتبة العالية من العدالة فيه فتدبر.

و منها: ما عن الخصال عن أمير المؤمنين عليه السّلام

قال:

قطع ظهري رجلان من الدنيا رجل عليم اللسان فاسق، و رجل جاهل القلب ناسك هذا يصد بلسانه عن فسقه و هذا بنسكه عن جهله فاتقوا الفاسق من العلماء و الجاهل من المتعبدين الخبر «2».

قال العلامة المجلسي (قدس سره) في قوله هذا يصد بلسانه عن فسقه اى يمنع الناس عن ان يعلموا فسقه بما يصور لهم بلسانه و يشبه عليهم ببيانه فيعدون فسقه عبادة أو انهم لا يعيبون بفسقه بما يسمعون من حسن بيانه، و الاحتمالان جاريان في الفقرة الثانية.

و منها: ما عن مجالس المفيد

عن محمد قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:

لا دين لمن دان بطاعة من عصى اللّه الخبر «3».

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9.

(2) بحار الأنوار ج 2/ 106 الطبعة الحديثة.

(3) بحار الأنوار ج 2/ 121.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 429

..........

______________________________

تقريب الدلالة واضح.

يؤيد المقال الأخبار الواردة في الذم عن اتّباع العالم التارك لعلمه و هي كثيرة منتشرة في الكتب الحديثية يجدها المتتبع.

هذا ما يقتضيه البحث المدرسى حول اعتبار العدالة و الا فالذي يقتضيه الاعتبار و يعضده الوجدان هو ان يقال ان المرتكز في أذهان المتشرعة حسب ما استكشفته من مذاق الشارع الأقدس هو عدم رضاه بكون المتصدي للزعامة و المرجعية من به منقصة دينية أو دنيوية يعاب بها عليه و تسقطه عن انظار العقلاء المراجعين اليه و واضح ان الفسق منها.

و بالجملة كما في الحدائق «1» و وافقه سيد مشايخنا و لقد أجادا في ما أفادا و اللفظ من المستمسك قال (قدس سره): «ان تجويز تقليد الفاسق خلاف المتسالم عليه بين الأصحاب و مخالف للمرتكز في أذهان المتشرعة، بل المرتكز عندهم، قدح المعصية في هذا المنصب على

نحو لا يجدي عندهم الندمة و التوبة فالعدالة المعتبرة عندهم مرتبة عالية لا تزاحم و لا تغلب، و الإنصاف أنه يصعب جدا بقاء العدالة للمرجع العام في الفتوى كما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو جماعة إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة و محاسبة فإن ذلك مزلة الاقدام و مخطرة الرجال العظام و منه سبحانه نستمد الاعتصام «2».

الشرط الخامس: الرجولية
اشارة

و لا يخفى ان اعتبار الرجولية كاعتبار العدالة و الايمان و نحوها غير معتبرة في محيط العرف و العقلاء، فإنهم لا يفرقون في العمل بقول الخبير بين كونه رجلا أو أمرية فإن قيل باعتبارها فإنما هو بتعبد من الشرع.

الوجوه التي يستدل بها لاعتبار الرجولية في مرجع الفتوى
اشارة

ما قيل أو يمكن ان يقال لاعتبار الرجولية في مرجع الفتوى أمور لا يخلو بعضها

______________________________

(1) الحدائق الناظرة ج 10/ 508.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 430

..........

______________________________

عن المناقشة، الا ان في بعضها الأخر كفاية فبعضها الأخر يصلح للتأييد.

منها: الإجماعات المتكاثرة

المذكورة في كتب الأصحاب كما عن الشهيد الثاني و الرياض، و الغنية، و مجمع الفائدة، و المحقق الأصفهاني الى غير ذلك من الأعاظم

و منها: روايتا ابى خديجة

المتكرر ذكرهما و في إحديهما قال عليه السّلام.

إياكم ان يحاكم بعضكم الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا «1».

و نحوها روايته الأخرى «2».

تقريب الدلالة كما أفيد هو دلالتهما على اعتبار الرجولية في باب القضاء و من المعلوم ان منصب الإفتاء لو لم يكن بارقى من القضاء فلا أقل انها متساويان إذ القضاء أيضا حكم و ان كان شخصيا و بين اثنين، أو جماعة رفعا للتخاصم، و الفتوى حكم كلي تبتلى به عامة المؤمنين فإذا كانت الرجولية معتبرة في باب القضاء كانت معتبرة في باب الإفتاء أيضا.

نوقش أولا: بأن التعبير بالرجولية واردة مورد الغالب بلحاظ التقابل بأهل الجور و حكامهم حيث منع عن التحاكم إليهم و الغالب المتعارف في القضاء هو الرجولية و لم نستعهد قضاؤه النساء و لو في مورد واحد فأخذ عنوان الرجولية من باب الغلبة لا من جهة التعبد و قصر القضاوة بالرجال.

قلت: لكن الإنصاف ان استفادة الاختصاص غير بعيد و لا أقل من عدم استفادة الإطلاق، لعدم صحة إلغاء خصوصية الرجولية و كيف تلغى خصوصية الرجولية؟!! مع استظهار جملة من الأعاظم اعتبارها، و قد صرح في بعض الاخبار عدم تولى المرية للقضاء.

فروى الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعلي

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 431

..........

______________________________

عليه السّلام: يا على

ليس على المرية جمعة الى ان قال: و لا تولى القضاء «1».

و ثانيا: بعدم الملازمة بين بابى القضاء و الفتوى فضلا عن الأولوية و اعتبار الرجولية في باب القضاء له وجه و اعتباره عقلائي لا يكون ذلك الاعتبار في باب الفتوى.

قلت: و فيه ان الإنصاف انه ان اعتبر الرجولية في القضاوة بين اثنين فلو لم نقل بأولوية اعتبارها في الفتوى، و مرجعية المسلمين فلا أقل من مساواتها له كما لا يخفى.

و منها: مقبولة عمرو بن حنظلة

المتكرر ذكرها.

و فيها. ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما الرواية «2».

تقريب الدلالة واضح مما ذكرناه في روايتي ابى خديجة، و نوقش فيها بما نوقش فيهما من عدم استفادة اعتبار الرجولية في القضاء، و عدم الملازمة لو سلم اعتبارها فيها بين بابى القضاء و الفتوى.

مضافا الى ان لفظة (من) في قوله من كان منكم مطلق و لا اختصاص له بالرجال و لكن عرفت حالهما مما ذكرنا في الروايتين، و الضمير في منكم جمع مذكر كيف يكون مطلقا و لا تختص بالرجال فتدبر.

و بما ذكرنا يظهر حال قوله عليه السّلام ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا، و نحوه غيره مما عبر بضمير الجمع المذكر.

بل قوله عليه السّلام: من كان من الفقهاء صائنا لنفسه إلخ «3» و غيره من الاخبار التي

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(3) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 432

..........

______________________________

يستشم منها

الإطلاق، لانصرافها الى الرجال دون النساء لعدم معهودية تصدى النساء للفتوى، و المرجعية منذ بعث نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله الى زماننا هذا، فالاطلاقات ناظرة و منصرفة الى ما هو المعهود المتبادر منها، مع عدم محبوبية طرح النساء في المجتمع و بين أيدي الرجال، بل مبغوضية دخولهن في مجتمعات الرجال، و ترددهن بينهم كما لا يخفى على الخبير المتدرب المأنوس، بمذاق الشرع و الشريعة.

و قد يقال: ان قلة تعرض الاخبار، و كتب الأصحاب اعتبار الرجولية في القضاء، و الفتوى، بلحاظ معلومية الأمر، و وضوحه بين أرباب الشرائع، و الديانات، و يرون أن مرجعية الفتوى مرتبة نازلة، و من شئون الخلافة الإلهية، و لها خصوصية لا تناسب الأنوثية، و لذا لم تبعث أمرية للنبوة و هداية الناس منذ خلق اللّه تعالى أبينا آدم (على نبينا و إله و عليه السّلام) مع انه كما هو المعروف و قد روى ذلك عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أيضا انه بعث اللّه مأة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي «1».

بل لم ينصب أمرية للإمامة و الخلافة في عصور الأنبياء العظام، بل و لا في الأمة المرحومة مع وجود نساء ذوات فضائل كثيرة، و مناقب جليلة، بل مجتهدات مسلمة، بل فيهن من لا يقاس بهن الرجال، و ليس ذلك كله إلا لأن لمرجعية الفتوى موقف عظيم، و مقام خطير، و لها من الخصوصيات، و الجهات التي لا تناسب لغير الرجال و ان بلغن من العلم و الفضيلة ما بلغن.

و لعله الى ما ذكرنا ما عن المفيد بسنده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في حديث.

و لو خلقت حواء من كله لجاز القضاء

في النساء كما يجوز في الرجال.

و في خبر يحكى قول اللّه تعالى: لحواء لما خرجت من الجنة: و لم اجعل منكن حاكما، و لم ابعث منكن نبيا.

و بالجملة لكل من النبوة و الإمامة، و مرجعية الفتوى، و القضاء- مع مالها من التفاوت- موقف عظيم، و مرتبة خطيرة، و لها موقف خاص من حيث ارتباط

______________________________

(1) لاحظ البحار ج 11/ 30- 41 من الطبعة الحديثة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 433

..........

______________________________

شخص النبي، و الامام، و مرجع الفتوى، و القاضي بالمجتمع و الأمة، و اختلاط وسيع معهم لرفع حوائجهم، و مهماتهم فيما يرجع الى معاشهم، و معادهم، و حضورهم لديهم، و اجتماعهم معهم في إناء الليل، و أطراف النهار، و ربما يحتاجون الى ملاقاة خصوصية، و ارتباطات سرية و نحو ذلك، و غير خفي على من له إلمام و انس بمذاق الشرع و الشريعة: ان كل ذلك لا تناسب شأن المرية العفيفة التقية، و ليس لها تلك الارتباطات، بل يكون ذلك معرضا للاتهامات و الافتراءات التي لا بد و ان يكون مرجع الفتوى و القضاء فضلا عن مقام الإمامة و النبوة- منزها عنها- و قد قرر في محله انه لا بد و ان يكون النبي و الامام عليهما السّلام مبرأ عن أمور لا تنافي بعضها مرجعية الفتوى و القضاء فتدبر و اغتنم.

و منها: ما ورد في نهى امامة النساء للرجال «1».

لعل استفادة أولوية أمر الفتوى بالنسبة إلى أمر الاقتداء واضحة و ان ناقش بعض الأساطين دام ظله في ذلك فقال: لا ملازمة بين النهى عن تصدى النساء للقضاء، و النهى عن إمامتهن، و بين مرجعية الفتوى بدعوى ان محل الكلام مجرد قبول فتواها لا تصديها لسائر مناصب المجتهد «2».

قلت: ليس

البحث مجرد قبول فتواها محضا لوضوح ان جواز قبول فتواها يستلزم خروجها بين أيدي الرجال و النساء، و خروجها في المجامع و الاجتماعات، و التوالي الفاسدة المرتبة عليها أكثر من إمامتها للرجال و تصديها للقضاوة، و لعمر الحق انه واضح إلى النهاية و لعله مما يدرك و لا يمكن توصيفه جليا في الخارج، و سيجي ء منه دام ظله كلاما نفيسا في هذا المضمار فارتقب.

و منها: ما ورد في سلب الرأي عن النساء

خصوصا في الفروع التي هي مورد خبر عامر بن جذاعة قال:

______________________________

(1) لاحظ الوسائل أبواب 19/ 20/ 23 من أبواب صلاة الجماعة و غيرها.

(2) الدروس ج 1/ 124.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 434

..........

______________________________

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ان امرئتى تقول بقول زرارة، و محمد بن مسلم في الاستطاعة و ترى رأيهما فقال عليه السّلام: ما للنساء، و للرأي «1».

فقد سلب عليه السّلام الرأي عنهن و انه لا اعتبار لرأيهن و مع ذلك كيف تصح تقليدها و الاستناد إليها في مقام العمل فتأمل.

و منها: ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

إنما المرية لعبة فمن اتخذها فليغطها «2».

تقريب الدلالة ان من يحتاج إلى التغطية و تكون ملعبة الرجال كيف يكون مرجع الأمة الإسلامية.

و منها: ما عن الطبرسي

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ان شر الناس هم الذون يكون كلامهم عن رأى النسوان.

دلالته على عدم اعتبار رأيهن في الأمور واضحة.

و منها: ما ورد في ذم النساء

قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما خطبة في ذم النساء و في آخرها:

فاتقوا شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر و لا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر «3».

و لا يخفى ان معنى عدم اطاعتهن في المعروف هو ان لا يأتي الرجل بالمعروف بمجرد قولهن حتى تعدها طاعة لهن بل يلزم ان يؤتى به لأنه معروف و سنة و الفرق بينهما واضح.

تقريب الدلالة هو ان الحذر من خيارهن ينافي أخذ الفتوى منهن و تقليدهن و هو ظاهر.

______________________________

(1) رجال الكشي أثناء ذكر محمد بن مسلم/ 151.

(2) الغرر و الدرر للآمدى ج 3/ 80.

(3) نهج البلاغة الخطبة 80.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 435

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السّلام لأهل البصرة في ذم اتّباع المرأة:

______________________________

كنتم جند المرأة و اتباع البهيمة «1».

دلالته ظاهر و توهم ان اللام للعهد فلا يدل على ذم مطلق اتباع المرأة مدفوع بان جعل اللام للعهد ينافي الذم بقوله عليه السّلام بعد ذلك: و اتباع البهيمة. فإن المراد الذم باتباع البهيمة بما هو اتباع فكذا بالنسبة الى اتباع المرأة فتأمل.

و منها: قوله عليه السّلام في وصيته لابنه الامام حسن بن على عليهما السّلام:

و إياك و مشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن و عزمهن الى وهن، و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فإن شدة الحجاب أبقى عليهن و ليس خروجهن باشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، و ان استطعت ان لا يعرفن غيرك فافعل و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة، و لا تعد بكرامتها نفسها و لا تطمعها في ان تشفع بغيرها، و إياك التغاير في غير موضع غيرة «2».

تقريب الدلالة واضح.

قال الشيخ محمد عبده في شرح النهج بعد ذكر ما يتعلق بالنساء: «أين هذه الوصية من حال الذين يصرفون النساء في مصالح الأمة بل و من يختص بخدمتهن كرامة لهن» «3».

و قد أشرنا ان بعض هذه الوجوه و ان لا تخلو عن مناقشة الا ان في بعضها الأخر كفاية فيكون ذلك البعض مؤيدا له، و من لاحظ ما ذكرنا بعين الإنصاف يظهر له جليا اعتبار الرجولية في مرجع الفتوى و عدم صلوح المرأة لذلك.

و الى ما ذكرنا يشير ما افاده بعض الأساطين دام ظله و لقد أجاد فيما أفاد و إليك نص مقاله:

______________________________

(1) نهج البلاغة من كلام له عليه السلام/ 13.

(2) نهج البلاغة من وصية له لابنه عليهما السلام/ 31.

(3) ذيل نهج البلاغة عبده ج/ 2/ 59.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص:

436

..........

______________________________

«و الصحيح ان المقلد يعتبر فيه الرجولية و لا يسوغ تقليد المرأة بوجه و ذلك لأنا قد استفدنا من مذاق الشارع ان الوظيفة المرغوبة من النساء انما هي التحجب و التستر و تصدى الأمور البيتية دون التدخل فيما ينافي تلك الأمور و من الظاهر ان التصدي للإفتاء بحسب العادة جعل النفس في معرض الرجوع و السؤال لأنهما مقتضى الرئاسة للمسلمين و لا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضا لذلك ابدا كيف؟! و لم يرض بامامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنك بكونها قائمة بأمورهم و مدبرة لشئون المجتمع و متصدية للزعامة الكبرى للمسلمين.

و بهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرعة يقيد الإطلاق و يردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل الى العالم مطلقا رجلا كان أو أمرية» «1»

الشرط السادس: الحرية
اشارة

اعتبار الحرية كاشتراط الرجولية مما لم يعتبرها العقلاء لأنهم لا يكادون يفرقون في الخبير بين كونه حرا، أو عبدا بعد إحراز تخصصه و تبحره، بل و مقتضى إطلاقات الأدلة عدم التفرقة و شمولها للعبيد و الأحرار.

فلو اعتبر فإنما هو بتعبد من الشرع.

الوجوه التي قيل أو يمكن ان يقال لاعتبار الحرية
اشارة

حكى اعتبارها عن جماعة منهم الشهيد بل يقال انه المشهور.

فما قيل أو يمكن ان يقال لاعتباره وجوه.

منها: إلحاق باب الفتوى بباب القضاء

و قد اعتبرها جملة من الأصحاب في باب القضاء بل حكى الشهرة على اعتبارها فيه.

و فيه أولا: ان اعتبار الحرية في باب القضاء مختلف فيه قال المحقق في الشرائع: و هل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط نعم و الأظهر انه ليس شرطا، و في مختصر النافع، و في اشتراط الحرية تردد و الأشبه انه لا يشترط.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 226.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 437

..........

______________________________

فاذا كان اعتبار الحرية في المقيس عليه غير ظاهر فما ظنك في المقيس.

و ثانيا: انه لو سلم اعتبارها في باب القضاء فيمكن التفرقة بين البابين لأن القاضي لا بد له من فصل القضاء و رفع الغائلة بين الأحرار، و بينهم و بين العبيد، و لعله- و لو بلحاظ الارتكاز- ليس شأن العبيد ذلك و لا يرون له موقفا للفصل بين الأحرار و بينهم و بين العبيد و اما باب الإفتاء فلا.

و منها: قوله تعالى:

عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ- وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلٰاهُ «1».

فلا بد للعبد من القيام و الاشتغال بحقوق مولاه المانع من القضاء و الإفتاء.

و بالجملة القضاء ولاية للقاضي، و كذا الإفتاء، و العبد ليس له الولاية لاشتغاله عنها باستغراق وقته بحقوق المولى.

و فيه: ان غاية ما يقتضيه هو عدم أهلية العبد بدون اذن مولاه لا مطلقا فهو أخص من المدعى.

و منها: ان الإفتاء و القضاء من المناصب الجليلة

التي لا يناسب حال العبد و العبد له شأن و موقف لا يليق منصب القضاء و الإفتاء.

و رد بأنه مجرد دعوى بلا برهان فهي مصادرة.

و بالجملة كما أفيد: «ان وزان العبودية ليس وزان الجنون، و الكفر، و الفسق و نحوها. مما يكون منقصة للمتّصف بها و يأبى ارتكاز المتشرعة تصدى من به منقصة دينية، أو دنيوية للمرجعية و الفتوى، و العبودية ليست منقصة بوجه كيف و قد يكون بعض العبيد ارقى مرتبة من غيره، بل ربما يكون وليا من أوليائه و قد يبلغ مرتبة النبوة كلقمان، فاذا لم تكن العبودية منافية لمنصب الإفتاء الذي هو دونهما كما لا يخفى» «2».

______________________________

(1) النحل: 16/ 75.

(2) التنقيح ج 1/ 227.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 438

..........

______________________________

فالأظهر عدم اعتبار الحرية في مرجع الفتوى فللعبد الفقيه الجامع لسائر الشرائط مع اذن مولاه تصدى الإفتاء كما للحر.

و لا فرق فيما ذكرنا بين كون العبد قنا، أو مدبرا، أو مكاتبا، أو مبعضا، أو مهايا «1» بل هو اولى بعدم الإشكال لإمكان إفتائه في نوبته.

نعم حيث ان العبد لا يرث من الحر الذي لا وارث له فاذا لم يكن للحر وارث فلا يرث العبد الفقيه منه الا ان يوجه ذلك بجهة نيابته عن الامام عليه السّلام فتدبر.

و

مع ذلك الأحوط الأولى اعتبارها خروجا عن خلاف الشهرة المحكية في المقام و الذي يسهل الخطب عدم كونه محلا للابتلاء.

الشرط السابع: الاجتهاد المطلق
اشارة

اختلفوا في اشتراط الاجتهاد المطلق في حجية فتوى المجتهد و صحة تقليده.

فيظهر من بعضهم كالماتن و من لم يعلق على المتن اعتبار كونه مجتهدا مطلقا، و بعضهم ناقش في اعتباره فلم يهتد الى ما هو الحق، و بعضهم اشترط ذلك مع وجود المجتهد المطلق و اما مع عدمه فنفى البعد عن جواز تقليد المتجزي.

الأقوال في اعتبار الاجتهاد المطلق في مرجع الفتوى
اشارة

ذهب أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله الى جواز تقليد المتجزى فيما اجتهد بل العلامة البجنوردى يرى وجوب تقليده فيما لو كان اعلم من المجتهد المطلق في ذلك المقدار، و علق العلامة الخوانسارى (قدس سره) ان الأقوى جواز تقليد المتجزى فيما إذا عرف مقدارا معتدا به من الأحكام و لم يحرز مخالفة فتواه لفتوى الأعلم، أو لم يكن غيره اعلم منه في ذلك المقدار الى غير ذلك من الأقوال.

جواز عمل كل من المجتهد المطلق و المتجزي برأيه بل حرمة عملهما برأى الغير

و كيف كان فقد تقدم منا في أوائل الكتاب معنى التجزي، و الإطلاق في الاجتهاد

______________________________

(1) المهاياة في كسب العبد انهما يقسمان الزمان بحسب ما يتفقان عليه، و يكون كسبه في كل وقت لمن ظهر له بالقسمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 439

..........

______________________________

و عرفت إمكان كل من التجزي، و الإطلاق في الاجتهاد بل تحققهما في الخارج، و قد تقدم أيضا انه لا إشكال في ان المجتهد المطلق يجوز العمل بما استنبطه إذا كان على الموازين المقررة بل يحرم عليه التقليد فيما استنبط.

و كذلك الأمر في المتجزي و من قدر على استنباط حكم أو أحكام فقط على الموازين المقررة و استنبط فعلا فيجوز له العمل بما استنبط لعموم حجية الظواهر في الأمارات، و الأصول و غيرها لكل من عرف مداليلها و مجاريها و عرف أحكام المعارضات و علاجها الى غير ذلك مما يكون دخيلا في الاستنباط، و المفروض ان ان المجتهد المتجزى عارف بما ذكرنا كله، فهو و المجتهد المطلق كفرسي رهان و كفتي الميزان بالنسبة الى ذلك.

كما انه كذلك بالنسبة إلى حرمة المراجعة إلى الغير و تقليده بالنسبة الى ما استنبطه لعدم شمول أدلة التقليد بالنسبة اليه اما بلحاظ رجوع الجاهل الى

العالم فلوضوح انه عالم بما استنبطه فرجوعه الى الغير من رجوع العالم الى العالم.

و اما بالنسبة إلى الأدلة اللفظية فلما تقدم ان جواز التقليد مختص بمن لم يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم الشرعي و الوظيفة المقررة فما ظنك بالمتجزى الذي قد حصلها بالفعل في مورد أو موردين، أو أكثر.

فإذا لا يسوغ و لا يجوز تقليد المتجزى عن الغير فيما استنبطه فعلا.

فدعوى جواز رجوعه الى من يرى خطائه و اشتباهاته غير مسموعة لأدائه إلى الجمع بين النقيضين، أو المتضادين لأنه إذا علم بفساد عمل بحسب رأيه فاذا رجع الى الغير الذي يرى صحته فلا بد و ان يبنى على صحته و هما مما لا يمكن الالتزام به.

و اما جواز تقليد المجتهد فقد عرفت بما لعله لا مزيد عليه في مسئلة مشروعية أصل التقليد، جواز تقليد المجتهد المطلق بماله من المعنى و هو القدر المتيقن من أدلة مشروعيته فلا ريب و لا إشكال في تقليده إذا كان مستجمعا لسائر الشرائط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 440

..........

______________________________

و انما الكلام و الاشكال في جواز تقليد المتجزى و قد أشرنا إلى عمد الأقوال في المسئلة، و هي بين القول بعدم جواز تقليده مطلقا، أو جوازه كذلك، بل وجوبه إذا كان اعلم من المجتهد المطلق، أو التفصيل بين وجود المجتهد المطلق و تمكن الوصول اليه و عدمه فبالعدم في الصورة الاولى و الجواز في الصورة الثانية الى غير ذلك من الأقوال.

و لا يخفى أن المتجزي و من لم يقدر على استنباط جميع الأحكام أو أكثرها تارة يكون قد استنبط حكم جملة معتدا بها من المسائل، و اخرى لم يكن كذلك و انما استنبط قليلا من

المسائل واحدة أو اثنتين مثلا.

بناء العقلاء على عدم الفرق بين المجتهد المطلق و المتجزى بل لزوم تقليد المتجزي إذا كان أعلم

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: الظاهر ان بناء العقلاء على عدم الفرق في رجوع الجاهل الى العالم بين كونه مجتهدا مطلقا أو متجزيا بقسميه فتريهم يراجع جاهل كل أمر إلى العالم به و ان لم يكن للعالم به معرفة بغيره من الأمور فتريهم يراجعون الطبيب الاخصّائى بالقلب مثلا و ان لم يكن له خبروية بغيره من الأعضاء و الجوارح بل يقدمون نظر الطبيب الاخصّائى على الطبيب العمومي إذا كان الطبيب الاخصائى أجود سليقة و أقوى استنباطا من الطبيب العمومي.

و بالجملة: الملاك كل الملاك في بناء العقلاء في رجوع الجاهل الى العالم هو خبروية العالم فاذا كان خبرويته في خصوص أمر واحد يراجعون اليه من دون توقف و لا يرون لعدم خبرويته في غيره دخالة في ذلك و لذا تريهم يراجعون الطبيب المختص ببعض الأمراض فيما يختص به و لا يعتبرون ان يكون طبيبا عاما في جميع الأمراض، بل ربما لا يرجعون إليه إذا كان غيره في الجهة المختصة به اعلم منه.

و من هنا يظهر ضعف ما ذكره بعض شراح المتن من ان المتيقن من بناء العقلاء هو الرجوع الى المجتهد المطلق مع وجوده و التمكن من الوصول اليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 441

..........

______________________________

فتحصل ان مقتضى بناء العقلاء صحة تقليد المجتهد المتجزى بل وجوبه إذا كان اعلم من المجتهد المطلق فيما استنبطه و ان كان ما استنبطه قليلا جدا كمسئلة أو مسئلتين مثلا.

و لكن كما ذكرنا غير مرة ان بناء العقلاء بما هو لا يكاد ينفع ما لم يحرز رضي الشارع به و لو بعدم الردع فلا بد من ملاحظة سائر الأدلة حتى يحرز نطاق

اعتبار بناء العقلاء في الشريعة فنقول:

نطاق آية السؤال في تقليد المتجزي

أما آية السؤال فبناء على كونها من أدلة وجوب التقليد- و قد تقدم بيانها فيما تقدم- فغاية ما يقتضيه ظاهر الآية الشريفة هو انه يجب على غير العالم ان يسئل أهل الذكر متعينا لا انه مخير بين السؤال عن أهل الذكر و غيره.

و من الواضح ان أهل الذكر غير صادق على من علم مسئلة أو مسئلتين مثلا و اما من علم جملة معتدا بها من الأحكام فلا ينبغي الارتياب في صدق عنوان أهل الذكر عليه، فاذا المجتهد المتجزى إذا عرف و استنبط مقدارا معتدا من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان أهل الذكر يصح تقليده.

فاذا تكون الآية الشريفة رادعة لبناء العقلاء بالنسبة إلى المتجزي الذي لا يصدق عليه عنوان أهل الذكر و ذلك فيما استنبط مسائل قليلة جدا كمسئلة أو مسئلتين مثلا، و إمضاء لما هم عليه بالنسبة إلى المتجزي الذي يصدق عليه ذلك العنوان و ذلك فيما إذا استنبط جملة معتدا بها من المسائل.

ذكر و تعقيب

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بعض الأساطين دام ظله من ان الآية المباركة قد أوجبت الرجوع الى المجتهد المطلق متعينا، و هذا ينافي جواز الرجوع الى المتجزى لان مرجعه الى التخيير بينهما و قد فرضنا ان الآية المباركة دلت على تعيّن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 442

..........

______________________________

الرجوع الى المجتهد المطلق «1».

توضيح النظر هو ان غاية ما تقتضيه الآية المباركة هي لزوم المراجعة إلى خصوص من يصدق عليه عنوان أهل الذكر، و من الواضح ان هذا العنوان كما يصدق على المجتهد المطلق فكذلك يصدق على المتجزى إذا استنبط جملة معتدا بها فلا يلزم من تجويز المراجعة إلى المتجزى شي ء، مما ذكر فتدبر.

هذا ما هو

المترائى من الآية المباركة، الا ان يقال انه لا يستفاد منهما الا ما يستفاد من بناء العقلاء، فهي إرشاد لما هم عليه فلا يؤخذ بظاهر العنوان المأخوذ فيها فتعم من علم مسئلة أو مسئلتين أيضا فتأمل.

و ان أبيت عن ذلك فيمكن ان يقال ان العنوان المأخوذ فيها جار مجرى العادة فيمكن إلقاء العنوان و إسراء الحكم الى من لم يصدق عليه العنوان عرفا.

و ان أبيت عن ذلك كله فلا أقل لا يمكن ان يستفاد منها ردع ما عليه العقلاء و لا إمضائهم على ما هم عليه.

نطاق آية النفر في تقليد المتجزى

و اما آية النفر: فعلى تقدير كونها من أدلة المسئلة- و أغمضنا عما ناقشنا في دلالتها على وجوب التقليد- فالمستفاد منها هو لزوم التحذر عن إنذار المنذر المتفقه في الدين، و من الواضح ان المجتهد المتجزى متفقة في الدين إذا استنبط جملة من الأحكام.

بل ربما ادعى شمول إطلاق الآية المباركة للمتجزى الذي استنبط مسئلة أو مسألتين مثلا، و لا يبعد ذلك ضرورة صدق قوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ على من نفر و عرف حكم مسئلة أو مسئلتين، فيجب التحذر عن إنذار المنذر الذي استنبط مسئلة أو مسئلتين فيكون نطاق الآية المباركة نطاق بناء العقلاء.

و ان أبيت عن إطلاق التفقه في الدين على من عرف مثل ذلك و لكن شمول

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 229.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 443

..........

______________________________

الاية المباركة على المجتزى الذي تفقه جملة معتدا بها من الأحكام مما لا غبار عليه هذا بالنسبة إلى الآيات.

نطاق الاخبار في تقليد المتجزى

و اما الاخبار فنطاق الأخبار الآمرة بالرجوع الى مثل محمد بن مسلم، و يونس بن عبد الرحمن، و زكريا بن آدم و نظرائهم الذين هم أجلاء الفقهاء و كبرائهم و ان كان ضيقا لا يستفاد منها صحة المراجعة إلى المتجزي الذي استنبط جملة معتدا بها من الأحكام، فضلا عما لم يستنبط إلا مسائل قليلة الا انها غير ظاهرة في الحصر حيث لم تكن نافية لعدم صحة المراجعة الى غير مثل هؤلاء الأعاظم ليكون رادعا لبناء العقلاء المسوغة لذلك و معارضا لما يستفاد منه تسويغ ذلك.

و اما مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به

حكما «1».

و كذا رواية ابى خديجة، و فيها. اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا الرواية «2».

فظاهرهما بقرينة إضافة المصدر المضاف، و الجمع المضاف و ان كان هو اعتبار كون القاضي عارفا بجميع أحكامهم و ناظرا في حلالهم، و حرامهم، و بضميمة أن منصب القضاء منصب الفتوى بعينه فيعمل فيه ما اعتبر في باب القضاء يستفاد منهما اعتبار الاجتهاد المطلق في المفتي فلا تصح المراجعة إلى المتجزي و ان كان قد استنبط جملة معتدا بها من الأحكام فضلا عما استنبط مسئلة أو مسئلتين لعدم كونه راويا لجميع أحاديثهم و لا ناظرا في حلالهم و حرامهم كذلك، و لا عارفا بأحكامهم.

و لكن لا يتم الاستدلال بها في باب القضاء فضلا عن باب الفتوى.

و ذلك لما أشرنا إليه في مسئلة وجود المجتهد المطلق ان الفقرات المذكورة

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 444

..........

______________________________

في المقبولة في مقابل المنع عن الرجوع الى حكام الجور و قضاتهم. و واضح ان قضاتهم لم يكونوا عارفين بجميع الأحكام، و انما عرفوا جملة من الأحكام، فيكون الظاهر ان منصب القضاء لا يليق بهم بل لا بد و ان يكون عارفا بأحكامنا و حلالنا و حرامنا في قبال هؤلاء المنحرفين الحاكمين باجتهاداتهم و آرائهم فمن عرف جملة معتدة بها من أحكامهم و حلالهم و حرامهم يصح تصديه لنصب القضاء.

مع انه قد عرفت عدم حصول المعرفة الفعلية بجميع أحكامهم بل جلها في حق غير الأئمة المعصومين إلا للأوحدي من الفقهاء فلو اعتبر ذلك لانسد باب الحكم و القضاء.

مضافا الى دعوى الإجماع

على عدم اعتبار معرفة جميع أحكامهم و العرفان بحلالهم و حرامهم في منصب القضاء هذا.

و قد ورد في باب القضاء ما استفيد منه عدم اعتبار ما ذكرنا أيضا بل كفاية العلم ببعض أحكامهم و قضاياهم في تصدى منصب القضاء.

كرواية أخرى لأبي خديجة عن الصادق عليه السّلام:

إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته حاكما فتحاكما اليه «1».

بتقريب ان الظاهر من لفظة (من) في قوله عليه السّلام من قضايانا تبعيضية فمن علم شيئا قليلا من أحكامهم يجوز له التصدي للحكم، هذا على نسخة التهذيب «2».

و اما على نسختي الكافي «3» و الفقيه «4» حيث عير فيهما (شيئا من

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(2) التهذيب ج 6 من الطبعة الحديثية/ 219.

(3) فروع الكافي ج 7 من الطبعة الحديثية/ 412.

(4) من لا يحضره الفقيه من الطبعة الحديثية/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 445

..........

______________________________

قضائنا) فالأمر أوضح لأن قضائهم و حكمهم في مقام الترافع و أحكامهم الواصلة في الترافع و الخصومات ليست بكثيرة في نفسها فمن علم مقدارا من أحكامهم في مقام الترافع يكفي في صحة القضاء.

نعم يمكن ان يقال على نسخة التهذيب هو عدم صدق قوله عليه السّلام: يعلم شيئا من قضايانا الا على من عرف أكثر الأحكام لان إضافة الشي ء تختلف سعة و ضيقا بسعة المضاف اليه و ضيقه مثلا لو أضيفت كلمة (الشي ء) إلى البحر و قلت رأيت شيئا من البحر لا يكاد يطلق على الغرفة و نحوها بل لا بد و ان يكون كثيرا في نفسه و لكنه بالنسبة إلى

البحر شيئا، مع انه لو أضيف الشي ء إلى الإناء و الحب مثلا فيصدق على المقدار القليل.

و بما ان علوم أئمة أهل البيت عليهم السّلام بحر لا ينزف و لا يحيط بها أحد فلا يكاد يصدق عرفان شي ء من قضاياهم إلا إذا عرف مقدارا كثيرا من أحكامهم هذا.

و يلائم ما ذكرنا ما هو المعروف عن صاحب الجواهر (قدس سره) انه قيل له عند احتضاره و انكشاف الغطاء عنه: «عنده شي ء من علم جعفر بن محمد عليهما السّلام» مع انه من أكابر الفقهاء و إعلامهم.

و لكن مع ذلك كله لا يستفاد منها أكثر مما يستفاد من المقبولة و الحسنة و يكون الكلام فيها الكلام فيهما، و قد عرفت صدقهما على من عرف جملة معتدة بها من أحكامهم هذا على نسخة التهذيب.

و اما على نسختي الكافي و الفقيه فصدقه على المتجزى أوضح من ان يخفى ضرورة صدق شي ء من قضائنا على من عرف مقدارا من قضائهم و أحكامهم في مقام الترافع لأنها كما أشرنا ليست بكثيرة في نفسها، فمن علم مقدارا من أحكامهم و قضائهم في مقام الترافع يكفي في صحة القضاء.

و لو سلم ظهور الروايات (المقبولة و روايتا ابى خديجة) فيها فنقول: لم يقم دليل على ان منصب القضاء منصب الفتوى و ان المعتبر في باب القضاء معتبر في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 446

..........

______________________________

باب الفتوى لان باب القضاء يرتبط بأبواب كثيرة من الفقه فيمكن ان يعتبر في المتصدي لها العلم و العرفان بجملة وافية من أحكامهم، و أين هذا؟! من محل الكلام لوضوح ان العلم بمسئلة لا يتوقف على العلم بسائر المسائل الفقهية فتدبر.

و اما خبر الاحتجاج المروي عن الإمام

العسكري عليه السّلام فربما يتوهم ان ظاهر قوله عليه السّلام: من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه الى قوله فللعوام ان يقلدوه «1» حصر المقلد في الفقهاء المتصفين بالأوصاف الواردة في الخبر فلا يجوز تقليد غير الفقيه فمن لم يكن من الفقهاء و ان عرف جملة من الأحكام لا يجوز تقليده.

و لكن نوقش فيه: بوجوه من الاشكال: من ضعف السند، و انه بصدد التفرقة بين علماء اليهود و علمائنا و عوامهم و عوامنا، و انه ليس في مقام بيان الفقاهة في المقلد حتى يدور صحة التقليد مدارها، و ان مورد الخبر هو أصول الدين، و لم يصح التقليد بالمعنى المصطلح في أصول الدين و إخراج المورد مستهجن فلا يشمل التقليد في فروع الدين.

و لكن تقدم منا: و سيجي ء بعض الكلام في الوجوه المذكورة فمع الإغماض عن الوجوه المذكورة نقول:

ان غاية ما يستفاد من الخبر، حصر المقلد في الفقهاء و لا يجوز تقليد غير الفقيه فمن صدق عليه عنوان الفقيه يجوز تقليده و الفقيه و ان لم يصدق على من عرف و استنبط مسائل قليلة، و لكن إذا عرف جملة معتدا بها من المسائل بأن استنبط مسائل كتاب الطهارة أو الصلاة مثلا فلا ينبغي الإشكال في صدق عنوان الفقيه عليه فالمجتهد المتجزى إذا استنبط جملة وافية من الأحكام بحيث يعمه عنوان الفقيه، فيصح تقليده.

هذا كله بالنسبة الى ما يستفاد من الكتاب و السنة في تقليد المتجزى.

و اما الإجماع المدعى في بعض الكلمات على عدم جواز الرجوع الى المتجزى ففيه انه غير تمام في نفسه بعد ما عرفت، و على تقدير تماميته فغاية ما يقتضيه هو

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر

النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 447

..........

______________________________

عدم صحة تقليد المتجزي الذي لا يصدق عليه عنوان الفقيه عرفا كما إذا استنبط قليلا من الأحكام، و اما إذا استنبط جملة وافرة من الأحكام فيخرج معقد الإجماع كيف لا؟! و ربما يحكى عن بعض أعلام الفرقة انه قال في حق نفسه! انا متجز و شي ء زائد.

فتحصل مما ذكر انه لم يقم دليل على اشتراط الاجتهاد المطلق فيمن يصح تقليده بل إذا كان المجتهد المتجزى بحيث استنبط مقدارا معتدا به من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه، أو الناظر في الحلال و الحرام أو العارف بأحكامهم و نحو ذلك فيجوز تقليده بل ربما يجب إذا كان اعلم من المجتهد المطلق فيما استنبط و كان مخالفا له في الفتوى.

الشرط الثامن: الحيوة

قد عرفت فيما ذكرنا ذيل المسئلة التاسعة وجه اشتراط الحيوة في مرجع الفتوى، و انه لا يجوز تقليد الميت ابتداء نعم يجوز البقاء على تقليد الميت بل يجب إذا كان اعلم من الأحياء.

الشرط التاسع: الأعلمية

قد أشرنا في المسئلة الثانية عشر موقف اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى، و انه لا يشترط الأعلمية في صحة التقليد، و انما يشترط إذا علم بوجود الأعلم و علم مخالفة فتواه مع فتوى غير الأعلم، و كانت موافقة للاحتياط، و اما في غير تلك الصورة فلا يجب تقليده، فالاعلمية ليست شرطا لجواز أصل تقليد المجتهد و انما هي شرط فيما إذا علمت فتوى الأعلم و كانت فتواه موافقة للاحتياط و كانت فتوى غيره مخالفة له

الشرط العاشر: ان لا يكون متولدا من الزنا
اشارة

لا يخفى ان بناء العقلاء على عدم اشتراط طهارة المولد في من يرجع اليه الجاهل و لا يكادوا يفرقون بينه و بين المتولد من الزنا، بل مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية عدم اعتباره في مرجع الفتوى بتوهم انه لا دليل على اعتبار طهارة المولد إلا الأصل المحكوم ببناء العقلاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 448

..........

______________________________

و لكن فيه ما لا يخفى و لا ينبغي الإشكال في اعتبار طهارة المولد شرعا في مرجع الفتوى.

و ذلك لأنه قد اختلف في كفر المتولد من الزنا و نجاسته.

فعن السيد المرتضى و الصدوق و الحلي و جماعة القول بنجاسته، و عن الحلي نفى الخلاف عنها و عن بعضهم دعوى الإجماع عليها.

و لكن حكى عن المشهور شهرة عظيمة إسلامه و طهارته و سيجي ء إن شاء اللّه تحقيق الحال في كتاب الطهارة خلال البحث عن فروع نجاسة الكافر فارتقب.

فان قلنا بكفره و نجاسته فتكون طهارة المولد داخلة في اعتبار الايمان و الإسلام فاعتبارها في مرجع الفتوى واضحة.

الوجوه التي يستدل للاعتبار طهارة المولد
اشارة

و ان قلنا بصحة إسلام المتولد من الزنا و طهارته فيتمسك لاعتبار طهارة المولد في مرجع الفتوى بوجوه.

فمنها: الإجماع المدعى في الروضة و غيرها.

ناقش بعض الأساطين دام ظله:

أولا: بعدم ثبوت الإجماع المحصل.

و ثانيا: بعدم حجية الإجماع المنقول «1».

قلت: لا ينبغي التوقف في ثبوت الإجماع و تحققه و لعله مما تسالم عليه الأصحاب، و لذا لا ترى واحدا منا من الصدر إلى الساقة- إلا ما نسب الى الشاذ منهم- يجوّز تصدى المتولد من الزنا للفتوى.

نعم عدم إحراز كون الإجماع تعبديا مع وجود سائر الوجوه فكلام آخر.

و منها: فحوى ما دل على اعتبار طهارة المولد في إمام الجماعة، و ما دل على عدم قبول شهادة ولد الزنا.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 132.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 449

..........

______________________________

اما اعتبارها في إمام الجماعة فعليه النص و الفتوى.

ففي خبر ابى بصير ليث المرادي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

خمسة لا يؤمون الناس على كل حال و عد منهم المجنون، و ولد الزنا «1».

و في خبر زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يصلين أحدكم خلف المجنون و ولد الزنا «2».

و في خبر محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام انه قال:

خمسة لا يؤمون الناس و لا يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة و عد منهم ولد الزنا «3».

و في خبر أصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام:

يقول: ستة لا ينبغي ان يؤموا الناس ولد الزنا و المرتد الخبر «4».

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 449

و اما ما دل على عدم قبول شهادة ولد الزنا.

ففي خبر ابى بصير قال:

سئلت أبا جعفر عليه السّلام عن ولد الزنا: أ تجوز شهادته؟ قال:

لا، فقلت ان الحكم بن عتيبة يزعم انها تجوز فقال عليه السّلام

اللهم لا تغفر ذنبه ما قال اللّه للحكم، و انه لذكر لك و لقومك «5».

و في خبر محمد بن مسلم قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لا تجوز شهادة ولد الزنا «6».

و في خبر عبيد بن زرارة عن أبيه قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 1.

(2) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 2.

(3) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 4.

(4) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 6.

(5) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 1.

(6) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 450

..........

______________________________

سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول لو ان أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل و فيهم ولد الزنا لحددتهم جميعا لأنه لا تجوز شهادته و لا يؤم الناس «1».

و في خبر على بن جعفر عن أخيه عليهم السّلام قال:

سئلته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته قال لا يجوز شهادته و لا يؤم «2».

و في خبر عبيد اللّه الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ينبغي لولد الزنا ان لا تجوز له شهادته و لا يؤم بالناس لم يحمله نوح في السفينة و قد حمل فيها الكلب و الخنزير «3».

الى غير ذلك.

إذا عرفت حال ولد الزنا في إمامة الجماعة و الشهادة فإذا لم يرض الشارع بامامة ولد الزنا و لم يعتد بشهادته لخسته في ذاته فكيف يرضى بزعامته للمسلمين و رجوعهم إليه في أمور الدين و الدنيا.

في ولد الزنا منقصة ذاتية

و منها: ان في المتولد من الزنا منقصة ذاتية و موجبة لتنفر الأمة الإسلامية عنه و هو و ان لم يكن مقصرا في ذاته مع استجماعه لسائر

الشرائط فلو كان فقيها عادلا في غاية الورع و التقى الا انه كما أشرنا أن المرتكز في أذهان المتشرعة عدم رضي الشارع زعامة كل من له منقصة مسقطة له عن المكانة و الوقار، و المتولد من الزنا كعدم الايمان، و عدم العدالة، و عدم العقل منها، و منصب الفتوى من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية و الإمامة، و كيف يرضى الشارع الأقدس الحكيم، ان يتصدى لمنصب عظيم الفتوى من لا قيمة له لدى المسلمين و الشيعة المراجعين له.

و ربما يؤيد ما ذكرنا ما يقال انه ورد أخبار في توصيف الفقهاء و مراجع

______________________________

(1) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 4.

(2) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 8.

(3) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 451

..........

______________________________

الفتوى تارة بأنهم خلفاء اللّه، و خلفاء رسوله، و اخرى بأنهم أمناء رسوله، و ثالثة بأنهم وسائط بين الخالق و الخلق، و رابعة بأنهم مثل الأنبياء أو أفضلهم الى غير ذلك مما ورد في حقهم و يبعد جدا وصول تلك المناصب الرفيعة لمثل ولد الزنا، و الفاسق و الكافر.

الشرط الحادي عشر: ان لا يكون مقبلا على الدنيا و طالبا لها مكبا عليها مجدا في تحصيلها.
اشارة

ففي الخبر: «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه».

أقول: ظاهر المتن هو انه بصدد إثبات أمر وراء اشتراط العدالة بداهة انه لو كان راجعا إلى شرطية العدالة لم يكن وجه للفصل بين قوله هذا و بين اشتراط العدالة بعدة شرائط.

ينبغي الكلام في مدرك اعتباره أولا ثم المراد منه.

الظاهر من المتن بقرينة قوله (قدس سره) ففي الخبر إلخ: ان مدرك اعتباره هذا الشرط هو الخبر المروي عن تفسير الإمام العسكري

عليه السّلام.

[كلام من التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام]
اشارة

و ليعذرنى القاري الخبير بذكر قطعة وافية من التفسير فلعلها دخيلة في فهم المقال و دافعة لبعض الشبهات الطارية في المقام.

ففي التفسير عند قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ «1».

قال رجل للصادق عليه السّلام: فاذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب الا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم و القبول من علمائهم، و هل عوام اليهود الا كعوامنا يقلدون علمائهم، فان لم يجز لأوليائك

______________________________

(1) البقرة: 2/ 79.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 452

..........

______________________________

القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم فقال عليه السّلام:

بين عوامنا و علمائنا و بين عوام اليهود و علمائهم فرق من جهة و تسوية من جهة.

اما من حيث انهم استووا فان اللّه قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما قد ذم عوامهم.

و اما من حيث انهم افترقوا. فقال عليه السّلام:

ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علمائهم بالكذب الصراح و بأكل الحرام، و الرشاء و بتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات و العنايات و المصانعات، و عرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم و انهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا له من أموال غيرهم و ظلموهم من أجلهم و عرفوهم فإنهم يقارفون المحرمات، و اضطروا بمعارف قلوبهم الى (الاظ) ان من يفعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز ان يصدق على اللّه، و لا على الوسائط بين الخلق و بين اللّه فلذلك ذمهم اللّه لما قلدوا من عرفوا و من قد علموا انه لا يجوز قبول خبره، و لا تصديقه في حكايته، و لا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم

يشاهدوه و وجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ كانت دلائله أوضح من ان يخفى و أشهر من ان لا تظهر لهم.

و كذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب على حطام الدنيا و حرامها و إهلاك من يتعصبون عليه الى ان قال:

فمن قلد من عوامنا من مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 453

..........

______________________________

فاما من كان الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه، و ذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فان من ركب من القبائح و الفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا و لا كرامة لهم، و انما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم و يضعون الأشياء على غير مواضعها لقلة معرفتهم، و آخرون يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم الى نار جهنم، و منهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا و ينتقصون لنا عند نصابنا، ثم يضيفون اليه أضعافه و أضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن برءآء منها فيتقبله المتسلمون من شيعتنا على انه من علومنا فضلوا و أضلوهم و هم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن على عليهم السّلام و أصحابه فإنهم يسلبونهم الأزواج و الأموال و للمسلوبين عند اللّه أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم، و هؤلاء علماء السوء الناصبون

المشبهون بأنهم لنا موالون و لأعدائنا معادون، و يدخلون الشك و الشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم و يمنعونهم عن قصد الحق المصيب الخبر «1».

كلمة في اعتبار التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام
اشارة

أقول: وقع الخلاف في اعتبار التفسير الذي إملائه الإمام أبو محمد الحسن بن على العسكري عليهما السّلام على ابى يعقوب يوسف بن محمد الزّياد، و ابى الحسن على بن

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري/ 120- 121 أورد قطعة مما ذكرنا في الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 454

..........

______________________________

محمد بن سيّار، و قد رواه عنهما شيخنا الصدوق بواسطة أبي الحسن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي الخطيب.

قال شيخنا الحر العاملي (ره) في خاتمة الوسائل:

«نروى تفسير الامام الحسن بن على العسكري عليهما السّلام بالإسناد عن الشيخ ابى جعفر الطوسي عن المفيد، عن الصدوق، عن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي، عن يوسف بن محمد بن زياد، و على بن محمد بن سيار، قال الصدوق و الطبرسي- و كانا من الشيعة الإمامية- عن أبويهما عن الامام عليه السّلام، و هذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض العلماء الرجال لان ذاك يروى عن ابى الحسن الثالث عليه السّلام و هذا عن ابى محمد عليه السّلام، و ذاك يرويه سهل الديباجي عن أبيه، و هما غير مذكورين في سند هذا التفسير أصلا، و ذاك فيه أحاديث من المناكير و هذا خال من ذلك، و قد اعتمد عليه رئيس المحدثين ابن بابويه فنقل عنه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه و في سائر كتبه و كذلك الطبرسي و غيرهما من علمائنا» «1».

قلت: الظاهر ان أبويهما غير داخلين في سلسلة السند و قد كتبه الولدان

عن إملائه عليه السّلام و روياه عنه بغير واسطة، كما هو صريح خطبة التفسير، و ان كان في خاطرك شيئا فلاحظ ذريعة شيخنا العلامة الطهراني (ره) ج 4/ 293، و ما افاده شيخنا الحر (ره) أيضا في الفوائد الطوسية في الفائدة (42)/ 129 فلاحظ.

و قال شيخنا العلامة النوري (ره) في خاتمة المستدرك «ان شيخنا الصدوق أكثر من النقل عن التفسير في أغلب كتبه، كالفقيه، و الأمالي، و العلل، و غيرها، و اعتمد على ما فيه كما لا يخفى على من راجع مؤلفاته، و تبعه على ذلك أساطين المذهب و سدنة الاخبار. فعد منهم الشيخ الطبرسي في الاحتجاج، و القطب الراوندي في الخرائج، و ابن شهرآشوب في المناقب، و المحقق الكركي في إجازته لصفي الدين

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 59.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 455

..........

______________________________

الحلي، و الشهيد الثاني في المنية، و المجلسي الأول في شرح المشيخة و ابنه العلامة المجلسي في البحار، و الأستاد الأكبر في التعليقة. و المحدث البحراني، و الشيخ سليمان في الفوائد النجفية، و الشيخ الحر العاملي، و المحدث الجزائري، و الشيخ سليمان الحلي تلميذ الشهيد الثاني، و الشيخ عبد العلى الحويزي في نور الثقلين الى غير ذلك من الأعلام» «1».

المناقشة في اعتبار التفسير و دفعها

و لكن مع ذلك يظهر من جماعة تضعيف التفسير منهم العلامة في الخلاصة قال:

«محمد بن القاسم، أو أبو القاسم، المفسر الأسترآبادي روى عنه، أبو جعفر بن بابويه، ضعيف كذاب روى عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما يعرف بيوسف بن محمد بن زياد، و الأخر بعلي بن محمد بن سيار، عن أبويهما عن ابى الحسن الثالث عليه السّلام و التفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه

بأحاديث من هذه المناكير» «2».

قال شيخنا النوري: انه لم يسبقه فيما بأيدينا من الكتب الرجالية و الحديث سوى ابن الغضائري و لم يلحقه أيضا سوى المحقق الداماد «3».

و عن نقد الرجال ان ما ذكره العلامة في الخلاصة مأخوذ بعينه عن ابن الغضائري كما ان ما عن السيد الداماد لم يزد على ما في الخلاصة شيئا «4».

و وافقهم في ذلك بعض المتأخرين فقد يقال ان من أمعن النظر في التفسير يطلع على أمور عظيمة مخالفة لأصول الدين و المذهب مغايرة لطريقة الأئمة عليهم السّلام «5» و قد تعرض شيخنا النوري لدفع ذلك و ذكر وجوها يمكن ان يتشبث بها لتضعيف اعتبار التفسير، و لقد أجاد في دفعها كما ان شيخنا العلامة التهرانى وافق شيخه في ذلك و اتى بما لعله لا مزيد عليه في اعتبار التفسير، و قد اتعبا أنفسهما الزكية

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3/ 661.

(2) خلاصة الرجال/ 256.

(3) مستدرك الوسائل ج 3/ 662/ 663.

(4) مستدرك الوسائل ج 3/ 662/ 663.

(5) مستدرك الوسائل ج 3/ 662/ 663.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 456

..........

______________________________

في دفع المناقشات الواردة في انتساب التفسير الى الامام العسكري عليه السّلام، و دفع وجود المناكير و مخالفة المذهب و الدين فيه و صحة انتساب التفسير اليه عليه السّلام، و تضعيف كتاب الضعفاء المنسوب الى ابن الغضائري.

و لعمر الحق ان من لاحظ ما أفاداه في خاتمة المستدرك «1» و الذريعة «2» بعين الإنصاف يذهب عن ذهنه و خاطره جميع الشكوك و المناقشات و يطمئن باعتبار سند التفسير، و عدم وجود المناكير، و عدم مخالفة المذهب و الدين فيه.

و حيث ان مقالهما طويل الذيل حاويا لنكات و دقائق لعله

يفوتنا تلخيصهما طوينا عن تلخيصهما كشحا، و من أراد كشف حقيقة الحال فليراجعهما، ثم ليكن من الشاكرين.

إذا أحطت خبرا بما أفاداه يظهر لك ضعف ما ذكره العلامة التستري في الاخبار الدخيلة «3» فذكر موارد عديدة من التفسير و أتعب نفسه بعدم مطابقتها لما في بعض الكتب التاريخية، مع انه يمكن إرجاع جملة منها الى اختلاف نسخ التفسير، و وقوع الاشتباه بذكر بعض الأسامي مكان بعض، و الاختلاف في ستة الواقعة و نحو ذلك، مع ما نرى من وقوع الاشتباهات الكثيرة في الكتب التاريخية، فهل كانت في الأمة الإسلامية واقعة أعظم من ولادة النبي الأعظم عليه السّلام و ارتحاله، و مع ذلك ترى اختلاف المسلمين فيهما، و ترى وقوع الاختلاف في مواليد أئمة أهل البيت عليهم السّلام و وفياتهم و لم يقع اتفاق منهم إلا في بعض مواليدهم و ارتحالاتهم و شهاداتهم فلاحظ.

و بالجملة عدم مطابقة ما في التفسير لما في الكتب التاريخية لا يوجب وهنا فيه مع إمكان توجيهها بنحو من الأنحاء و الا ربما يوجب و هنا في كثير من اخبار كتب الحديثية المعتمدة كما لا يخفى على الخبير المتدرب.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3 من 661 إلى 664.

(2) الذريعة ج 4 من 283 الى 293.

(3) الاخبار الدخيلة ج 1/ 152.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 457

..........

______________________________

فتحصل مما ذكرنا ان هذا التفسير من جملة الكتب المعتبرة التي أشار إليها الصدوق في أول كتاب من لا يحضره الفقيه.

الا انه يمكن ان يقال ان نسخ التفسير مختلفة حيث لم يكن عليها إملاء المشايخ و قراءة السلف الصالح فيشكل إثبات حكم شرعي على النسخة الموجودة بأيدينا إلا إذا كانت هناك قرينة على اعتبارها

كما هو الشأن في غير الكتب الأربعة و ما ضاهاها- غير الدراجة بين الأصحاب أيضا- و قد كان أستاذنا العلامة البروجردي (قدس سره) يصعبه الاستناد بأحاديث الجوامع غير الكتب الأربعة مما لم تكن متعارفا بين المشايخ قراءة و إملاء و كتابة فتدبر و اغتنم.

هذا ما يتعلق باعتبار أصل التفسير.

و مع الإغماض عما ذكرنا قد يقال ان هذه الفقرة المعروفة التي ذكرها الماتن (قدس سره) و اشتهر بين أنديه العلماء لها موقعية خاصة.

فقال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عند ذكر الروايات التي استدل بها لحجية خبر الواحد بعد ما أورد الفقرة المذكورة «ان هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق إلخ» «1».

و قال بعض الأعلام: يمكن دفع خدشة ضعف السند فان علو مضمونه و اعتماد جملة من الأعلام يكفي في التعويل عليه.

يؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه إفتاء الماتن (قدس سره) بمضمون الخبر و لم أجد أحدا من الأعلام المعلقين على المتن النقاش فيه، و ان اختلفوا في المراد منه.

فقد يقال انه لا يستفاد من الخبر الشريف أزيد من شرطية العدالة.

كما انه قد يقال ان المستفاد منه أكثر من اعتبار العدالة و لا يخفى ان هذا منهم قرينة على اعتبار سند الخبر الشريف عندهم فتدبر.

هذا ما يتعلق بسند الخبر، و قد خرجنا عن طور البحث و أطنبنا المقال فيه و

______________________________

(1) فرائد الأصول مبحث حجية الظن/ 80.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 458

..........

______________________________

السر في ذلك استنادهم إليه في جملة من المواقف: في أصل التقليد، و في اعتبار الايمان في مرجع الفتوى، و عدالته و غيرهما من الشرائط بل في اعتبار المرتبة العالية من العدالة كما يظهر من المتن.

المناقشة في دلالة الخبر الشريف لاعتبار العدالة في مرجع الفتوى و دفعها

و اما دلالة

الخبر فقد يناقش في دلالته من وجوه.

الوجه الأول: انه لا يستفاد منه اعتبار العدالة و غاية ما يستفاد منه اعتبار الامانة و الوثوق في النقل و التحرز من الكذب.

فقال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): «ان ظاهر الخبر و ان كان اعتبار العدالة بل ما فوقها و لكن المستفاد من مجموعه ان المناط في التصديق هو التحرز من الكذب فافهم» «1».

و اليه يشير ما في المستمسك حيث أشكل في دلالته على أكثر من اعتبار الامانة و الوثوق فقال: «كما يظهر من ملاحظة مجموع الفقرات و ان كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة» «2».

و أشير إليه أيضا في الدروس حيث قال: ان المستفاد منه اعتبار العدالة من جهة الأمن عن الخيانة و الكذب لا من جهة التعبد و ان حصل الوثوق به فإنه عليه السّلام بعد ان ذكر أوصاف الفقيه- الذي للعوام ان يقلدوه- قال: «و ذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فان من ركب من القبائح، و الفواحش مراكب العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا و لا كرامة، و انما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم و يضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم و آخرون يتعمدون الكذب علينا. الحديث» فإنه عليه السّلام علل عدم القبول من الفسقة بالتحريف اما لجهلهم أو لتعمد الكذب و محل الكلام هو بعد الفراغ عن

______________________________

(1) فرائد الأصول مبحث حجية الظن/ 80.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 46.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 459

..........

______________________________

الوثوق به «1».

و لكن فيه: انه مع اعترافهم بكون الظاهر من قوله عليه السّلام: اما من

كان من الفقهاء إلخ اعتبار العدالة- أو ما فوقها عند بعضهم- لا يصار إلى ملاحظة مجموع الفقرات لأنه من الممكن ان يكون لكل فقرة حكم يخصها. مع انه لا تنافي بين استفادة اعتبار العدالة من هذه الفقرة و استفادة التحرز من الكذب و الامانة و الوثوق من سائر الفقرات و مجرد التعليل بعدم اتصاف فاقد المتصف بالصفات، بصفات علماء العامة بلحاظ ارتكاب القبائح و الفواحش و غيرها لا يدل على ارادة خلاف الظاهر من الفقرة المتعرضة للصفات المذكورة، مع انه بملاحظة قوله عليه السّلام في ذيل الخبر (منهم قوم نصاب لا يقدرون على القدح فينا إلخ) لا يستفاد ان عدم القبول من الفسقة منحصر بجهل الفسقة أو تعمد الكذب فتدبر.

و بالجملة ذكر نقاط ضعف فسقة علماء العامة لا يلائم رفع اليد عن ظاهر الفقرة النورانية المتلألة من الخبر الشريف بحيث يرى العناية الشديدة بالعناوين المذكورة فيه.

فإذا ملاحظة مجموع الفقرات و رفع اليد عن ظهور هذه الفقرة النورانية في مفاده غير ملائم.

المناقشة في كون مورد الخبر أصول الدين التي لا يصلح فيها التقليد و دفعها

الوجه الثاني: ان مورد الخبر أصول الدين و لم يصح التقليد بالمعنى المصطلح فيها و إخراج الأصول منه إخراج للمورد و هو مستهجن فلا بد و ان يوجه بوجه، أو رد علمه إلى أهله. ذكر هذا الوجه أيضا في المستمسك «2» و أشار إليه أستاذنا العلامة الخمينى (دام ظله) في الرسائل «3».

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 123.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 66.

(3) الرسائل/ 140.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 460

..........

______________________________

ورد هذا الوجه: بان المراد بالتقليد هو معناه العرفي و هو الاستناد الى الغير في مقام العمل سواء كان العمل من الجوانح، أو الجوارح، و لا ريب في حصول الوثوق

و الاطمئنان من قول من كان متصفا بالصفات المذكورة في الخبر، و هذا المقدار يكفي في الاعتقاد بمباني الدين لغالب الناس و ان كان يجب على النفوس القوية تحصيل مرتبة أعلى بل اقامة البرهان عليها.

و بالجملة المعتبر في مباني الدين و أصوله- كما سنشير اليه- هو ان يكون ذلك عن علم و اطمينان من اى طريق حصل و ان لم يقدر اقامة البرهان على مزعمته و من البديهي حصول ذلك لغالب الناس من قول الفقيه الصائن لنفسه الحافظ لدينه المخالف على هواه، المطيع لمولاه، بل ربما يحصل الاطمئنان من قول من لم يكن بهذه المثابة أيضا، و هل الخبير الواقف على معتقدات عامة الناس يجد ان اعتقادات أكثر الأمة لم تكن بالدليل و البرهان بل كثير منهم يحصل لهم ذلك من قول من يكون له موقعية و موقف في المجتمع و ان لم تكن بتلك المثابة.

لا أقول بكفاية ذلك من كل أحد بل كما أشرنا انه يجب على ذوي النفوس المستعدة ان يكون ذلك عن دليل و يجب اقامة الدليل على معتقداته و انما أقول بكفاية الاعتقاد بمباني الدين من اى طريق حصل لغالب الناس و سيجي ء في مسئلة عدم الجواز التقليد في أصول الدين ماله نفع للمقام فارتقب.

و يدل على ما ذكرنا بعض فقرأت الخبر فإنه عليه السّلام قرر السائل في أصل جواز التقليد في قوله (فرق بين عوامنا و عوام اليهود من جهة و تسوية من جهة الخبر) فلاحظ.

المناقشة في دلالة الخبر على اعتبار العدالة في المفتي بقاء و دفعها

الوجه الثالث: انه لو سلم دلالة الخبر على اعتبار العدالة فغاية ما يستفاد منه اعتبارها في المفتي بحسب الحدوث فلا دلالة له على اعتبارها بقاء كما إذا قلده حال

الدر النضيد في الاجتهاد و

الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 461

..........

______________________________

عدالته ثم طرء عليه الفسق و الانحراف «1».

و فيه: انه كما أشرنا ان اعتبار العدالة في مرجع الفتوى لم يكن في محيط العرف و العقلاء بل مقتضى إطلاق الأدلة عدم اعتبارها، فان اعتبرت فإنما هو بتعبد من الشرع.

و الإنصاف انه لا يفرق اعتبار العدالة من قبل الشرع بين حالتي الحدوث و البقاء لما أشرنا ان الفسق منقصة دينية لا يناسب المتصف به لمنصب رفيع المرجعية فإذا ان دل الخبر على اعتبارها فيستفاد منه اعتبارها بقاءا أيضا لأن المترائى من قوله عليه السّلام (من كان من الفقهاء الخبر) ان تقليد عوام الشيعة و استنادهم في أعمالهم طول حياتهم لا بد و ان يكون بالفقهاء المتصفين بالصفات المذكورة فالتفرقة بين الحدوث و البقاء كما ترى فتدبر.

فبعد ما عرفت: من اعتبار سند الخبر و دفع المناقشات المذكورة حان عطف النظر الى ما يستفاد من العناوين المأخوذة في الخبر الشريف فهل يستفاد منها اعتبار العدالة أو المرتبة العالية منها؟ وجهان بل قولان.

استفادة المرتبة العالية من العدالة من الخبر الشريف

يظهر من ثلة من المعلقين على المتن ان الصفات المذكورة في الخبر ليست إلا عبارة عن عدالته و تقواه لا شرطا زائدا على العدالة.

و في تعليق العلامة الفقيه الأصفهاني (قدس سره): «ان الإقبال على الدنيا و طلبها ان كان على الوجه المحرم فهو يوجب الفسق المنافي للعدالة فيغني عنه اعتبارها و الا فليس بنفسه مانعا عن جواز التقليد و الصفات المذكورة في الخبر ليست إلا عبارة أخرى عن صفة العدالة».

و علق أستاذنا العلامة الجليل البروجردي (قدس سره) «ان المعتبر من عدم كونه مقبلا للدنيا هو المقدار الذي يعتبر في العدالة و الخبر لا يدل على أزيد من ذلك أيضا»

______________________________

(1) مدارك

العروة للعلامة البيارجمندى ج 1/ 67.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 462

..........

______________________________

و لكن المستفاد من الخبر بعد التأمل هو معنى ينطبق على المرتبة العالية من العدالة لا معنى يصدق على المرتبة الدانية منها.

و هذا هو المتراءى من المتن كما صرح بذلك العلامة الإصطهباناتي (قدس سره) في تعليقته و لقد أجاد فيما أفاد حيث قال: «ان مراد الماتن بملاحظة ما ياتي في مطاوي كلماته من تقديم العدل الأورع على العدل الورع هو الورع و الزهد و لو بمثل هذه المرتبة و ان كان هذا الإقبال و ذلك الطلب على وجه محلل لا محرم فلا يكون راجعا الى اشتراط العدالة حتى يكون اشتراطها مغنيا عن اشتراطه، و يظهر ذلك من الخبر الشريف بالتأمل الصادق لا العدالة كما يرشد اليه ما في بعض الاخبار الأخر مثل قوله عليه السّلام إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم و نحوه.

و يظهر من العلامة البجنوردى، ان المستفاد من الخبر مرتبة كاملة من العدالة الا انه أشكل اعتبار أمر زائد على العدالة هذا.

قلت الإنصاف: كما أشرنا في اعتبار العدالة: ان الاعتبار و مناسبة الحكم و الموضوع و ما أشير إليه في تعليقة العلامة الإصطهباناتي هو اعتبار المرتبة العالية منها في مرجعية الفتوى لأن مرجعية الفتوى مخطرة عظيمة و مزلة الاقدام كما لا يخفى على البصير الخبير فلا بد و ان يكون له مواظبة شديدة و مراقبة تامة في اعماله و حركاته حتى لا تزول بطرو الحوادث و الموانع عصمنا اللّه و إياكم من الزلل و ثبتنا على الصراط المستقيم.

مناقشة بعض الأساطين في دلالة الخبر الشريف على المرتبة العالية من العدالة و دفعها

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بعض الأساطين دام ظله حيث قال:

«انه لا مساغ للأخذ بظاهرها

و إطلاقها حيث ان لازمه عدم جواز الرجوع الى من ارتكب امرا مباحا شرعيا لهواه إذ لا يصدق معه انه مخالف لهواه لأنه لم يكن مخالفا لهواه حتى في المباحات، و من المتصف بذلك؟! غير المعصومين عليهم السّلام فإنه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 463

..........

______________________________

أمر لا يحتمل ان يتصف به غيرهم، أو لو وجد فهو في غاية الشذوذ، و من ذلك ما قد ينسب الى بعض العلماء من انه لم يرتكب مباحا طيلة حياته و انما كان يأتي به مقدمة لأمر واجب أو مستحب الا انه ملحق بالعدم لندرته، و على الجملة ان أريد بالرواية ظاهرها و إطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مر، و ان أريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة أخرى عن العدالة و ليس أمرا زائدا عليها، و قد ورد ان أورع الناس من يتورع عن محارم اللّه، و مع التأمل في الرواية يظهر ان المتعين هو الأخير فلا يشترط في المقلد زائدا على العدالة شي ء أخر» «1».

وجه النظر: ان المستفاد من الرواية كما أشار إليه دام ظله أمر زائد على العدالة المعتبرة في إمام الجماعة و نحوه.

و ان شئت قلت انه بصدد اعتبار المرتبة العالية من العدالة الحاصلة من المحافظة التامة و المراقبة الشديدة في جادة الشريعة و يناسبة الاعتبار و مناسبة الحكم و الموضوع كما أشرنا.

و المراد بمخالفة الهوى ليس ما عناه دام ظله بحيث يصدق على من ارتكب امرا مباحا لهواه بل المراد هو الأهواء النفسانية الباطلة التي كثيرا ما يعرض للإنسان يمكنه توجيهه على الموازين و لكن يرى الإنسان من نفسه بينه و بين ربه ان

إتيانه مطابق لهواه النفسانية الفاسدة.

و بالجملة هو أمر يدرك و يصعب توصيفه و تبيينه خصوصا بالكتابة، و من كان بهذه المرتبة من التقوى لا يحوم حول منصب رئاسة الفتوى و لا يكون همه نيل الرئاسة لا أقول لا يتصديها أصلا لأنه ربما يستحب بل يجب تصديها بل أقول و أجمل لا يكون همه و مقصوده الرئاسة بل يرى الرئاسة امرا شاقا على نفسه و لا يتصديها و لا يقبلها إلا لأجل أداء الوظيفة و دفع الكربة و اقامة لدعائم الشريعة و اغزازا للحوزة و نحو ذلك و ان أبيت عن اعتبار هذه المرتبة فلا أقل لا بد و ان لا يكون محبا و مكبا على

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 236.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 464

..........

______________________________

تحصيل الرئاسة و لا يكون مجدا في تحصيلها و شائقا في الوصلة إليها بل ينبغي ان يكون بحيث لو حصلت له الرئاسة و خضعت له أزمتها ركبها و أخذ زمامها و نال منها ما ينتفع به للدين و الديانة و الا ألقاها على عاتقها.

و قد كان سماحة أستاذنا العلامة البروجردي قدس يقول عند تعطيل دروس الحوزة العلمية ما حاصله: «ان من يتعلم و يتدرس للنيل الى ما ابتلينا به أخريات عمرنا فهو مجنون» مع انه قدس صار مرجعا عظيما، و زعيما بلا منازع للحوزات العلمية، فإذا كان النيل بالمرجعية العظمى للشيعة جنونا فما ظنك للنيل و الوصول الى دون تلك المرتبة عصمنا اللّه و إياكم من الوقوع في المهالك.

و لعمر الحق ان المستفاد من الخبر الشريف بعد التأمل الصادق هو هذه المرتبة العالية من التقوى و هذه المرتبة هي التي تناسب مقام الفتوى الذي مزلة،

للإقدام و مخطرة عظيمة، و لو لا هذه المرتبة العظيمة لما يبقى الاستقامة في جادة الشريعة.

و لصاحب الحدائق و سيد مشايخنا (قدس سرهما) كلمة نفيسة في هذا المضمار ذكرناها في مسئلة اعتبار العدالة فلاحظ/ 429.

الاستدلال بالأخبار لاعتبار المرتبة العالية من العدالة في مرجع الفتوى

يمكن الاستياس بل الاستدلال لما ذكرنا ببعض الأخبار التي نشير الى ثلة منها.

مثل خبر معمر بن خلاد عن ابى الحسن عليه السّلام انه ذكر رجلا فقال انه يحب الرئاسة فقال:

ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من الرئاسة «1».

و خبر ابى عامر بن جناح عن رجل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

من طلب الرئاسة هلك «2».

و في خبر ابى سياح عن أبيه قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

______________________________

(1) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 1.

(2) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 465

..........

______________________________

من أراد الرئاسة هلك «1».

و خبر أبي حمزة الثمالي قال قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إياك و الرئاسة «2».

و مرفوع إسماعيل بن بزيع قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث نفسه بها «3».

و خبر محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

أ ترى لا اعرف خياركم من شراركم؟! بلى و اللّه ان شراركم من أحب ان يوطأ عقبه، انه لا بد من كذاب أو عاجز الرائي «4».

الى غير ذلك من الاخبار المذكورة في الباب الخامس من أبواب جهاد النفس من الوسائل فلاحظ.

و خبر هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

رأس كل خطيئة حب الدنيا «5».

و خبر الكراجكي قال:

قال رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله: من أحب دنياه أضر بآخرته «6».

و خبر عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ان أول ما عصى اللّه به ستة: حب الدنيا، و حب الرئاسة، و حب الطعام، و حب النوم، و حب الراحة، و حب النساء «7».

و في إرشاد المفيد في كتاب ابى عبد اللّه عليه السّلام الى أهل الكوفة.

______________________________

(1) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 7.

(2) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 3.

(3) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 6.

(4) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 9.

(5) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 1.

(6) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 5.

(7) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 466

..........

______________________________

فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالسيف الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذات اللّه «1».

الى غير ذلك من الاخبار التي يجدها المتتبع.

الشرائط التي يذكر لمرجع الفتوى غير ما ذكره الماتن

اشارة

هذا كله في الشرائط التي أوردها المصنف لمرجع الفتوى فحان عطف النظر الى ما ربما يذكر له من الشرائط.

فمنها: غلبة الذكر
اشارة

بان يكون حفظه متعارفا لم يغلبه النسيان فان كان دون المتعارف فلا يعتنى بارائه

وجه اعتبار غلبة الذكر في مرجع الفتوى و دفعه

قال المحقق في المختصر: «لا بد و ان يكون القاضي ضابطا فلو غلبه النسيان لم ينعقد له القضاء».

و قال في الرياض: «انه قال المحقق هنا (يعني في المختصر) و في الشرائع، و الإرشاد، و القواعد، و الدروس، و غيرها و الظاهر عدم الخلاف فيه، و تدل عليه عبارة الروض ظاهرا، و وجهه واضح. و قيده بعضهم بالضبط في محل الحكم لا مطلقا إذ ما نجد مانعا لحكم من لا ضبط كثيرا له مع اتصافه بالشرائط و ضبط هذه الواقعة انتهى و لا بأس به» «2».

و حيث ان المعتبر في القضاء معتبر في الفتوى فيعتبر ذلك في الفتوى أيضا.

و قد حكى ان الفقيه الهمداني (قدس سره) طرء عليه في أخريات عمره الشريف حالة لم يكن معها بحيث يغلب عليه حفظ المطالب فأشار الى مقلديه بالعدول عنه.

و فيه: ان طرو النسيان ان كان بحيث يسلب عنه العلم و الدراية فله وجه و الا فإن كان متحفظا على آرائه مضبوطا و مكتوبا عنده بحيث لا يتجاوزه و لا يتعداه

______________________________

(1) إرشاد المفيد/ 225.

(2) رياض المسائل ج 2/ 389.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 467

..........

______________________________

فلا دليل على اعتبار الحفظ، كما هو الشأن في بعض المراجع العظام في أخريات أعمارهم الشريفة فتريهم لا يكون لهم قوة الحفظ و الذكر و لا يكادون يتحفظون على المطالب و المسائل و الدقائق، و قد كانوا حافظين لها في أوائل أعمارهم و أوساطها، و لكن مع طرو هذه الحالة لا يكادون يفتون بمجرد المراجعة لديهم و السؤال عنهم بل يحتاطون و يوظفون أنفسهم بالمراجعة

إلى المدارك و ما حصّلوه من الفتاوى.

ثم انه لو ثبت اعتبار غلبة الذكر في باب القضاء فلم يثبت ان كل ما يكون شرطا في القضاء يكون شرط في الفتوى كما ذكرنا غير مرة.

و منها: الكتابة
اشارة

قال المحقق في الشرائع في شرائط القاضي: «الأقرب ان يكون عالما بالكتابة لما يضطره من الأمور التي لا يتيسر لغير النبي صلّى اللّه عليه و آله بدون الكتابة» و قال نحوه في المختصر، و عن المسالك نسبته الى الشيخ و أكثر الأصحاب و ربما ادعى الإجماع عليه

توجيه اعتبار الكتابة و دفعه

الوجه في اعتبار الكتابة هو اضطرار القاضي لها في الأمور التي لا يتيسر لغير النبي صلّى اللّه عليه و آله لعدم عصمته و إمكان سهوه و نسيانه و غفلته، فلا يقاس بالنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لعصمته و امتناع السهو و النسيان عليه قطعا، و قوة حافظته بحيث لا يحتاج إليها مع استمداده بالوحي.

فباعتبارها في القضاوة يعتبر في الفتوى أيضا.

و لكن في الجواهر «انه لا دليل على اعتبارها سوى الاعتبار المزبور الذي لا ينطبق على أصولنا، بل إطلاق دليل النصب في نائب الغيبة يقتضي عدمه، على انه يمكن الاستغناء بوضع كاتب بل و غير الكتابة من طرق الضبط بل ربما لا يحتاج إليها» «1».

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 468

..........

______________________________

و لو سلم اعتبارها في القاضي بدليل الاعتبار، أو الإجماع، فلا دليل على معرفتها بخصوصها في مرجع الفتوى فمن كان متذكرا للمطالب و لكن لم يقدر على الكتابة و لكن كان له محرز يحرز المسائل و المطالب لما كان دليل على اعتبارها.

كلمة في كتابة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و قراءته

ينبغي الإشارة الإجمالية إلى كتابته صلّى اللّه عليه و آله و قراءته.

اختلفت الأمة الإسلامية في كتابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده المباركة.

فعن جمهور العامة: انه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتب و أوّلوا الأخبار التي فيها انه أخذ الكتاب أو كتب فحملوها على انه أمر ان يكتب الكتاب و الى هذا القول يشير ما قيل:

نگار من كه بمكتب نرفت و خط ننوشت بغمزه مسئله آموز صد مدرس شد

و ما أنشده السنائي:

اگر بودى كمال أندر نويسائى و خوانائى چرا آن قبله كل نانويسا بود و ناخوانا

و عمدة

ما يستدل لهم أمران.

الأول: قوله تعالى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ «1».

و قوله تعالى فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ «2».

بدعوى أن الأمي من لم يحسن القراءة و الكتابة.

الثاني: قوله تعالى وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لٰا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتٰابَ الْمُبْطِلُونَ «3».

فقد نفى القراءة و الكتابة عنه صلّى اللّه عليه و آله و لا يخفى ما في الاستدلال بهما.

اما الأول: فلأنه ذكر لاميته صلّى اللّه عليه و آله معاني و ان كان أحدها ذلك، فلا وجه

______________________________

(1) الأعراف: 7/ 157.

(2) الأعراف: 7/ 158.

(3) العنكبوت: 29/ 48.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 469

..........

______________________________

لاختصاص الآية الشريفة بذلك المعنى.

و من تلك المعاني كونه صلّى اللّه عليه و آله منسوبا إلى أم القرى.

و منها: كونه عربا، و تدعى العرب الأميون، و قد حمل عليه.

قوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «1».

و يحتمل ان يراد بالاميين من لم يبعث إليهم نبي في قبال أهل الكتاب، فيكون المراد بالنبي الأمي: المبعوث الى امة لم يبعث إليهم نبي.

فإذا لا وجه لحمل الآية على ذلك المعنى.

و اما الثاني: فلان النفي في الآية الشريفة بالنسبة الى قبل نزول القرآن، و قبل تحقق امنيّته و رسالته، و اما بعد نزول القرآن فلا مانع من ان يعرف القرآن من غير معلم بمعجزة أخرى فتدبر، و قد حكى ذلك عن السيد المرتضى (قدس سره) فقال ان ظاهر الآية يقتضي نفى القراءة و الكتابة بما قبل النبوة، و لأنهم إنما يرتابون في نبوته لو كان يحسنها قبل النبوة، و اما بعدها فلا تعلق له بالريبة، فيجوز ان يكون يعلمها من جبرئيل بعد النبوة و يجوز ان

لم يتعلم فلا يعلم.

و عن شيخ الطائفة: انه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بالكتابة و انما كان فاقدا لها قبل البعثة.

و عن الحلي: انه صلّى اللّه عليه و آله عندنا يحس الكتابة بعد النبوة و انما لم يحسنها قبل البعثة اه.

و ظاهره الإجماع عليه منا.

و الاخبار في الباب مختلفة فاستظهر من بعضها انه لم يقرء و لم يكتب، كما ان في بعضها الأخر انه كان يقرء و لا يكتب.

ففي خبر هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقرء الكتاب و لا يكتب «2».

______________________________

(1) الجمعة: 62/ 2.

(2) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 470

..........

______________________________

و خبر حسن الصيقل قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

كان مما من اللّه عز و جل به على نبيه صلّى اللّه عليه و آله انه كان أميالا يكتب و يقرء الكتاب «1».

و في ثالث انه صلّى اللّه عليه و آله يقرء و يكتب.

فعن العلل، و معاني الاخبار، و الاختصاص، و بصائر الدرجات عن جعفر بن محمد الصوفي قال سئلت أبا جعفر محمد بن على الرضا عليه السّلام فقلت: يا بن رسول اللّه لم سمي النبي صلّى اللّه عليه و آله الأمي فقال:

ما يقول الناس قلت يزعمون انه انما سمى الأمي لأنه لم يحسن ان يكتب فقال عليه السّلام: كذبوا عليهم لعنة اللّه انى ذلك؟! و اللّه يقول في محكم كتابه: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم، و يعلمهم الكتاب و الحكمة «2» فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن و اللّه كان رسول اللّه،

يقرء و يكتب باثنين و سبعين، أو قال بثلاثة و سبعين لسانا، و انما سمى الأمي لأنه كان من أهل مكة و مكة من أمهات القرى و ذلك قول اللّه عز و جل:

لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ «3» وَ مَنْ حَوْلَهٰا «4».

و عن العلل، و بصائر الدرجات و تفسير العياشي عن ابى جعفر عليه السّلام نحوه «5».

و في خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرء و يكتب و يقرء ما لم يكتب «6».

و ورد من طريق العامة ما رواه السيوطي عن عون بن عبد اللّه عن أبيه قال:

ما مات النبي حتى قرأ و كتب، فذكرت هذا الحديث.

______________________________

(1) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

(2) الجمعة: 62/ 2.

(3) الانعام: 6/ 92.

(4) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

(5) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

(6) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 471

..........

______________________________

للشعبي فقال صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك «1».

فالمتحصل من هذه الاخبار انه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرء، و اما كتابته فمختلف فيها.

فيمكن الجمع بينها بوجهين.

الأول: انه صلّى اللّه عليه و آله كان يحسن الكتابة و لكن لم يكتب لضرب من المصلحة.

و قد اشتهر- كما في الاخبار الصحيحة و التواريخ- قوله صلّى اللّه عليه و آله في أخريات عمره المبارك! ايتوني بدوات، و كتف اكتب كتابا لن تضلوا بعدي أبدا، فمنع عنها فما في بعض الاخبار انه صلّى اللّه عليه و آله في قضية صلح الحديبية كتب كتاب الصلح بيده المباركة «2» مخالف للأخبار

الواردة في القضية، و لقول أهل السير و التأريخ حيث يستفاد منهما ان الكاتب لصلح الحديبية كان على بن أبي طالب عليه السّلام بإملائه صلّى اللّه عليه و آله «3» لاحظ بحار الأنوار باب غزوة الحديبية «4».

الثاني: حمل الأخبار النافية على نفى الكتابة على تعلمها من أبناء البشر، و من الطرق المتعارفة، و ما دل على كتابته انه كان باقداره تعالى من طريق الوحي.

يلائمه ما رويناه عن السيوطي، و اختاره العلامة المجلسي (قدس سره) فقال في وجهه:

«كيف لا يعلم من كان عالما بعلوم الأولين و الآخرين ان هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف، و من كان يقدر بإقدار اللّه تعالى له على شق القمر، و أكبر منه كيف لا يقدر على نقش الحروف، و الكلمات على الصحائف و الألواح؟!» «5».

و لكن لا يخفى ان ما أفاده في حد نفسه حسن لا ريب فيه، الا انه لا يثبت المقصود لان مجرد إقدار اللّه تعالى إياه على شق القمر، أو أكبر لا يثبت أنه أقدره على الكتابة أيضا، إذ من الممكن انه لم يقدره عليها، كما لم يعلمه الشعر و ما ينبغي له لبعض

______________________________

(1) الدر المنثور ج 3/ 131.

(2) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 20/ 371/ 335/ 317.

(3) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 20/ 371/ 335/ 317.

(4) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 20/ 371/ 335/ 317.

(5) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 134.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 472

..........

______________________________

المصالح تأكيدا لأمر الرسالة، و تثبيتا للإعجاز، كما لم يحسنهما له قبل البعثة لذلك فاذا يقرب ان يقال بلحاظ الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام انه صلّى اللّه عليه و آله كان

يقرء، و يحسن الكتابة الا انه لم يكتب أصلا، و لم يعهد روية كتابة منه، و ما اشتهر في الصحاح و التواريخ شاهد صدق على ذلك، لأنه صلّى اللّه عليه و آله أراد ان يكتب في أخريات عمره الشريف لان يذهب الشك في أمر الخلافة من أصله، بداهة ان كتابة من لم يعهد منه الكتابة طول حياته، لها تأثير غريب في المجتمع ما لا يكاد يخفى على الخبير بل توجب حسم اى شك و شبهة من أرباب الضلالة و الغواية و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله:

ان بعد الكتابة لن تضلوا بعدي أبدا، و قد شعر بذلك من لم يؤمن باللّه طرفة عين ابدا و ابرز كفره و قال فيما قال. و جنى جناية عظيمة فاضل الأمة الإسلامية فاوقعهم في الضلالة و الغواية فلم يزالوا و لا يزالون فيها الى ان يظهر قطب فلك دائرة الإمكان بقية اللّه في أرضه جعلني اللّه من كل مكروه فداه اللهم اجعلنا من أنصاره و أعوانه و الذابين عنه و المستشهدين بين يديه.

و منها: البصر
اشارة

قال المحقق في الشرائع: و في انعقاد قضاء الأعمى تردد و خلاف أظهره انه لا ينعقد لافتقاره الى التمييز بين الخصوم و يعذر ذلك مع العمى الا فيما يعمل.

توجيه اعتبار البصر و دفعه

و قد يوجه بأن الأعمى لا تنفذ شهادته في بعض القضايا كالشهادة على الزنا و القاضي تنفذ شهادته في الكل، و افتقاره الى مشاهدة الغرماء للحكم على أعينهم و ان البصر طريق الى المحسوسات التي يحتاج إليه القاضي.

و في الرياض: «مع اشتراط المعرفة بالكتابة يستلزم اشتراط البصر كما نبّه عليه في التنقيح قال استدلالا بالملزوم على اللازم فتدبر» «1».

و حيث ان المعتبر في القضاء معتبر في الفتوى فيعتبر البصر في مرجع الفتوى

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2/ 290.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 473

..........

______________________________

و فيه: انه لم يقم دليل على اعتباره في القضاء إلا إذا توقف القضاء عليها.

مع انه يمكن الفصل و تعيين المدعى و المدعى عليه بالبينة و نحوها، و عدم نفوذ شهادة الأعمى في بعض الموارد لو تم فإنما هو لأجل توقف الشهادة على الزنا مثلا على الرؤية و لا يكاد يحصل بدون البصر، و قد عرفت عدم اشتراط الكتابة فضلا عن لازمه.

و على تقدير تماميته في القاضي بلحاظ أمر اعتباري لا دليل على الملازمة بين القضاء و الفتوى فلم يقم دليل على اعتبار البصر في مرجع الفتوى.

و منها: ان لا يكون معوج السليقة منحرفا عن الطريقة القويمة. توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

قيل: «ان الوجه في اعتباره هو ان الاعوجاج آفة للحاسة الباطنة فكما أن الحاسة الظاهرة ربما تصير مئوفة مثل ان يكون بالعين آفة يدرك الأشياء بغير ما هي عليها، أو بالذائقة، أو غيرهما كذلك، و الاعوجاج قد يكون ذاتيا كما ذكر، و قد يكون كسبيا باعتبار العوارض، مثل سبق تقليد أو شبهة أعجبته غفلة، فان الحاسة تصير حينئذ مئوفة كالأول كما لا يخفى مثلا الذائقة ربما تصير مرا بالعوارض فكل شي ء تذوقه تجده مرا و قس عليه سائر الحواس.

و طريق

معرفة الاعوجاج، العرض على إفهام العلماء المعروفين بالاستقامة و حسن السليقة و اجتهاداتهم فان وجد فهمه و اجتهاده موافقا لطريقتهم فليحمد اللّه و يشكره و ان وجده مخالفا لفهمهم فليتهم نفسه، كما ان من كانت حاسة من حواسه الظاهرة مئوفة يرجع الى اولى الحواس السليمة ليقيس سلامة حواسهم حاسته حتى يميز سقمها عن سلامتها، و لكن ربما يلقى الشيطان في قلبه ان موافقة الفقهاء تقليد لهم و هو حرام فلا بد من المخالفة حتى يصير الإنسان مجتهدا فاضلا، و هذا غافل لا يعلم ان هذا من غرور الشيطان و ان حاله حال ذي الحاسة المؤفة الذي يلزم عليه الرجوع الى ذي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 474

..........

______________________________

الحاسة السلمية» «1».

أقول: غاية ما يمكن ان يقال في اعتباره هو انصراف الأدلة عن مثل هذا الشخص و عدم ثبوت بناء العقلاء على المراجعة بمثل هذا الشخص في مهام أمورهم.

و لكن حيث ان اعوجاج السليقة ذات مراتب لا ينبغي الإشكال بعدم مضرية بعض مراتبها، و لا يكون منشأ لانصراف الأدلة عنها، و لم يثبت عدم البناء من العقلاء على المراجعة إليه كما لا يخفى.

و بعض مراتبه الخارجة عن طور الاجتهاد المتعارف المتلقاة يدا بيد لا يبعد دعوى انصراف الأدلة عنه و عدم ثبوت بناء العقلاء على المراجعة بمثله.

و بعض مراتبه مما يشك في ذلك، فمع الشك في تحقق البناء في مثله و الشك في شمول إطلاقات الأدلة لمثله فالأصل يقتضي عدم اعتباره و عدم حجيته لما قلنا ان الشك كلما يرجع الى مقام الحجية و الاحتجاج فالأصل عدم صحة الاحتجاج فتدبر و اغتنم.

و منها: ان لا يكون بليدا لا يتفطن بمعضلات المسائل و الدقائق و يقبل كلما يسمع و يميل مع كل قائل. توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

يقال في وجه اعتباره: «انه لا بد لمرجع الفتوى من

حذاقة و فطنة يعرف الحق من الباطل و يرد الفروع إلى الأصول، و يدري في كل فرع انه من أي أصل يؤخذ و يجري مسائل الأصول في الآيات و الاخبار» «2».

أقول: لا اعلم وجها لاعتباره بعد اعتبار ملكة الاجتهاد في مرجع الفتوى لان من كان بليدا لا يكاد يهتدي إلى الغوامض و المسائل و الدقائق و يقبل كلما سمع كيف يكون مجتهدا فلا يكون اعتباره أمرا زائدا على اعتبار الاجتهاد كما لا يخفى.

______________________________

(1) مدارك العروة للعلامة البيارجمندى ج 1/ 86.

(2) مدارك العروة ج 1/ 88.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 475

..........

______________________________

نعم من لا يكاد يهتدي إلى غوامض المسائل المشكلة و دقائقها و لكن يعرف و يهتدي إلى المسائل التي ليست بتلك الغموضة فيكون مجتهدا متجزيا، و قد تقدم جواز تقليد المتجزي إذا صدق عليه عنوان الفقيه، و العارف بالأحكام و الناظر في الحلال و الحرام، فيصح تقليده فيما اجتهد و استنبط.

فتحصل ان اعتبار عدم البلادة إما يرجع الى عدم كونه مجتهدا، أو الى عدم كونه مجتهدا مطلقا، فلا وجه لجعله شرطا مستقلا في مرجع الفتوى.

و منها: ان لا يكون جريئا غاية الجرية في الفتوى
اشارة

كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرية فترى وقوع تلفات كثيرة من آرائهم بخلاف المحتاطين منهم كما لا يخفى.

توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

و بالجملة وقوع المتجري في الفتوى في خلاف الواقع كثير بخلاف من احتاط منهم فينبغي اعتبار عدمه «1».

أقول: زيادة الجرية ان كانت لغلبة الحذاقة و كثرة المزاولة، و الممارسة، فان لم يكن موجبة لتعين الأخذ برأيه فلا أقل لا تكون قادحة الا ان يرجع الى اعوجاج السليقة و الانحراف عن الطريقة المألوفة و قد عرفت الحال في اعتباره.

و منها: ان لا يكون مفرطا في الاحتياط توجيه اعتباره و بيان المراد منه

قد يقال بأنه لا بد و ان يكون المفتي متعارفا في الإفتاء بالاحتياط فإن الإفراط في الاحتياط قد يخرب الفقه كما شاهدناه من كثير ممن أفرط في الاحتياط، بل كل من أفرط فيه لم تر له فقها لا في مقام العمل لنفسه و لا في مقام الفتوى لغيره «2».

أقول: ان كثرة الاحتياط ان كان لأجل التورع و التقوى و عدم الجرية على الانتساب الى اللّه تعالى، و الرسول، و أئمة الهدى صلوات اللّه عليهم ما لم يطمئن به

______________________________

(1) مدارك العروة ج 1/ 88.

(2) مدارك العروة ج 1/ 88.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 476

..........

______________________________

فهو ممدوح و ان كان العمل بفتواه موجبا للصعوبة كما هو دأب شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) على ما حكى.

نعم ان كان الاحتياط لقلة الباع و البضاعة و عدم النيل الى مغزى المسئلة فلا يكون شرطا زائدا على الاجتهاد.

و منها: ان لا يكون متسرعا في الفتوى توجيه اعتباره و دفعه

لعل وجه اعتباره هو انصراف الأدلة عن مثل هذا المجتهد و وقوعه في خلاف الواقع كثيرا.

و لكن لا وجه له فان التسرع في الفتوى ان كان لحدة ذهنه و قوة ذكائه و وقوفه على الدقائق بسرعة، فلو لم يكن موجبا لتعين الأخذ بفتواه فلا يقل عن آراء من يكون دونه في الحذاقة و الذكاء و ان كان لعدم مبالاته بالشريعة و عدم خوفه من هول المطلع فيكون غير عادل، و قد عرفت اعتبار العدالة كما لا يخفى فلا يكون شرطا زائدا.

و منها: ان لا يكون حسن الظن بارائه.
اشارة

بحيث يكون معجبا بنفسه في العلميات بحيث يصده ذلك عن البحث و التنقيب و الغور و الدقة و اعمال النظر في مستند الحكم.

توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

و بالجملة لا يكون مستبدا برأيه مع قصور باعه فربما ترى كثيرا من طلبة العلم في ابتداء أمرهم في نهاية قصور الباع و فقدان الاطلاعات اللازمة، و مع ذلك يستبدون بارائهم القاصرة و يخطئون آراء المجتهدين و خبراء الفن و يطعنون عليهم و ينكرون عليهم أشد الإنكار.

أقول: إعجاب المرء بنفسه قبيح و ربما يؤدى الى عدم الغور في مغزى المسئلة و لا يجتهد فيها كما ينبغي فإذا يكون ناقص الاجتهاد فهو غير مجتهد و غير مستفرغ في المسئلة كما ينبغي، و ربما يؤدي إعجاب المرء بنفسه و رأيه إلى هتك الغير و إهانته فهو لا يكاد يصدر ممن له ملكة العدالة، و من لا عدالة له لا يبالي بما يقول و لا يحفظ

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 477

..........

______________________________

لسانه و قلمه بما يجرى عليها. و يهتك العلماء و المجتهدين عصمنا اللّه و إياكم من شرور أنفسنا، و ربما يستلزم إعجاب المرء بنفسه صيرورته عنودا لجوجا فترى بعض المعجبين بارائهم و فتويهم يسيئون الأدب بآراء غيرهم و أحكامهم و ينكرون بعض البديهيات و الواضحات و يرونه خلاف البداهة.

تذكرة

و ليعلم انه ينبغي اعتبار حسن السليقة في الاجتهاد و عدم الانحراف عن طريقة المشهور قديما و حديثا مهما أمكن و عدم الاستبداد بارائه و لا يرى لآرائه المخالفة لهم فضلا و مزية.

و عن بعض الأعلام قدس ان العلمية و الحذاقة في الفقه هي معرفة الآراء المشهور و مستندات فتاويهم و معرفة ظرائف آرائهم و توجيهها بنحو مقبول لا التفرد بالفتوى و اتخاذ طريقة جديدة على خلافهم.

و لا يخفى ان الفتاوى المشهورة غالبا مطابقة للاحتياط الذي أمرنا باتّباعه، و قلما يوجد انحراف

المشهور عن جادة الشريعة، فلا بد للمتدرب و من في طريق الاجتهاد ان يقصّر همه في معرفة آراء المشهور و التدبر في مستندات آرائهم و لا يميل عن آرائهم مهما أمكن زعما منه ان موافقتهم نحو تقليد لهم و هو غير جائز، بل لا بد لإثبات اجتهاده و فضله من مخالفتهم عصمنا اللّه و إياكم عن مزال الاقدام و اللّه ولي العصمة.

تبصرة

و ليعلم ان الشرائط التي ذكرناها من كون المجتهد رجلا عادلا، و طاهر المولد الى غير ذلك انما هي بالنسبة إلى رجوع الغير الى المجتهد و تقليده و اما بالنسبة إلى عمل نفسه فلا اشكال و لا خلاف في عدم اشتراط شي ء منها لان اجتهاد كل أحد حجة له و عليه و ان كان فاسقا غير طاهر المولد أو أمرية بل كما أشرنا لا يجوز له تقليد الغير خصوصا إذا خالفه في الرأي، لأنه في صورة الموافقة في الرأي يكون من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 478

..........

______________________________

رجوع العالم و ما حصله الى التعبد برأى الغير و هو كما ترى، و في صورة المخالفة من باب رجوع العالم الى الجاهل لان المجتهد مخطا في زعمه.

هذا أخر ما تيسر لنا إيراده في هذا الجزء، و كان من نيتنا حال الطبع إيراد جميع ما يتعلق بفروع تقليد العروة الوثقى في جزء واحد، و لكن بلحاظ ضيق نطاق الجزء، و سهولة الحمل، و اشارة بعض خبراء الطبع و النشر بدئ لنا ذكر بقية ما يتعلق بفروع التقليد في جزء أخر.

و كان الفراغ من طبع هذا الجزء في شهر رمضان المبارك من شهور 1412 هجرية قمرية على مهاجرها أفضل صلاة المصلين.

نسئل اللّه

من فضله ان يوفقنا في القريب العاجل لطبع الجزء الأخر من (در النضيد) اوله قوله (قدس سره) مسئلة 23- العدالة عبارة عن ملكة. ثم طبع سائر الاجزاء من شرحنا المبسوط على الكتاب القيم (العروة الوثقى) و الحمد للّه أولا و آخرا.

كتبه بيمناه الداثرة الراجي رحمة ربه أقل خدمة فقه أهل البيت عليهم السّلام السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي ببلده قم المحمية عش آل محمد، و حرم أهل البيت عليهم السّلام و اسئل اللّه تعالى العفو عما مضى، و التوفيق للعمل بما يحبه و يرضى.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الجزء الثاني

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

كلمة المؤلف

______________________________

الحمد لوليه و الصلاة و السلام على أشرف نبيه، و أفضل خيرته محمد و إله خير بريته سيما القائم بأمر رعيته الغائب عن انظار خليقته المدخر لاعزاز دينه، و شريعته بقية اللّه في أرضه جعلني اللّه من كل مكروه فداه اللهم عجل فرجه و سهل مخرجه و اجعلنا من أنصاره و أعوانه.

و بعد: فهذا الذي بين يديك هو الجزء الثاني من كتاب- الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد- تقدمه إلى الأعزاء الكرام نلتمس من سماحتهم النظر اليه نظرة سمحة سهلة كريمة فإن الإنسان محل السهو و النسيان و الخطاء و الخطل الأمن عصمه اللّه تعالى- و هم غيرنا- فان وجدوا فيه خللا و اشتباها فيرشدونا باللتى هي أحسن اللهم وفقنا لما تحب و ترضى.

كتبه المحتاج الى ربه: السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي عفى عنه في بلده قم المحمية عش آل محمد و حرم أهل البيت عليهم السّلام. في شهر اللّه المبارك من سنة 1412 ه. ق.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 5

[مسئلة 23- في معنى العدالة]

اشارة

مسئلة 23- العدالة عبارة عن ملكة (1) إتيان الواجبات و ترك المحرمات، و تعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علما أو ظنا (2) و تثبت بشهادة العدلين و بالشياع المفيد للعلم (3)

______________________________

(1) بل عبارة عن حالة راسخة في النفس باعثة على الإتيان بالواجبات و ترك الكبائر و ترك الإصرار على الصغائر و الأحوط اعتبار ترك منافيات المروة الدالة على عدم المبالات عما يتنفر عنه عرف المتشرعة.

(2) فعليا، و الأحوط الأولى بلوغه حدا يفيد الوثوق بالعدالة.

(3) بل بكل ما يورث العلم الوجداني، أو الظن الاطمئناني.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 6

تعبيران من الماتن لمعنى العدالة

______________________________

أقول: و قد فسّر الماتن (قدس) العدالة بعبارة أخرى في المسئلة الثانية عشر من فصل شرائط إمام الجماعة: بأنها ملكة الاجتناب عن الكبائر، و عن الإصرار على الصغائر، و عن منافيات المروة الدالة على عدم مبالات مرتكبها بالدين.

بعض المواقف التي اعتبر فيها العدالة

اعتبرت العدالة في مواقف كالتقليد، و امامة الجماعة، و القضاء، و الشهادة في بابي القضاء، و الطلاق، الى غير ذلك، فهي من المباحث الجليلة النافعة في الفقه، فلا بد من معرفتها ليترتب عليها مالها من الأحكام، و قد أفرد بعض الأصحاب رسالة مستقلة فيها.

و الذي نحن بصدده الان هو بيان إجمالي في معناها و تحقيق ما هو الحق فيها مسقطا لما هو غير لازم، و غير مهم في الباب.

معنى العدالة لغة

قد يقال: ان العدالة لغة الاستواء، أو الاستقامة، أو ما أشبه ذلك مما يرادفهما أو يقاربهما مفهوما. يقال خشبة عدلة: أي مستوية، و جدار عدل: اى مستقيم.

فاذا استندت إلى الأمور المحسوسة يراد منها الاستقامة الحسية الخارجية- كما في استقامة الدار و الخشبة- و إذا استندت إلى الأمور المعنوية فيراد منها الاستقامة المعنوية فيقال: فلان عدل في عقيدته يراد انه مستقيم العقيدة لا اعوجاج فيها يقال:

فلان عدل في فهمه يراد انه مستقيم في الفهم لا إفراط و لا تفريط فيه، يقال فلان عدل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 7

..........

______________________________

في أخلاقه يراد انه ذو استقامة فيها لا ضيق فيها و لا سعة بدرجة مذمومة.

معنى العدالة عند علماء الأخلاق

و كيف كان العدالة عند علماء الأخلاق كما أشار إليها المحقق الأصفهاني (قدس) «عبارة عن هيئة أو ملكة يقتدر بها العقل العملي على تعديل القوى الثلاث-:

العاقلة، و الشهوية، و الغضبية- على حسب ما يقتضيه العقل النظري فالعدالة عندهم في القلب كاعتدال المزاج في القالب.

ففضيلة القوة المدركة هي الحكمة، و العلم النافع و هي وسط بين الجربزة و البلادة، و فضيلة القوة الشهوية هي العفة: و هي وسط بين الشره و الخمود، و فضيلة القوة الغضبية هي الشجاعة، و هي متوسط بين التهور و الجبن، و فضيلة النفس الناطقة بما هي عقل عملي هي العدالة و هي وسط بين الظلم و الانظلام و هي أم الفضائل» «1» و بعبارة أخرى انقياد العقل العملي للقوة العاقلة و بتبعيته لها في اعمال قوتي الغصب و الشهوة فهي عبارة عن ضبط الغضب و الشهوة تحت اشارة العقل.

ليست العدالة عند علماء الأخلاق موضوعة للأحكام الشرعية

ربما يقال ان العدالة بمعناها المقررة عند علماء الأخلاق ليست موضوعة للأحكام الشرعية العامة البلوى في مقامات مختلفة، بل ادعى القطع بعدم اعتبارها في مقام ترتيب الآثار شرعا، لان لازمها الاستقامة في جميع شئون الإنسانية بمالها من العرض العريض، و ربما تشمل ترك المكروهات و معلوم انه لا توجد هذه المرتبة الجليلة إلا للأوحدي من الناس فيلزم تعطيل أحكام كثيرة.

الأقوال في المراد من العدالة في الشريعة

اشارة

فبعد ان لم تكن العدالة بهذا المعنى موضوعة للاحكام اختلفوا في المراد منها في الشريعة و ما هو الموضوع للأحكام المقررة على أقوال أنهاها شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس) في رسالة المعمولة في العدالة إلى خمسة.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد- 52

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 8

القول الأول:

______________________________

ما ينسب الى المشهور بين العلامة و من تأخر عنه بل نسب إلى الشهرة مطلقا و نسب الى العلماء تارة و الى الفقهاء اخرى، و الى الموافق و المخالف ثالثة و هي:

ان العدالة كيفية نفسانية، أو هيئة راسخة، أو حالة نفسانية، أو ملكة- على حسب اختلاف التعابير- باعثة على ملازمة التقوى، أو عليها مع ملازمة المروة.

و ظاهر هذا التعريف ان العدالة عبارة عن صفة نفسانية.

القول الثاني:

انها عبارة عن مجرد ترك المعاصي- كبيرها و صغيرها- أو خصوص الكبائر مع عدم الإصرار على الصغائر.

حكى ذلك عن ظاهر السرائر، و الوسيلة، و ابى الصلاح و المجلسي و السبزواري و غيرهم.

و ظاهر هذا القول انها عبارة عن الاستقامة الفعلية في أفعاله و تروكه من دون اعتبار ان يكون ذلك عن ملكة.

القول الثالث:

انها عبارة عن ترك المعاصي أو خصوص الكبائر عن ملكة نفسانية.

حكى ذلك عن ظاهر الصدوقين و المفيد في المقنعة و النهاية و غيرهم فتكون امرا عمليا و ليست من الصفات النفسانية كما هو الشأن على التعريف الأول و ليس مجرد القول كما هو الشأن على التعريف الثاني، فعلى هذا تكون العدالة عبارة عن الترك الباعثة عن الصفة النفسانية و باقتضائها.

لا تصدق العدالة على هذا التعريف على من لم يتفق له ترك فعل كبيرة مع عدم الملكة كما لا يصدق على من كان له ملكة الاجتناب و لم يجتنب فعلا كما إذا تاب عن ملكة، و لم يبتل بترك المعصية فالعدالة على هذا التعريف أخص من الأوليين لأن ملكة الاجتناب لا يستلزم الاجتناب الفعلي كما ان ترك المعصية أو الكبيرة لا يستلزم ان يكون عن ملكة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 9

القول الرابع:

______________________________

انها عبارة عن الإسلام مع عدم ظهور الفسق في الخارج و ان لم يكن ظاهره حسنا.

حكى ذلك عن المفيد في كتاب الاشراف و ابن الجنيد و الشيخ في الخلاف مدعيا عليه الإجماع.

القول الخامس:

انها عبارة عن حسن الظاهر فقط.

نسب ذلك الى جماعة بل الى أكثر القدماء.

و لا يخفى انه على التعريف الرابع لا بد من الحكم بعدالة أكثر المسلمين و ان لم نعاشرهم بوجه، و ذلك لإسلامهم و إقرارهم بالشهادتين و عدم ظهور الفسق منهم، كما انه على التعريف الأخير لا يمكننا الحكم بعدالة أكثر المسلمين بعكس التعريف المتقدم لتوقفه على إحراز حسن الظاهر المتوقف على المعاشرة في الجملة و لو برؤيته أتيا بالواجبات و غير مرتكب للمعاصي مرتين أو ثلاثا أو أكثر.

قال الشيخ (قدس) الظاهر رجوع القول الأول الى الثالث و أفاد في وجهه ما حاصله:

ان الملكة ان أخذت باعثة بالفعل كانت مساوقة للاجتناب عن ملكة، فروح أحدهما إلى الأخر، فلا يكون الفرق بين القول بأن العدالة ملكة الاجتناب، أو الاجتناب الناشي عن ملكة الا فرقا علميا من دون ان يترتب عليه ثمرة عملية.

و ان أخذت بنحو الاقتضاء لزم ان لا يكون مرتكب الكبيرة مع وجود الملكة فاسقا مع ان النص و الفتوى متطابقان على ان العدالة تزول بارتكاب الكبيرة بنفسها و يحدث الفسق الذي هو ضدها «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد: ان التعريفين راجعان إلى شي ء واحد لأن الملكة بما هي ليست هي العدالة التي يعتبر في جملة من الموارد في الشريعة المقدسة، بل المعتبر هي الملكة المتلبسة بالعمل: اى المقترنة بالإتيان بالواجبات و ترك المعاصي

______________________________

(1) رسالة العدالة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 10

..........

______________________________

و ذلك لان ارتكاب المعصية

في الخارج- لغلبة الهوى على الملكة- يستتبع الفسق من غير نكير، و بناء على ان العدالة هي الملكة بما هي يلزم اجتماع العدالة و الفسق في شخص واحد في زمان واحد.

و من هنا يصح ان يقال ان العدالة هي الأعمال الخارجية الناشئة عن الملكة النفسانية، فالمراد بالتعريفين شي ء واحد و ان كان أحدهما ناظرا الى بيان اعتبار التلبس بالعمل دون الأخر «1».

و لكن رده المحقق الأصفهاني (قدس) بوجود الفرق بين القولين و أوضحه بعض مشايخنا دام ظله في البحث.

فإنه ربما تكون ملكة الاجتناب للشخص فعليا بحيث لو خليت و طبعها لكانت باعثة للاجتناب عن المعصية و لكن الاجتناب عنها لم تكن معلولة و مستندة إليها بل بأمر أخر أقوى منها اما لحياء من الناس و نحوه، أو لعدم الابتلاء بها، كما إذا بلغ صاحب الملكة قبل ان يبتلى بشي ء حتى يجتنبه فالقائل بأن العدالة ملكة الاجتناب يرى أنها الحصة التوأمة مع الاجتناب سواء كان الاجتناب مستندا إليها أو مستندا بجهة أقوى.

ففي الفرض يكون الشخص عادلا على هذا القول بخلاف القول بأنها الاجتناب عن ملكة لعدم كون الاجتناب مستندا إليها و حيث لم يرتكب ذنبا فذاك الشخص على هذا القول ليس بعادل و لا فاسق، فلا يترتب عليه آثار شي ء منهما فالمراد بالملكة ليست ملكة ملائمة مع ارتكاب الكبيرة بل ملكة فعلية مؤثرة لو خليت و طبعها الا انها لمانع و ابتلائها بجهة و علة أقوى لم تكن مؤثرة.

فيما ذكرنا ظهر الفرق بين القولين و الثمرة الحاصلة من كل يغاير ما للآخر «2»

______________________________

(1) التنقيح ج 1- 259.

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد- 53

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 11

النسبة بين الأقوال

______________________________

إذا حطت خبرا

بما ذكرنا فينبغي الإشارة إلى النسبة بين الأقوال الثلاثة الأول و ذلك لأنه ان قلنا برجوع الثالث إلى الأول تكون النسبة بينهما و القول الثاني العموم المطلق لأعمية القول الثاني بالنسبة إليهما لعدم اعتبار كون الاجتناب عن الملكة.

و ان لم نقل برجوع الثالث إلى الأول تكون النسبة بين القول الثاني و القول الأول عموما من وجه لافتراق الأول عنه في صورة ملكة الاجتناب و عدم الاجتناب الفعلي، و افتراق الثاني عنه في صورة وجود الاجتناب لاعن ملكة و مورد الاجتماع هو صورة الاجتناب عن ملكة.

و اما النسبة بين القول الثالث و القول الأول على هذا عموم من وجه، و الوجه واضح.

مرجع القولين الأخيرين في الحقيقة إلى الطريقين الى معنى العدالة

ثم انه لا يخفى ان القولين الأخيرين ليسا في الحقيقة قولين في معنى العدالة نفسها و انما هما طريقان إلى معرفة العدالة.

و المترائى من عبارة بعض من انتسب اليه و ان كان ارادة نفسها منهما الا ان حسن الظن بهم و التدبر في مقالهم يرشد المتدرب إلى أنهم بصدد ما يكون طريقا إليها.

فان لم يمكن توجيه مقالهم بما ذكرنا فيتوجه عليهم مستمدا مما افاده الشيخ (قدس) إشكالان.

إشكالان على تقدير كون القولين معنيين للعدالة
الإشكال الأول:

ان الفسق ضد العدالة و الضدان مشتركان في الجنس القريب فلا بد و ان يكونا على وزان واحد، و مقتضى القولين هو كون العدالة من الأمور التي وجودها الواقعي عين وجودها الذهني، و هذا لا يجامع مع كون ضده و هو الفسق امرا واقعيا لا دخل للذهن فيه أصلا.

اما كون الفسق امرا واقعيا فبضرورة ارتكاز المتشرعة المتلقاة من الشرع على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 12

..........

______________________________

ان ارتكاب المعصية و لو خفية موجب للفسق و قد دل قوله تعالى في سورتي النور و الحشر أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «1» على ان مرتكبي المعاصي فاسقون و لو كان في الباطن.

و اما عدم المجامعة فلاستلزامه ان يكون مرتكب الكبائر مع عدم ظهور ذلك لأحد عادلا في الواقع فاسقا في الواقع و بطلان اللازم غنى عن البيان.

فبعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك ضعف ما أورد على سماحة الشيخ (قدس) بأن الاشكال انما يرد على القولين إذا كان الفسق امرا واقعيا فلعله ليس كذلك عندهم قضاء لحق المضادة و المقابلة فإذا من كان مرتكبا للكبائر مع عدم ظهورها لأحد لا يكون فاسقا واقعا و ان كان عاصيا.

توضيح الضعف ان ذلك خلاف المرتكز من أذهان المتشرعة المتلقاة

من الشرع فإنهم يرون ان مرتكب المعصية و لو خفية فاسق حقيقة و ان كان غير متظاهر بها فتدبر.

الإشكال الثاني:

هو انه يلزم ان يقال في حق من كان مصرا على الكبائر فضلا عن الصغائر خفية مع اتصافه بحسن الظاهر لكل أحد، أو عدم ظهور الفسق منه في مرئي الناس و مسمعهم ثم انكشف حاله. انه كان عادلا ثم صار فاسقا مع ان ارتكاز المتشرعة على خلاف ذلك حيث يرون انه كان فاسقا غير معلوم الحال فانكشف حاله فتحصل انه لا يصح ان يقال ان الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر فقط معرف حقيقة العدالة الواقعية، و لا دليل للقائلين بهما يفي بذلك و لا دلالة في العبارات الحاكية للقولين على ذلك و لا فهم ذلك من كلام القائلين بهما ممن يعتنى به مثل الشهيد و المحقق و ابن فهد و نظرائهم.

نعم يمكن ان يعد- ان ساعد الدليل- ان عدم ظهور الفسق، أو حسن الظاهر جزء الموضوع لها بحيث يكون جزية الأخر عدم ارتكاب المعصية، فتكون حقيقة العدالة عبارة عن عدم المعصية واقعا مع عدم ظهور الفسق، أو حسن الظاهر، و مقتضى

______________________________

(1) النور: 24- 4- الحشر: 59- 19

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 13

..........

______________________________

ذلك هو انه بعد الاطلاع على حاله، و انه كان يرتكب الكبيرة يكون فاسقا فارتقب.

هذا كله فيما يتعلق بتعاريف القوم للعدالة.

مبادي الأفعال و التروك الاختيارية

و قبل ملاحظة ما ورد في المقام و بيان المختار في المسئلة ينبغي الإشارة إلى مبادي صدور الأفعال فنقول:

لا إشكال في ان إتيان الواجبات و ترك المحرمات كسائر الأفعال الاختيارية تكون لها مبادي و دواعي مختلفة.

إما يكون من الشهوات الدنيوية، أو الأخروية، بداهة ان ترك الحرام أو فعل الواجب مثلا.

تارة يكون لأجل مبغوضية الأول و منفوريته طبعا و محبوبية الثاني و مطلوبيته كذلك

و اخرى: يكون للخوف من النار أو الطمع في الجنة.

و ثالثة: يكون لامتثال امره تعالى و نهيه.

و رابعة: يكون لوجدانه تعالى أهلا لذلك، الى غير ذلك، من الدواعي الراجعة كلها الى حب النفس الذي هو غاية الغايات في هذه النشأة أو النشأة الأخرى.

و ليعلم ان ما يرجع الى حب النفس في النشأة الأخرى نسميه بالشهوة الحقة و ما يرجع الى حبها في النشأة الدنيا نسميه بالشهوة غير الحقة أو الباطلة.

حالات الإنسان بالنسبة إلى فعل الواجبات و ترك المحرمات

اشارة

ثم ان المبدء الباعث لفعل الواجبات و ترك المحرمات التي هي عبارة عن جادة الشرع الأقدس على انحاه و مراتب متدرجة في بعضها كما في الأربعة المتتالية

الاولى: ان يكون المبدئية غير ثابتة للنفس

كما إذا حصلت لها في برهة من الزمان بوعظ واعظ، أو إنذار منذر أو غير ذلك و نعبر عنه باللمعة.

الثانية: ان تكون حالة ثابتة في النفس

بحيث يكون مستقيما في جادة الشرع في عمود الزمان الّا ان ذلك دائما يكون مع المنازعة و التدافع بين دعوة الحق و دعوة سائر القوى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 14

الثالثة: ان تكون حالة راسخة في النفس

______________________________

مع كون الاستقامة في جادة الشرع بلا منازعة و لا تدافع بأن يأتي بالواجبات و يترك المحرمات بسهولة و نعبر عنها بالملكة.

الرابعة: ان تكون الاستقامة في الجادة طبيعيا له

بحيث صارت حقيقة ثابتة له بحسب الفضيلة النفسانية فإنه ربما تكون استقامة النفس في جادة الشرع في بداية الأمر مستندة الى الخوف من النار أو الطمع في الجنة الّا انه تستكمل النفس و تتدرج الى ان تصير فضلية اخلاقية لها فلا يكون بعد ذلك صدور الواجب و ترك الحرام منه للخوف أو الطمع بل يكون ذلك جبليا طبيعيا له.

و ربما تستكمل النفس بحيث يصير الحرام منفورا و مبغوضا لديه و الواجب محبوبا و مشتاقا اليه بحيث لا يفرق لديه أكل الربا و أكل القاذورة، و لا يكاد يفرق بين الصلاة مثلا و بين العسل المصفى بل تكون الصلاة احلى منه.

و بالجملة تكون المعاصي عنده بمنزلة القاذورات لا يكاد يرغب فيها، و الواجبات بمنزلة الطيبات التي أحلى من العسل.

و هذه المرتبة أول مرتبة العصمة.

فقد ظهر لك ان الملكة تكون ذو العرش و الدرجات و أعلى درجاتها تكون أول مرتبة العصمة، و لا يهمنا هنا التعرض و البحث حول العصمة.

الخامسة: ان يكون له ملكة الاستقامة في جادة الشرع

الا انها اقتضائي بمعنى عدم استناد الاستقامة في الجادة إلى الملكة بل استندت بجهة أو جهات اخرى كعدم الابتلاء بالنسبة الى من بلغ واجدا للملكة و لم يبتل بواجب أو حرام بعده، أو من كان له ملكة فعصى لكنه تاب و لم يبتل كذلك، أو كان له الملكة و لكن كان ترك الحرام أو فعل الواجب لاستحيائه من الناس الى غير ذلك.

و بالجملة تكون له ملكة رادعة عن المحرمات و باعثة الى الواجبات الا ان ترك المحرمات و فعل الواجبات لم تكن مستندة إليها، فالملكة حينئذ اقتضائي تقديري بالنسبة إليها بمعنى عدم استنادهما إليها و ان كانت بالغة حد الفعلية بحيث لو لا الجهة

الدر النضيد في

الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 15

..........

______________________________

الخارجية لكانت الملكة باعثة إليها و رادعة عنها.

السادسة: أن تكون داعيه لبعض الأعمال الشهوة الحقة

و في بعضها الأخر الشهوة غير الحقة بان كانت له ملكة إتيان الواجبات التعبدية بدعوة الحق للشهوة الحقة، و ملكة إتيان الواجبات التوصلية و ترك المحرمات بغير دعوة الحقة، و ملكة إتيان الواجبات التوصلية و ترك المحرمات بغير دعوة الحق بل بالشهوة غير الحقة بان يترك الزنا مثلا استحياء من الناس و حفظا لجاهه، و يترك شرب الخمر لحفظ مزاجه لا لمبغوضيته له تعالى بحيث لو لا الاستحياء من الناس و حفظ جاهه و عدم ملاحظة مزاجه لارتكب الزنا، أو شرب الخمر و العياذ باللّه.

إذا عرفت المبادي الداعية لإتيان الواجبات و ترك المحرمات فنقول:

لا تصدق العدالة على الاستقامة في جادة الشرع أحيانا

قد أخذ عنوان العدالة في لسان الشرع موضوعة لعدة أحكام فبمناسبة الحكم و الموضوع يستفاد ان المراد منها ما إذا كانت الاستقامة في جادة الشرع راسخة في النفس لوضوح انه إذا كانت الاستقامة في جادة الشرع آنا ما و في واقعة أو واقعتين مثلا لعروض حالة الخوف بوعظ واعظ و إنذار منذر فلا يصدق مفهوم العدالة بمالها من المعنى العرفي هناك لان صدقها عرفا انما يكون فيمن كانت الاستقامة راسخة في النفس لا ما كانت لمعة لها.

تصدق العدالة على ما إذا كانت الاستقامة في الجادة راسخة مطلقا

فكما لا يقال للخشبة المعوجة في ذاتها انها عدلة إذا عدلت بقصر قاصر آنا ما و انما تطلق عليها إذا كانت بطبعها فكذلك لا تطلق العدالة و الاستقامة في جادة الشرع الا للاستقامة في جادة الشرع في برهة من الزمان و لا يقال للرجل انه عادل إلا إذا تنور قلبه بنور الايمان و المعرفة و استقام في جادة الشرع بحيث كان له قدم صدق و استمرار فيها فاذا كان المبدء راسخا في النفس و ان لم تصل إلى مرتبة الملكة فضلا عما إذا صار ملكة أو صارت فضيلة نفسانية فلا خفاء في صدق مفهوم العدالة شرعا لما أشرنا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 16

..........

______________________________

أنفا انه يعتبر في تحقق مفهوم العدالة و صدقها على شخص ان تكون للشخص قدم صدق و استقامة في الجادة و المفروض تحققها في الصور الثلاث (1- الهيئة 2- الملكة 3- الفضيلة) و ان كان إطلاقها عليها متفاوتة.

لا يعتبر في صدق العدالة في الصور ان يكون الاجتناب على خلاف العادة

و ليعلم انه لا يعتبر في صدق عنوان العدالة في الصور الثلاث ان يكون بحد لو ابتلى بالمعصية على خلاف العادة لتركها- كان يبتلى بامرأة جميلة في الخلوة مثلا مع استجماع جميع ماله دخل في رغبة النفس للزنا و عدم المانع- لان ذلك لعله لا يحصل إلا للأوحدي من الناس فيوجب سد باب العدالة و تعطيل الأحكام المتفرعة عليها، بل المعتبر ان يكون تاركا لها عند الابتلاء بها على النهج المتعارف لأكثر الناس

الإشكال في صدق العدالة على من فعل التوصليات و ترك المحرمات لا بدعوة الحق

نعم يشكل صدق مفهوم العدالة على من لا يكون له ملكة إتيان الواجبات التوصلية، و ترك المحرمات بدعوة الحق و الخوف منه تعالى بل لاستحيائه من الناس أو لحفظ المزاج و نحوهما.

و السر في ذلك هو ان الاجتناب حسب الفرض لم يكن لداع شرعي فيشكل معه تحقق العدالة الشرعية فلا يكون عادلا شرعا كما انه لا يكون فاسقا لعدم ارتكاب المعصية حسب الفرض فلا يترتب على من يكون كذلك آثار شي ء من العدالة و الفسق فعند الشك في صدق عنوان العدالة و الفسق عليه فالأصل عدم ترتب الآثار المخصوصة لكل منهما عليه فمقتضى اشتغال الذمة بإكرام العادل مثلا عدم جواز الاكتفاء بإكرام الرجل الكذائي كما انه لا يجوز إهانته إذا كان مأمورا بإهانة الفاسق.

إذا عرفت ما ذكرنا فحان عطف عنان الكلام الى ذكر أدلة المقام و العنوان المأخوذ في الأدلة و انه هل هو عنوان العدالة فقط، أو هناك عناوين أخر كعنوان الصالح، أو المأمون، أو المرضى، أو الخيّر، أو الصائن، أو العفيف الى غير ذلك؟

ثم ملاحظة انه هل ورد تفسير لتلك العناوين في الأدلة، أو لم يرد في ذلك شي ء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص:

17

..........

______________________________

فيكون نظر العرف في معرفة مفهوم العدالة أو غيرها متبعا.

فان ورد في الشريعة في تفسير حقيقة العدالة أمرا فهو المتبع و يكون حاكما على المعنى المتفاهم عند العرف فلا يكون للعدالة العرفية حينئذ شأنا و هو واضح.

و اما ان لم يرد من الشرع ما يفسر حقيقة العدالة الشرعية فيكون وزان العدالة وزان لفظة الوطن، و الصعيد و غيرهما من الموضوعات العرفية التي أخذت موضوعة للحكم أو الأحكام موكولة إلى الفهم العرفي فلا بد من مراجعة العرف في فهم حقيقتها، فكل ما يرونه دخيلا في حقيقتها و ماهيتها يكون موضوعا للحكم الشرعي.

نعم كما أشرنا حيث أخذت لفظة العدالة موضوعة للأحكام الشرعية فبمناسبة الحكم و الموضوع يستفاد ان العدالة- على ما هي عليها من المعنى العرفي- لا بد و ان يكون في جادة الشرع و طريقته لا غير.

فلا بد من ملاحظة ما ورد في المقام فنقول:

استعمال لفظة العدل و مقابلتها في الكتاب العزيز.

قد استعملت لفظة العدل و مقابلتها في موارد من الكتاب العزيز.

كقوله عز من قائل وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ «1».

و قوله تعالى شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ الاية «2».

و قوله تعالى فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ «3».

و قوله عز من قائل وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «4».

الى غير ذلك من الآيات.

______________________________

(1) البقرة: 2/ 282.

(2) المائدة: 5/ 106- 95

(3) المائدة: 5/ 106- 95

(4) الطلاق: 65/ 2

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 18

..........

______________________________

و قوله تعالى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّٰاسِ لَفٰاسِقُونَ «1».

و قوله عز من قائل وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «2».

و قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

الآية «3».

الى غير ذلك من الآيات.

هذا استعمال اللفظتين في الكتاب العزيز.

استعمال لفظة العدالة في السنة

اشارة

و اما السنة فأحسن ما ورد من الاخبار و أوضحها و ادلّها بل عمدة ما في الباب بل صرح بعض بأنه الأصل في المقام و هو خبر عبد اللّه بن ابى يعفور، و قد أورده الصدوق في الفقيه «4» و الشيخ الطوسي في التهذيب «5» و الاستبصار «6» (قدس سرهما).

اما الصدوق فقد روى بإسناده عن عبد اللّه بن ابى يعفور قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم. فقال: عليه السّلام ان تعرفوه بالستر و العفاف، و كف البطن، و الفرج، و اليد، و اللسان، و تعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمور و الزنا و الربا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف و غير ذلك.

و الدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في

______________________________

(1) المائدة: 5/ 49

(2) المائدة: 5/ 47

(3) الحجرات: 49/ 6

(4) من لا يحضره الفقيه الجزء الثالث من الطبعة الحديثة/ 24

(5) تهذيب الأحكام الجزء السادس من الطبعة الحديثة/ 241

(6) الاستبصار الجزء الثالث من الطبعة الحديثة/ 12

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 19

..........

______________________________

الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن، و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين، و ان لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم الأمن علة، فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما

رأينا منه الا خيرا، مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين.

و ذلك ان الصلاة ستر و كفارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان لا يحضر مصلاه و يتعاهد جماعة المسلمين، و انما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلى ممن لا يصلى و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع، و لو لا ذلك لم يمكن أحد ان يشهد على أخر بصلاح لان من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله همّ بان يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، و قد كان فيهم من يصلى في بيته فلم يقبل منه ذلك و كيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من اللّه عز و جل و من رسوله صلّى اللّه عليه و آله فيه الحرق في جوف بيته بالنار، و قد كان يقول لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين الأمن علة «1».

و اما الشيخ فقد رواه بإسناده عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن موسى، عن الحسن بن على عن أبيه، عن على بن عقبه عن موسى بن أكيل النميري عن ابن ابى يعفور نحوه الا انه أسقط قوله:

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 20

..........

______________________________

فاذا كان كذلك لازما لمصلاه الى قوله و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع و أسقط قوله:

فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم همّ بان يحرق الى قوله بين المسلمين و لكن زاد:

و قال

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

لا غيبة الا لمن صلى في بيته و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته و سقطت بينهم عدالته و وجب هجرانه و إذا رفع الى امام المسلمين أنذره و حذره، فان حضر جماعة المسلمين و الا أحرق عليه بيته و من لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته و ثبتت عدالته بينهم «1».

توضيح المقال في هذا الخبر يستدعي البحث في مقامين الأول في سنده و الثاني في دلالته.

المقام الأول في موقف سند خبر ابن ابى يعفور
اشارة

قد عرفت منا موقف كتاب من لا يحضره الفقيه، و تهذيب الأحكام و نحوهما من الكتب المعتمدة المعول عليها عند الأصحاب، و مع ذلك لا بأس بالتعرض لما يقال في حق سند الخبر.

صرح جملة من الأصحاب بصحة الخبر منهم العلامة الطباطبائي بحر العلوم، و شيخنا العلامة الأنصاري قدس سرهما، بل صحح العلامة الحلي في الفائدة الثانية من الخلاصة طريق شيخنا الصدوق إلى عبد اللّه ابن ابى يعفور، و كذا طريقه الى عبد الرحمن بن الحجاج «2»، مع ان في طريقه إليهما أحمد بن محمد بن يحيى، و حكى توثيقه عن الشهيد الثاني في الدراية، و شيخنا البهائي في مشرق الشمسين و السماهيجي و غيرهم.

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح- 2.

(2) خلاصة الرجال- 257

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 21

اشكال بعض الأساطين في سند الخبر
اشارة

______________________________

و لكن قد يناقش في صحة الخبر فقال العلامة العاملي (قدس) كما في مفتاح الكرامة: «الظاهران الخبر غير صحيح لا في التهذيب و لا في الفقيه» «1».

و وافقه بعض الأساطين دام ظله في ذلك ففي التنقيح بعد البحث عن دلالة الخبر:

«و الذي يسهل الخطب ان الرواية ضعيفة السند و غير قابلة (صالحة) للاستدلال بها في شي ء» «2» و قال في وجهه في ذيل الصفحة بعد ان عبر عن الرواية في المتن بالصحيحة ما لفظة:

«هكذا عبروا عنها في كلماتهم الا ان الأمر ليس كذلك لأنها قد رويت بطريقي الصدوق، و الشيخ (قدهما) و كلا الطريقين ضعيف.

الإشكال في سند الخبر من جهة أحمد بن محمد بن يحيى العطار
اشارة

اما طريق الصدوق (ره) فلان فيه أحمد بن محمد بن يحيى العطار و قد مر غير مرة عدم ثبوت وثاقته، و اما طريق الشيخ (قدس) فلان فيه محمد بن موسى الهمداني، و هو و ان كان ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات و مقتضى ذلك وثاقته الا انه معارض بتضعيفه و هذا لا لأنه مستثنى من كتاب نوادر الحكمة لأنه مستند الى توهم ان الرجل قد وضع أصلي زيد النرسي، و الزراد، و هذا خطأ لأن أصلهما مما رواه عنهما ابن ابى يعفور، و قد عثروا على طريق معتبر إليهما من دون ان ينتهي الى الرجل على ما نبه عليه السيد الطباطبائي، و السيد الصدر كما لا يخفى على من راجع ترجمة زيد الزراد، بل لما ذكره ابن الوليد من ان الرجل كان يضع الحديث فإنه مما لا يمكن حمله على وضعه خصوص أصلي الزيدين لإطلاقه، إذا لا يمكن الاعتماد على روايات الرجل بوجه «3».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة ج 3/ 91

(2) التنقيح ج 1/ 370- 373

(3) التنقيح ج 1/ 263

الدر النضيد

في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 22

دفع الاشكال من وجوه

______________________________

أقول: ما افاده لا يخلو عن نظر.

اما ما ذكره في طريق الصدوق «1» فلان أحمد بن محمد بن العطار و ان لم يذكر في كتب الرجال بمدح و لا ذم الا ان جهالته لا يضر.

فأولا: كما في مجمع الرجال و حاصله: ان أحمد بن محمد بن العطار من مشايخ الإجازة و لا يضر جهالته لأنه إنما يذكر لمجرد اتصال السند تيمنا و تبركا، و ليكون على رواية الحديث سندا معنعنا لا لأنهم من المصنفين حتى يحتاج في صحة رواياتهم الى توثيقهم لتصريح أرباب الجوامع بأنهم نقلوا الأحاديث من الكتب و الأصول و الفهرستات المقررة المعروفة في ذلك الزمان كما هو الشأن في هذه الزمان بالنسبة إلى الكتب الأربعة و نحوها، فكما لا يضر جهالة الوسط في رواية الكتب الأربعة بعد اشتهارها في الخارج فكذلك لا يضر جهالة هذا الوسط ما لم يظهر انه صاحب رواية أو أصل بعد اشتهار تلك الكتب و الأصول «2».

و ثانيا: كما في المجمع أيضا: ان للشيخ الجليل الصدوق قدس اللّه مسه شيوخ اجازة الذين يذكرهم في أوائل أسانيده و منهم أحمد بن محمد بن يحيى العطار، و كلما يذكر اسمهم يقول فيهم رحمه اللّه، أو رضي اللّه عنه «3»، و هذا الالتزام منه (قدس) قرينة واضحة على كونهم من المؤمنين و الا لزم التصريح بسوء اعتقادهم.

و ثالثا: ما استفدناه من خريط فن الرجال أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) في مجلس درسه الشريف و أشير إليه أيضا في تقرير بحثه المطبوع و حاصله.

______________________________

(1) قال شيخنا الصدوق في المشيخة: و ما كان فيه عن عبد اللّه بن ابى يعفور فقد رويته عن أحمد

بن محمد بن يحيى العطار رضي اللّه عنه، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن ابى عبد اللّه البرقي، عن أبيه، عن محمد بن ابى عمير عن حماد بن عثمان عن عبد اللّه بن ابى يعفور.

(2) مجمع الرجال ج 7/ 204

(3) مجمع الرجال ج 7/ 219

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 23

..........

______________________________

ان منشأ الإشكال في صحة الخبر هو عدم ذكر أحمد بن محمد بن يحيى العطار في الكتب المصنفة في الرجال حتى يعدل أو يجرح مع ان التحقيق يقضى بعدم الاحتياج اليه و ذلك لان الكتب الموضوعة في هذا الباب لا تتجاوز عن عدة كتب ككتاب رجال الشيخ، و رجال الكشي، و فهرستى النجاشي، و الشيخ، و عدم التعرض لراو لا يوجب عدم الاعتناء بروايته لان كتاب رجال الشيخ لا يكون مشتملا على جميع الرواة لأن الظاهر انه كان بصورة المسودة و كان غرض الشيخ الرجوع اليه ثانيا لنظمه و ترتيبه و توضيح حال بعض المذكورين فيه كما يشهد بذلك الاقتصار في بعض الرواة على ذكر مجرد اسمه، و اسم أبيه من دون تعرض لبيان حاله من حيث الوثاقة و غيرها و كذا ذكر بعض الرواة مكررا كما يتفق فيه كثيرا على ما تتبعناه.

فهذا و أمثاله مما يوجب الظن الغالب بكون الكتاب لم يبلغ حد النظم و الترتيب و الخروج بصورة الكتاب، و ذلك كان مستندا إلى كثرة اشتغال الشيخ بالتأليف في الفنون المختلفة الإسلامية من الفقه و الأصول، و جمع الأحاديث و التفسير و الكلام و غير ذلك من العلوم بحيث لو قسمت مدة حياته الشريف على تأليفاته لا يقع في مقابل كتاب رجاله هذا الا أياما معدودة

يظهر لك ذلك جليا ملاحظة ما ذكره أرباب التراجم في حياته.

و كيف كان فعدم ذكر راو في رجال الشيخ لا يدل على عدم وثاقته.

و اما رجال الكشي فالظاهر كما يظهر لمن راجع إليه انه كان غرضه منه جمع الأشخاص الذين ورد في حقهم رواية أو روايات مدحا أو قدحا أو غيرهما لا ذكر كل راو.

و اما كتاب النجاشي فغرضه فيه إيراد المصنفين و من برز منه تأليف أو تصنيف و هكذا فهرست الشيخ قدس سره.

فعدم تعرضهم لبعض الرواة باعتبار عدم كونه مصنفا أو مؤلفا أو لم ترد في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 24

..........

______________________________

حقه رواية، لا يدل على عدم كونه ثقة عندهم فما يظهر من بعض المعاصرين في مشتركاته حيث اعتمد في عدم وثاقة الراوي على مجرد عدم كونه مذكورا في تلك الكتب غير وجيه «1».

و رابعا: ما افاده شيخنا البهائي في مشرق الشمسين و وافقه أستاذنا العلامة البروجردي (قدس سرهما) و حاصله.

الظاهر انه يمكن استكشاف وثاقة الراوي و عدالته من تلامذته و الراوين الذين أخذوا منه الأحاديث الواردة في معالم الدين و أحكام شريعة سيد المرسلين، فاذا كان الأخذ منه من الأجلاء كالصدوق و المفيد، و الشيخ و نظرائهم من الأعلام خصوصا مع كثرة الرواية عنه لا يبقى الشك في وثاقته أصلا «2».

الإشكال في سند الخبر من جهة محمد بن موسى الهمداني و دفعه

هذا كله فيما يتعلق بأحمد بن محمد بن يحيى العطار و اماما أفاده في محمد بن موسى الهمداني في طريق الشيخ فقال النجاشي في حقه:

«انه ضعفه القميون بالغلو و كان ابن الوليد يقول انه كان يضع الحديث و اللّه اعلم» «3».

و الظاهر ان كل ما يقال في تضعيف الرجل مأخوذ منه و ظاهر كلام النجاشي

التوقف في كلام ابن الوليد في وضعه الحديث.

و لعل وجه استناد الوضع اليه بلحاظ توهم ان الرجل وضع أصلي النرسي و الزراد، و قد أشار دام ظله الى فساده و انهما مرويان عنهما عن ابن ابى عمير بطريق معتبر.

و اما حديث تضعيف القميين بالغلو، فلا يعتمد عليه و لقد أجاد العلامة المامقاني

______________________________

(1) نهاية التقرير ج 2/ 270.

(2) مشرق الشمسين/ 276 نهاية التقرير ج 2/ 271

(3) رجال النجاشي/ 260 ط مصطفوى

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 25

..........

______________________________

حيث قال ان ما هو اليوم من ضروريات مذهب الشيعة كان القدماء يعدونه غلوا «1» و قد نقل النجاشي نفسه ان من جملة كتب الرجل كتاب الرد على الغلاة «2» فكيف يعقل غلو من يكتب الرد على الغلاة ا ه «3».

و قد ذكر قدس عن العلامة الطباطبائي بعض العلائم في وثاقه الرجل فراجع «4» و قد وثق دام ظله ما يكون واقعا في اسناد كامل الزيارات و قد وقع الرجل في إسناده.

و لعله يمكن اجراء بعض ما ذكرناه في طريق الصدوق الى ابن ابى يعفور في طريق الشيخ اليه.

و للشيخ طريق الى الصدوق فيمكن رواية الشيخ الخبر من طريق الصدوق أيضا و كيف كان فان كان مع ذلك كله في خاطرك ريبا و شكا في طريق الشيخ ففي طريق الصدوق غنى و كفاية فالخبر صحيح كما اشتهر ذلك بين المشايخ حتى من بعض الأساطين دام ظله كما في تقريره الأخر «5».

فتحصل ان الخبر من حيث السند يصح الاتكال عليه.

هذا كله في المقام الأول.

المقام الثاني في دلالة الخبر
اختلافهم في المراد بقوله (ع) بم تعرف عدالة الرجل

اختلف في مراد السائل بقوله بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين إلخ فقد

______________________________

(1) قلت و لعله منها نفى السهو عن

النبي الأعظم و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين فيرى ابن الوليد و الصدوق انه غلو في حقهم مع ان نفى السهو في حقهم من ضروريات المذهب

(2) رجال النجاشي/ 260

(3) تنقيح المقال ج 3/ 193

(4) تنقيح المقال ج 3/ 194.

(5) الدروس ج 1/ 142.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 26

..........

______________________________

يقال ان السؤال عن حقيقة العدالة و ما هو المراد منها في لسان الشرع.

كما انه قد يقال ان السؤال عن طريق إحراز العدالة بعد الفراغ عن معرفة حقيقتها.

كما انه قد يقال ان الغرض من ذلك كلا الأمرين لتعرض الامام عليه السّلام على طريق إثباتها بعد الفراغ عن بيان ماهيتها، فيكون التعرض عن كلا الأمرين قرينة على كون مراد السائل كلا الأمرين.

أو يقال ان ظاهر السؤال و ان كان عن طريق إحراز العدالة إلا ان الامام عليه السّلام تفضل لمكان جهل السائل بحقيقتها بيان ما هو المراد من العدالة أولا ثم بيان الطريق الى معرفتها بقوله عليه السّلام: و الدلالة على ذلك كله إلخ.

بيان ما هو المراد بالعدالة في الخبر
اشارة

و كيف كان: و الذي تحصل لنا من ملاحظة الخبر هو ان المترائى من السؤال بالنظر الابتدائي هو السؤال عن الأمارة المعرفة للعدالة.

الا ان دقيق النظر في كلام الامام عليه السّلام صدرا و ذيلا في الخبر- حيث تعرض لبيان طريق إثباتها بعد الفراغ عن بيان ما هو المراد بالعدالة شرعا- يعطى كون غرض السائل أيضا إرادة الأمرين.

و ذلك لأنه بعد ما استعملت لفظة العدالة و مقابلتها كثيرا في صدر الإسلام في الآيات المباركات و كان اعتبارها في الشاهد معروفة من لدن عصر نزول القرآن الى زمان صدور الخبر.

و قد اختلف فقهاء المسلمين في حقيقة العدالة و ما هو

المراد منها في لسان الشرع.

قال ابن رشد القرطبي المتوفى/ 597: «اختلف المسلمون فيما هي العدالة بعد اتفاقهم على اعتبارها في الشاهد فقال الجمهور هي صفة زائدة على الإسلام و هو ان يكون ملتزما لواجبات الشرع و مستحباته مجتنبا للمحرمات و المكروهات، و قال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 27

..........

______________________________

أبو حنيفة يكفي في العدالة ظاهر الإسلام و ان لا تعلم منه جرحة، و سبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم العدالة المقابلة للفسق إلخ» «1».

فبعد اختلاف فقهاء المسلمين في مفهوم العدالة أراد ابن ابى يعفور ان يسئل الامام عليه السّلام عما هو المراد منها عند أئمة أهل البيت عليهم السّلام في قبال أبي حنيفة و نظرائه و لا ينافي ذلك قوله عليه السّلام: ان تعرفوه إلخ بتوهم ان المعروفية بين المسلمين طريق للعدالة لأنفسها لان المعرفية المأخوذة في الجواب انما أخذت لأجل تعريف أصل العدالة و افادة حقيقتها.

مع انه يمكن ان يقال انه لا يلائم جعل الاشتهار بالستر و العفاف معرفا أيضا و انما الحقيق لو كانت الجملة معرفة للعدالة: أن يجعل نفس الستر و العفاف طريقا لها لا المعروفية بهما فتدبر.

بالجملة عرف الامام عليه السّلام: العدالة بمعروفية الرجل بين المسلمين بحيث يعرفوه، أو تعرفوه بالستر و العفاف و قد فسر الستر و العفاف بالحياء فالمراد بالستر هو الستر عن اللّه تعالى و الاستحياء منه، و هو صفة نفسانية يعبر عنها بالملكة، و الظاهر ان العفاف عطف تفسيري للستر فيراد منه الاستحياء منه تعالى، لا انه أريد منه القوة الشهوية- اى الحالة المتوسطة بين الخمود و الشره- لأنه اصطلاح مستحدث خاص بعلماء الأخلاق فلا يحمل عليه ما ورد في كلامه

عليه السّلام.

و قوله عليه السّلام: و كف البطن و الفرج إلخ إشارة إلى الاجتناب عن المعاصي.

فاذا العدالة عبارة عن معرفة الرجل بالاستحياء منه تعالى بكف البطن و الفرج و اليد، و اللسان عما لا يحل.

و الضمير في قوله عليه السّلام: تعرف باجتناب الكبائر إلخ راجع الى كف البطن و الفرج و اليد و اللسان.

فيكون المتحصل من قوله عليه السّلام ان تعرفوه الى قوله و الدلالة على ذلك: ان

______________________________

(1) بداية المجتهد و نهاية المقتصد ج 2/ 451

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 28

..........

______________________________

العدالة عبارة عن استحياء الرجل منه تعالى باجتناب الكبائر التي اوعدها اللّه تعالى عليها النار بحيث صار صفة نفسانية و ملكة له.

و لازم ذلك زوال العدالة بارتكاب المعصية و ان بقيت الملكة الا انها مع بقاء الملكة تعود بالتوبة.

و قد أشرنا أن المعتبر في الملكة هي الرادعة عن المعاصي إذا كانت بحد لو ابتلى بها على النهج المتعارف لتركها في قبال الدواعي العادية فلا يراد بها المرتبة العالية منها بحيث لو ابتلى بها على خلاف العادة أيضا لتركها كما إذا ابتلى مثلا بامرئة جميلة في الخلوة مع استجماع جميع ما له دخل في رغبة النفس الى الزنا و عدم المانع لها بوجه.

و السر في ذلك هو انه لا تحصل تلك المرتبة إلا للأوحدي من الناس مع كثرة ابتلاء الناس بالعدول في العبادات و المعاملات فاعتبارها يستلزم تعطيل الأحكام المترتبة عليها، فنقطع بعدم اعتبار تلك المرتبة في ترتب الأحكام.

و لا يخفى ان عدم مضرية صدور المعاصي الناشئة عن الدواعي الخارجة عن العادة ليس بمعنى بقاء العدالة مع صدورها ضرورة أن صدور المعصية مناف للعدالة بل بمعنى بقاء الملكة مع

صدورها بحيث تعود العدالة بمجرد التوبة، كما هو الشأن في اعتبار المرتبة الدانية من الملكة بعد ارتكاب المعصية فتدبر.

و حيث ان إحراز ملكة الاستحياء منه تعالى بالاجتناب عن الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار بالعلم مشكل جدا فيلزم تعطيل الأحكام المترتبة عليها تصدي الإمام عليه السّلام لبيان الامارة عليها بقوله و الدلالة على ذلك كله إلخ.

و معناه ان كل من كان ساترا لجميع عيوبه بحيث يحرم على المسلمين تفحص ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش خلف الساتر، بل يجب عليهم عند ذلك تزكيته و إظهار عدالته.

و حيث ان إحراز ساتريته للعيوب و القبائح يحتاج إلى معاشرة تامة في جميع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 29

..........

______________________________

الحالات أو أكثرها و هذه مما لا يتسّر لغالب الناس تصدي الإمام عليه السّلام لذكر أمر سهل التناول لمعرفة ذلك فجعل تعاهد الرجل للصلوات الخمس و مواظبته عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين و عدم تخلفه عن جماعتهم في مصلاهم الأمن علة.

فمن لم يكن له معاشرة مع شخص أصلا إلا في أوقات حضور الصلاة مع الجماعة فيصح الحكم بعدالته مع الجهل بحاله.

و تخصيص الصلوات الخمس بين الواجبات بلحاظ موقعها الخاصة بين الواجبات بحيث قلما يمكن الاعتذار المقبول بتركها و اما غيرها فلم تكن بتلك المثابة و ذلك لان الحج مثلا مشروط بالاستطاعة المالية و البدنية و غيرهما فيمكن ان يتعذر الرجل بتركه بعدم القدرة عليه بنحو مقبول غالبا، و الصوم مشروط بشرائط منها الصحة و السلامة فيمكن ان يتعذر تركه بالمرض و غيره من الاعذار غالبا، و الزكاة و الخمس و غيرهما من الأمور المالية فيصح الاعتذار بتركها بعدم القدرة، و

التمكن، و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر حيث يكون مشروطا بمعرفة المعروف و المنكر، و احتمال التأثير الى غير ذلك من الشرائط فيمكن ان يتعذر تركها غالبا الى غير ذلك من الواجبات.

أضف الى ذلك موقف عظيم الصلاة بين الواجبات بحيث صار قبولها مدار قبول سائر الواجبات، و جعلت عمود الدين، و أول ما يسئل عنه في القيامة الصلاة و كان بحيث كما في الخبر ان من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين.

و بالجملة موقعية الصلاة و موقفها المخصوصة بين الواجبات واهمية التعاهد للصلوات الخمس، و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين أوجبت جعل التعاهد عليها دليلا على العدالة.

و لك ان تحدس مما ذكرنا ان مرجع ما ذكره الامام عليه السّلام طريقا و امارة للعدالة إلى حسن الظاهر فمن كان ساترا لجميع عيوبه بحيث لا يمكن اطلاع المسلمين على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 30

..........

______________________________

عيوبه- على تقدير فرضه- الا بالتفتيش و التفحص الذي يحرم عليهم، أو كان متعاهدا للصلوات الخمس بالحضور في جماعتهم.

هذا ما تحصل لي في فهم الخبر الشريف، و لعله بما ذكرنا يظهر ضعف ما أفيد في تفسير الخبر الشريف، و لكن مع ذلك كله لا بأس بالتعرض لبعض ذلك تتميما للفائدة و تشحيذا للأذهان و بيان ما فيها.

بيان من العلامة الحائري في المراد من خبر ابن ابى يعفور
اشارة

منها: ما أفاده العلامة الحائري قدس حاصله.

ان الظاهر من الخبر كونه بصدد بيان معرفة العدالة لا بيان مفهومها، و ظاهر السؤال عن طريق تشخيص العدالة ان يكون مفهومها معلوما معينا عند السائل لأنها عرفا هي الاستقامة و الاستواء، فإذا أطلق الشارع فلا يشك في ان مراده هو الاستقامة في جادة الشرع الناشئة من الحالة النفسانية و هي التدين

الباعث له على ملازمة التقوى و حيث انه لم يكن لهذا المعنى اثر خاص و كاشف قطعي لكل أحد إلا نادرا ألجأ السائل الى ان يسئل طريقه عن الامام عليه السّلام، فان ترك المحرمات و فعل الواجبات و ان صارت خلقا و عادة لأحد، و لكن لا يعلم غير اللّه في الغالب انه من جهة الديانة الواقعية و الخوف من مخالفته تعالى أو من جهة أخرى مثل كونه محبوبا عند الناس أو غير مذموم أو غير ذلك، و هذا بخلاف سائر الملكات كالشجاعة و السخاوة و أمثال ذلك فإنها تستكشف قطعا عند وجود آثارها الخاصة فأجاب عليه السّلام:

بالستر و العفاف و هذه العناوين المذكورة في الجواب و ان كانت مشتملة على الملكة، و لكن لا يدل على الملكة الخاصة التي هي التدين و الخوف من عقوبة اللّه جلت عظمته فلا ينافي جعلها طريقا تعبديا الى ثبوت العدالة.

فانقدح بذلك ما قد يتخيل ان العناوين المذكورة في جواب السائل لاشتمالها على بيان الملكة لا يمكن ان تكون طريقا إلى ثبوت العدالة بل هي عين مفهوم العدالة و لذا حمل قوله عليه السّلام على المعرف المنطقي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 31

..........

______________________________

و الجواب ما ذكرنا و حاصله:

ان العناوين المذكورة و ان كانت مشتملة على الملكة فإنه لا يقال رجل ستير او عفيف إلا بالنسبة الى من كان الستر و العفاف ملكة له، و لكن لا تدل على الملكة الخاصة الناشئة عن الديانة، و الحكم بأن العدالة محققة مع وجود الأوصاف المذكورة ليس الأمن جهة التعبد.

ثم ان معرفة الشخص بالستر و العفاف، و انه تارك للقبائح على وجه الإطلاق يحتاج إلى معاشرة تامة في

جميع الحالات، و هذه مما لا يتفق لغالب الناس فجعل الشارع لذلك دليلا و طريقا أخر:

و هو كونه ساترا لعيوبه بين أظهر الناس مع احتمالهم ارتكاب القبيح في الخلوة فجعل الشارع ستره عيوبه في الملاء طريقا و دليلا على كونه غير مرتكب للقبيح مطلقا فيحكم بعدالته أيضا.

و جعل طريقا ثالثا أيضا نافعا لمن ليس له معاشرة مع شخص إلا في أوقات حضور الصلاة مع الجماعة، فمن حضر جماعة المسلمين يحكم بعدالته و انه لا يرتكب القبائح الشرعية مع الجهل بأحوال ذلك الشخص الحاضر في جماعة المسلمين.

بل لحضور الشخص صلاة الجماعة ثلاث فوائد.

احداها: ان ترك الجماعة مع المسلمين بدون علة بحيث يعد إعراضا عنها من أعظم العيوب فمن تركها كذلك ليس ساترا لعيوبه بل هو مظهر لها.

و الثانية: انه من لم يحضر الجماعة لا دليل لنا على انه يصلى.

و الثالثة: ان حضوره للجماعة دليل شرعي على كونه تاركا لما نهى اللّه عنه و عاملا بكل ما أمر اللّه تعالى به و قد أشار الى كل واحد من الأمور في الخبر فتدبر فيها «1».

و لكن فيه: ان المترائى من السؤال بالنظر الابتدائي و ان كان يعطى كون

______________________________

(1) صلاة العلامة الحائري/ 354

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 32

..........

______________________________

السؤال عن الأمارة المعرفة للعدالة بعد العلم بتحققها الا ان دقيق النظر في الخبر كما ذكرنا يعطى كون السؤال عما هو المراد من العدالة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام لما ذكرنا من اختلاف فقهاء المسلمين في معناها هذا.

اشكال من العلامة البروجردي في مقال العلامة الحائري و دفعه.

يظهر من تقرير أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) بعد اشكاله على العلامة الحائري (قدس) بان كل ما ذكره خلاف ظاهر الخبر: انه لا معنى لجعل امارة لمعرفة

العدالة و بيانها، ثم جعل امارة لتلك الامارة و معرفا لذلك المعرف لعدم الاحتياج الى جعل الأمارة المعرفة حينئذ أصلا فيكون جعلها لغوا، مع ان مجرد الحضور لجماعة المسلمين لا ينافي عدم كونه ساترا لعيوبه فكيف يجعل طريقا في قبال الستر للعيوب «1».

و لا يخفى: أن التأمل في مقال العلامة الحائري (قدس) يعطي بأنه لا يريد (قدس) جعل أمارة لمعرفة الامارة على العدالة، بل يريد انه جعل الشارع أمارات متعددة لبيان حقيقية العدالة بعضها أسهل من بعض فإن معرفة العدالة بالستر و العفاف و انه تارك للقبائح يحتاج إلى معاشرة تامة في جميع الحالات و هذا لا يتفق لغالب الناس، فجعل امارة لتشخيص العدالة أسهل من سابقته و هو كونه ساترا لعيوبه بين أظهر الناس، ثم جعل طريقا ثالثا أسهل من سابقيه لمعرفة العدالة و هو حضوره جماعة المسلمين فتدبر.

و بما ذكرنا يظهر حال النقاش الأخير لأنه لم يرد قدس جعل امارة لستر العيوب حتى يتوجه عليه ما ذكره بل أراد انه جعل أمارة أسهل من سابقتها لمعرفة العدالة.

فتدبر.

و لكن يتوجه على العلامة الحائري (قدس) كما في التقرير: ان ظاهر الخبر بقرينة قوله عليه السّلام: و يكون منه التعاهد إلخ ان ستر العيوب و الحضور لجماعة المسلمين

______________________________

(1) نهاية التقرير ج 2/ 273

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 33

..........

______________________________

معا طريق و امارة على العدالة لا كل واحد منهما.

بيان من بعض الأساطين في المراد بالعدالة في الخبر
اشارة

و منها: ما افاده بعض الأساطين دام ظله و حاصله:

ان ظاهر قوله عليه السّلام: ان تعرفوه بعد قول السائل بم تعرف عدالة الرجل انه انما سئل عما يعرف و يستكشف به العدالة لأنه من البعيد ان يكون السؤال عن ماهيتها و حقيقتها

لان المعرف المنطقي اصطلاح حدث بين المنطقيين فيكون وزان السؤال وزان قولنا بم يعرف الشي ء الفلاني، أو الشخص المعين فان المراد بمثله في المحاورات العرفية الدارجة هو السؤال عما ينكشف به الشي ء و ما يدل عليه لا السؤال عن حده و رسمه.

أضف الى ذلك انه عليه السّلام لم يذكر في الجواب ان العدالة هي الستر و العفاف بل قال ان تعرفوه بالستر و العفاف فجعل المعرف اشتهار الرجل و معروفيته بهما لا نفس الستر و العفاف، و من البديهي أن الاشتهار بهما ليسا بحقيقة العدالة و انما حقيقتها لو كانت الجملة معرفا منطقيا هو الستر و العفاف كما لا يخفى.

مع ان العفاف هو الامتناع عما لا يحل و هو من الأفعال الخارجية لا النفسانية فضلا عن ان يكون من الصفات النفسانية لان العفيف من لم يرتكب الحرام في الخارج.

نعم ذكر علماء الأخلاق أن العفة من صفات النفس الا انه اصطلاح مستحدث بينهم و لا يمكننا حمل العفاف الواردة في كلمات الأئمة عليهم السّلام عليه.

كما ان الستر يعنى التغطية و هي كناية عن عدم ارتكاب المحرمات فكان بينه و بينها حاجزا و غطاء فهو مثل العفاف من الأفعال الخارجية لا النفسانية فضلا عن ان يكون من الصفات النفسانية.

و اما قوله عليه السّلام: كف البطن و اليد و الفرج و غيرها من الأفعال المذكورة في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 34

..........

______________________________

الخبر فواضح لا خفاء فيه فضلا عن كونها من الصفات النفسانية ا ه «1».

بيان مواقع النظر في مقاله

توضيح النظر فيما افاده دام ظله يظهر بعد التأمل فيها ذكرناه في توضيح الخبر الشريف و حاصله:

ان ظاهر الخبر بدوا و ان كان السؤال عن الأمارة المعرفة

للعدالة الا ان مقتضى التأمل في جواب الامام عليه السّلام حيث تعرض لبيان طريق إثباتها بعد الفراغ عن بيان ما هو المراد بالعدالة يعطي كون غرض السائل أيضا إرادة الأمرين.

و بالجملة لا نريد ان السؤال عن المعرف المنطقي حتى يكون قول الراوي بم تعرف العدالة؟ بصيغة المجهول من باب التفعيل حتى يتوجه عليه ما ذكره.

بل المراد ان سؤال ابن ابى يعفور انما هو عن مجرد ما أريد بالعدالة في لسان أئمة أهل البيت عليهم السّلام في قبال مثل أبي حنيفة و نظرائه.

و قد أشرنا ان قوله عليه السّلام: ان تعرفوه إلخ لا ينافي إرادة ما هو المراد من العدالة لأن المعرفية المأخوذة في الجواب انما أخذت لأجل تعريف أصل العدالة و افادة ماهيتها.

مع انه يمكن ان يقال انه لا يلائم جعل الاشتهار بالعفاف و الستر معرفا للعدالة أيضا و انما الحقيق لو كانت الجملة معرفة للعدالة أن يجعل نفس العفاف و الستر المعروفية بهما.

و اما قوله ان العفاف و الستر من الأفعال الخارجية ففيه انه كما أشرنا انه فسر الستر و العفاف بالحياء فالمراد بالعفاف و الستر هو الستر عن اللّه تعالى و الاستحياء منه تعالى و هو صفة نفسانية كما لا يخفى.

ثم ان قوله ان المعرف المنطقي اصطلاح حدث بين المنطقيين غير واضح ضرورة أن المنطق على ما هو المعروف من المعلم الأول أرسطو فلم يكن حادثا بعد

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 264

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 35

..........

______________________________

الإسلام و الى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري.

ألفه الحكيم ارسطاليس ميراث ذي القرنين القديس

و مراد من يقول ان مراد الامام عليه السّلام بيان المعرف المنطقي للعدالة هو ما ذكرناه من

كونه لبيان ما هو المراد منها في الشريعة لا بيان حدها و رسمها المصطلح عليه في المنطق فتدبر.

فظهر مما ذكرنا: ان العفاف و الستر، بل كف النفس و الفرج، و اليد و اللسان لا يطلق على الشخص الا من كان الحياء و العفة حالة ثابتة له، و كان كف بطنه و فرجه و يده و لسانه عن المعاصي و القبائح كيفية راسخة في ذهنه، و يعبر عن هذه الحالة في كلماتهم بالملكة فمن اجتنب عنها أحيانا بعد التوبة عن المعصية، أو كان قريب العهد بالبلوغ و لم يبتل بعد بالمعاصي مع عدم حصول الملكة لهما لا يكون عادلا لعدم حصول الملكة له بل و لا فاسقا لعدم ارتكاب المعصية.

و لك ان تتفطن بما ذكرنا ان عبارات الفقهاء في تعريف العدالة و ان كانت مختلفة الا ان غرضهم واحد و الاختلاف انما هو في التعبير.

بيان من العلامة الشعراني في ان اختلاف عبارات الفقهاء في تعريف العدالة انما هو في مقام التعبير

و لقد أجاد في ذلك أستاذنا العلامة الشعراني رحمه اللّه في حاشية الوافي فقال:

«ان عبارة الفقهاء و ان اختلفت في تعريف العدالة لكن غرضهم منها واحد و قال في كشف اللثام النزاع لفظي و هو حق و اختلافهم انما هو في التعبير و تعريف بعضهم اجمع و قيوده و احترازاته أظهر، و طرده و عكسه أوضح، و بعضهم سامح فلم يذكر بعض القيود لا لكونه غير معتبر في نظره، و أحسن التعاريف و اجمعها تعريف العلامة رحمه اللّه و غيره: بأنها كيفية نفسانية راسخة تبعث على ملازمة المروة و التقوى، فإنه راعى شرائط التعريف المنطقي و ذكر الجنس العالي الذي وقعت العدالة تحته و هو الكيف من المقولات العشرة ثم قيده بقيوده و ان الكيف له أربعة أنواع فبين ان العدالة

كيف نفساني، و الكيف النفساني أيضا نوعان راسخة تسمى بالملكة و غير راسخة تسمى

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 36

..........

______________________________

حالا، ثم ذكر ان العدالة من النوع الأول و لما كانت الملكات أنواعا عديدة بيّن فصلها المميز عن غيرها.

و اما سائر التعريفات فلم يراعوا فيها الشرائط المنطبقة بهذا الوضوح و ان كان مرادهم ذلك قطعا مثلا من لم يعبر بالملكة النفسانية و قال العدالة هي الاجتناب عن الكبائر مثلا فليس مقصوده ان من اجتنب عنها اتفاقا، أو لقرب عهده بالبلوغ و عدم تنبهه للمعاصي مع عدم حصول ملكة راسخة فيه يكون عادلا.

و كذلك من لم يذكر المروة في صفات العادل ليس مقصوده ان كل سفيه لا يعرف الحسن و القبح، أو بذي و قيح لا يلتزم باجتناب القبائح فهو عادل يصح الصلاة خلفه.

و الدليل على صحة هذا التعريف تتبع موارد الاستعمال كسائر اللغات و الاصطلاحات كما ان علماء المعاني و البيان بعد تتبع موارد استعمال الفصيح و البليغ عرفوا ان الناس لا يطلقون هاتين الكلمتين الأعلى من له ملكة الإتيان بالكلام الخالي عن التنافر و التعقيد و ضعف التأليف المطابق لمقتضى الحال، كذلك عرف الفقهاء ان العادل و الورع، و المعروف بالستر و العفاف، و المتقى و من يثق بدينه، و أمثال ذلك لا يطلق في عرف الناس المتشرعة و غيرهم الأعلى من له ملكة تبعثه على فعل الواجبات و اجتناب الكبائر و مخالفات المروة فيحمل ما ورد في الأحاديث من الألفاظ الدالة على العدالة على صاحب الملكة المذكورة» «1».

فالإنصاف: ان تعريف المشهور بين المتأخرين و في طليعتهم الفاضلين و الشهدين من ان العدالة كيفية نفسانية راسخة تثبت على ملازمة

التقوى، أو هي مع المروة لا غبار عليه و يمكن استفادته من الخبر الشريف.

أعراض بعض الأساطين عن تعريف المشهور غير وجيه

فعلى هذا لا وجه لإعراض بعض الأساطين دام ظله عن تعريف المشهور المذكور في

______________________________

(1) هامش الوافي ج 2 م 9/ 154

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 37

..........

______________________________

المتن و تعليقته عليه بقوله: «بل العدالة عبارة عن الاستقامة في جادة الشرع و عدم الانحراف عنها يمينا و شمالا» بل هو كر على ما فر كيف لا؟! و قد صرح كما في تقرير بحثه «ان الاستقامة في جادة الشرع يعتبر ان تكون مستمرة بأن تصير كالطبيعة الثانوية للمكلف فالاستقامة في حين دون حين كما في شهر رمضان، أو المحرم، أو غيرهما دون بقية الشهور ليست من العدالة في شي ء فان المكلف لا يكون مستقيما بذلك في الجادة و لا سالكا لها بداع الخوف أو رجاء الثواب» «1».

و هل هذا الا عبارة اخرى عن الملكة كما صرح بذلك في تقريره الأخر قال:

«انه ظهر مما ذكرنا انه يمكن ان يكون مراد من فسرها بالملكة هو رسوخ الخوف في النفس لا انها ملكة كملكة الشجاعة و الجود» «2».

ذكر الملكة في تعريف العدالة أوجب غموضا و انحرافا

و لا يخفى ان التعبير بالملكة أوجب غموضا في النيل بحقيقة العدالة عند بعضهم و رأوا ان مقتضى التعبير بالملكة عدم صدور المعصية عن المتصف بها فيندر المتصف بالعدالة مع ترتب أحكام كثيرة عليها و لذا قالوا ان العدالة هي مجرد ترك المعاصي فعن الوحيد البهبهاني: «ان حصول الملكة بالنسبة الى كل المعاصي انما يكون في غاية الندرة ان فرض تحققه و بديهي ان العدالة مما تعم به البلوى و تكثر اليه الحاجات في العبادات و المعاملات فلو كان الأمر كما يقولون لزم اختلال النظام- مع ان القطع حاصل بأنه لم يكن في زمان المعصومين صلّى اللّه

عليه و آله على هذا النهج.

أ لا ترى انه ورد في ان إمام الجماعة إذا أحدث أو حدث له مانع أخر أخذ بيد أخر و اقامه مقامه».

و واقفة السيد الصدر في محكي شرح الوافية و أوضحه بأن الوسط بين البلادة

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 258

(2) الدروس ج 1/ 128

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 38

..........

______________________________

و الجربذة يسمى حكمة، و بين إفراط الشهوة و تفريطها هي العفة، و بين الظلم و الانظلام هي الشجاعة، فاذا اعتدلت هذه القوى حصلت كيفية واحدة شبيهة بالمزاج و بعد حصولها يلزمها التقوى و المروة.

و هذه الصفة الحميدة تكون في الأوحدي الذي لا يسمع الدهر مثله الا نادرا و الاحتياج إلى العدالة عام لازم في كل طائفة من كل فرقة من سكان البر و البحر حفظا لنظام الشريعة ا ه.

و قد عرفت مما لا مزيد عليه انهم لم يريدوا بالملكة ما في كلام العلمين فان ما ذكره السيد الصدر هي العدالة الأخلاقية حيث فسرها علماء الأخلاق بأنها ملكة يقتدر بها العقل العملي على تعديل القوى الثلاث من العاقلة و الشهوية و الغضبية على حسب ما يقتضيه العقل النظري، و قد أشرنا بعدم اعتبارها في العدالة التي هي موضوعة للأحكام الشرعية، بل المراد بها الحالة الثابتة في النفس و هي حالة رسوخ الخوف من اللّه تعالى في النفس باعثة على فعل الواجبات و ترك المحرمات، و هي ذات مراتب متفاوتة أعلاها مرتبة العصمة، و أدناها العدالة المعتبرة في إمام الجماعة و قبول الشهادة و نحوها، و هي الحالة الباعثة في الأحوال المتعارفة- و ان كانت بحيث يغلب عليها أحيانا فعل المعصية أو ترك الواجب إذا كان مقتضيهما

أقوى منهما- فلا ينافي ملكة العدالة فعل كبيرة أو ترك واجب على سبيل الاتفاق إذا ندم على فعل المعصية و ترك الواجب و تاب.

هذا كله بالنسبة إلى خبر عبد اللّه بن ابى بعفور.

أخبار أخر تدل على اعتبار العدالة في الشاهد

و هنا أخبار أخر تدل على اعتبار العدالة في الشاهد نشير إلى جملة منها.

كخبر مسمع بن عبد الملك عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

ان أمير المؤمنين عليه السّلام كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان و شهد له الف بالبراءة يجيز شهادة الرجلين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 39

..........

______________________________

و تبطل شهادة الألف لأنه دين مكتوم «1».

و خبر زيد بن على عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:

سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الساحر فقال إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حل دمه «2».

و خبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في شهادة المملوك.

إذا كان عدلا فإنه جائز الشهادة ان أول من رد شهادة المملوك عمر بن خطاب الخبر «3» و خبر عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا «4».

و خبر حماد بن عثمان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال و لا يقبل في الهلال الا رجلان عدلان «5».

و بالإسناد مثله الا انه قال و لا في الطلاق الا رجلان عدلان «6».

و خبر داود بن الحصين عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل قال:

لا يجوز شهادة النساء في الفطر الا شهادة رجلين عدلين «7».

و في خبر آخر له عن ابى عبد اللّه عليه

السّلام.

ان اللّه أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد واحد. و كان أمير المؤمنين يجيز

______________________________

(1) الوسائل باب 51 من أبواب الشهادات ح/ 1

(2) الوسائل باب 51 من أبواب الشهادات ح/ 2

(3) الوسائل باب 23 من أبواب الشهادات ح/ 3

(4) الوسائل باب 23 من أبواب الشهادات ح/ 1

(5) الوسائل باب 24 من أبواب الشهادات ح/ 17

(6) الوسائل باب 24 من أبواب الشهادات ح/ 17

(7) الوسائل باب 24 من أبواب الشهادات ح/ 36

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 40

..........

______________________________

شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار و لا يجيز في الطلاق الا شاهدين عدلين الخبر «1».

و عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال في قوله تعالى.

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ «2» قال ليكونوا من المسلمين منكم فان اللّه انما شرف المسلمين العدول بقبول شهادتهم و جعل ذلك من الشرف العاجل لهم و من ثواب دنياهم «3».

و خبر عبد الرحمن بن ابى عبد اللّه عن ابى عبد اللّه عليه السّلام.

في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال انى لم اشهد قال: تجوز شهادة أعدلهما و ان كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته «4».

و نحوه خبره الأخر و خبر ابن سنان «5».

الى غير ذلك من الاخبار.

و قد ورد اخبار ذكر فيها لقبول الشهادة عناوين أخر كعنوان الخيّر، و العفيف و الصائن، و الصالح، و الستر، و العفاف الى غير ذلك.

كخبر عمار بن مروان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام. «6»

في الرجل يشهد لابنه و الابن لأبيه و الرجل لامرأته فقال:

______________________________

(1) الوسائل باب 24 من أبواب الشهادات ح/ 35

(2) البقرة: 2/ 282

(3) الوسائل باب

41 من أبواب الشهادات ح/ 22

(4) الوسائل باب 46 من أبواب الشهادات ح/ 1

(5) الوسائل باب 46 من أبواب الشهادات ح/ 2

(6) الوسائل باب 46 من أبواب الشهادات ح/ 3

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 41

..........

______________________________

لا بأس بذلك إذا كان خيّرا «1».

و خبر ابى بصير عنه عليه السّلام قال:

لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا «2».

و خبر عبد الكريم بن ابى يعفور عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

تقبل شهادة المرية و النسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاء و التبرج الى الرجال في أنديتهم «3».

و خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام:

ان شهادة الأخ لأخيه يجوز إذا كان مرضيّا و معه شاهد أخر «4».

و في خبر قاسم بن سليمان في شهادة القاذف إذا تاب.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان ابى يقول إذا تاب و لم يعلم منه الا خيرا تجوز شهادته قال نعم الخبر «5».

و خبر علاء بن سيابة عن ابى عبد اللّه عن ابى جعفر عليهما السّلام.

قلت فالمكاري و الجمّال و الملاح فقال و ما بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء «6».

الى غير ذلك من الاخبار.

و المتحصل من مجموع هذه الاخبار بعد إرجاع بعضها الى بعض هو الذي استفدناه من صحيح عبد اللّه بن ابى يعفور فان الخيّر هو الذي يكون له ملكة إتيان الخيرات، و لا يقال للرجل انه خيّر إلا إذا استمر منه عمل الخير، و الصائن هو الذي

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 9

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 10

(3) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 20

(4) الوسائل

باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 19

(5) الوسائل باب 36 من أبواب الشهادات ح/ 2

(6) الوسائل باب 34 من أبواب الشهادات ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 42

..........

______________________________

له ملكة ترك المعاصي مع وجود المقتضى للارتكاب و العفيف الصائن هو الذي تكون له ملكة العفة و الحياء و الصيانة و الامتناع عما لا يحل.

ذكر اخبار توهم خلاف ما ذكرنا و دفعه

و قد ورد اخبار توهم خلاف ما ذكرناه في الشاهد فإن أمكن إرجاعها الى ما ذكرنا فبها و الا فيحمل على التقية، أو يؤل.

كخبر عبد اللّه بن مغيرة قال:

قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام رجل طلق امرأته و استشهد شاهدين ناصبيين قال كل من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته «1».

و خبر صالح بن عقبة عن علقمة قال:

قال الصادق عليه السّلام و قد قلت له يا بن رسول اللّه عمن تقبل شهادته و من لا تقبل فقال يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته قال فقلت له تقبل شهادة مقترف بالذنوب فقال يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت الا شهادة الأنبياء و الأوصياء لأنهم المعصومون دون سائر الخلق فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و ان كان في نفسه مذنبا و من اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية اللّه داخل في ولاية الشيطان «2».

و خبر محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس «3».

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 5

(2)

الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 13

(3) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 8

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 43

..........

______________________________

الى غير ذلك من الاخبار.

فإن قوله عليه السّلام في خبر ابن المغيرة، حيث لم يكتف بقبول شهادة الناصبيين أوردها و لكن قال: «ان من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح جازت شهادته» و هو يدل بوضوح على ان شرط قبول الشهادة معروفية الشاهد بالصلاح، فيكون قوله هذا كناية على ان الناصب لا صلاح له، و لعل عدم التصريح برد شهادة الناصبي لجهة أو جهات كانت في مقال الامام عليه السّلام، و واضح ان المعروفية بالصلاح امارة غالبة على وجود ملكة العدالة فيكون من الاخبار المتعرضة لطريق العدالة كما سنشير إليها فارتقب.

و ان شئت قلت ان الظاهر منه جواز شهادة كل من ولد على الفطرة و لم يعلم خروجه عنها بحيث كان مقتضى الاستصحاب بقائه عليها، و كان معروفا بالصلاح في نفسه، و واضح ان الناصبي خارج عن الفطرة، و غير صالح في نفسه.

فان تم ما ذكرنا فهو و الا فيحمل الخبر على التقية.

و ظاهر خبر صالح بن عقبة يدل على ان من ولد على فطرة الإسلام تقبل شهادته فيستفاد منه ان المسلم تقبل شهادته مطلقا الا إذا علم منه الفسق، و هو خلاف أكثر أخبار الباب فيحمل صدر الخبر على كونه بصدد بيان الطريق إلى العدالة لا العدالة نفسها.

و ربما يستظهر من ذيل الخبر اعتبار كون الرجل معروفا بالعدالة و الستر كما دل عليه خبر ابن ابى يعفور المتقدم لا مجرد عدم رؤية الذنب منه و عدم شهادة الشاهدين عليه و الا فيصير الخبر غير معمول به.

قال أستاذنا العلامة

الشعراني في ذيل الخبر:

«الحق تأويل هذا الخبر بما لا ينافيه مثل ان يكون المركوز في ذهن السائل من العدالة كون الرجل في أعلى مدارج الزهد و التقوى بان لا يحتمل في حقه ترك أوامر اللّه تعالى أصلا و هو مقام المعصومين عليهم السّلام و العلم بالعدالة لا ينافي صدور

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 44

..........

______________________________

صغيرة منه كما ان الجود و الكرم لا ينافي احتمال المنع في بعض أوقات الغضب» «1» هذا كله فيما يتعلق بالعدالة نفسها.

الأخبار الدالة على ما يكون امارة على عدالة الشاهد

و هناك اخبار تدل على ما يكون امارة على عدالة الشاهد.

كصدر خبر ابن العلقمة المتقدم أنفا فلاحظ «2».

و خبر يونس عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سئلته عن البينة أو أقيمت على الحق أ يحل للقاضي ان تقضى بقول البينة فقال خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، و الذبائح، و الشهادات و الأنساب فإذا كان ظاهر الرجل مأمونا جازت شهادته و لا يسئل عن باطنه «3».

أفيد انه يحتمل ان يكون المراد بكونه مأمونا، المأمونية في مقام أداء الشهادة فإن كان مأمونا عن الكذب فيها، كما يحتمل ان تكون المراد المأمونية المطلقة بأن كان مأمونا ظاهرا عن ارتكاب المعاصي مطلقا.

و خبر علاء بن سيابة قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن شهادة من يلعب بالحمام قال لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق «4».

ظاهره عدم كون اللعب بالحمام في نفسه موجبا للفسق.

و خبر إبراهيم بن زياد الكرخي عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السّلام قال:

من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته «5».

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ذيل ح/

13- 3

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ذيل ح/ 13- 3

(3) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ذيل ح/ 13- 3

(4) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 6

(5) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 12

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 45

..........

______________________________

و خبر أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا عن آبائه عن على عليهم السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عامل الناس فلم يظلمهم و حدثهم فلم يكذبهم و وعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت اخوته و حرمت غيبته «1».

و قريب منه خبر عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام «2».

و خبر حريز عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران فقال إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا إلخ «3».

الى غير ذلك من الاخبار.

هذا ما يتعلق بعدالة الشاهد.

اعتبار عدالة إمام الجماعة من منفردات الإمامية

اشارة

و اما بالنسبة الى امام الجماعة فاعتبار العدالة فيه كأنه من منفردات الإمامية و لكن لم يكن في اخبار الباب لفظة العدالة.

موقف الاخبار في اعتبار عدالة إمام الجماعة

نعم ورد في خبر على بن راشد عن أبي جعفر عليه السّلام.

لا تصل الا خلف من تثق بدينه «4».

و خبر فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال.

لا صلاة خلف الفاجر «5».

و خبر سعد بن إسماعيل عن أبيه قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 15

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 16

(3) الوسائل باب 40 من أبواب الشهادات ح/ 18

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 9- 8- 5

(5) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 9- 8- 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 46

..........

______________________________

قلت للرضا عليه السّلام رجل يقارف الذنوب و هو عارف بهذا الأمر أصلي خلفه؟ قال لا «1».

و خبر ابى عبد اللّه السياري صاحب موسى و الرضا عليهما السّلام «2» قال:

قلت لأبي جعفر قوم من مواليك يجتمعون فتحضر الصلاة فيقدم بعضهم فيصلي بهم جماعة فقال إذا كان الذي يؤم بهم ليس بينه و بين اللّه طلبة فليعمل «3».

و ما رواه الشهيد في الذكرى عن الصادق عليه السّلام:

ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين الا من علة و لا غيبة الا لمن صلى في بيته و رغب عن جماعتنا و من رغب عن جماعة المسلمين سقطت عدالته و وجب هجرانه و ان رفع الى امام المسلمين أنذره و حذره و من لزم جماعة المسلمين حرمت عليهم غيبته و ثبتت عدالته «4».

الى غير ذلك.

فقد ظهر مما

ذكرنا انه ليس في شي ء من الاخبار الواردة في باب الجماعة ما يدل على اعتبار العدالة بعنوانها في إمام الجماعة بل الوارد فيه النهى عن الصلاة خلف الفاسق، أو من لا نثق بدينه، أو مقارف الذنوب، و نحو ذلك من العناوين.

نعم ورد الصلاة خلف من تثق بدينه، أو من لم يكن بينه و بين اللّه طلبة، و هما غير عنوان العدالة.

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 10.

(2) قال أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) كما في نهاية التقرير ج 2/ 279 «ان توصيفه بأنه صاحب موسى و الرضا عليهما السلام لا يلائم مع ما في رجال النجاشي في ترجمة الرجل الذي اسمه أحمد بن محمد بن سيار: من انه كان من كتاب ال طاهر في زمن ابى محمد عليه السّلام».

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 12

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 13

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 47

..........

______________________________

و لكن كما أفيد يمكن ان يستفاد اعتبارها في إمام الجماعة من اعتبارها في الشاهد بملاحظة عدم الفرق بينه و بين إمام الجماعة من هذه الجهة.

مع ان النهى عن الصلاة خلف الفاسق يكفي في ذلك لوضوح التقابل بين الفسق و العدالة بين المتشرعة تقابل التضاد أو غيره، فالنهي عن الصلاة خلف الفاسق يرجع الى مانعية الفسق و اعتبار العدالة في إمام الجماعة «1».

أضف الى ذلك تسالم الأصحاب على اعتبارها فيه و انه مما انفردت به الإمامية إذا أحطت خبرا بما ذكرنا بعد إرجاع بعضها الى بعض تعرف العدالة المعتبرة شرعا في الموارد المختلفة و انها عبارة عن ملكة، أو حالة نفسانية باعثة على التقوى من الإتيان

بالواجبات و ترك المحرمات.

و تعرف ضعف سائر الأقوال في المسئلة في باب العدالة و لعلها نشأت عن النظر البدوي الى بعض هذه الاخبار.

و لعله لذا ذهب بعض الى ان العدالة هي الحسن الظاهر و لم يتفطن انها بصدد بيان ما هو الامارة للعدالة لا بيان ماهيتها و حقيقتها، كما ان من ذهب الى أنها مجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق لعله نظر الى خبر ابن المغيرة حيث قال عليه السّلام كل من ولد على الفطرة أجيزت شهادته.

فلا يهمنا التعرض لسائر الأقوال و الدخول في النقض و الإبرام مع قائليهما بعد ما اتضحت حقيقة الحال.

و ان أبيت عن معرفة حقيقة العدالة و ما هو المراد منها من اخبار الباب التي في طليعتها خبر ابن ابى يعفور الوارد في بيان حقيقة العدالة و ما هو المراد منها و لكن لا ينبغي الإشكال في أخذ عنوان العدالة موضوعة للاحكام و الآثار في الشريعة المقدسة و كل عنوان مأخوذ في لسان الشريعة إذا لم يكن له بيان من الشارع يحمل على المعنى العرفي منه، و واضح انه كما ذكرنا و افاده بعض الأساطين دام ظله ان العدالة

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 47

______________________________

(1) نهاية التقرير ج 2/ 279

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 48

..........

______________________________

بحسب معناها العرفي هي الاستقامة في جادة الشريعة و عدم الانحراف عنها يمينا و شمالا حسبما فصله «1».

الاستقامة في جادة الشريعة عبارة أخرى عن الملكة أو الحالة أو ما أشبه ذلك

و لعمر الحق ان مجرد الاستقامة من دون ان يكون ذلك منه حالة ثابتة

و كيفية راسخة في النفس لا تعد عدالة، و لا تطلق العدالة على من يكون كذلك بل لا بد و ان يكون الرجل ذا حالة و كيفية بحيث يكون ذلك منه كالطبيعة الثابتة له.

فالإنصاف ان التعبير بالاستقامة في الجادة مساوق للتعبير بالملكة أو الحالة أو ما أشبه ذلك فالنزاع لفظي.

و قد صرح بعض الأساطين دام ظله انه لا بد و ان تكون الاستقامة مستمرة كالطبيعة الثانوية للإنسان حتى يصدق انه مستقيم فإن الاستقامة في بعض الأوقات دون بعض لا يوجب صدق الاستقامة كما أشرنا و احتملنا ان يكون هذا هو المراد بالملكة في كلام من اعتبرها في العدالة فإن بذلك ترتفع المخاصمة من البين و تقع المصالحة بين الطرفين «2».

ينبغي التنبيه على أمور

الأمر الأول: في حكم اشتراط المروة في العدالة
اشارة

ربما يعتبر في العدالة التحرز عن منافيات المروة و قد عرفت عن العلامة و من تأخر عنه تقييد الملكة النفسانية بالبعث على ملازمة التقوى و المروة، و هو المشهور بين المتأخرين بل قد يقال كما تقدم اعتبارها من كل منهم و ان لم يصرحوا به في التعريف و لذا ترى الماتن (قدس) لم يأخذها في تعريف العدالة هنا و قد أخذها في تعريفها في كتاب الصلاة.

______________________________

(1) لاحظ التنقيح ج 1/ 2591.

(2) التنقيح ج 1/ 270

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 49

..........

______________________________

و اما القدماء فقد يقال انه لم يظهر منهم اعتبارها الا ما يلوح عن الشيخ في المبسوط حيث ذكر ان العدالة في اللغة ان يكون الإنسان متعادل الاجزاء متساويا في الشريعة من كان عدلا في دينه و في مروته عدلا في أحكامه.

و اما كلام غيره ممن تقدم عن العلامة فقد يقال انه لا دلالة فيه على اعتبارها بل و لا

اشعار على ذلك، بل ربما استظهر عدم اعتبارها من بعض العبائر فعن ابن حمزة في موضع من الوسيلة ان العدالة في الدين الاجتناب عن الكبائر، و عن المفيد في المقنعة ان العدل من كان معروفا بالدين و الورع و الكف عن محارم اللّه، و عن ابن إدريس حد العدل هو الذي لا يخل بواجب و لا يرتكب قبيحا، فان ظاهر العبارة حصر العدالة فيما ذكر.

فما عن نجيب الدين نسبة اعتبارها الى العلماء بل عن الحويزي الإجماع على اعتبارها غير وجيه.

الا ان يقال ارادة ذلك من كل أحد و ان أهمل بعضهم ذكرها.

و القائلون باعتبارها أعم من ان يكون في الكاشف، أو المنكشف، أو اعتبارها في الكاشف دون المنكشف، أو اعتبارها في الكاشف و المنكشف معا، حكى الأخير عن حجة الإسلام الشفتي الأصفهاني (قدس).

و المراد باعتبارها في الكاشف اعتبارها في حسن الظاهر الكاشف عن العدالة كما ان المراد باعتبارها في المنكشف اعتبارها في معنى العدالة.

و كيف كان توضيح الحال يستدعي البحث في موردين الأول في معنى المروة و الثاني في وجه اعتبارها.

المورد الأول معنى المروة المعتبرة في العدالة

قد يقال: ان المروة أصلها على فعولة، قلبت الهمزة و أو فأد غمت فيها و هي لغة كما عن جملة من اللغويين بمعنى الرجولية أو كمالها و ربما يقال: انها

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 50

..........

______________________________

بمعنى الإنسانية، لان مادتها، المرء و هو بمعنى الإنسان، يطلق على المذكر و المؤنث كالمراء و المراءة، و فسرت في الاخبار باستصلاح المال، و بإصلاح المعيشة، و بوضع الرجل خوانه بفناء داره، و بتلاوة القرآن و عمارة المساجد، و اتخاذ الإخوان في الحضر، و بذل الزاد، و حسن الخلق، و المزاح بغير معاصي

اللّه في السفر «1».

و هذه الأمور- كما أفيد- كلها محاسن اخلاقية لا تكون دخيلة في العدالة الشرعية و لم يردها الفقهاء أيضا «2» لأنهم فسروها بالتجنب عن الأمور الدنية، أو عما لا يليق بأمثاله من المباحات، أو عما يسقط العزة عن القلوب، و يدل على عدم الحياء و عدم المبالات بمحاسن الأخلاق كالأكل في السوق لغير السوقي، و كشف الرأس في المجالس، و مد الرجل بين الناس و أمثال ذلك حتى ان بعضهم عبر عن العدالة بالاستحياء عن الخالق و المخلوق و الاستقامة على جادتى الشرع و العرف.

و قد يقال: ان المراد بمنافيات المروة: أن يفعل ما تنفر عنه عادة، و تختلف ذلك باختلاف الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة «3».

و قد يقال: كما في المتن من كتاب الصلاة ان منافيات المروة تدل على عدم مبالاة مرتكبها بالدين.

و يظهر من أستاذنا العلامة الشعراني (ره): ان مرتكب منافيات المروة إما ماجن و قيح لا يبالي بما يقال فيه و لا يلتزم بالحسن و القبح، و اما سفيه ضعيف العقل لا يعرف الحسن من القبيح، و على كل حال فهو صاحب صفة مذمومة عند الشارع ورد ذم أصحاب هذه الصفات و النهى عن معاشرتهم و الاعتماد عليهم في الأمور «4».

______________________________

(1) لاحظ باب معنى الفتوة و المروة من كتاب بحار الأنوار باب 59 من أبواب كتاب الآداب و السنن ج 76/ 311

(2) الدروس ج 1/ 148

(3) جامع المدارك ج 1/ 492

(4) هامش الوافي ج 2 م 9/ 155

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 51

المورد الثاني الوجوه التي يذكر لاعتبار المروة في العدالة و ذكر بعض المناقشات فيها و دفعه
اشارة

______________________________

يستدل لاعتبار المروة في العدالة بوجوه.

الوجه الأول: فقرأت من خبر ابن ابى يعفور

منها: قوله عليه السّلام: ان تعرفوه بالستر و العفاف.

بتقريب ان يكون المراد ان تعرفوه بملكة نفسانية و هيئة راسخة في النفس بحيث تمنع لأجل الاستحياء من اللّه تعالى عن ارتكاب القبائح الشرعية و العرفية و بالجملة ان يكون المراد منه الستر عن العيوب الشرعية و العرفية.

و منها: قوله عليه السّلام: كف البطن و الفرج و اليد و اللسان.

بتقريب ان منافيات المروة غالبا من شهوات الجوارح فيستفاد منه ذلك.

و بالجملة المراد كف هذه الأعضاء عن مشتهياتها التي يذم عليها شرعا و عرفا.

و منها: قوله عليه السّلام: و الدلالة على ذلك كله إلخ:

بتقريب ان ستر جميع العيوب لا يكاد يحصل الا بالاجتناب عن العيوب الشرعية و العرفية و ارتكاب منافيات عيوب عرفية الا ان يقال ان ستر جميع العيوب و ان كان يعم العيوب العرفية أيضا إلا انه بقرينة تصريح صدر الخبر بدخالة خصوص الاجتناب عن الكبائر في حقيقة العدالة يراد به خصوص ما أشير إليه في الصدر و هو العيوب الشرعية فيشكل تعميمهما للعيوب العرفية.

و لا يخفى ان الاستدلال بالفقرتين الاولتين ظاهر في إرادة التحرز عن منافيات المروة في المنكشف، كما انه على الفقرة الأخيرة ظاهر في إرادة اعتبارها في الكاشف هذا.

و لكن ربما يناقش في الاستفادة فان المنصرف من الستر و العفاف في الفقرة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 52

..........

______________________________

الأولى بلحاظ صدوره من الشارع العيوب الشرعية لا غير فيكون المراد بالستر و العفاف الخوف و الحياء عنه تعالى.

و بالجملة بمناسبة الحكم و الموضوع و ان الملقى هو الامام عليه السّلام قرينة متصلة ظاهرة في صرفها الى العيوب و النقائص الشرعية.

و كذا المراد بكف

البطن و الفرج، و اللسان، و اليد خصوص الكف عن معاصي اللّه لا مطلق مشتهياتها، و كذا المراد بكونه ساترا لعيوبه على الظاهر ساتريته لخصوص ما يعد منقصة و عيبا في الشرع و هو المعاصي لا مطلق النقائص.

و ان كان في نفسك في استظهار الانصراف شيئا فبقرينة بعض النصوص الظاهرة في حصر القادح في العدالة بارتكاب الذنوب و المعاصي يتعين حمل العيوب على خصوص العيوب الشرعية التي عبارة عن المعاصي.

و ذلك كقوله عليه السّلام في خبر صالح بن علقمة:

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و ان كان في نفسه مذنبا «1».

و بالجملة قوله عليه السّلام فمن لم تره بعينك إلخ حاكم على جميع ذلك و يكون مفسرا للعيوب المذكورة في الخبر.

و لكن رده سيدنا العلامة الخوانسارى دام ظله: «بان انصراف العيوب الى ما يعد منقصة في الشرع محل تأمل أ لا ترى انه إذا قال المولى لا تتعرض لعيوب الناس فهل يقبل دعوى الانصراف الى ما يعد منقصة في الشرع، كما انه لو قيل في مدح أحد أنه ستير عفيف فهل ينصرف الى الستر و العفاف بالنسبة إلى خصوص المحرمات و اما التمسك بمثل رواية علقمة فمع عدم الاشكال من جهة السند ففيه الاشكال من جهة ظهور التعارض كما سبق و لا مجال للحكومة فإن ظاهر الأدلة السابقة اعتبار

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 13

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 53

..........

______________________________

الوثاقة بالديانة و اعتبار العدالة مع بيان الطريق من اجتناب الكبائر و ستر العيوب و الكف و مواظبة الصلوات الخمس فمع كفاية

ما في رواية علقمة ما الفائدة فيما ذكر و ما الداعي إلى التفصيل المذكور.

نعم يمكن الخدشة في الاستدلال بما ذكر على اجتناب ما ينافي المروة فإن ظاهر الصحيحة اعتبار ستر العيوب في معرفة العدالة و سترها غير الاجتناب عنها بل صدق الستر فيما كان شي ء في الواقع و ستر عن الغير و مع فرض ظهور سائر الفقرات في اعتبار الاجتناب تقع المعارضة فلا يبقى للصحيحة ظهور فيما ذكر» «1».

قلت: و لمزيد النظر في رواية علقمة نذكر ما أفاده أستاذنا العلامة الشعراني رحمه اللّه «ان رواية علقمة تدل على ان الأصل العدالة و تقبل شهادة المسلم مطلقا الا إذ أعلم منه الفسق، و مقتضى الأصل و أكثر الأخبار عدم كفاية ذلك فالحق تأويل هذه الرواية بما لا ينافيها مثل ان يكون المركوز في ذهن السائل من العدالة كون الرجل في أعلى مدراج الزهد و التقوى بان لا يحتمل في حقه ترك أوامر اللّه تعالى أصلا و هو مقام المعصومين عليهم السّلام، و العلم بالعدالة لا ينافي احتمال صدور صغيره منه كما ان الجود و الكرم لا ينافي احتمال المنع في بعض أوقات المعصية» «2».

بقي الكلام في خدشته دام ظله في الاستدلال بالصحيحة فقد عرفت ان قوله عليه السّلام ان يكون ساترا لجميع عيوبه إلخ بصدد بيان طريق معرفة العدالة لا بيان ماهيتها، و المراد منه ان من لم يرتكب معصية و قبيحا في الظاهر و أنديه الرجال بحيث يحرم على المسلمين تفتيش ما ورائه و يجب عليهم تزكيته يحكم بعدالته في مرحلة الظاهر و لو كان في الواقع مرتكبا إياها فلا معارضة بين الفقرات.

فظهر ان استفادة ترك منافيات المروة فيما أريد من العدالة في الصحيحة غير

بعيدة.

______________________________

(1) جامع المدارك ج 1/ 493

(2) الوسائل ج 18/ 290

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 54

..........

______________________________

ان قلت: ليس المراد بالعيوب العيوب العرفية قطعا إذ ربما يعد (و العياذ باللّه) الايمان باللّه و رسوله و ترك المعاصي و الاشتغال بالطاعات عيبا عند العرف لا سيما عند بعض أهل زماننا.

كما ان عدم مبالات الإنسان بالأمور المتعارفة بين الناس و عدم استحيائه من غير اللّه لا دلالة على عدم استحيائه من اللّه لأنه ربما يكون الإنسان مستغرقا في ذات اللّه قاصراً همه فيما يرجع الى النشأة الآخرة الباقية فلا يبالي بما هو ممدوح، أو مذموم لدى أرباب الدنيا فلا تلازم بين عدم مبالاته بالأمور المتعارفة و عدم استحيائه من اللّه تعالى.

قلت: المراد بالعيوب العرفية ما تعد عيوبا في عرف المتشرعة فتريهم يعدون بعض الأعمال و الأفعال عيبا مع انه لم ينهى عنه في الشريعة و لم يحرم من قبله.

أضف الى ذلك ان ارتكاب بعض منافيات المروة غير مناسب للإنسان بل يكون هتكا في حقه كتقبيل العالم زوجته في ملاء من المحارم فإنه يعد هتكا في حقه و يوجب سقوطه عن الانظار فيحرم ارتكابه لأنه كما يحرم على المكلف هتك غيره من المؤمنين كذلك يحرم عليه هتك نفسه لأنه أيضا مؤمن محترم فتدبر.

الوجه الثاني: لاعتبار المروة في العدالة:

ما يقال ان العدالة عرفا و لغة الاستواء و الاستقامة، و غير المبالي مما يستنكر عرفا لا يعد من أهل الاستقامة «1».

و ربما يناقش ان المراد بالعدالة بمناسبة الحكم و الموضوع الاستقامة و الاستواء في الشريعة المطهرة لا مطلق الاستقامة «2».

و لكن يظهر ضعفه مما ذكرنا في ذيل خبر ابن ابى يعفور فراجع و تأمل.

الوجه الثالث:

ان من لم يخجل من الناس و لم يستحي من غير اللّه بان لم يبال بالنقائص العرفية لم يخجل و لم يستحي من اللّه تعالى أيضا لأن عدم مبالاته بتلك

______________________________

(1) جامع المدارك ج 1/ 492

(2) جامع المدارك ج 1/ 492

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 55

..........

______________________________

الأمور يكشف عن أنه لإحياء له من اللّه تعالى.

ربما يناقش بأنه لا ملازمة بينهما لأنه قد يكون عدم استحيائه بما في أيدي الناس بلحاظ كونه متفانيا في اللّه و في أمور الآخرة فلا يبالي بما هو ممدوح أو مذموم لدى الناس فمعه كيف يكون عدم مبالاته بالأمور المتعارفة بين الناس كاشفا عن عدم خجله و استحيائه من اللّه تعالى.

و لكن أشرنا ان المراد بالأمور الدراجة ما هو المتعارف في عرف المتشرعة فمن لم يستحي و لم يخجل مما عليه عرف المتشرعة يلازم عدم استحيائه من اللّه تعالى فتدبر.

استعجاب بعض الأساطين لاعتبار المروة في العدالة و دفعه

بقي الكلام في استعجاب بعض الأساطين دام ظله من القائلين بمضرية ارتكاب خلاف المروة في العدالة مع كونه مباحا و عدم قدح ارتكاب المعصية الصغيرة عندهم «1».

و فيه: ان الاستعجاب مع مساعدة الدليل غير ظاهر، مع ان المراد بخلاف المروة كما تقدم ليس كل ما يخالف العرف و العادة بل المراد ما لا يناسب المرتكب و يعد منقصة دينية في حقه، و ربما يعد ذلك هتكا في حقه: و قد عرفت من الأستاذ الشعراني ان مرتكب منافيات المروة إما ماجن و قيح لا يبالي بما يقال فيه و لا يلتزم بالحسن و القبح، و اما سفيه ضعيف العقل لا يعرف الحسن من القبيح.

و على كل فهو صاحب صفة مذمومة عند الشارع و قد ورد ذم أصحاب

هذه الصفات و النهى عن معاشرتهم و الاعتماد عليهم في الأمور ا ه «2».

فتحصل انه لا يبعد اعتبار المروة في العدالة خصوصا فيما إذا استلزم هتك مرتكب خلاف المروة.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 278.

(2) هامش الوافي ج 2 م 9/ 1551

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 56

..........

______________________________

و ان كان مع ذلك في خاطرك شيئا و لكنه مقتضى الاحتياط خصوصا مع اشتهار اعتبارها فالأحوط لو لم يكن أقوى اعتبارها في العدالة.

و ليعلم: ان القائلين باعتبار المروة في العدالة فيما إذا لم يستلزم هتك مرتكبه يرون ان من لم يكن له مروة و لم يستحي و لم يبال بارتكاب الأمور الهيّنة المذمومة لدى عرف المتشرعة لا يكون عادلا و لكن لا توجب فسقه.

ففرق عندهم بين مخالفة التقوى و مخالفة المروة فإنه في الأول يوجب فسقه بخلاف مخالف المروة فإنه ليس بفاسق كما انه ليس بعادل، و لا يترتب عليه أثار شي ء منهما فتدبر.

و اما فيما استلزم هتك مرتكبه و هو محرم بالعنوان الثانوي فيوجب فسق مرتكبه لأن حرمة هتك المؤمن كما أشرنا لا تنحصر بالنسبة إلى الغير بل تعم ما إذا استلزم هتك نفسه أيضا.

الأمر الثاني في ان ارتكاب الصغيرة هل كالكبيرة مضر بالعدالة أو لم تضربها إلا إذا أصر عليها
اشارة

لا اشكال و لا خلاف في ان ارتكاب الصغيرة محرم و اما مضريته بالعدالة فكلمات الأصحاب فيها مختلفة.

نسب الى المشهور عدم مضرية ارتكاب الصغيرة للعدالة، و ربما يشاهد من عبائر فقيه واحد في بعض الموارد موافقته للمشهور، و في بعضها الأخر مخالفته لهم، منهم الماتن (قدس) في بابي التقليد و صلاة الجماعة فإن مقتضى إطلاق كلامه في باب التقليد مضرية ارتكاب الصغيرة للعدالة، و قد صرح في شرائط الجماعة بعدم مضريته ما لم يكن مصرا بها فلاحظ.

و ظاهر

جملة منهم عدم الفرق بينهما في ذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 57

وجهان لعدم مضرية ارتكاب الصغيرة للعدالة
اشارة

______________________________

و كيف كان يستدل لما ذهب اليه المشهور بوجهين.

الوجه الأول:
اشارة

و هو عمدتهما قوله عليه السّلام في خبر ابن ابى يعفور: «و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمور و الزنا إلخ».

تقريب الدلالة: هو انه لو كان الاجتناب عن الصغائر معتبرا في العدالة لم يكن وجها لحصر الاجتناب عن الكبائر فيها.

و قد استظهرنا من هذه الفقرة إلى قوله عليه السّلام و الدلالة على ذلك كما تقدم انها بصدد بيان ماهية العدالة و ما أريد منها في الشرع و حاصله.

ان العدالة عبارة عن معرفة استحياء الرجل منه تعالى بكف البطن، و الفرج و اليد، و اللسان: عما لا يحل باجتناب الكبائر بحيث صارت صفة نفسانية و ملكة له لما عرفت ان الضمير في قوله: و يعرف باجتناب الكبائر راجع الى كف البطن و أخواته.

اشكال بعض الأساطين في دلالة الخبر و دفعه

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده بعض الأساطين دام ظله من عدم دلالة هذه الفقرة على ما استفدناه، و ذلك منه دام ظله مبني على ما ذهب اليه من عدم كون الرواية بصدد بيان حقيقة العدالة بل بصدد بيان الطريق إليها و قد عرفت بعض الكلام فيه.

و على مبناه دام ظله من مضرية ارتكاب الصغيرة بالعدالة أيضا صرح بان ذكر اجتناب الكبائر في الرواية بلحاظ أماريتها للعدالة ما لم يحرز صدور الصغائر منه فإن الامارة انما تكون حجة ما لم يعلم الخلاف فكأنه قيل يكفي في إحراز العدالة المطلقة اجتناب الكبائر، و لا حاجة الى إحراز الاجتناب عن الصغائر و هذا لا يدل على عدم إخلال الصغائر بحقيقتها.

ثم قال ان الرواية لا تخلو من الدلالة على مضرية ارتكاب الصغيرة و ذلك لان قوله عليه السّلام: «و الدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم

على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 58

..........

______________________________

المسلمين إلخ» يدل على ان الستر لجميع العيوب معتبر في استكشاف العدالة، و من البديهي ان النظر إلى الأجنبية و لا سيما في مجامع الناس من العيوب، و كيف لا؟! فإنه معصية للّه و ان لم يتوعد عليه بالنار في الكتاب فاذا لم يكن ساترا لعيبه لم تشمله الرواية نفسها.

و على الجملة الرواية بنفسها تدلنا على ان الاجتناب عن الصغائر أيضا معتبر في العدالة لعدم صدق ساتريته لجميع العيوب مع ارتكاب الصغائر «1».

قلت: لا يخفى ان ارتكاب الصغيرة أحيانا لا يضر بصدق ساترية الشخص لجميع عيوبه و انما يضر- كما ناقش- صورة الإصرار على الصغيرة المزبورة فإن من اجتنب المعاصي الكبيرة و لم يصر على الصغائر و لكن ارتكب أحيانا صغيرة يصدق عليه عرفا انه ساتر لجميع عيوبه فلا يكون هذه الفقرة دليلا على مضرية ارتكاب الصغيرة للعدالة هذا أولا.

و ثانيا: لا يبعد ان يقال ان ستر جميع العيوب و ان كان يعم الصغيرة الا انه بقرينة تصريح صدر الرواية بدخالة خصوص الاجتباب عن الكبائر في حقيقة العدالة يراد العيوب التي أشير إليها في الصدر و هو خصوص الكبائر فلا يعم الصغائر.

و الى هذا يشير المحقق الأصفهاني حيث قال:

«و ما في ذيل الصحيحة فهو فرع و تبع لصدرها فان الستر الذي جعل امارة ستر تلك العيوب التي كان إظهارها فسقا و هي الكبائر، فإن قوله عليه السّلام: و تعرف باجتناب الكبائر في مقام حقيقة العدالة، و قوله عليه السّلام و الدليل على ذلك كله إلخ في مقام بيان الامارة على تلك الحقيقة «2».

الوجه الثاني: كلمة من المحقق الأصفهاني في عدم مضرية ارتكاب الصغيرة في العدالة
اشارة

ما أشار إليه المحقق الأصفهاني (قدس) و هو ان مقتضى

تكفير

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 272 الدروس ج 1/ 150

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 69

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 59

..........

______________________________

الصغائر باجتناب الكبائر كما هو ظاهر الكتاب لقوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «1» و صريح السنة و هو دوران العدالة مدار خصوص اجتناب الكبائر حيث ان فعل الصغيرة من المجتنب عن الكبائر دائما من باب المقتضى المقرون بالمانع فلا يؤثر شيئا، بل هو اولى من التوبة فإنها رفع و هذا دفع فتزول العدالة بالكبيرة و تعود بالتوبة و لا تزول بالصغيرة لمكان المانع المقارن لمقتضى الإزالة.

ثم أورد (قدس) على نفسه بان تكفير الصغائر باجتناب الكبائر لا يوجب عدم صدورها مبغوضة و معصية للمولى بل يرفع عقوبتها التي تقتضيها، و العدالة تضرها نفس المعصية لا أثرها و هي العقوبة.

فأجاب بأن المضر بالعدالة المعصية بمالها من البعد الحاصل بها عن المولى لا نفس صدورها و الا لا ينقلب الشي ء عما وقع عليه فلا يعود الارتكاب اجتنابا و لا ينفعه الندم و لا يجديه العزم على العدم فكيف تعود العدالة بالتوبة مع ان الملكة على حالها قبل المعصية و بعدها و الكبيرة وقعت و العدالة ارتفعت فلا الملكة زالت لتعود و لا العدم ينقلب هنا الى الوجود بخلاف ما إذا كان زول العدالة بالمعصية بلحاظ البعد الحاصل بها عن المولى فإن التوبة عن الكبيرة توجب القرب بعد البعد و اجتناب الكبائر يمنع عن فعلية البعد الذي يقتضه فعل الصغائر «2».

مناقشة بعض الأساطين لما افاده المحقق الأصفهاني و دفعها

ناقش بعض الأساطين دام ظله- كما في تقريري بحثه- فيما أفاد شيخه المحقق الأصفهاني (قدس).

أولا: ان تكفير الصغائر معلق على اجتناب الكبائر على الإطلاق فلو ارتكب كبيرة

و لو في آخر عمره لم تغفر له الصغائر الصادرة طيلة حياته و عليه فلا يمكن الحكم بعدالة من ارتكب الصغيرة لاحتمال ان لا يغفر له بارتكابه الكبيرة بعد ذلك.

______________________________

(1) النساء: 4/ 31

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 70

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 60

..........

______________________________

و ثانيا: ان مجرد غفران الذنوب بغير التوبة تفضلا منه تعالى لا يوجب صدق العدالة بخلاف التوبة فإنها كاشفة عن رسوخ الخوف في النفس المقتضى لترك المعصية، و من آثاره الندم عليها لو صدرت منه اتفاقا لغلبة القوى النفسانية و اما إذا كان المقتضى قاصراً من الأول بحيث لا يردعه عن ارتكاب بعض الذنوب، و اتفق انه تعالى، عفى عنها فلا يصدق عليه العادل و ان لم يعاقب عليه إلخ.

و بعبارة أخرى نمنع الملازمة بين العفو عن المعصية و عدم الفسق، فان الفسق هو الخروج عن وظيفة العبودية و الانحراف عن الجادة و العفو عنه أمر أخر غير مانع عن كونه فسقا و انحرافا فان للّه تعالى ان يعفو عن أعظم المعاصي تفضلا أو لغيره من أسباب العفو و الغفران الا ان العفو عن أي معصية لا يمنع عن حصول الفسق بارتكابها «1».

قلت: و لا يخفى عدم ورود شي ء مما أفاده.

اما ما ذكره أولا فلان تعليق تكفير الصغائر على اجتناب الكبائر واضح الا ان استفادة ان المعلق عليه اجتناب الكبائر مطلقا في طيلة حياته غير وجيه لان الظاهر من الاية الشريفة هو انه ما دام يكون مجتنبا للكبائر و صار اجتناب الكبائر منه ملكة و حالة ثابتة له يكون ذلك منه مانعا عن تأثير الصغيرة في العدالة.

و بعبارة أخرى فعل الصغيرة من المجتنب عن الكبائر دائما من

باب المقتضى المقرون بالمانع فلا يؤثر شيئا.

و بما ذكرنا يظهر حال ما افاده ثانيا.

لأنه إذا كان اجتناب الكبائر مانعا عن تأثير المعصية يكون فعل الصغيرة مع اجتناب الكبائر دائما يكون من باب المقتضى المقرون بالمانع فلا يؤثر شيئا و قد عرفت من المحقق الأصفهاني (قدس) انه اولى من التوبة فراجع كلامه و فتدبر فيه.

ثم انه على ما ذكره دام ظله يلزم ان يكون ارتكاب الصغيرة أشد قبحا و أكثر

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 15 التنقيح ج 1/ 273

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 61

..........

______________________________

بعدا من ساحته تعالى من الكبيرة لأنه على ما افاده يلزم ان لا يغفر للصغيرة من ارتكب في طيلة حياته كبيرة أو كبائر و ان تاب عنها مع انه كما ترى فتأمل.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما في التنقيح من ان المراد بقوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ إلخ ليس هو الاجتناب عنها آنا ما لأنه أمر حاصل لكل شخص حتى لا فسق الفسقة بل المراد الاجتناب عنها أبدا إلخ «1».

توضيح الضعف انه و ان لم يرد الاجتناب عنها آنا ما و لكن لم يرد الاجتناب عنها أبدا أيضا بل المراد حينما يكون مجتنبا عن الكبائر و صار ذلك منه ملكة و حالة مانعة، فعند كون الشخص ذا ملكة الاجتناب عن الكبائر و كان مجتنبا عنها يعفى عن سيئاته فتدبر.

تفصيل في قادحية بعض الصغائر للعدالة دون بعض و تزييفه.

و للفقيه الهمداني (قدس) مقالا جعله بعض الأساطين دليلا ثالثا لمقال المشهور لعدم مضرية ارتكاب الصغيرة للعدالة، و لكن التدبر في مقاله يعطى بعدم افادة ذلك و غاية ما تقتضيه هو عدم قادحية بعض الصغائر للعدالة و هو غير مقال المشهور و ان كان قريبا من مقالهم.

و كيف

كان فإنه (قدس) بعد ان ذهب الى ان العدالة هي الاستقامة في جادة الشرع و ان ارتكاب المعصية خروج عن جادته و لم يفرق في ذلك بين الكبائر و الصغائر فصل في الصغائر بين ما إذا كانت صدورها عن غير عمد و التفات الى حرمتها أو كانت مع الالتفات و لكن كانت المعصية مما يتسامح في أمرها في عرف المتشرعة فقال بعدم مضرية ارتكابها للعدالة و بين ما إذا كان صدورها عن عمد و التفات الى حرمتها فذهب إلى أنها كالكبائر قادحة للعدالة و قال في بيانه:

«ان المتبادر من إطلاق كون الرجل عدلا في الدين ليس إلا إرادة كونه ملازما للتقوى بأداء الواجبات و ترك المحرمات فمن يصدر عنه الصغيرة فلا يخلو اما ان يكون عن عمد و التفات الى حرمتها فهي كالكبيرة مناف للعدالة و لكن الذنوب التي ليست

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 274

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 62

..........

______________________________

في أنظار أهل الشرع كبيرة قد يتسامحون في أمرها فكثيرا ما لا يلتفتون الى حرمتها حال الارتكاب، أو يلتفتون إليها و لكن يكتفون في ارتكابها باعذار عرفيّة مسامحة كترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو الخروج عن مجالس الغيبة و نحوها حياء مع كونهم كارهين لذلك في نفوسهم فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافيا لاتصافه بالفعل عرفا بكونه من أهل الستر و العفاف و الخيّر و الصلاح.

و هذا بخلاف مثل الزنا و اللواط و شرب الخمر، و قتل النفس و نظائرها مما يرونها كبيرة فإنها غير قابلة عندهم للمسامحة و مانعة عن اتصاف فاعلها بالاستقامة و الاعتدال مطلقا.

فهذا هو الفارق يتسامح بين ما يراه العرف صغيرة و كبيرة فإن

ثبت بدليل شرعي ان بعض الأشياء التي بتسامح فيها أهل العرف و لا يرونها كبيرة كالغيبة مثلا حاله حال الزنا و السرقة لدى الشارع في كونها كبيرة كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم و ان هذا أيضا كالزنا مناف للعدالة مطلقا.

فالذي يعتبر في تحقق وصف العدالة ان يكون الشخص من حيث هو لو خلي و نفسه كافا نفسه عن مطلق ما يراه معصية و مجتنبا بالفعل عن كل ما هو كبيرة شرعا أو في أنظار أهل العرف» «1».

و فيه أولا: ان ارتكاب الصغيرة ان لم يكن عن التفات و توجه لا يكون معصية و لا تضر بالعدالة كما هو الشأن في ارتكاب الكبيرة لأنه من الخطاء المرفوع في الشريعة المقدسة.

و بالجملة الغفلة عن الحرمة حال الارتكاب عذر مطلقا فلا يكون فارقة بين أنحاء الصغيرة كما لا تكون فارقة بين الصغيرة و الكبيرة و ثانيا: انه كما تقدم ان المعتبر في العدالة هو الاستقامة المطلقة فكما لا تضر الاستقامة المطلقة ارتكاب الكبيرة لا يضربها ارتكاب الصغيرة أيضا، و السر في ذلك هو

______________________________

(1) صلاة مصباح الفقيه/ 675

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 63

..........

______________________________

ان المعصية انحراف عن الجادة فينافي الاستقامة المطلقة نعم كما أفيد لا ينافي مطلق الاستقامة.

الا ان يقال كما ذكرنا في عدم مضرية ارتكاب الصغيرة للعدالة بان المجتنب عن الكبائر إذا صدر منه صغيرة أحيانا لا يضر عرفا بصدق ساتريته لجميع عيوبه و ثالثا: ان تجويز ارتكاب الصغيرة بالأعذار العرفية غير ظاهر على تقدير و لا يختص بها على وجه أخر.

و ذلك لان العذر العرفي ان بلغ مرتبة العسر و الحرج كما إذا هدد الرجل بارتكاب معصية بما لا

يتحمل عادة يجوز ارتكابه و لا يكون فاسقا من غير فرق في ذلك بين الكبيرة و الصغيرة.

و ان لم يبلغ بتلك المرتبة لا يجوز ارتكابه بل يعد فاسقا و عاصيا بارتكابه و لو كانت المعصية أصغر الصغائر.

المراد بالصغيرة غير المضرة بالعدالة

أفاد أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) «ان عدم قدح ارتكاب الصغيرة في العدالة انما هو في الصغيرة بقول مطلق لا الصغيرة الإضافية التي يصدق عليه عنوان الكبيرة أيضا، و لذا تقل ثمرة هذا البحث في الغاية لاختلاف الأخبار الخاصة و العامة في تعديد الكبائر و بيان الضابط لها، و لأجله يتعسر الاطلاع على الصغيرة بالقول المطلق و لم يكن هذا البحث محررا في كلماتهم و مذكورا فيها منقحا» «1».

الأمر الثالث في تقسيم المعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة
اشارة

اشتهر بين المتأخرين تقسيم المعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة حتى انه نسب ذلك الى المشهور تارة، و الى أكثر العلماء اخرى، و الى العلماء ثالثة، و الى المشهور

______________________________

(1) نهاية التقرير ج 2/ 295

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 64

..........

______________________________

المعروف رابعة و لكن لم يحك ذلك عن القدماء غير شيخ الطائفة (قدس) في المبسوط، و قد حكى عنه في التبيان و العدة عدم كون المعصية على نوعين و ان إطلاق الصغر و الكبر إضافي الى ما فوق، و الى ما تحت لا في حد ذاته، فالقبلة مثلا صغيرة بالنسبة إلى الزنا و كبيرة بالنسبة إلى النظرة بالشهوة.

و حكى ذلك أيضا عن المفيد و ابن البراج و ابى الصلاح و الطبرسي، بل يظهر من مجمع البيان و المحكى عن العدة و السرائر: ان ذلك اتفاقي حيث نسب فيها ذلك الى الأصحاب.

و بالجملة كل ذنب عند هؤلاء كبيرة لاشتراكها في مخالفة أمر اللّه تعالى.

الوجوه التي يستدل بها لكون جميع المعاصي كبيرة و دفعها
اشارة

استدل لمقالهم بوجوه لكنها غير سديدة.

منها: الاتفاق و الإجماع

قال شيخنا البهائي (قدس) بعد نقل مقال الطبرسي ان كلام الشيخ الطبرسي مشعر بأن القول بان الذنوب كلها كبائر متفق عليه بين علماء الإمامية و كفى بالشيخ ناقلا «1».

و قد أشرنا إلى حكاية الإجماع عن العدة و السرائر أيضا، و عن الحلي بعد نقل كلام الشيخ في المبسوط في تقسيم الذنوب الى الصغائر و الكبائر قال: انه لم يذهب اليه الشيخ في غير هذا الكتاب و لا ذهب إليه أحد من أصحابنا لأنه لا صغيرة عندنا في المعاصي إلا بالإضافة إلى غيرها.

و فيه أولا: عدم ثبوت الاتفاق بذلك كيف؟! و قد ذهب الشيخ في المبسوط و اشتهر بين المتأخرين تنويع المعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة.

و ثانيا: انه لو سلم ذلك فمن المحتمل بل من القريب ان يكون مستندهم في ذلك بعض الوجوه التي يستدل بها في المقام فلم يكن إجماعا تعبديا.

______________________________

(1) كتاب الأربعين/ 193

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 65

..........

______________________________

و منها: ما دل على ان كل معصية توجب النار كقوله تعالى وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً- فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نٰاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً «1».

و فيه أولا: ان ذلك مطلق أو عام و لكنه يقيد، أو يخصص بما دل على ان الاجتناب عن بعض المعاصي يكفر عن بعض أخر.

كقوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «2» الى غير ذلك.

و ثانيا: ان التوعيد بالنار لكل معصية في حد نفسه لا يدفع التقسيم كما لا يخفى و ثالثا: ان المراد بالمعصية في الآية الشريفة- كما أفاده أستاذنا العلامة الطباطبائي دام ظله- على ما يشهد به

سياق الآيات السابقة معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرع عليه من أصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار الا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالاية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله «3».

و منها: ما دل على ان كل معصية شديدة

كقول ابى جعفر عليه السّلام في خبر زرارة:

الذنوب كلها شديدة و أشدها ما نبت عليه اللحم و الدم «4».

و فيه: ان ذلك لا ينافي صغارة بعضها كما لا يخفى، و في الخبر دلالة على ان بعضها أشد فليكن المعصية الصغيرة شديدة و الكبيرة أشد منها.

و منها: ما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

______________________________

(1) الجن: 72/ 23- 24

(2) النساء: 4/ 31

(3) الميزان في تفسير القران ج 2/ 52

(4) الوسائل باب 40 من أبواب جهاد النفس ح/ 3

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 66

..........

______________________________

لا تحقروا شيئا من الشروان صغر في أعينكم و لا تستكثروا شيئا من الخير و ان كثر في أعينكم فإنه لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار «1».

و قريب منه: ما رواه الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

أشد الذنوب ما استخف به صاحبه «2».

و في خبري سماعة، و زياد، ما يؤيد ذلك «3».

و حاصلها انه لا يجوز تحقير الذنب اى ذنب كان، و لا يخفى ان تقسيم المعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة نحو تحقير لها.

و فيه أولا: ان استحقار الذنب و لو كان صغيرا أمن من مكر اللّه تعالى و هو من الكبائر.

و بالجملة الصغيرة إذا انضم إليها الأمن من مكر اللّه تعالى تكون كبيرة بل لا يبعد ان يكون من أكبر الكبائر فلا يرتبط بموضوع البحث.

و ثانيا: ان تصغير الذنب غير كون الذنب صغيرة في نظر الشارع، و الخبر يدل على الأول و موضوع البحث الثاني.

و بالجملة الكلام في انقسام الذنب في الشريعة إلى قسمين و هو محقق و هو غير تصغير الذنب الذي لا يجوز عقلا و شرعا.

و منها: خبر الحلبي

عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في القنوت في الوتر الى ان قال:

و استغفر لذنبك العظيم ثم قال كل ذنب عظيم «4».

تقريب الدلالة انه يدل على عظم كل ذنب فتقسيم الذنوب إلى الكبيرة و الصغيرة غير وجيه.

______________________________

(1) الوسائل باب 43 من أبواب جهاد النفس ح/ 8

(2) الوسائل باب 43 من أبواب جهاد النفس ح/ 7

(3) الوسائل باب 43

من أبواب جهاد النفس ح/ 2- 3

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 67

..........

______________________________

و فيه: ان عظم الذنب- اى ذنب كان- واضح لأنه مخالفة للرب تعالى و لا ينافي ذلك كون بعضها صغيرا بالنسبة الى بعض.

الوجوه التي يستدل بها لكون المعاصي على قسمين
اشارة

ثم انه يستدل لمقال المشهور بين المتأخرين من تقسيم الذنوب إلى المعاصي الكبيرة و الصغيرة بوجوه أيضا.

الأول: قوله تعالى:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «1».

قال أستاذنا العلامة الطباطبائي قدس في تفسيره القيم: يظهر من قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ان هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة فتبين من الآية أولا ان المعاصي قسمان صغيرة و كبيرة، و ثانيا ان السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك الى ان قال: و بالجملة دلالتها على انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي ان يرتاب فيه، و كذا لا ريب ان الآية في مقام الامتنان، و هي تقرع إسماع المؤمنين بعناية لطيفة إلهية انهم ان اجتنبوا البعض من المعاصي كفّر عنهم البعض الأخر إلخ ما افاده «2» فتحصل ان دلالة الآية الشريفة على تقسيم المعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة واضحة و هي كافية لما نحن بصدده.

و ان كان في خاطرك شيئا فينبغي الإشارة الى بعض الاخبار الواردة في تفسير الآية الشريفة.

فعن الصدوق عن الصادق عليه السّلام قال:

من اجتنب الكبائر يغفر اللّه (كفّر اللّه) جميع ذنوبه و ذلك قول اللّه عز و جل إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ

______________________________

(1) النساء: 4/ 31

(2) لاحظ الميزان في تفسير القران ج 4/ 323

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 68

..........

______________________________

وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً «1» «2».

و خبر محمد بن الفضيل (الفضل) عن ابى الحسن عليه السّلام في قول اللّه عز و جل:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ قال:

من اجتنب الكبائر ما أوعد اللّه

عليه النار إذا كان مؤمنا كفّر اللّه عنه سيئاته «3».

الثاني: قوله تعالى:

وَ وُضِعَ الْكِتٰابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا الْكِتٰابِ لٰا يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لٰا كَبِيرَةً إِلّٰا أَحْصٰاهٰا «4» قال العلامة الراغب الأصفهاني: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال (و هم من الساعة مشفقون) «5» فاذا عدى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر و إذا عدى بفي فمعنى العناية فيه أظهر «6».

بالجملة إشفاقهم بما في الكتاب يدل على ان المراد بالصغيرة و الكبيرة صغار الذنوب و كبارها.

الثالث: قوله تعالى:

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ «7» كبائر الإثم المعاصي الكبيرة، و الفواحش جمع فاحشة و هي أقبح الذنوب، و ربما يفرق بين الكبيرة و الفاحشة أن الكبيرة كل ذنب ختم بالنار و الفاحشة كل ذنب فيه الحد.

______________________________

(1) النساء: 4/ 31

(2) الوسائل باب 45 من أبواب جهاد النفس ح/ 4

(3) الوسائل باب 45 من أبواب جهاد النفس ح/ 5

(4) الكهف: 18/ 49

(5) الأنبياء: 27/ 49

(6) المفردات في غريب القران/ 263

(7) النجم: 53/ 38

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 69

..........

______________________________

و قال الطباطبائي: الفواحش الذنوب الشنيعة و قد عد تعالى في كلامه الزنا، و اللواط من الفواحش و لا يبعد ان يستظهر من الآية اتحادها مع الكبائر «1».

و قال الطبرسي: اختلف في معنى اللمم فقيل هو صغار الذنب كالنظر و القبلة و ما دون الزناء «2».

و نحوه في الميزان قال و اما اللمم فقد اختلفوا فيه فقيل هو الصغيرة من المعاصي و عليه فالاستثناء منقطع.

قلت: و لا يخفى ما في الاستدلال بالاية الشريفة للمدعي لأن الاستدلال بها بأحد التفاسير الذي لم يكن بينا في نفسه و لا مبيّنا من أئمة أهل

البيت عليهم السّلام غير وجبة لان للحضم ان يفسرها بالمعنى الأخر، و قد ذكر في الميزان بعد ذكر تفسيره الأول بأنه قيل هو ان يلم بالمعصية و يقصدها و لا يفعل و الاستثناء أيضا منقطع، و قيل هو المعصية حينا بعد حين من غير عادة: اى المعصية على سبيل الاتفاق فيكون أعم من الصغيرة و الكبيرة الى ان قال: و قد فسّر في روايات أئمة أهل البيت عليهم السّلام بثالث المعاني «3».

فعن إسحاق بن عمار عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في قوله اللّه عز و جل الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ.

فقال الفواحش الزنا و السرقة و اللمم الرجل يلم بالذنب فيستغفر اللّه منه الخبر «4».

و عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال:

اللمم هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء اللّه ثم يلم

______________________________

(1) الميزان في تفسير القران ج 19/ 42.

(2) مجمع البيان ج 5/ 179

(3) الميزان في تفسير القران ج 19/ 42

(4) أصول الكافي ج 2/ 278/ 442

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 70

..........

______________________________

به بعده «1».

و عن ابن عمار عن الصادق عليه السّلام: قال:

اللمام العبد الذي يلم بالذنب ليس من سليقته اى من طبعه «2».

الرابع: ما أفاده أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) و هو:

«انه لا مجال لإنكار الصغر و الكبر يقول مطلق أصلا ضرورة انه مع دعوى الإضافة لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق و هذا الذي ليس له فوق كما أنها كبيرة بالنسبة الى ما تحته من الذنوب كذلك كبيرة في حد نفسها و بقول مطلق إذ لا يتصور فوق بالإضافة إليه كما هو المفروض حتى يكون هذا الذنب صغيرة بالنسبة اليه، و هكذا الأمر

في جانب الصغيرة فإنه مع دعوى الإضافة أيضا لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنوب لم يكن تحته ذنب، و هذا الذي ليس تحته ذنب كما انه صغيرة بالإضافة الى ما فوقه كذلك هي صغيرة بقول مطلق إذ المفروض انه ليس تحته ذنب أصلا فلا محيص حينئذ عن الالتزام لوجود الكبيرة و الصغيرة بقول مطلق أيضا» «3».

فتحصل مما ذكرنا صحة انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر و قد صرح المحقق الأصفهاني (قدس): «ان الحق ذلك كما هو ظاهر القران و هو قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «4»: و الاخبار الصحيحة صريحة في انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، فالقول بان الكبر و الصغر إضافيان و ان المعاصي كلها كبائر سخيف جدا و تطويل الكلام فيه بلا طائل» «5».

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2/ 441

(2) أصول الكافي ج 2/ 441

(3) نهاية التقرير ج 2/ 282

(4) النساء 4/ 31

(5) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 68

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 71

الأمر الرابع فيما يتميز به الصغيرة عن الكبيرة
اشارة

______________________________

اختلف كلماتهم في تعريف الكبيرة و تشتت آرائهم في ذلك بحيث يشكل الاعتماد عليه، نشير إلى الأقوال التي أشير إليها في مفتاح الكرامة ثم نعقبها بما هو المختار فيها.

فمنهم من وكل بيانها الى التحديد، كما ان بعضهم من ردها الى التعديد.

تعيين الكبيرة بالتحديد

اما الأول: فقد اختلفوا على أقاويل.

1- فالمشهور بين أصحابنا انها كلما توعد اللّه تعالى عليه بخصوصه كما في مجمع البرهان، أو أوجب اللّه عليه النار كما قاله الأستاد الشريف «1» في مناسك الحج، أو كل ذنب توعد اللّه عز و جل عليه بالعقاب في الكتاب العزيز كما في الكفاية، و في الذخيرة انه المشهور بين أصحابنا.

2- و قيل: بأنها كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو (و) صرح فيه بالوعيد 3- و قيل: هي كل معصية تؤذن بقلة اكتراث «2» فاعلها بالدين.

4- و قيل: انها كل ذنب علمت حرمته بدليل قاطع.

5- و قيل: انها كل ذنب توعد عليه توعدا شديدا في الكتاب و السنة.

6- و المعتزلة على ان الكبيرة ما زاد عقابه على ثواب صاحبه، و الصغيرة ما نقص لقولهم بالإحباط، و التخليد على الكبيرة.

7- و قال بعضهم: ان أردت الفرق بين الصغيرة و الكبيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فان نقصت عن أقل مفاسدها فهي من

______________________________

(1) يعنى أستاده العلامة بحر العلوم (قدس).

(2) اى بقلة مبالات فاعله بالدين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 72

..........

______________________________

الصغائر، و الا فمن الكبائر مثلا حبس المحصنة للزنا أعظم مفسدة من القذف مع انهم لم يعدوه من الكبائر، و كذا دلالة الكفار على عورات المسلمين و نحو ذلك بما يفضي الى القتل و السبي و النهب، فان مفسدته أعظم من مفسدة

الفرار من الزحف و منه يخرج الوجه في كلام ابن عباس (هي إلى السبعمائة أقرب منها الى السبع).

8- قال شيخنا ادام اللّه تعالى حراسته «1» الكبيرة ما عده أهل الشرع كبيرا عظيما، و ان لم تكن كذلك في نفسه كسرقة ثوب ممن لا يجد غيره مع الحاجة و الصغيرة ما لم يعدوه كسرقته ممن يجده.

و هو قريب مما تقدمه، و قد يلزم ان سارق الرغيف ممن لا يجد غيره مع الحاجة كبيرة، و سارق الدرهم من مال اليتيم المالك الف دينار صغيرة فليتأمل.

تعيين الكبيرة بالتعديد
اشارة

و اما الآخرون: اى من رد عد الكبائر إلى التعديد فقد اختلفوا فيه أيضا.

فبعضهم على انها سبع

1- الشرك 2- و قتل النفس 3- و قذف المحصنة 4- و أكل مال اليتيم 5- و الزنا 6- و الفرار من الزحف 7- و العقوق، و بعضهم عبر عنه بعقوق الوالدين

و بعضهم على انها تسع

8- بزيادة السحر 9- و الإلحاد في بيت اللّه اى الظلم فيه.

و آخرون على انها عشرة

10- بزيادة الرباء.

و فريق أنها اثني عشرة

11- بزيادة شرب الخمر 12- و السرقة.

و جماعة على انها عشرون

السبعة الاولى 8- و اللواط 9- و السحر 10- و الرباء 11- و الغيبة

______________________________

(1) الظاهر انه أستاده العلامة الوحيد البهبهاني (قدس)

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 73

..........

______________________________

12- و اليمين الغموس و قد يعبر عنها باليمين الغموس الفاجرة «1» 13- و شهادة الزور 14- و شرب الخمر 15- و استحلال الكعبة 16- و السرقة 17- و نكث الصفقة «2» 18- و التعرب بعد الهجرة 19- و اليأس من روح اللّه سبحانه 20- و الأمن مكر اللّه عز و جل.

و زاد بعضهم أربعة عشرة أخر

21- و أكل الميتة 22- و الدم 23- و لحم الخنزير 24- و ما أهل لغير اللّه به «3» 25- و السحت «4» 26- و القمار 27- و البخس في الكيل و الوزن «5» 28- و معونة الظالمين 29- و حبس الحقوق من غير عسر 30- و الإسراف 31- و التبذير 32- و الخيانة 33- و الاشتغال بالملاهي 34- و الإصرار على الذنب

و قال (قدس) و قد يعد أشياء أخر

35- كالقيادة 35- و الدياثة «6» 36- و الغصب 37- و النميمة 38- و قطيعة الرحم 39- و تأخير الصلاة عن وقتها 40- و الكذب خصوصا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله 41- و ضرب المسلم بغير حق 42- و كتمان الشهادة 43- و السعاية إلى الظالم 44- و منع الزكاة المفروضة 45- و تأخير الحج عن عام الوجوب 46- و الظهار 47- و المحاربة بقطع الطريق.

______________________________

(1) اليمين الغموس بفتح الغين هي اليمن الكاذبة و الفاجرة التي يقطع بها الحالف ما لغيره مع علمه ان الأمر بخلافه كذا في مجمع البحرين.

(2) اى نقص بيعة الامام و في الحديث من نكث صفقة الامام جاء الى اللّه أجذم كذا في المجمع

(3) اى ذكر عند ذبح الحيوان أو نحره اسم غير اللّه

(4) فسر بما لا يحل كسبه، و قيل ما خبث و قبح من المكاسب فلزم منه العار كالرشوة.

(5) البخس فيهما عبارة عن النقص في الكيل و الوزن

(6) و في الحديث قيل يا رسول اللّه: و ما الديوث قال: الذي تزني امرئته و هو يعلم، و الديوث من لا غيرة له على اهله

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 74

..........

______________________________

و عن ابن مسعود: انه قال: أقروا من أول

سورة النساء الى قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «1» فكل ما نهى عنه في هذه السورة الى هذه الآية فهو كبيرة.

و عن ابن عباس: أنها إلى السبعمائة أقرب الى السبع و قد حكى عن الدروس انها عدت سبعا و هي إلى السبعين أقرب، و حكى عن الروض، و الروضة انها إلى السبعمائة أقرب.

و عن المفاتيح: اختلف الفقهاء اختلافا لا يرجى زواله و كانت المصلحة في إبهامها اجتناب المعاصي كلها مخافة الوقوع فيها انتهى ما في مفتاح الكرامة «2».

الوجوه المختارة في تعيين الكبيرة
اشارة

قلت: و الذي يختلج بالبال- و العلم عند اللّه- مستفيدا مما ورد في الكتاب العزيز، و الاخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و دلالة العقل، و مستفيدا مما ذكره بعض أعلام الفرقة الإمامية- و هم شيخنا العلامة الأنصاري «3» و العلامة الحائري «4» و العلامة الأصفهاني (قدس اللّه أسرارهم) «5».

هو انه تعرف الكبيرة بأحد هذه الأمور على سبيل منع الخلو.

الأمر الأول المعصية التي أوجب اللّه تعالى، أو أوعد عليها النار، أو العذاب بخصوصها في الكتاب، أو السنة

و قد ورد في غير واحد من الاخبار تمييز الكبيرة بذلك.

______________________________

(1) النساء: 4/ 31

(2) مفتاح الكرامة ج 3/ 89

(3) رسالة العدالة/ 358

(4) كتاب الصلاة/ 358 من الطبعة الاولى

(5) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 71

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 75

..........

______________________________

منها: قوله عليه السّلام في خبر ابن ابى يعفور الوارد في مفهوم العدالة و قد تقدم ذكره، و ما يتعلق به و هو قول الصادق عليه السّلام:

و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمور، و الزنا، و الربا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و غير ذلك «1».

فقد عرف الكبائر بما أوعد اللّه عليها النار.

و منها: خبر ابى بصير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام و فيه:

و اجتناب الكبائر التي أوجب عليها النار «2».

و منها: خبر الحلبي عنه عليه السّلام في تفسير الآية:

قال: الكبائر التي أوجب اللّه عز و جل عليها النار «3».

و منها: خبر محمد بن الفضيل (الفضل) عن ابى الحسن عليه السّلام في قول اللّه عز و جل إِنْ تَجْتَنِبُوا الآية: قال:

من اجتنب الكبائر ما أوعد اللّه عليه النار إذا كان مؤمنا كفّر اللّه عنه سيئاته «4» و منها: خبر عباد بن كثير النواء قال:

سئلت أبا جعفر عليه السّلام عن الكبائر فقال كل

ما أوعد اللّه عليه النار «5».

و منها: خبر حسن بن زياد العطار عن ابى عبد اللّه عليه السّلام و فيه:

من ركب الكبائر و ما وعد اللّه عز و جل عليه النار الخبر «6» و منها: خبر ابى محبوب قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 1

(2) الوسائل باب 40 من أبواب جهاد النفس ح/ 1

(3) الوسائل باب 41 من أبواب جهاد النفس ح/ 2

(4) الوسائل باب 41 من أبواب جهاد النفس ح/ 5- 6- 24- 7

(5) الوسائل باب 41 من أبواب جهاد النفس ح/ 5- 6- 24- 7

(6) الوسائل باب 41 من أبواب جهاد النفس ح/ 5- 6- 24- 7

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 76

..........

______________________________

كتب معى بعض أصحابنا الى ابى الحسن عليه السّلام يسئله عن الكبائر كم هي؟ و ما هي؟ فكتب عليه السّلام: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا إلخ «1».

و منها: خبر على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال:

سئلته عن الكبائر التي قال اللّه عز و جل إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ قال التي أوجب اللّه عليها النار «2».

و منها: خبر عبيد بن زرارة قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أخبرني عن الكبائر فقال هن خمس و هن مما أوجب اللّه عليهن النار الخبر «3».

و منها: خبر علل الشرائع عن الصادق عليه السّلام قال:

و قذف المحصنات من الكبائر لأن اللّه يقول لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «4».

منها: خبر أحمد بن عمرو الحلبي قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل إِنْ تَجْتَنِبُوا الاية قال من

اجتنب ما أوعد اللّه عليه النار إذا كان مؤمنا الخبر «5».

و منها: غير ذلك من الاخبار.

الأمر الثاني التنصيص على انها من الكبائر في النص المعتبر

و قد ورد في جملة من الاخبار تعديد الكبائر.

منها: خبر عبد العظيم الحسنى قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 1

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 21

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 28

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 31

(5) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 32

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 77

..........

______________________________

حدثني أبو جعفر الثاني عليه السّلام قال سمعت ابى يقول سمعت ابى موسى بن جعفر عليه السّلام يقول دخل عمرو بن عبيد «1» على ابى عبد اللّه عليه السّلام فلما سلم و جلس تلي هذه الآية الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ «2» ثم أمسك فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام ما أسكنك؟! فقال أحب ان أعرف الكبائر من كتاب اللّه عز و جل فقال نعم يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك باللّه يقول اللّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ «3».

و بعده اليأس من روح اللّه لان اللّه عز و جل يقول إِنَّهُ لٰا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكٰافِرُونَ «4».

ثم الأمن من مكر اللّه لان اللّه عز و جل يقول فَلٰا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخٰاسِرُونَ «5».

و منها عقوق الوالدين لان اللّه سبحانه جعل العاق جَبّٰاراً شَقِيًّا «6» و قتل النفس التي حرم اللّه الا بالحق لان اللّه عز و جل يقول فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا إلى أخر الآية «7» و قذف المحصنة لأن اللّه عز و جل يقول لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ

وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «8»، و أكل مال اليتيم لان اللّه عز و جل

______________________________

(1) يقال انه عمرو بن عبيد المعتزلي المعروف

(2) النجم: 53/ 32

(3) المائدة: 5/ 72 و الآية في المصاحف هكذا (انه من يشرك باللّه إلخ)

(4) يوسف: 12/ 87

(5) الأعراف: 7/ 99

(6) إشارة إلى قوله تعالى في سورة مريم/ 32 «وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا»

(7) النساء: 4/ 93

(8) النور: 24/ 23

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 78

..........

______________________________

يقول إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «1» و الفرار من الزحف لان اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ «2» و أكل الربا لان اللّه عز و جل يقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ «3» و السحر لان اللّه عز و جل يقول:

وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلٰاقٍ «4» و الزنا لان اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ الْعَذٰابُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً «5» و اليمين الغموس الفاجرة لأن اللّه عز و جل يقول الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ «6» و الغلول لان اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ «7» و منع الزكاة المفروضة لأن اللّه عز و جل يقول فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ «8» و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأن اللّه عز

و جل يقول وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «9» و شرب الخمر

______________________________

(1) النساء: 4/ 10

(2) الأنفال: 8/ 16

(3) البقرة: 2/ 275

(4) البقرة: 2/ 102

(5) الفرقان: 25/ 68- 69

(6) ال عمران: 3/ 77

(7) ال عمران: 3/ 161

(8) التوبة: 9/ 35

(9) البقرة: 2/ 283

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 79

..........

______________________________

لأن اللّه عز و جل نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان «1» و ترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض اللّه عز و جل لان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال من ترك الصلاة متعمدا فقد برء من ذمة اللّه و ذمة رسوله، و نقض العهد و قطعية الرحم لان اللّه عز و جل يقول لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ «2».

فخرج عمرو و له صراخ من بكائه و هو يقول هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم «3».

و منها: خبر عبيد بن زرارة قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكبائر فقال هن في كتاب على عليه السّلام سبع: الشكر باللّه، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و أكل مال اليتيم ظلما و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة قال فقلت هذا أكبر المعاصي فقال نعم قلت فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة قال ترك الصلاة قلت فما عددت ترك الصلاة في الكبائر؟

قال اى شي ء أول ما قلت لك؟ قلت: الكفر قال فان تارك الصلاة كافر يعني من غير علة «4».

و خبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا و قذف المحصنة و الفرار من الزحف، و

التعرب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما،

______________________________

(1) لعله يشير الى قوله تعالى في سورة البقرة الآية 90 إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ الاية

(2) الرعد: 13/ 25

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 2

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 4

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 80

..........

______________________________

و أكل الربا بعد البينة و كل ما أوجب اللّه عليه النار «1».

و خبر عبد اللّه بن سنان قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

ان من الكبائر عقوق الوالدين و اليأس من روح اللّه و الأمن مكر اللّه «2».

و مرسل الكافي و قد روى أكبر الكبائر الشرك باللّه «3».

و خبر مسعدة بن صدقة قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

الكبائر القنوط من رحمة اللّه، و اليأس من روح اللّه «4» و الأمن مكر اللّه، و قتل النفس التي حرم اللّه، و عقوق الوالدين، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف «5».

و خبر ابى بصير عنه عليه السّلام قال سمعته يقول:

الكبائر سبعة منها قتل النفس متعمدا، و الشرك باللّه العظيم و قذف المحصنة، و أكل الربا بعد البينة، و الفرار من الزحف،

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 6.

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 7.

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 8.

(4) قد يقال ان الفقرة الثانية عطف بيان للأولى لعدم الفرق البين بين اليأس و القنوط، و لا بين الروح و الرحمة فالجمع بينهما للتأكيد و المبالغة.

و قد احتمل ان

يكون النظر في القنوط الى قصور الرحمة و في اليأس إلى عظمة المعصية و حرمان صاحبها من الرحمة، و يكون الروح غير الرحمة كالتنفس من الكرب و العقوبة، و ان الرحمة إعطاء المحبوب، فالروح دفع الشر و المكروه و ربما يفرق بين القنوط و اليأس باختصاص الأول بالرحمات الدنيوية لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مٰا قَنَطُوا، و الثاني بالرحمات الأخروية لقوله تعالى قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ.

كما قد يفرق بينهما بأشدية القنوط عن اليأس فعن الكشاف القنوط ان يظهر عليه أثر اليأس فيتضاول و ينكسر.

(5) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ج/ 13.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 81

..........

______________________________

و التعرب بعد الهجرة، و عقوق الوالدين، و أكل مال اليتيم ظلما و التعرب و الشرك واحد «1».

و خبر محمد بن حكيم قال قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام:

الكبائر تخرج من الايمان؟ فقال نعم و ما دون الكبائر قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يزني الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن «2».

و خبر ابى الصامت عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

أكبر الكبائر سبع الشرك باللّه العظيم و قتل النفس التي حرم اللّه الا بالحق و أكل أموال اليتامى، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و إنكار ما انزل اللّه عز و جل «3».

و خبر عبد الرحمن بن كثير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ان الكبائر سبع فينا أنزلت و منا استحلت فأولها الشرك باللّه العظيم، و قتل النفس التي حرم اللّه، و أكل مال اليتيم، و عقوق الوالدين، و

قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و إنكار حقنا «4».

و مرسل ابن ابى عمير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

وجدنا في كتاب على عليه السّلام الكبائر خمسة الشرك، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة «5».

و خبر أحمد بن عمر الحلبي قال سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل:

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 16

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 18

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 20

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 22

(5) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 27

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 82

..........

______________________________

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «1» قال:

من اجتنب ما أوعد اللّه عليه النار إذا كان مؤمنا كفر عنه سيئاته و ادخله مدخلا كريما و الكبائر السبع الموجبات، قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف «2».

و خبر فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال:

الايمان هو أداء الامانة و اجتناب جميع الكبائر و هو معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان الى ان قال و اجتناب الكبائر و هي قتل النفس التي حرم اللّه تعالى، و الزنا، و السرقة و شرب الخمر، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما أهل لغير اللّه به من غير ضرورة،

و أكل الربا بعد البينة و السحت، و الميسر و هو القمار، و البخس في المكيال و الميزان و قذف المحصنات، و الزناء، و اللواط، و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه، و القنوط من رحمة اللّه، و معونة الظالمين و الركون إليهم، و اليمين الغموس، و حبس الحقوق من غير عسر، و الكذب، و الكبر، و الإسراف، و التبذير، و الخيانة، و الاستخفاف بالحج، و المحاربة لأولياء اللّه، و الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب «3».

______________________________

(1) النساء: 4/ 31

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 32

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 33

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 83

..........

______________________________

و خبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام و فيه:

فأي شي ء الكبائر قال أكبر الكبائر الشرك باللّه، و عقوق الوالدين، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف و أكل مال اليتيم ظلما، و الربا بعد البينة، و قتل المؤمن فقلت له. الزنا و السرقة؟ فقال ليسا من ذلك «1».

و خبر الأعمش عن جعفر بن محمد عليه السّلام في حديث شرائع الدين قال:

و الكبائر محرمة: و هي الشرك باللّه، و قتل النفس التي حرم اللّه، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة، و قذف المحصنات و بعد ذلك الزنا، و اللواط، و السرقة و أكل الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما أهل لغير اللّه به من غير ضرورة، و أكل السحت و البخس في الميزان و المكيال، و الميسر، و شهادة الزور و اليأس من روح

اللّه، و الأمن من مكر اللّه، و القنوط من رحمة اللّه و ترك معاونة المظلومين، و الركون الى الظالمين و اليمين الغموس و حبس الحقوق من غير عسر، و استعمال التكبر و التجبر، و الكذب، و الإسراف، و التبذير، و الخيانة، و الاستخفاف بالحج و المحاربة لأولياء اللّه، و الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار، و الإصرار على صغائر الذنوب «2» و خبر الكراجكي قال قال عليه السّلام:

الكبائر تسع أعظمهن الإشراك باللّه عز و جل و قتل النفس المؤمنة و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات،

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 35

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 36

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 84

..........

______________________________

و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين، و استحلال البيت الحرام و السحر، فمن لقي اللّه عز و جل و هو بري ء منهن كان معي في جنة مصاريعها «1» الذهب «2».

الى غير ذلك من الاخبار.

الأمر الثالث أشدية معصية عما ثبت كونها كبيرة أو ما أوجب عليه النار، أو العذاب أو مساواتها له، و الأشدية إما بالنقل، أو بالعقل

كالفتنة قال تعالى الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «3» و الكذب و قد ورد انه شر من الشراب «4» و الغيبة و قد ورد انه أشد من الزنا «5» و حبس المحصنة للزنا، و لا إشكال في انه بحكم العقل أشد من القذف، و أعلام الكفار بما يوجب عليهم على المسلمين فإنه أشد من الفرار من الزحف الى غير ذلك.

الأمر الرابع من ورود النص المعتبر على عدم قبول شهادة الرجل أو عدم الصلاة خلفه

بناء على عدم قدح الصغيرة في العدالة، كما ورد النص على انه لا يصلى خلف من يبتغى على الأذان و الصلاة بالناس الأجر «6» و ورد النهى عن الصلاة خلف

______________________________

(1) المصراع من الباب الشطر منه و هما مصراعان و أول من علق باب الكعبة مصراعين معاوية كذا في مجمع البحرين

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 37

(3) البقرة: 2/ 191

(4) الوسائل باب 38 من أبواب أحكام العشرة ح/ 3

(5) الوسائل باب 152 من أبواب أحكام العشرة ح/ 9

(6) الوسائل باب 32 من أبواب الشهادات ح/ 6

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 85

..........

______________________________

العاق لوالديه «1». و عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه كان لا يقبل شهادة الفحاش و لأذى مخزية في الدين «2» و لا تقبل شهادة اللاعب بالشطرنج، و النرد و لا شهادة المقامر «3» الى غير ذلك.

فبورود النص على عدم الصلاة، خلف المتصف بصفة أو المرتكب بعمل أو عدم قبول شهادته يستكشف ان تلك المعصية منافية للعدالة.

إذا عرفت الأمور التي ذكرنا فلك تشخيص كون المعصية كبيرة بأحد الطرق التي أشرنا إليها على سبيل منع الخلو فربما ينطبق أكثر من واحد منها على بعض المعاصي كما لا يخفى.

الأمر الخامس في تعديد الكبائر التي يستفاد من الكتاب العزيز
اشارة

حكى العلامة العاملي (قدس) في مفتاح الكرامة عن مناسك أستاذه العلامة الطباطبائي قدس مقالا في تعديد الكبائر، و صرح بأنه لم يجد بيانا أجود مما حققه و حاصله «4».

انه (قدس) بعد ان اختار ما عليه المشهور في تمييز الكبيرة و انها هي التي أوعد اللّه سبحانه عليها النار، أو العذاب، سواء كان الوعيد بالنار صريحا أو ضمنيا:

حصر الكبائر المستنبطة من الكتاب العزيز في أربع و ثلاثين، أربعة عشر منها

مما صرح فيها بالوعيد بالنار، و أربعة عشر منها قد صرح فيها بالعذاب دون النار،

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 1

(2) الوسائل باب 32 من أبواب الشهادات ح/ 2

(3) الوسائل باب 32 من أبواب الشهادات ح/ 7

(4) و قد أخذنا التخليص في نهاية التقرير ج 2/ 282

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 86

..........

______________________________

و البقية ما يستفاد من الكتاب العزيز و عيد النار عليها ضمنا أو لزوما.

المعاصي التي أوعد اللّه عليها النار في الكتاب العزيز
اشارة

اما ما صرح فيه الوعيد بالنار.

فالأول: الكفر باللّه العظيم

لقوله تعالى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ «1».

و غير ذلك من الآيات الكثيرة المتضمنة لوعيد الكفار بالنار عموما و خصوصا.

الثاني: الإضلال عن سبيل اللّه

لقوله تعالى ثٰانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ لَهُ فِي الدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ عَذٰابَ الْحَرِيقِ «2».

الثالث: الكذب على اللّه تعالى و الافتراء عليه

لقوله تعالى وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّٰهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3»؟!.

و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ مَتٰاعٌ فِي الدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذٰابَ الشَّدِيدَ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ «4».

و قد أورد عليه في الجواهر بأنه ليس في الآية الثانية ذكر النار «5».

قلت: يمكن دفعه لان في دلالة الآية الاولى كفاية و في الثانية و ان لم يصرح فيها بالنار و لكن مع ملاحظة الاولى يعلم ان المراد بالعذاب الشديد النار.

______________________________

(1) البقرة: 2/ 257

(2) الحج: 22/ 9

(3) الزمر: 39/ 6

(4) يونس: 10/ 69- 70

(5) جواهر الكلام ج 3/ 311

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 87

الرابع: قتل النفس التي حرم اللّه قتلها

______________________________

لقوله تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِ، وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً «1».

الخامس: الظلم

لقوله تعالى إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ نٰاراً أَحٰاطَ بِهِمْ سُرٰادِقُهٰا وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرٰابُ وَ سٰاءَتْ مُرْتَفَقاً «2».

السادس: الركون الى الظالمين

لقوله تعالى وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «3».

السابع: الكبر

لقوله تعالى فَادْخُلُوا أَبْوٰابَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ «4»

الثامن: ترك الصلاة

قوله تعالى مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «5».

التاسع: المنع من الزكاة

لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «6».

______________________________

(1) النساء: 4/ 93

(2) الكهف: 18/ 39

(3) هود: 11/ 113

(4) الغافر: 40/ 76

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 87

(5) المدبر: 74/ 42

(6) التوبة: 9/ 34- 35

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 88

العاشر: التخلف عن الجهاد

______________________________

لقوله سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلٰافَ رَسُولِ اللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ، وَ قٰالُوا لٰا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كٰانُوا يَفْقَهُونَ «1».

الحادي عشر: أكل الربا

لقوله تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهىٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّٰهِ وَ مَنْ عٰادَ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ «2».

الثاني عشر: الفرار من الزحف

لقوله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ «3».

الثالث عشر: أكل مال اليتيم ظلما

لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «4».

الرابع عشر: الإسراف

لقوله تعالى وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحٰابُ النّٰارِ «5».

و قد جاء الوعيد في الكتاب المجيد في أشياء كالشرك و النفاق، و الجحود،

______________________________

(1) التوبة: 9/ 81

(2) البقرة: 2/ 274

(3) الأنفال: 8/ 16

(4) النساء: 4/ 11

(5) الغافر: 40/ 46

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 89

..........

______________________________

و المجادلة في اللّه، و التكذيب في آيات اللّه، و مشاقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و إنكار المعاد، و حشر الأجساد، و المرجع في ذلك كله الى الكفر و قد سبق ذكره، و كذا في المعصية، و الخطيئة، و الذنب و الإثم و أمثالها، و هذه أمور عامة و قد علمت ان الوعيد لا يقتضي كونها كبائر، و قد يتعقب الوعيد في الآيات خصالا شتى، و أوصافا متعددة لا يعلم انه للمجموع أو للآحاد فلذلك طوينا ذكرها.

المعاصي التي وقع التصريح فيها بالعذاب دون النار
اشارة

و اما المعاصي التي وقع التصريح فيها بالعذاب دون النار فهي أربع عشر أيضا

الأول: كتمان ما انزل اللّه

لقوله تعالى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ الْكِتٰابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النّٰارَ وَ لٰا يُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لٰا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «1».

الثاني: الاعراض عن ذكر اللّه

لقوله تعالى وَ قَدْ آتَيْنٰاكَ مِنْ لَدُنّٰا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وِزْراً خٰالِدِينَ فِيهِ وَ سٰاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ حِمْلًا «2».

الثالث: الإلحاد في بيت اللّه عز اسمه

لقوله تعالى وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ «3».

الرابع: المنع من مساجد اللّه

لقوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعىٰ فِي خَرٰابِهٰا أُولٰئِكَ مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلّٰا خٰائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ

______________________________

(1) البقرة: 2/ 175

(2) طه: 20/ 99- 100- 101

(3) الحج: 22/ 26

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 90

..........

______________________________

«1».

الخامس: إيذاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله)

لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً «2».

السادس: الاستهزاء بالمؤمنين

لقوله تعالى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقٰاتِ وَ الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ إِلّٰا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّٰهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «3».

السابع و الثامن: نقض العهد، و اليمين

لقوله تعالى الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لٰا يُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ وَ لٰا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لٰا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «4»

التاسع: قطع الرحم

لقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ «5».

و قال عز و جل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ «6».

و قد أورد عليه في الجواهر: بأن أولئك في الآية الاولى لم يعلم كونها إشارة الى كل واحد من النقض، و القطع و الإفساد، و الآية الثانية مع ذلك لم تشتمل على

______________________________

(1) البقرة: 2/ 114

(2) الأحزاب: 44/ 57

(3) التوبة: 9/ 80

(4) ال عمران: 3/ 77

(5) الرعد: 13/ 25

(6) محمد: 47/ 22

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 91

..........

______________________________

وعيد العذاب الا ان يقال انه يفهم من اللعن و ما بعده «1».

العاشر: المحاربة و قطع السبيل

لقوله تعالى إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «2».

قال في الجواهر: انه قد يرجع ذلك الى الكفر و الوعيد على الأمرين معا «3».

الحادي عشر: الغناء

لقوله تعالى وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ «4».

الثاني عشر: الزنا

لقوله تعالى وَ لٰا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ الْعَذٰابُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً «5».

الثالث عشر: حب إشاعة الفاحشة في الذين أمنوا

لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «6».

الرابع عشر: قذف المحصنات

لقوله تعالى الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ الْغٰافِلٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ

______________________________

(1) الجواهر ج 13/ 314

(2) المائدة: 5/ 37

(3) الجواهر ج 13/ 315

(4) لقمان: 31/ 60

(5) الفرقان: 25/ 68

(6) النور: 24/ 19

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 92

..........

______________________________

«1».

المعاصي التي يستفاد من الكتاب وعيد عليها ضمنا و لزوما
اشارة

و اما المعاصي التي يستفاد من الكتاب العزيز و عيد النار عليها ضمنا و لزوما فهي ستة.

الأول: الحكم بغير ما انزل اللّه تعالى

لقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «2».

الثاني: اليأس من روح اللّه

لقوله تعالى وَ لٰا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِنَّهُ لٰا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكٰافِرُونَ «3».

الثالث: ترك الحج

لقوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ «4».

الرابع: عقوق الوالدين

لقوله تعالى وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا «5» مع قوله تعالى وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ «6» و قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ «7».

______________________________

(1) النور: 24/ 23

(2) المائدة: 5/ 44

(3) يوسف: 12/ 87

(4) ال عمران: 3/ 97

(5) مريم: 19/ 32

(6) إبراهيم: 14/ 15- 16

(7) هود: 11/ 108

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 93

الخامس: الفتنة

______________________________

لقوله تعالى وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ «1».

قلت: مع قوله تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ الاية «2».

السادس: السحر
اشارة

لقوله تعالى وَ اتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا الشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ الشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّٰاسَ السِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّٰا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلٰاقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ «3».

قلت: مع ما ورد في حق الكافرين.

هذه جملة الكبائر المستنبطة من الكتاب العزيز بناء على المختار في معنى الكبيرة و هي أربع (أربعة) و ثلاثون.

و للنظر في بعضها مجال و اللّه أعلم بحقيقة الحال انتهى كلامه دامت إفاداته «4»

إيرادات العلامة العاملي و صاحب الجواهر على ما أفاده العلامة الطباطبائي

قال العلامة العاملي (قدس) بعد ذلك و ليت شعري ماذا يقول في الإصرار على الصغائر فإنه كبيرة إجماعا و ليس في القران المجيد و عيد عليه بالنار و لعله اسئله عنه شفاها اه «5».

و قد أورد صاحب الجواهر (قدس) على ما أفاده العلامة الطباطبائي (قدس) خمسة إيرادات «6» مضافا الى ما في مفتاح الكرامة أشير إليها في تقرير أستاذنا العلامة

______________________________

(1) البقرة: 2/ 191

(2) النساء: 4/ 93

(3) البقرة: 2/ 102

(4) مفتاح الكرامة ج 3/ 91- 94

(5) مفتاح الكرامة ج 3/ 91- 94

(6) جواهر الكلام ج 13/ 317

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 94

..........

______________________________

البروجردي (قدس).

أحدها: انه يلزم على ما ذكره في هذا العدد ان يكون ما عداها صغائر و انه لا يقدح في العدالة فعلها بل لا بد من الإصرار و بدونه تقع مكفرة

و لا تحتاج إلى التوبة فمثل اللواط و شرب الخمر و ترك صوم من شهر رمضان و شهادة الزور و نحو ذلك من الصغائر التي لا تقدح في العدالة و لا تحتاج إلى التوبة، و هو واضح الفساد و كيف يمكن الحكم بعدالة شخص قامت البينة على انه لاط في زمان قبل أداء الشهادة بيسير كما لا يخفى على الملاحظ لطريقة الشرع.

و ان شئت فانظر الى كتب الرجال و ما يقدحون به عدالة الرجل، و في رواية ابن ابى يعفور السابقة: ان تعرفوه بالستر و العفاف، و كف البطن و الفرج و اللسان و نحو ذلك، بل في ذلك إغراء الناس في كثير من المعاصي فإنه قل من يجتنب من المعاصي من جهة استحقاق العذاب بعد معرفة انه لا عقاب عليه.

ثانيها: انه قد ورد في السنة في تعداد الكبائر ما ليس مذكورا فيما حصره مع النص عليه فيها بأنه كبيرة، و قوله عليه السّلام ان الكبيرة كل ما أوعد اللّه عليها النار لا ينافيه و لو لكونه عليه السّلام يعلم كيف توعد اللّه عليها بالنار.

قصارى ما هناك نحن بحسب وصولنا ما وصلنا كيف وعد اللّه عليها النار فانظر الى ما في حسنة عبيد بن زرارة المتقدم ذكرها/ 79.

كيف ادخل ترك الصلاة في الكفر مع استحضاره عليه السّلام لقوله تعالى مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «1».

ثالثها: قال اللّه تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ،. وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ «2» فإنه ان أريد بالإشارة كل واحد فقد حكم بالفسق و احتمال إرادة الإصرار بعيد كاحتمال ارادة ما لا ينافي العدالة من الفسق

بل

______________________________

(1) المدثر: 74/ 42- 43

(2) المائدة: 5/ 4

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 95

..........

______________________________

مجرد المعصية، أو من غير مجتنب الكبائر.

رابعها: انه قد ورد في السنة التوعد بالنار- و اى توعد- على كثير من المعاصي و بناء على ما ذكر لا بد و ان يراد بها اما الإصرار عليها، أو من غير مجتنب الكبائر و كله مخالف للظاهر من غير دليل.

خامسها: ان فيما رواه عبد العظيم الحسنى ذكر من جملة الكبائر شرب الخمر معللا ذلك بان اللّه تعالى نهى عن عبادة الأوثان و ترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض اللّه لان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة اللّه و ذمة رسوله فانظر كيف استدل على كونه كبيرة بما ورد من السنة «1».

إيرادات العلامة البروجردي على ما أفاده العلامة الطباطبائي

ثم انه أضاف أستاذنا العلامة (قدس) على ما أورده صاحب الجواهر (قدس) بعض إشكالات أخر:

«بأن الظاهر كون المقسم الكبيرة و الصغيرة هي المعاصي الوجودية التي تتحقق بالوجودات الصادرة من المكلف و عليه فيسقط من جملة ما عده من الكبائر مثل ترك الصلاة، و منع الزكاة، و التخلف عن الجهاد، و كتمان ما انزل اللّه و نقص العهد، و اليمين، و قطع الرحم، و عدم الحكم بما انزل اللّه، و ترك الحج لأنها كلها معاصي عدمية.

اما مثل ترك الصلاة و منع الزكاة فواضح، و اما كتمان ما انزل اللّه فالآية الواردة فيه ظاهرة في ان الواجب هو التبيين و الكتمان تركه و هكذا نقص العهد، و اليمين و كذا قطع الرحم و الحكم بغير ما انزل اللّه كما يظهر من آيتيهما «2».

و أيضا الظاهران المراد بالمعاصي الكبيرة هي

المعاصي التي يمكن ان تقع من المسلم غير الكافر و عليه فيسقط من جملة ما ذكره مثل الكفر باللّه العظيم، و الإضلال

______________________________

(1) نهاية التقرير ج 2/ 286

(2) يعنى آيتي نقض العهد و اليمين و قطع الرحم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 96

..........

______________________________

عن سبيل اللّه، و لذا لم يعد في جملة الكبائر في بعض الروايات الدالة على ان الكبائر سبع حيث انه بعد ذلك عدها ستا «1» و هذا دليل على انه لا يكون مثل الشرك باللّه معدودا من الكبائر.

و أيضا تدخل جملة مما عده من الكبائر في الظلم الذي عده منها فتلك الجملة من أقسام الظلم لا انها قسيمة له و ذلك مثل قتل النفس، و أكل مال اليتيم، و المنع من مساجد اللّه، و الاستهزاء بالمؤمنين، و إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قذف المحصنات و المحاربة، و قطع السبيل و عليه فلا يبقى الا مقدار قليل لا يتجاوز عن الاثني عشر كما لا يخفى اه «2».

عدم ورد شي ء من إيرادات الأعلام الثلاثة على ما أفاده العلامة الطباطبائي

و لكن الذي يختلج بالبال- و العلم عند اللّه تعالى- عدم ورد شي ء من إشكالات العلمين بل الأعلام و ذلك لان العلامة الطباطبائي (قدس) لم يرد حصر الكبائر بما في الكتاب العزيز حتى يرد عليه ما أورده عليه صاحبا المفتاح و الجواهر (قدس سرهما) و انما أراد عد الكبائر التي أوعد التصريح فيها في الكتاب العزيز بالعذاب، أو النار صريحا أو ضمنا أو التزاما و انها اربع و ثلاثون، و كم فرق بينهما و لعل ما ذكرنا ظاهر لمن لاحظ مقاله من أوله إلى آخره و ان كان بعض عباراته يوهم خلاف ذلك بداهة انه من البعيد جدا

لو لم يكن من المستحيل انه لم يلاحظ العلامة الطباطبائي أخبار الباب و عدم مقايستها مع ما في الكتاب العزيز و عدم تفطنه بوجود معاصي كبيرة في السنة غير المذكورة في الكتاب فتدبر.

ثم ان ما استظهره أستاذنا العلامة (قدس) غير ظاهر و اى دليل على ان المقسم للمعاصي المعاصي الوجودية بعد ظهور بل صراحة الكتاب و السنة على عد قطع

______________________________

(1) يعنى بذلك خبر عبيد بن زرارة المتقدم ذكره/ 79.

(2) نهاية التقرير ج 2/ 287.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 97

..........

______________________________

الرحم، و نقض العهد و اليمين، و كتمان ما انزل اللّه الى غير ذلك من المعاصي، فقد يكون جعل أمر محكوما بحكم و عدمه محكوما بحكم أخر مثلا، صلة الرحم موضوع لحكم استحبابي، و قطع الرحمن موضوع الحكم الحرمة، و كتمان ما انزل اللّه تعالى حرام مع كون التبين واجبا و كم له نظير في الفقه، و المتبع دلالة الدليل فكلما دل دليل عليه نقول به، نعم بمجرد وجوب شي ء شرعا لا يحكم بحرمة تركة شرعا كما انه إذا حرم شي ء لا يحكم بوجوب تركه شرعا و الا يلزم ان يكون كل حكم شرعي متضمنا لحكمين شرعيين و هو كما ترى.

و غاية ما يمكن ان يقال هي انه عند وجوب شي ء في لسان الشرع ينتزع منه يحكم العقل حرمة تركه كما إذا حرم شي ء كذلك ينتزع منه وجوبه عقلا.

و بالجملة لا مضايقة لكون كل من الفعل و الترك موضوعا لحكم إذا دل دليل عليه، و ظاهر الكتاب و السنة حرمة ترك الصلاة و منع الزكاة، و حرمة قطع الرحم و كتمان ما انزل اللّه الى غير ذلك مع وجوب الصلاة

و الزكاة و استحباب صلة الرحم، و وجوب تبيين ما انزل اللّه.

ثم ان استظهاره (قدس) ان المراد خصوص المعاصي التي يمكن ان يقع من المسلم غير ظاهر بعد تعميم نطاق الكتاب و السنة لغير المسلم كما لا يخفى على من لاحظهما، و عدم ذكر الكفر، و الشرك و الإضلال عن سبيل اللّه في بعض الاخبار لجهة و حكمة و لذا ذكرت في بعض أخبار أخر.

و دخول جملة من الكبائر في الظلم مثلا بجهة لا ينافي عدها كبيرة مستقلة لعناية شديدة بها و غفلة الناس عن كونها منه الى غير ذلك، و لذا يمكن إدخال كل الكبائر في كونها تجري على اللّه تعالى و عصيان له تعالى مع كون كل واحد منها معصية و كبيرة.

فظهر انه يمكن توجيه ما أفاده العلامة الطباطبائي (قدس) من حصر المعاصي الكبيرة في الكتاب العزيز بما ذكره و اللّه العالم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 98

الأمر السادس في التوفيق بين الاخبار في تعديد الكبائر
اشارة

______________________________

الأخبار الواردة في تعديد الكبائر كثيرة أورد جملة وافية منها شيخنا الحر العاملي (ره) في بابين من أبواب جهاد النفس من الوسائل و هما الباب الخامس و الأربعين، و السادس و الأربعين.

و قد أوردنا ثلة وافية منها في بعض الأمور المتقدمة فليلاحظ.

و نحن الان بصدد بيان الجمع و التوفيق بين مفادها المختلفة لأن جملة منها واردة في تفسير الكبائر و بيان الضابط لها، و جملة منها دالة على عددها و انها خمس، أو سبع، أو تسع، أو أزيد على اختلاف بين هذه الطائفة أيضا، و جملة منها واردة في عد بعض المعاصي الكبار من غير تعرض لتفسيرها و لا كونها في مقام تعديدها، و بعض منها غير مرتبط بعنوان الباب

الذي عقده (ره) و هو تعيين الكبائر كخبر أصبغ «1» فينبغي ذكر الطوائف أولا ثم بيان الجمع بينها.

الطائفة الأولى ما دل على انها خمسة

كمرسل ابن ابى عمير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

وجدنا في كتاب على عليه السّلام الكبائر خمسة الشرك، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و الفرار من الزحف و التعرب بعد الهجرة «2».

و خبر عبيد بن زرارة قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أخبرني عن الكبائر فقال هن خمس و هي مما أوجب اللّه عليهن النار قال تعالى

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 3

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 27

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 99

..........

______________________________

إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» و قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «2» و قال يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلٰا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ إلى أخر الآية «3» و قال عز و جل يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ الرِّبٰا إلى أخر الآية «4» و رمى المحصنات الغافلات المؤمنات و قتل مؤمن متعمدا على دينه «5» «6».

الطائفة الثانية ما دل على انها سبعة

كخبر ابن محبوب قال:

كتب معى بعض أصحابنا الى ابى الحسن عليه السّلام يسئله عن الكبائر كم هي و ما هي؟ فكتب الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا و السبع الموجبات قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الرباء، و التعرب بعد الهجرة و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف «7».

و خبر عبيد بن زرارة قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكبائر فقال:

______________________________

(1) النساء: 4/ 47

(2) النساء: 4/ 10

(3) الأنفال: 8/ 15

(4) البقرة: 2/ 287

(5)

سيجي ء بعض الكلام في توجيه قوله عليه السلام ان الكبائر خمسة و عدم مطابقته لما عده فيه

(6) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 28

(7) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 100

..........

______________________________

هن في كتاب على عليه السّلام سبع الكفر باللّه، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و أكل مال اليتيم ظلما، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة قال فقلت هذا أكبر المعاصي فقال نعم قلت فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال ترك الصلاة قلت فما عددت ترك الصلاة في الكبائر فقال اى شي ء أول ما قلت لك قلت الكفر قال و ان تارك الصلاة كافر يعنى من غير علة «1».

و خبر ابى بصير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول الكبائر سبعة منها قتل النفس متعمدا، و الشرك باللّه العظيم، و قذف المحصنة، و أكل الربا بعد البنية، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة، و عقوق الوالدين، و أكل مال اليتيم ظلما قال و التعرب و الشرك واحد «2».

و خبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة، و كل ما أوجب اللّه عليه النار «3».

و خبر أحمد بن عمر الحلبي قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ، قال: من اجتنب ما أوعد اللّه عليه

النار إذا كان مؤمنا كفر عنه سيئاته و ادخله مدخلا كريما و الكبائر السبع الموجبات قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 4

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 16

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 6

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 32

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 101

..........

______________________________

و خبر عبد الرحمن بن كثير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ان الكبائر سبع فينا نزلت و منا استحلت فأولها الشرك باللّه العظيم، و قتل النفس التي حرم اللّه، و أكل مال اليتيم، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و إنكار حقنا «1».

و خبر ابى الصامت عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، و قتل النفس التي حرم اللّه الا بالحق، و أكل أموال اليتامى، و عقوق الوالدين و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و إنكار ما انزل اللّه عز و جل «2».

و خبر أبي هريرة ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

اجتنبوا السبع الموبقات قيل و ما هن قال: الشرك باللّه، و السحر، و قتل النفس التي حرم اللّه الا بالحق، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات «3».

الطائفة الثالثة

انه و ان لم ينص على عدد الا انه عند ذكر أكبر الكبائر عد ثمانية كخبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

قلت له

ما لنا نشهد على من خالفنا بالكفر، و ما لنا لا نشهد لأنفسنا و لأصحابنا انهم في الجنة فقال من ضعفكم ان لم يكن فيكم شي ء من الكبائر فاشهدوا انكم في الجنة قلت فأي شي ء الكبائر فقال الشرك باللّه، و عقوق الوالدين، و التعرب بعد الهجرة،

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 22

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 20

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 34

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 102

..........

______________________________

و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلما و الرباء بعد البينة، و قتل المؤمن فقلت له الزنا و السرقة فقال ليسا من ذلك «1».

الطائفة الرابعة ما أنهاها إلى تسعة

كخبر الكراجكي قال: قال عليه السّلام:

الكبائر أعظمهن الإشراك باللّه عز و جل، و قتل النفس المؤمنة، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين، و استحلال البيت الحرام و السحر فمن لقي اللّه عز و جل و هو بري ء منهن كان معي في جنة مصاريعها الذهب «2».

الطائفة الخامسة ما أنهاها إلى عشرة و ان لم ينص على عدد

كخبر مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

الكبائر القنوط من رحمة اللّه، و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه، و قتل النفس التي حرم اللّه، و عقوق الوالدين، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و الفرار بعد الزحف الحديث «3».

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 35

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 37

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 13

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 103

الطائفة السادسة ما دل على انها أكثر من عشرة
اشارة

______________________________

كخبر عبد العظيم الحسنى عليه السّلام «1» و قد تقدم ذكره بتمامه/ 76 و خبر فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون «2» و خبر الأعمش عن جعفر بن محمد في حديث شرائع الدين «3» و قد تقدم ذكرهما في 82- 83.

هذا ما ورد في تعديد الكبائر فقد عرفت الاختلاف فيها و لكن يمكن الجواب عن اشكال الاختلاف بوجهين.

الوجه الأول: و هو جواب إجمالي حاصله

ان جميع المعاصي المذكورة في هذه الاخبار كبيرة و يستحق فاعلها العذاب، أو النار، و يوجب فسق فاعلها و سلب العدالة عن مرتكبها، و ان كان بعضها أكبر من بعض، و يكون بعضها أكبر الكبائر، و لذا ترى ان الزنا و السرقة مع كونهما من المعاصي الكبيرة فقد نفى الكبارة عنهما في بعض الاخبار «4» و في الحقيقة نفى الأكبرية عنهما لأنه عليه السّلام بصدد ذكر أكبر الكبائر.

فالمعاصي الكبيرة ذو العرش و الدرجات لها عرض عريض و قد تعرض لبعضها التي تكون أكبر الكبائر في بعض الاخبار، و بعضها في بعض أخر لبعض المناسبات و هكذا.

و قد صرح في خبر عبيد بن زرارة ان المعدود هو أكبر الكبائر و في خبر الأعمش إشارة إلى وجود المراتب فلاحظ.

و يحتمل ان يكون ذكر بعض الاعداد كالخمس، و السبع و نحوهما من باب المثال لا حصر الكبائر فيها فتدبر.

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 2

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 33

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 36

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 35

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 104

الوجه الثاني: الجواب التفصيلي

______________________________

و قد أتعب أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) نفسه الشريفة في الجمع بين الروايات المتخالفة المتضاربة بوجه حسن لعله أحسن ما في المقام و ان كان بعض ما افاده لا تخلو عن تكلف و تعسف و إليك حاصل ما افاده:

«و هو انه في رواية أبي بصير «1» ذكر ان الكبائر سبعة و مع ذلك عدها ثمانية و لكنه قال في ذيلها ان التعرب و الشرك واحد، و لا بأس، لان مرجع التعرب إلى

الحالة التي كانت عليها قبل الهجرة إلى دار الإسلام لغرض الإسلام و الايمان فمرجعه الى ان الرجوع و الارتداد عن الإسلام بعد الهجرة من الكفر و الشرك اليه.

و في رواية محمد بن مسلم «2» أسقط عقوق الوالدين و عد السابعة كل ما أوجب اللّه عليها النار، و لعله سهو من الراوي لأن الكلام في تعديد الكبائر و ذكر إفرادها، لا في تعريف الكبائر و الضابط لها، فمن المحتمل سهو الراوي عن ذكر عقوق الوالدين فذكر موضعه هذه السابعة و اللّه العالم.

و في رواية عبد الرحمن بن كثير «3» أسقط التعرب بعد الهجرة، و أكل الربا بعد البينة، و ذكر موضع السابعة إنكار حقنا، و قد عرفت وجه إسقاط التعرب بعد ذكر الشرك في رواية أبي بصير.

و في رواية أبي الصامت «4» ذكر ان أكبر الكبائر سبع و أسقط التعرب و أكل الربا بعد البينة، و ذكر موضع السابعة إنكار ما انزل اللّه و قد عرفت ان إسقاط التعرب بعد ذكر الشرك لا بأس به، و اما إسقاط الربا فلعل وزانه و مرتبته وزان إنكار حقهم أو إنكار ما انزل اللّه و في مرتبته.

و في رواية عبيد بن زرارة «5» ذكر ان الكبائر خمسة فقد أسقط التعرب و العقوق و لكن ذكر موضعه الشرك من غير عدها من جملة الخمس، و قد عرفت وجه إسقاط

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 16

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 6

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 222

(4) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 20

(5) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 28

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 2، ص: 105

..........

______________________________

التعرب و وجه عدم عد الشرك من المعاصي، يؤيد ما ذكرنا ان المراد بها هي المعاصي التي يمكن ان تقع من المسلم حال إسلامه و الشرك لا يلائم ذلك ففي الحقيقة لم يذكر في الرواية خصوص العقوق فلعل المعاصي المذكورة فيه أكبر من العقوق.

و في مرسلة ابن ابى عمير «1» بعد ان عد مثل الرواية السابقة أنها خمسة و قد عد التعرب و الشرك أمرين، و بعد ما عرفت من إرجاع التعرب الى الشرك و اتحادهما يرجع المعاصي المذكورة إلى الأربعة ففي الحقيقة أسقط القتل و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات فلعل غير المذكور ليس بمرتبة المذكورات.

و لكن يشكل بان العقوق قد سقط من الأول و ثبت في مرسلة ابن ابى عمير الا ان يناقش في سندهما، أو يقال انهما و ان تعارضتا في المفهوم و لكن لا تعارض بينهما بحسب المنطوق فيقدم المثبت.

و في رواية مسعدة «2» عدها عشرة من غير تعرض لكونها عشرة و أضاف إلى السبع المذكور في الروايات القنوط من رحمة اللّه، و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه، و الظاهر ان الأولين واحد.

و في رواية أخرى لمحمد بن مسلم «3» عد أكبر الكبائر ثمانية من غير تعرض لكونها ثمانية و حيث انه عد فيها التعرب و الشرك أمرين و قد عرفت انهما واحد فلا اختلاف بينها و بين الروايات الدالة على انها سبعة.

و اما الروايات الدالة على ان الكبائر كثيرة فهي ثلاث أحدها رواية عبد العظيم الحسنى حيث عدها عشرين و الثانية رواية اعمش حيث عدها ثلاث و ثلاثين و الثالثة رواية فضل و قد عدها أيضا ثلاث و ثلاثين و

الظاهر اتحادها مع رواية اعمش و الاختلاف بينهما يسير لأنه قد ذكر في رواية اعمش ان الاشتغال بالملاهي التي يصد عن ذكر اللّه مكروهة و لكن عد من الكبائر في رواية فضل.

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 27

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 13

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 35

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 106

..........

______________________________

فانقدح من جميع ما ذكرنا انه لا محيص عن الالتزام باتصاف سبع من المعاصي بكونها كبيرة بقول مطلق، و هي السبع المذكورة في الروايات الدالة على ان الكبائر سبع، أو أكبرها سبع، أو على ان رتبة سائر الكبائر أدنى من رتبتها كما تدل عليه رواية اعمش.

و اما ما عدى السبع فما ذكر في مثل رواية اعمش فالظاهر أنها كبيرة بالإضافة الى ما دونها صغيرة بالنسبة إلى السبع التي هي فوقها.

و بمثل هذا يجمع بين ما دل على ان الزنا و السرقة ليستا من الكبائر كروايتي محمد بن حكيم و محمد بن مسلم، و ما دل على انهما منها كروايتي فضل، و اعمش وجه الجمع هو ان ما دل على عدم كونهما من الكبائر يراد به عدم كونهما من الكبائر بقول مطلق و عدم كونها في عرض المعاصي التي هي أكبر الكبائر و ما دل على كونهما منها يراد انهما كبيرتان بالإضافة الى ما تحتهما من المعاصي» «1».

الأمر السابع في تعديد الكبائر المستفاد من الاخبار

ينبغي تعداد الكبائر الواردة في تعديد الكبائر و النصوص الواردة في بعض المعاصي بالخصوص بعد إسقاط المكررات رجاء ان يكون وسيلة للاجتناب عنها ان لم يكن مجتنبا عنها فنقول الكبائر عبارة عن:

1- الشرك باللّه تعالى، أو الكفر باللّه تعالى.

2-

إنكار ما انزل اللّه تعالى.

3- قتل النفس التي حرم اللّه تعالى.

4- عقوق الوالدين.

5- الفرار من الزحف.

6- أكل مال اليتيم ظلما.

______________________________

(1) نهاية التقرير ج 2/ 288

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 107

..........

______________________________

7- أكل الربا بعد البينة.

8- قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، أو قذف المحصنة، أو قذف المحصنات على اختلاف التعبير في الاخبار.

9- الزنا.

10- اللواط.

11- السرقة.

12- أكل الميتة.

13- أكل الدم.

14- أكل لحم الخنزير.

15- أكل ما أهل لغير اللّه به من غير ضرورة.

16- البخس في (من) الميزان و المكيال.

17- الميسر، القمار.

18- شهادة الزور.

19- اليأس من روح اللّه تعالى.

20- القنوط من رحمة اللّه تعالى «1».

21- الأمن من مكر اللّه تعالى.

22- معونة (معاونة) الظالمين.

23- الركون الى الظالمين.

24- اليمين الغموس الفاجرة «2».

______________________________

(1) تقدم الكلام في الفرق بين اليأس من روح اللّه و القنوط من رحمته في/ 80

(2) عن النهاية اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، و فعول للمبالغة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 108

..........

______________________________

25- الغلول «1».

26- حبس الحقوق من غير عسر.

27- الكذب على اللّه تعالى أو الافتراء عليه، و على رسوله، و على الأوصياء و في رواية مطلق الكذب.

28- استعمال التكبر و التجبّر- أو الكبر.

29- 30- الإسراف و التبذير.

31- الخيانة.

32- الاستخفاف بالحج لعل المراد الإتيان بالحج عن استخفاف لا تركه فتدبر.

33- المحاربة لأولياء اللّه.

34- الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه تعالى كالغناء، و ضرب الأوتار.

35- السحر.

36- الإصرار على صغائر الذنوب، أو على الذنوب كما في خبر فضل.

37- أكل السحت.

38- استحلال البيت الحرام.

39- التعرب بعد الهجرة.

40- منع الزكاة المفروضة.

41- كتمان الشهادة.

42- ترك الصلاة متعمدا و في بعض

الاخبار عد تارك الصلاة عمدا كافرا.

43- ترك شي ء مما فرض اللّه عز و جل.

44- كتمان الشهادة.

45- شرب الخمر.

______________________________

(1) في النهاية قد تكرر ذكر الغلول في الحديث، و هو الخيانة في الغنم، و السرقة من الغنيمة قبل القسمة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 109

..........

______________________________

46- نقض العهد.

47- قطعية الرحم.

48- إفطار يوم من شهر رمضان متعمدا «1».

49- إنكار حق أهل البيت عليهم السّلام.

50- الحيف في الوصية «2».

51- سباب المؤمن «3».

تقدم في الأمر الخامس تعديد الكبائر التي أوعد اللّه عليها العذاب، أو النار في الكتاب العزيز صريحا، أو ضمنا، و لزوما، و قد ذكر شطر واف منها في لسان الأخبار المتقدمة الا انه حيث لم أجد بعضا منها فيها فأحببت ذكرها هنا تميما للفائدة و تحفظا للاجتناب عن معاصي اللّه و هي:

52- الإضلال عن سبيل اللّه.

53- الظلم.

54- التخلف عن الجهاد.

55- كتمان ما انزل اللّه.

56- الاعراض عن ذكر اللّه.

57- الإلحاد في بيت اللّه.

58- المنع من مساجد اللّه.

59- أذية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

60- الاستهزاء بالمؤمنين.

61- نقض اليمين.

______________________________

(1) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 9

(2) من لا يحضره الفقيه ج 3/ 369

(3) من لا يحضره الفقيه ج 3/ 373

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 110

..........

______________________________

62- المحاربة و قطع السبيل.

63- إشاعة الفاحشة.

64- الحكم بغير ما انزل اللّه.

65- ترك الحج.

66- الفتنة.

الأمر الثامن في معنى الإصرار و ما أريد به و حكمه
اشارة

قد عرفت منا أن الإصرار على الصغيرة مضر بالعدالة و عن المشهور بين المتأخرين ان الإصرار على الصغيرة من الكبائر.

تنقيح المقال يستدعي البحث عن معنى الإصرار، و ما أريد به في المقام و حكم الإصرار على الصغيرة فنقول:

الإصرار لغة و عرفا الملازمة و المداومة على الشي ء فهو عبارة

عن فعل شي ء مرة بعد اولى و كرة بعد اخرى مضموم بعضه الى بعض و لكن اختلفوا في المراد بالإصرار بالصغيرة.

فعن بعضهم هو المداومة على نوع واحد من المعصية.

و عن أخر انه الإكثار من الصغيرة سواء كان من نوع واحد، أو أنواع مختلفة و قيل انه عبارة عن تكرار المعصية تكرارا يشعر بقلة مبالاة مرتكبه بالدين.

و قيل: ان المراد فعل الصغيرة مع العزم على معاودتها.

و قيل: انه فعل الصغيرة مع عدم التوبة.

و عن جملة من الفقهاء منهم الشهيدان: تقسيم الإصرار إلى فعلى و حكمي، فالفعلي هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة، أو الإكثار من جنسها بلا توبة، و الحكمي هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها.

و عن الذخيرة ان هذه مما ارتضاه جماعة من المتأخرين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 111

..........

______________________________

و قال المحقق الأصفهاني (قدس): «ان الصغيرة اما يصدر من المجتنب عن الكبائر، أو من غير المجتنب عنها، أو من غير المبتلى بها.

فعلى الأول تكون الصغيرة بنص القرآن و نصوص الاخبار مكفرة باجتناب الكبائر و حيث ان فعل الصغيرة حال صدورها مقرون بالمانع عن تأثيرها في العقوبة فلا محالة لا يؤثر في العقوبة حتى يحتاج إلى التوبة في رفعها.

و على الأخيرين فلا مانع حال صدور الصغيرة من تأثيرها في العقوبة.

و رافعهما في الأول منها منحصر في التوبة، و في الثاني منهما يمكن ان يكون هو التوبة، كما يمكن ان يكون هو اجتناب الكبائر عند الابتلاء بها.

و عليه ففي الصورة الاولى من الصور الثلاث لا يتحقق الإصرار إلا بفعل الصغيرة مرة بعد اولى و كرة بعد اخرى لا بعدم الندم حيث ان الذنب مكفر على الفرض

فيكون كما إذا تخللت التوبة المانعة من تحقق الإصرار بخلاف الصورتين الأخيرتين فإن حال الصغيرة حال الكبيرة فيمكن فرض تحقق الإصرار عليها بعدم الندم» «1».

و كيف كان: لا ينبغي الإشكال في تحقق الإصرار على الصغيرة مع الإكثار فعلا و الإتيان بالمعصية في الخارج مكررا سواء كان من سنخ واحد أو جنسين أو أجناس كما انه لا إشكال في عدم تحقق عنوان الإصرار مع الإتيان بذنب مرة واحدة ثم ندم عليه بحيث كان يسوئه إذا تذكر و التفت الى إتيانه.

و اما إذا اتى بصغيرة مرة ثم غفل عنه بعد الإتيان به، أو غفل عن وجوب التوبة و كان مجتنبا عن الكبائر فالظاهر انه مكفر عنه و هو المتيقن إرادته من قوله تعالى:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «2».

فلا يضر بعدالته ان كان عادلا.

فيحصل الفرق بين الصغيرة و الكبيرة فإن الصغيرة مكفرة في الفرض و اما الكبيرة

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 79

(2) النساء 4/ 31

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 112

..........

______________________________

فحيث انه لم يتحقق منه التوبة فلم تكن مكفرة فيضر بعدالته.

و اما إذا اتى بالصغيرة مرة مع الالتفات اليه و عدم الندم عليه و لم يكن يسوئه إذا تذكر، فعن أستاذنا العلامة البروجردي في (قدس): «الظاهر تحقق الإصرار بذلك و استدل لذلك أولا. بقوله تعالى:

وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «1».

حيث انه يشعر بان الإصرار يتحقق بمجرد عدم الاستغفار.

و ثانيا: بروايتي جابر و ابى عمير.

ففي رواية جابر عن أبي جعفر عليه السّلام:

في قول اللّه عز و جل

وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. قال الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه و لا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار «2».

و في رواية ابن ابى عمير قال:

سمعت موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسئل عن الصغائر قال اللّه تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً «3» قال قلت فالشفاعة لمن تجب فقال حدثني ابى عن آبائه عن على عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي و اما المحسنون فما عليهم من سبيل قال ابن ابى عمير فقلت له: يا بن رسول اللّه فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه

______________________________

(1) ال عمران: 3/ 135

(2) الوسائل باب 48 من أبواب جهاد النفس ح/ 4

(3) النساء: 4/ 31

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 113

..........

______________________________

تعالى يقول وَ لٰا يَشْفَعُونَ إِلّٰا لِمَنِ ارْتَضىٰ و من يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟ فقال يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنبا الاسائه ذلك و ندم عليه و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفى بالندم توبة، و قال من سرته حسنته و سائته سيئة فهو مؤمن فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة الى ان قال:

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لا كبير مع الاستغفار و لا صغير مع الإصرار «1».

فقال قدس: و حينئذ فلا يبعد الالتزام بذلك و ان الإصرار على الذنب انما يتحقق بمجرد الإتيان بالمعصية و عدم التوبة و الاستغفار» «2».

قلت: و لا يخفى ان هذه

القطعة من الرواية غير وافية لمدعاه (قدس)، و لا أظن انه قدس استدل بها نعم ذكرت في كتاب التوحيد فقرة أسقطت في الوسائل تلائم مدعاه، و قد ذكرت في ذيل الصفحة من الطبعة الجديدة من الوسائل، و الحقيق بنا ذكر الفقرة من كتاب توحيد الصدوق قال عليه السلام بعد قوله لم تجب الشفاعة.

و كان ظالماً و اللّه تعالى ذكره يقول مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لٰا شَفِيعٍ يُطٰاعُ «3» فقلت له: يا بن رسول اللّه و كيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال: يا أبا أحمد ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم انه سيعاقب عليها الاندم على ما ارتكب و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرا، و المصر لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم و قد قال النبي

______________________________

(1) الوسائل باب 47 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

(2) نهاية التقرير ج 2/ 291

(3) الغافر: 40/ 18

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 114

..........

______________________________

صلّى اللّه عليه و آله لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار الرواية «1».

و ربما يستدل لذلك بأنه لما عصى و لم يتب فهو مخاطب بالتوبة و لما لم يتب في الحال فقد عصى فهو في كل آن مخاطب بالتوبة و لما لم يتب فقد اقام و استمر على عدم التوبة.

كما يستدل له بما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أصر من استغفر فان مفهومه ان من لم يستغفر فقد أصر، و بقول الصادق عليه السّلام في حديث يصف جنود

العقل و الجهل فعد عليه السّلام: «الإصرار ضد التوبة «2»، فيستفاد منه ان من أذنب و لم يتب يكون مصرا.

و بالجملة كما في رسالة شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس): «جعل ضد التوبة الإصرار، بناء على ان ظاهر السياق كونهما مما لا ثالث لهما فتدبر.

و لا يخفى ان مقتضى إطلاق هذه الاخبار، بل الاعتبار العقلي و ان كان هو ان من ارتكب الذنب و لم يستغفر، أو لم يندم يكون مصرا سواء نوى العود الى الذنب و عزم الإتيان به، أو لم يندم، و لم يعزم، بل رواية ابن ابى عمير حيث قال: فمن لم يندم على ذنب إلخ- صريحة في ان مجرد ارتكاب المعصية، و عدم الندم عليها يكون إصرارا و ناقضا للعدالة.

الا ان ظاهر رواية ابن ابى يعفور بل صريحها هو ان المنافي للعدالة هو خصوص الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار فمن ارتكب الصغيرة و ان لم يتب عليها لا يكون فاسقا.

و مقتضى التوفيق بين رواية ابن ابى يعفور و هذه الروايات و الاعتبار العقلي هو حملها على خصوص الكبيرة كما هو موضوع رواية ابن ابى عمير.

و بالجملة الروايات و الاعتبار لا تعم ارتكاب الصغيرة إذا لم تتب عليها بعد دلالة

______________________________

(1) توحيد الصدوق/ 408

(2) أصول الكافي ح 1/ 22

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 115

..........

______________________________

رواية ابن يعفور على عدم مضرّية ارتكاب الصغيرة للعدالة فغاية ما يكون هي ان مرتكب الكبيرة مع عدم التوبة يكون مصرا هذا أولا.

و ثانيا: كما افاده المحقق الأصفهاني (قدس): «ان مرتكب الصغيرة ان كان مجتنبا عن الكبائر يكون بنص القران و نصوص الاخبار مكفرا، و حيث ان فعل الصغيرة حال صدورها مقرون بالمانع عن

تأثيرها في العقوبة فلا محالة لا تؤثر في العقوبة حتى يحتاج إلى التوبة في رفعها فلا يتحقق الإصرار إلا بفعل الصغيرة مرة بعد اولى و كرة بعد اخرى لا بعدم الندم فيكون صدور الصغيرة في المفروض كما إذا تخللت التوبة المانعة من تحقق الإصرار.

نعم ان كان صدور الصغيرة عن غير المجتنب للكبائر أو غير المبتلى بها فحيث انه لا مانع حال صدور الصغيرة من تأثيرها في العقوبة فيكون رافعها في غير المجتنب للكبائر منحصر في التوبة و في غير المبتلى بها يمكن ان يكون هو التوبة كما يمكن ان يكون اجتنابه الكبائر عند الابتلاء بها فعليهما يكون حال الصغيرة حال الكبيرة فيمكن فرض تحقق الإصرار عليهما بعدم الندم.

فاذا الإصرار على الصغيرة في مثل الصورة الاولى لا يتحقق عند عدم الندم بل لا بد من فعل الصغيرة مرة بعد مرة نعم في غير الصورة يكون وزانه وزان الكبيرة يتحقق الإصرار بعدم التوبة بمقتضى الأخبار المتقدمة.

و بالجملة صدق الإصرار انما هو فيما يحتاج إلى التوبة فإذا كان مكفرا بغير التوبة فلا تصل التوبة إليها لسبقه عليها فلا محالة لا يتحقق الإصرار فيه الا بفعله ثانيا و ثالثا اه ملخصا» «1».

و اما حديث الاعتبار: فإنما هو إذا قلنا بأن التوبة واجب شرعي بحيث يكون تركها من الكبائر، و اما ان قلنا بان وجوب التوبة حكم عقلي محض- كما ذهب

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 79

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 116

..........

______________________________

اليه الشيخ الأنصاري (قدس) في الرسالة، و سيجي ء تحقيقه- فلا.

و معنى كون وجوبه بحكم العقل ان أمر الشارع بالتوبة في الكتاب و السنة إرشاد إلى دفع معصيته السابقة فلا يترتب على تركها عقاب

أخر.

و بعبارة اخرى انما وجبت التوبة للتخلص عن المعصية السابقة و وجوب التخلص عن المعصية ليس حكما شرعيا يترتب على تركها عقاب أخر غير العقاب الذي لم يتخلص منه.

فاذا لا يكون ترك التوبة من المعاصي التي يوجب العقاب و لا يدخل في المعاصي الشرعية المنقسمة إلى الصغيرة و الكبيرة، و ان كان بحكم العقل قبيحا من جهة أنه اقامة على العقاب و بقاء عليه.

و بالجملة كما قاله المحقق الأصفهاني (قدس) ان عدم الندم من حيث ذاته لا يقتضي إلا عدم رفع عقوبة المعصية و نقيصة و هو ادنى مراتب التوبة فلا يكون حينئذ إلا واجبا عقليا.

و اما من حيث إدراجه تحت الأمن من مكر اللّه أو عدم الايمان بالعقوبة فهي من الكبائر، بل من أكبرها و لكن ليس عدم الندم بل العزم على العود دائما كذلك «1» و اما إذا ارتكب الصغيرة مرة و كان عازما على العود فهل يصدق الإصرار أم لا؟

وجهان.

فان قلنا بصدق الإصرار في الصورة المتقدمة- و هي ما إذا ارتكب الصغيرة و لم يندم عليها- فصدقه في هذه الصورة واضح لا سترة عليه.

و اما ان لم نقل بصدق الإصرار فيها فللبحث في صدق الإصرار في صورة العزم عليها وجه.

قد يقال: انه في صورة العزم على العود على المعصية يصدق الإصرار عرفا و ان لم يعد إليها.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 80

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 117

..........

______________________________

و ربما يفرق بين كون العزم على المعصية مستمرا من حين ارتكاب الصغيرة و بين ما إذا حدث العزم بعد فعلها قبل التوبة فقيل بعدم اعتبار اتحاد المعصية نوعا و سنخا في الأول، و اما في الثاني فيصدق الإصرار إذا

عزم على معصية أخرى حال ارتكاب الصغيرة.

يستدل لصدق الإصرار في صورة العزم بان مجرد إتيان الصغيرة بلا عزم يكون مكفرا عنها باجتناب الكبائر، أو كما افاده المحقق الأصفهاني (قدس) يكون ارتكاب الصغيرة حال صدورها مقرونا بالمانع عن تأثيرها في العقوبة فلا محالة لا تؤثر في العقوبة حتى يحتاج إلى التوبة في رفعها.

و اما في صورة العزم على المعصية فليس بتلك المثابة فلا يكون مكفرا و لا يكون مقرونا بالمانع عن تأثيره فتشمله إطلاقات الأدلة الدالة على صدق الإصرار على من اتى بالذنب و لم يتب.

و اما عدم اعتبار اتحاد المعصية نوعا و جنسا إذا كان العزم على المعصية مستمرا حين ارتكاب الصغيرة فاستظهره المحقق الأصفهاني (قدس) من مقال العلامة الأنصاري (قدس) «1».

و غاية ما يمكن ان يوجه مقاله هو الذي أشار إليه المحقق المزبور: من انه لعل ذلك لأجل أن الإصرار لا بد فيه من نحو من الاتحاد اما اتحاد المعزوم عليه مع المأتي به، أو استمرار العزم و وحدته الاتصالية من المتلبس بالمعصية «2».

و لكنه غير وجيه لما افاده المحقق المزبور بما لفظه:

«ان أريد من المعصية التي ينسب إليها الإصرار ما هو بالحمل الشائع معصية،- أي ذات الزنا و القمار و أشباههما- فمن البديهي ان العزم على القمار بعد فعل الزنا ليس إصرارا على أحدهما لا عرفا و لا شرعا.

______________________________

(1) و لكن بعد ملاحظة مقال الشيخ لم يظهر لي بكمال الوضوح ما استظهره المحقق فلاحظ.

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 81

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 118

..........

______________________________

اما عرفا فواضح إذ ليس العزم على القمار مدافعة و لو عزما على الزنا، و اما شرعا فلان غاية ما ورد من النصوص ان

من أذنب ذنبا و لم يندم عليه كان مصرا، و العزم على القمار أجنبي عن الندم على الزنا و عدمه، و ملاحظة استمرار العزم على القمار من حين ارتكاب الزنا لا يجدي شيئا، لكون أحدهما أجنبيا عن الأخر فالتلبس بمعصية أجنبية عن المعصية الأخرى لا يتحقق الإصرار بالإضافة إلى استمرار العزم على ذاتها حال التلبس بالأولى.

و ان أريد من المعصية التي يضاف إليها الإصرار نفس طبيعة المعصية بما هي معصية فالإصرار متحقق بالعزم و لو لم يكن مستمرا من الأول فهو و ان لم يكن مصرا على الزنا الا انه مصر على معصية اللّه تعالى بما هي معصية، و من الواضح كما عرفت من النصوص المفسرة للإصرار بعدم الندم على ما فعل: ان ظاهره الندم على ذات ما فعل لا بعنوان المعصية و ان كان لأجل كونه معصية» «1».

حكم الإصرار على الصغيرة

فبعد ما عرفت معنى الإصرار يقع الكلام في حكم الإصرار على الصغيرة فنقول:

قد أشرنا انه حكى عن المشهور: ان الإصرار على الصغيرة من الكبائر، بل صرح العلامة الأنصاري (قدس) في الرسالة، بأنه لا إشكال في ان الإصرار على الصغيرة من الكبائر و استدل لذلك قبل الإجماع المحكى عن التحرير و غيره بأخبار.

منها: ما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما في حديث المناهي.

انه لا كبير مع الاستغفار و لا صغير مع الإصرار «2».

ناقش فيه المحقق الأصفهاني (قدس) بان ظاهر السياق يعطي بأن النفي في الصغيرة و الكبيرة معا يرجع الى ذاتهما حكما لا ان الصغيرة بسبب المداومة و الإصرار عليها تنقلب كبيرة حتى ينتفي عنها وصف الصغرية. بل الإصرار من الكبائر فإنه الذي

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 81.

(2) الوسائل باب 43 من أبواب

جهاد النفس ح/ 8، و عن أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) انه قد روى بهذا المضمون من طرق العامة عن ابن عباس عنه (ص).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 119

..........

______________________________

ينطبق عليه عنوان الأمن من مكر اللّه دون المعصية التي نفس وقوعها أمنا من مكر اللّه تعالى و بعد عدم وقوعها موصوفة بتلك الصفة لا تنقلب موصوفة بها.

مع ان مقتضى الاعتبار أيضا ذلك لان الصغيرة تفارق الكبيرة في ضعف المفسدة و قوتها و في شدة المبغوضية و ضعفها، و لا ينقلب ما كان ذا مفسدة ضعيفة، و مبغوضية خفيفة بسبب الإصرار بحيث يصير بعينه ذا مفسدة أكيدة و مبغوضية شديدة كما لا يخفى فعلى هذا يحتمل ان يكون المراد بقوله صلّى اللّه عليه و آله ذلك. ان اثر الكبيرة يرتفع بالاستغفار، و أثرها الظاهر عقوبتها، و ان اثر الصغيرة لا تبقى مع الإصرار فإن الصغيرة مكفرة باجتناب الكبائر، فلا يعاقب عليها، و لا يبقى هذا الأثر مع المداومة عليها، فلا يدل قوله صلّى اللّه عليه و آله: على ان المعصية الصغيرة بالإصرار عليها، أو نفس الإصرار عليها من الكبائر بل غايته انه صغيرة لا تكون مكفرة باجتناب الكبائر اه ملخصا «1».

قلت: و لا يخفى ان ما افاده (قدس) متين جدا، الا انه لا يضر بما يكون المشهور بصدد إثباته: و هو ان الإصرار على الصغيرة من الكبائر فإن الصغيرة حيث انها في نفسها مقتضية للعقوبة بلحاظ انها مخالفة للرب تعالى، و غاية ما تقتضيه الآية الشريفة هي انه ما لم يصر عليها يكون مكفرة عنها باجتناب الكبائر.

و اما في صورة الإصرار عليها لا تكفير فيعاقب عليها و ربما يوجب الإصرار عليها بسبب

مداومته عليها و اقترانه لها صده عن الإقبال إليه تعالى و التوجه إليه، فيأخذه اللّه تعالى من حيث لا يحتسب و ربما يدخله في الأمن من مكر اللّه.

و منها: قول جواد الأئمة عليه السّلام:

و الإصرار على الذنب أمن لمكر اللّه، و لا يأمن مكر اللّه الا القوم الخاسرون «2».

ناقش المحقق المزبور فيه بأنه يمكن ان يقال ان الإصرار الذي ينطبق عليه

______________________________

(1) رسالة اجتهاد و التقليد/ 77

(2) تحف العقول/ 456

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 120

..........

______________________________

الأمن من مكر اللّه هو الإصرار على ما فيه العقوبة و المؤاخذة و الأمن من أخذه تعالى من حيث لا يحتسب فيوافق ما في رواية ابن ابى عمير المتقدمة حيث قال عليه السّلام: و المصر لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب.

فينحصر مورد مثل هذه الإصرار الذي ينطبق عليه عنوان الأمن من مكر اللّه و عدم الايمان بالعقوبة في الإصرار على الكبائر و لا منافاة بين ان تكون نفس المعصية كبيرة و الإصرار عليها كبيرة اخرى بواسطة انطباق أحد عناوين الكبائر عليه و هو الأمن من مكر اللّه عليه اه ملخصا «1».

و فيه: انه كما عرفت ان الإصرار على الذنب يصدق على الصغيرة أيضا، و الصغيرة المعفوة و المكفرة هي التي لم ينطبق عليها عنوان الإصرار.

و بعبارة أخرى الاتى بالصغيرة، ان كان مجتنبا للكبائر يكون مكفرا عنها فاذا انطبق عليها عنوان الإصرار فلا يكون مندرجا و مشمولا للاية الشريفة و الاخبار نعم الإصرار على الصغائر لم يكن على وزان الإصرار على الكبائر فتكون الكبائر كما أشرنا ذو العرش و الدرجات.

و منها: ما رواه الصدوق عن فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في

تعديد الكبائر فعد منها الإصرار على صغائر الذنوب «2».

ناقش المحقق المزبور فيه بان الظاهر انه التبس الأمر على الشيخ (قدس) فان الموجود في ذيل رواية فضل: و الإصرار على الذنوب، نعم الموجود في رواية اعمش عن الصادق عليه السّلام هو الإصرار على صغائر الذنوب أو صغار الذنوب «3».

فاذا اما قوله عليه السّلام في رواية فضل: الإصرار على الذنوب فنقول: ان الذنوب و ان كان تعم الكبائر و الصغائر الا أنه بملاحظة ان كونه كبيرة من حيث كونه أمنا من مكر اللّه كما في رواية، أو كون المصر غير مؤمن بالعقوبة كما في رواية أخرى، يعلم

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 77

(2) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 33

(3) الوسائل باب 46 من أبواب جهاد النفس ح/ 36

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 121

..........

______________________________

ان المراد ما يعلم ان الإصرار المعدود من الكبائر هو الإصرار عليها إذ ليس في غيرها عقوبة حتى يتحقق أحد العنوانين المزبورين لكون الصغائر مكفرة عنها الى ان قال:

و اما رواية اعمش ففي آخرها الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب- فان تغيير السياق و التعبير عن هذه المعاصي بأنها مكروهة بعد ما عنون الكبائر في صدر الرواية بالأمور المحرمة- يشعر بأنها و ان كانت مبغوضة الا انها ليست على حد ما عبر عن مبغوضيتها بكونها محرمة فلا دلالة في الرواية على ان هذه الأمور على حد ما تقدمها في كونها من الكبائر كما لا يخفى على من راجع الرواية صدرا و ذيلا- سواء كان الإصرار معطوفا على الغناء و ضرب الأوتار ليكون من إفراد الملاهي، أم

معطوفا على نفس الملاهي- و ظني انه معطوف على الغناء و ضرب الأوتار بجعله من إفراد الملاهي بملاحظة أن الإصرار على الكبائر ينطبق عليه عنوان الأمن من مكر اللّه تعالى لأنها تترتب عليها العقوبة، و الإصرار عليها من باب عدم المبالاة بعقوبتها و أخذه تعالى من حيث لا يحتسب بخلاف الإصرار على صغائر الذنوب فإنه بسبب مداومته عليها و اقترانه لها يصده عن الإقبال على اللّه و التوجه اليه فلذا لم يكن في عداد الكبائر فيوافق ما في رواية أخرى حيث عد الإصرار على الذنب من علامات الشقا بعد ما جعل جمود العين و قسوة القلب و الحرص في طلب الدنيا من علامات الشقاء اه «1».

و فيه: انه كما أشرنا و أشار إليه المحقق في أخر كلامه الذي لم ننقله هو ان الصغيرة حيث انها في نفسها مقتضيه للعقوبة فالإصرار عليها داخل في الأمن من مكر اللّه تعالى في حد ذاته و الا فربما لا يكون الإصرار على الكبيرة أيضا من باب الأمن من مكر اللّه بل يصر عليها من غلبة القوة الشهوية أو الغضبية بحيث لا تبقى مجالا للتأمل فيما يترتب عليها لا من جهة الاستخفاف باللّه و أحكامه، و لا من جهة عدم الخوف من مؤاخذته و حينئذ فلتحمل المقابلة في رواية الأعمش بين الكبائر و الملاهي التي جعل

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 88

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 122

..........

______________________________

الإصرار على الصغائر من إفرادها أو محكوما بحكمها على تعدد المراتب للكبائر لصراحة رواية الفضل بن شاذان في كون الاشتغال بالملاهي من الكبائر «1».

و الحاصل ان الذنوب تعم الصغائر، و ان الإصرار عليها كما في رواية أبي بصير

تكون كبيرة، و ان كان بين الإصرار على الصغيرة و الإصرار على الكبيرة فرق و تفاوت كما ان بين الإصرار على بعض الكبائر فرقا و تفاوتا.

و حديث التكفير عن الصغائر باجتناب الكبائر قد عرفت حاله و انه مخصوص بما إذا لم يصر و كان مجتنبا للكبائر ففي صورة الإصرار أو عدم الاجتناب عن الكبائر غير مكفر عنها.

و رواية اعمش و ان كان قد غير التعبير عن الملاهي و بين سائر الكبائر الا انه لعل التعبير بالكراهة بلحاظ التقية و كان في محضره عليه السّلام من يتقى منه، أو ان الملاهي ليس على وزان سائر الكبائر التي عدها في الصدر كيف لا؟! و قد صرح في رواية فضل بان الاشتغال بالملاهي من الكبائر.

فظهر لك مما تقدم ان الإصرار على الصغيرة من الكبائر و يكون مضرا بالعدالة.

فتحصل مما ذكرنا بطوله ان الأظهر في مسئلة العدالة ان يقال انها عبارة عن حالة راسخة في النفس باعثة لإتيان الواجبات و ترك الكبائر و ترك الإصرار على الصغائر، و الأحوط اعتبار ترك منافيات المروة الدالة على عدم المبالات مما يتنفر عنه عرف المتشرعة

الأمر التاسع في طرق معرفة العدالة
اشارة

قال المصنف (قدس): و يعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علما أو ظنا، و يثبت بشهادة العدلين، و بالشياع المفيد للعلم.

أقول: يذكر لثبوت العدالة كغيرها من الموضوعات أمور أشار المصنف إلى

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 78

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 123

..........

______________________________

بعضها و قد يضاف إليها خبر الثقة، و مطلق الظن، أو الشياع الظني، و لكن لا يخلو بعضها عن اشكال بل منع، و قد أشرنا في ذيل مسئلة العشرين ما يتعلق بثبوت الموضوعات بالعلم الوجداني و ان حصل بالشياع، و

بالظن الاطمئناني المتاخم للعلم، و بالبينة و قد أشرنا إلى عموم حجيتها لإثبات سائر الموضوعات الا ما خرج- كمسئلة الزناء و اللواط- و تعرضنا لبعض المباحث الراجعة إلى البينة، و أشرنا الإشكال في ثبوت الموضوعات بخبر الثقة فما ظنك بثبوتها بغيره و ان كان في خاطرك شيئا فراجع ما ذكرناه هناك لعله ينفعك ان شاء اللّه.

و كيف كان لا ينبغي الإشكال في ثبوت العدالة بالشياع المفيد للعلم و بشهادة العدلين، و الاشكال في حجية البينة في مثل الاجتهاد، و الأعلمية و العدالة و نحوهما من الأمور غير المحسوسة غير وجيه لما أشرنا انها قريبة من الحس.

مضافا الى دلالة النص على ثبوت خصوص العدالة بشهادة العدلين ففي خبر علقمة عن الصادق عليه السّلام:

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر.

ثبوت العدالة بحسن الظاهر
اشارة

لا ينبغي الإشكال كما لا خلاف في ثبوت العدالة بحسن الظاهر في الجملة و لكن وقع الكلام في اماريته عرفا عن العدالة، و في اعتباره مطلقا و لو لم يفد الظن الفعلي تنقيح المقال فيه يستدعي البحث فيه من جهة أمارية حسن الظاهر عن العدالة أولا ثم في اعتباره مطلقا و ان لم يفد الظن الفعلي، أو مشروط بإفادته الظن الفعلي، أو الوثوق، أو العلم فالكلام يقع في جهتين.

الجهة الاولى في أمارية حسن الظاهر

المعروف بل المتسالم عليه بين الأصحاب كاشفية حسن الظاهر عن العدالة و

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 124

..........

______________________________

انه لو لا ذلك لم يمكن إحراز العدالة و لو بالمعاشرة لاحتمال ان يكون الاتى بالواجبات غير قاصد لكونها للّه تعالى بل غير ناولها، فلا يمكن الحكم بان المكلف آت بالواجبات الأمن جهة الظاهر.

يشهد لاعتبار حسن الظاهر و كفايته لترتب آثار العدالة غير واحد من الاخبار، و سند بعضها و ان كان لا يخلو عن مناقشة و لعل دلالة بعضها أيضا كذلك، الا انها من حيث كثرتها بمثابة يتعاضد بعضها ببعض بحيث لا نحتاج إلى ملاحظة سندها و لا يضر ضعف دلالة بعضها بعد وضوح دلالة جملة منها و رفع الإجمال بها.

و إليك بعض اخبار الباب.

منها: صحيح ابن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه عليه السّلام المتقدم ذكره مفصلا، و فيه:

و الدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس و يكون منه التعاهد لصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين و ان لا

يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم الأمن علة فإذا كان لازما مصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا ما رأينا منه الا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين الخبر «1».

دلالته على أمارية حسن الظاهر واضحة بل صريحة.

ان قلت: اعتبر فيه عدم التخلف عن جماعة المسلمين و هو غير معتبر قطعا.

قلت: انه عليه السّلام علل ذلك في ذيل الخبر بأنه:

ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان لا يحضر

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 125

..........

______________________________

الصلاة و يتعاهد جماعة المصلين و انما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلى ممن لا يصلى الخبر «1».

فإن أحرز بأي طريق إتيانه الصلاة فلا يحتاج الى حضور الجماعة لذلك.

و في خبر إبراهيم الكرخي عن الصادق عليه السّلام:

ان من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته «2».

و منها: خبر الخصال عن الرضا عليه السّلام: عن آبائه عن على عليه السّلام:

من عامل الناس فلم يظلمهم و حدثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم فهو من ممن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجب اخوته و حرمت غيبته «3».

و لا يخفى ان دلالة قوله عليه السّلام ظهرت عدالته على أمارية حسن الظاهر و ان العدالة أمر آخر واضحة.

و منها: خبر ابن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعا على الناس من إذا حدثهم لم يكذبهم، و إذا وعدهم لم يخلفهم، و إذا خالطهم لم يظلمهم وجب

ان يظهروا في الناس عدالته و يظهر فيهم مروته، و ان يحرم عليه غيبته، و ان يجب عليهم اخوته «4».

دلالته على أمارية حسن الظاهر واضحة.

و منهم: مرسل يونس بن عبد الرحمن عليه السّلام و فيه:

فاذا كان ظاهر الرجل ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسئل عن باطنه «5».

و منها: خبر عبد اللّه بن مغيرة قال قلت للرضا عليه السّلام.

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 1

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 12

(3) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 15

(4) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 16

(5) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 3

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 126

..........

______________________________

رجل طلق امرأته و اشهد شاهدين قال كل من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته «1».

و منها: خبر ابى بصير عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا الخبر «2».

و منها: خبر عبد الكريم بن ابى يعفور عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

تقبل شهادة المرية و النسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاء و التبرج الى الرجال في أنديتهم «3».

و منها: خبر علقمة و فيه:

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر «4».

و منها: خبر حريز عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 126

في أربعة شهدوا على

رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران فقال إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا و أقيم الحد على الذي شهدوا عليه «5».

و منها غير ذلك.

و لا يخفى ان بعض هذه الاخبار و ان كان توهم كون حسن الظاهر نفس العدالة الا ان التأمل فيه و ملاحظة سائر الأخبار الظاهرة بل الصريحة يعطي بأن حسن الظاهر أمارة كاشفة عن العدالة.

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 5- 21

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 10

(3) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 20

(4) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 13

(5) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 18

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 127

الجهة الثانية
اشارة

______________________________

في ان كاشفية حسن الظاهر هل تكون مشروطة بحصول الظن الفعلي أو منوطة بإفادة الوثوق، أو لا يعتبر فيه شي ء من ذلك.

الإشكال في أمارية حسن الظاهر و دفعه

ربما يشكل في أمارية حسن الظاهر و جعله ضابطا لتحقق العدالة بمالها من المعنى بما أشار إليه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) من جهة ان مراتب الظهور مختلفة لأن الظاهر و الباطن إضافيان فالظاهر لأهل البلد باطن بالنسبة إلى غيرهم، و الظاهر لأهل المحلة باطن لباقي أهل البلد، و الظاهر للجيران باطن لباقي أهل البلد، و الظاهر لأهل البيت باطن للجيران، و الظاهر لزوجة الشخص باطن لغيرها، و قد تكون السلسلة بالعكس فلا يظهر لزوجته ما يظهر لغيرها و لا يظهر لأهل بلده ما يظهر لغيرهم «1».

و بالجملة حسن الظن ذات مراتب متفاوتة و له عرض عريض لا يكاد يحصل الظن ببعض مراتبه و يحصل الظن ببعض مراتبه و قد تحصل مرتبة قوية منه، بل العلم بالعدالة ببعض مراتبه الأخرى.

و لكن يجاب عن الإشكال: بأن الضابط و المعيار لذلك ما يستفاد من الاخبار كقوله عليه السّلام في خبر ابن ابى يعفور و الدلالة على ذلك ان يكون سائرا إلخ «2» و حاصله ان الشخص إذا كان بالإضافة الى من عاشره و خالطه بالنسبة الى غير ما يكون التفتيش عنه منهيا فاعلا لما وجب عليه و تاركا لما نهى عنه فهو حسن الظاهر.

و قوله في مرسل يونس إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهاته و لا يسئل عن باطنه «3».

______________________________

(1) رسالة العدالة/ 332

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 1

(3) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 3

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 128

..........

______________________________

و قوله في خبر علقمة: فمن

لم تره بعينك يرتكب معصية و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل الستر و العدالة، بناءا على ان المراد عدم رؤية المعصية بعد المعاشرة «1».

و قوله عليه السّلام: في خبر ابن سنان إذا حدثهم فلم يكذبهم و إذا وعدهم لم يخلفهم و إذا خالطهم لم يظلمهم «2».

الى غير ذلك من الاخبار التي أشرنا إليها أنفا.

و قد عبر عن هذه المرتبة في الاخبار تارة بكونه ساترا لعيوبه من جهة انه لم يظهر منه لمن عاشره عيب شرعي و اخرى يكون ظاهره ظاهرا مأمونا من جهة انه لم يظهر منه لمن عاشره عيب شرعي و اخرى يكون ظاهره ظاهرا مأمونا من جهة انه لم يظهر منه لمعاشرته خيانة شرعية و ثالثة بأنه إذا عاملهم فلم يظلمهم، و إذا حدثهم فلم يكذبهم، و إذا وعدهم فلم يخلفهم، و رابعة بمواظبته للجماعات و خامسة بغير ذلك

إشكال في تحديد حسن الظاهر و دفعه

و قد يقع الاشكال من جهة أخرى في تحديد الحسن الظاهر و هو اختلاف لسان الاخبار المومى إليها من حيث السعة و الضيق فلسان بعضها ضيق كما ان لسان بعض أخر أوسع منه، و لسان الثالث أوسع منهما و هكذا.

و لكن يمكن الجواب عنه بان الاختلاف بينها حيث يكون بالإطلاق و التقييد فيحمل مطلقاتها على مقيداتها و يؤخذ بالمحصل من حمل كل أوسع الى الأضيق منه حتى ينتهي إلى مالا مقيد له: و لا يبعد ان يكون الجامع لحسن الظاهر هو ان يكون الشخص بحيث يظهر من المراودة معه في معاملاته و معاشراته ان له لجام الهى في أفعاله و حركاته و سكناته و رادع رباني موجب لصرفه عن الاقتحام فيما يقتضيه شهواته بحسب العادة و ان كان ينبعث عن اقتضاء

الشهوة نادرا فيما إذا كانت باعثية الشهوة خارجة عن العادة و هذا المعنى في حسن الظاهر ينبغي الاخذ به.

______________________________

(1) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 13

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 16

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 129

..........

______________________________

فبعد ما عرفت: الميعار في حسن الظاهر يقع الكلام في انه هل يكفى مجرد حسن الظاهر و لو لم يفد الظن الفعلي بالعدالة، أو يعتبر حصول الظن الفعلي بها، أو لا يكفى ذلك أيضا بل لا بد من حصول الوثوق بها؟ وجوه بل أقوال.

و لا يخفى ان فيما ذكرناه في معيار حسن الظاهر إشارة الى ما هو موقف حسن الظاهر، و مع ذلك ينبغي الإشارة الى ما قيل في موقف حسن الظاهر توضيحا للمقال فنقول:

اعتبار الظن الفعلي في حسن الظاهر

نسب الى المشهور اعتبار حصول الظن الفعلي من حسن الظاهر صرح بذلك شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) لأنه بعد ان ذكر المعيار الذي حكينا عنه في أمارية حسن الظاهر قال تعرف العدالة بالصحبة المتأكدة الموجبة للاطلاع على سريرته و لا يعتبر حصول العلم لتعسره بل لتعذره، فلو لم يكتف فيه بالظن لزم تعطيل الشهادات و الجماعات، و ما قام للمسلمين سوق مع ما علم من الشارع من تسهيل الأمر فيها، و الأمر باستخلاف أحد من المأمومين عند حصول عذر للإمام، و ما مر من أدلة القائلين بحسن الظاهر من الاكتفاء بأدنى أمارة مثل ان يعرف منه خير، و ان يصلى الخمس في جماعة، و ان يعامل الناس، و يعدهم و يحدثهم فلا يظلمهم، و لا يخلفهم و لا يكذبهم و كون ظاهره ظاهرا مأمونا.

و بالجملة مقتضى القاعدة و ان كانت اعتبار القطع بالعدالة الا انه حيث

دلت الأخبار الكثيرة على كفاية حسن الظاهر في الشهادة مع ما علم من اعتبار العدالة فيما استفيد منها كون حسن الظاهر طريقا ظنيا كافيا في الحكم بالعدالة في مرحلة الظاهر ما لم يعلم الخلاف الى ان قال:

ثم الظاهر انه لا يكفي في الطريق إفادتها الظن بالذات بحيث لو لا بعض الموانع لإفادة فعلا فالمعاشرة التي توجب الاطلاع على أحوال تفيد الظن بالعدالة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 130

..........

______________________________

لو لا بعض الموانع الخارجية الموهنة لا يكفى بل يعتبر الظن الفعلي بالملكة «1».

وجهان لاعتبار الظن الفعلي في حسن الظاهر

و كيف كان يستدل لاعتبار حصول الظن الفعلي من حسن الظاهر بوجهين.

الوجه الأول: انصراف النصوص التي اعتبر حسن الظاهر بأنها منصرفة إلى صورة افادة الظن الشخصي بالعدالة فإنه الغالب من مواردها.

الوجه الثاني: قول الصادق عليه السّلام في خبر الكرخي.

من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به خيرا، و أجيزوا شهادته «2».

بتقريب انه يستفاد منه ان ظن الخير بالمصلي جماعة ظن في موقعه، و المقصود الأصلي ليس مجرد ظن الخير و انما هو بلحاظ ترتب آثار الخير بعد الظن به.

و يؤكد ذلك ما في ذيله و أجيزوا شهادته فان الظاهر من العطف يعطي انه من قبيل عطف العلة الغائية على معلولها كما هو شائع و ذائع في الأمثلة العرفية و الآيات و الاخبار، فدلالته على ترتب قبول الشهادة على ظن الخير واضحة غاية الوضوح.

و لكن نوقش: في الوجهين اما الوجه الأول فبمنع غلبة حصول الظن الفعلي من موارد حسن الظاهر، و غاية ما يستفاد منها حصول الظن النوعي من حضور الشخص في جماعة المسلمين و كون ظاهره ظاهرا مأمونا نعم دعوى حصول الظن الفعلي في

بعض الأحيان واضحة فدعوى الانصراف ممنوعة.

مضافا الى ما قرر في محله ان الانصراف الناشي عن غلبة الوجود لا يصلح لتقييد الإطلاق و انما ينفع إذا كان ناشيا عن غلبة الاستعمال.

و اما الوجه الثاني: فلان امره عليه السّلام بترتيب الأثر بلسان الأمر بتحصيل الظن بقوله: «فظنوا به خيرا» دليل على عدم اعتبار حصول الظن و الا فالظن عند حصول

______________________________

(1) كتاب الصلاة/ 267

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 12

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 131

..........

______________________________

سببه ليس امرا اختياريا قابلًا لتعلق التكليف به.

و ان شئت قلت ان الخبر يدل على ان حضور الشخص في جماعة في الصلوات الخمس بمنزلة الظن و يكون طريقا إلى العدالة لا ان طريقيته منوطة بحصول الظن الفعلي.

و لكن الإنصاف يقتضي القول باعتبار حصول الظن الفعلي من حسن الظاهر لأنه بعد ما ذكرنا في معيار حسن الظاهر ان ما كان يحصل بالمعاشرة و المخالطة مثلا قوله عليه السّلام من لم تره بعينك يرتكب ذنبا إلخ ظاهر في عدم الروية بعد المعاشرة، و كذا قوله عليه السّلام ساترا لجميع عيوبه بالإضافة الى من خالطه، و قوله عليه السّلام إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا بعد المعاشرة.

و من الواضح انه بعد المعاشرة مع الشخص إذا لم ير منه الذنب، أو كان ساترا لجميع عيوبه، أو كان ظاهره ظاهرا مأمونا يحصل للإنسان وثوق بسلامة الشخص و عدالته لو لم يكن ذهنه مشوبا بالأوهام و الوساوس الشيطانية و لا أقل من حصول الظن.

و لعل المراد من كون الغالب من موارد الاخبار هو حصول الظن الشخص هو ما ذكرنا.

و بالجملة يمكن ان يقال ان مراد قوله عليه السّلام فظنوا به خيرا هو

التنبيه إلى أمر عرفي ارتكازي و هو حصول الظن بالخير و العدالة لغالب الناس بالنسبة الى من واظب الجماعة في خمس صلوات في اليوم و الليلة في الشتاء و الصيف فمن واظب الجماعة خمس مرات في اليوم و الليلة في الحر و البرد يكون حاله مكشوفا لدى المسلمين و يكون بحيث يظن كل من اطلع على حاله ان لم يكن ذهنه مشوبا بل ربما يوجب الاطمئنان بذلك.

و بعد ما عرفت حصول الظن الفعلي من حسن الظاهر يقع الكلام في انه هل يكفى ذلك أو لا بد من اعتبار الوثوق فمطلق الظن لا يكفى ما لم يفد الوثوق بالعدالة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 132

الوجوه التي يستدل بها لاعتبار الوثوق في حسن الظاهر و دفعها
اشارة

______________________________

يظهر من جماعة منهم الشيخ اعتبار الوثوق.

يستدل لذلك بوجوه.

الأول: انصراف اخبار اعتبار حسن الظاهر الى ما يوجب الوثوق

و لا أقل غالب موارد حسن الظاهر مما يوجب الاطمئنان بالعدالة.

و فيه: انه قد تقدم ضعف دعوى انصراف الاخبار الى صورة الظن الفعلي فما ظنك باعتبار الوثاقة فيه، و قد تقدم ان غاية ما يمكن ان يقال ان مورد الاخبار حصول الظن الفعلي من حسن الظاهر، و اما حصول الوثوق فلا.

الثاني: مرسل يونس

فان المراد بقوله عليه السّلام إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا هو كون ظاهره بحيث يوجب الوثوق بباطنه.

و بالجملة يعتبر ان يكون ظاهره موجبا لحصول الأمن الفعلي بوجود الملكة و هذا مساوق للوثوق بباطنه.

و فيه: ان غاية ما يقتضيه المرسل حيث جعل الموصوف بالمأمونية هو ظاهر الرجل دون باطنه هي عدم ظهور الخيانة منه عند المعاشرة فإذا كانت أفعاله الظاهرة منه غير موصوفة بالخيانة بل بضدها يكفي في ذلك و لا يحتاج الى اعتبار كون ظاهره بحيث يوجب الوثوق.

و بالجملة ظاهر المرسل هو كون غيره في أمن من ظاهره لا في أمن من باطنه لان الموصوف بالمأمونية هو الظاهر دون الباطن، و معنى مأمونية ظاهره عدم ظهور الخيانة منه فأفعاله الظاهرة أفعال غير موصوفة بالخيانة بل بضدها لا ان المراد كون ظاهره موجبا للوثوق بباطنه لان الباطن حينئذ مأمون لا الظاهر.

و بالجملة فغاية ما يستفاد منه هو انه في حال من ظاهره بحيث يوجب الظن الفعلي بالعدالة.

الثالث: خبر ابن ابى يعفور

فان قوله عليه السّلام ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين التفتيش عما وراء ذلك من عثراته و عيوبه إلخ بدعوى ان المستفاد منه ان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 133

..........

______________________________

ساترية الرجل لعيوبه لا بد و ان يكون بحد يفيد الوثوق بعدم العيب في الباطن.

و فيه: ان الإنصاف ان دعوى ذلك خلاف الظاهر و غاية ما يستفاد منه هي ان يكون ان ظاهره في حد و حال يظن بباطنه بلا تجشم و لا تفتيش حال باطنه بل يحرم عليه ذلك.

الرابع: انه على تقدير الإطلاق لاعتبار حسن الظاهر

و لكن يمكن تقييده بما دل على اعتبار الوثاقة و الورع في إمام الجماعة.

كقول ابى جعفر عليه السّلام: في خبر ابن راشد.

لا تصل الا خلف من تثق بدينه و أمانته «1».

و قول ابى الحسن عليه السّلام ليزيد بن حماد:

لا تصل الا خلف من تثق بدينه «2».

و ما عن الصادق عليه السّلام:

ممن ترضون من الشهداء عن أمير المؤمنين عليه السّلام: انه لا يجيز في الطلاق الا شاهدين عدلين «3».

و يمكن ان يقال ان ظاهر أدلة اعتبار الوثوق من باب الموضوعية لا من باب الطريقية و الكاشفية فإذا كان كذلك فلا ينفع الطريق غير المفيد للوثوق فيخصص به كل ما دل على اعتبار طريق إلى العدالة.

و فيه: انه بعد قيام الدليل على أمارية حسن الظاهر كما تقدم و انه طريق معتبر يكون حاكما على اعتبار الوثاقة و يفسر المراد بالوثاقة.

نعم غاية ما يمكن ان يقال ان ما دل على اعتبار حسن الظاهر منصرف الى ما هو الغالب منه و هو ما إذا أفاد الظن بالدين و الأمانة.

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 2

(2) الوسائل باب 2 من أبواب

صلاة الجماعة ح/ 1

(3) تفسير نور الثقلين ح/ 300

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 134

..........

______________________________

و قد دفع الشيخ حديث اعتبار الوثاقة من باب الموضوعية: «بان الإنصاف أن الوثوق انما اعتبر في المقام من باب الطريقية نظير اعتبار العلم في كثير من الموضوعات» «1».

و بالجملة أدلة حسن الظاهر حاكمة عليها كحكومة سائر أدلة الطرق و الأمارات كالبينة و غيرها عليها.

مع انه لو التزمنا بأخذ الوثاقة من باب الموضوعية فحيث ان الدليل مختص بالايتمام فيكون هذا شرط آخر في الجماعة و يكون خارجا عن محل الكلام.

فتحصل: مما تقدم اعتبار الظن الفعلي في حسن الظاهر لأنه المنصرف اليه من اخبار اعتبار حسن الظاهر و اما اعتبار الوثاقة فلا، نعم اعتباره أحوط فالأحوط الأولى حصول هذه المرتبة من الظن و اللّه العالم بأحكامه.

و حيث ان المعروف ان العدالة تزول بارتكاب الكبيرة و تعود بالتوبة فلا بأس بالإشارة الإجمالية إلى حقيقة التوبة و ما يتعلق بها تتميما للبحث عن العدالة فنجعلها خاتمة لها فنقول.

______________________________

(1) رسالة العدالة/ 358

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 135

خاتمة في الإشارة الإجمالية إلى حقيقة التوبة،

اشارة

______________________________

و قابليتها للتجزية بالنسبة الى بعض المعاصي دون بعض، و حكمها، و حال الشخص بعد التوبة فالكلام يقع في موارد

المورد الأول في حقيقة التوبة
اشارة

التوبة لغة بمعنى الرجوع، تضاف الى اللّه تعالى، و الى العبد، فتوبة العبد رجوعه من الذنب الى ربه، و من البعد عنه الى قربه تعالى.

و بالجملة توبة العبد رجوعه اليه تعالى بعد الاعراض عنه بمخالفته، و الرجوع الى الصراط المستقيم بعد الانحراف عنه.

و توبة اللّه تعالى رجوعه بالمغفرة و الرحمة على عبده و لذا لا تتعدى التوبة المضافة إليه تعالى الا بحرف الاستعلاء لتضمنه الرحمة و ما يقاربها معنى، فتوبته تعالى رجوعه عن العقوبة و المؤاخذة الى اللطف و التفضل.

و كيف كان حقيقة التوبة كما في جملة من الكتب «1» عبارة عن معنى تنتضم و تلتئم من ثلاثة أمور مرتبة أولها: العلم، و ثانيها: الحال، و ثالثها: الفعل، و الأول

______________________________

(1) لاحظ المحجة البيضاء ج 7/ 5 الحق اليقين للعلامة الشبر ج 2/ 195، و رسالة الأخلاق له/ 27، و رسالة العدالة للعلامة الأنصاري/ 36، رسالة الاجتهاد و التقليد للعلامة الأصفهاني/ 85 و قريب منها غيرها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 136

..........

______________________________

موجب للثاني، و الثاني موجب للثالث، و الكل نحو من الرجوع، فتارة تطلق التوبة على الكل، و اخرى على بعض مراتبها، و يختص بعضها الأخر باسم الاستغفار.

و المراد بالمرتبة الأولى معرفة أن العصيان انحراف و خسران و ان الذنوب سموم مهلكة مفوتة للحيوة الأبدية و حاجبة للعبد عن محبوبه من السعادة الأبدية.

فإذا حصل له ذلك و عرف من نفسه ذلك بحقيقة اليقين يحصل له تألم و حالة للقلب بسبب ما فعله فيندم على ما فعله و تتأسف عليه

فيرجع من الفرح بالظفر بالمعصية الى التحزن و التأسف على صدورها منه، فاذا غلب هذا الألم على القلب و استولى عليه ينبعث من هذا الألم في القلب و التأثر و الندامة حالة اخرى، تسمى ارادة و قصد الى فعل له تعلق بالحال، و الماضي، و الاستقبال.

اما تعلقه بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابسا له، و اما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للسعادة الى أخر العمر.

و اما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر، و القضاء ان كان قابلًا له.

و بالجملة لا بد له من تدارك ما فات من قضاء إيفاء حق لما مضى، و ترك لما في الحال، و عزم بالنسبة إلى الاستقبال.

و كثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده و يجعل المرتبة الاولى و الرجوع العلمي كالمقدمة لها، و العزم و الرجوع العملي كالثمرة لها.

و بهذا الاعتبار ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله:

كما في خبر ابن ابى عمير: كفى بالندم توبة «1».

و في خبر عن الأحمسي (الجهضمي) عن ابى جعفر عليه السّلام كفى بالندم توبة «2».

و قال الصدوق: من ألفاظ رسول اللّه الندامة توبة «3».

______________________________

(1) الوسائل باب 47 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

(2) الوسائل باب 82- 83 من أبواب جهاد النفس ح/ 1- 6

(3) الوسائل باب 83 من أبواب جهاد النفس ح/ 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 137

..........

______________________________

و في خبر ابان بن تغلب قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه الا غفر اللّه له قبل يستغفر الخبر «1».

و قول الامام السجاد عليه السّلام:

«ان يكن الندم توبة إليك فانا الندم النادمين» «2».

و في خبر الربعي عن ابى

عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين: ان الندم على الشر يدعوا الى تركه «3» الى غير ذلك من الاخبار.

و السر في ذلك هو انه لا تخلو الندم عن علم أوجبه و اثمره، و عن عزم يتبعه و يتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه- اعنى ثمرته و مثمرة.

و لا يبعد القول بذلك و ان حقيقة التوبة هي الندامة و التأسف على ما اتى كما عرفت شهادة النصوص على ذلك نعم هي أدنى المراتب.

فاذا يكون الرجوع العلمي من مقدمات التوبة المسقطة لعقوبة ما صدر منه و يكون من توابع الايمان باللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

و في خبر ابن ابى عمير عن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال:

ما من مؤمن يذنب ذنبا الا اسائه ذلك و ندم عليه، و من سرته حسنته و سائته سيئته فهو مؤمن فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن «4».

و في خبر ابى العباس قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام من سرته حسنته و سائته سيئته فهو

______________________________

(1) الوسائل باب 83 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

(2) الصحيفة الكاملة السجادية دعائه بالتوبة/ 4- 31

(3) الوسائل باب 83 من أبواب جهاد النفس ح/ 3

(4) الوسائل باب 47 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 138

..........

______________________________

مؤمن «1».

و اما الرجوع العملي فهو من ثمرات التوبة.

حكم العزم على عدم العود في التوبة

بقي الكلام في اعتبار العزم على عدم العود و الاستغفار في التوبة و عدمهما.

اما اعتبار العزم فعن ظاهر الأكثر اعتباره في حقيقة التوبة، و قد يقال بعدم الاعتبار.

قال شيخنا الأعظم (قدس) الأقوى انه ان كان المراد بالعزم القصد الذي لا يتحقق الا بعد الوثوق بحصول ما عزم عليه

فاعتباره مما لا دليل عليه، و انه يستلزم امتناع التوبة ممن لا يثق من نفسه بترك المعصية عند الابتلاء بها كسيّئ الخلق الذي لا يثق من نفسه و لا يأمن من وقوعه مكررا من شتم من يتعرض له، و كالجبان الذي لا يأمن من وقوعه في الفرار عن الزحف و نحو ذلك فيبقى إطلاق قوله صلّى اللّه عليه و آله كفى بالندم توبة، و قوله عليه السّلام ان كان الندم من الذنب توبة فانا اندم للنادمين سليما عن المقيد.

و ان أريد تحقق إرادته بعدم عوده إلى المعصية و ان لم يثق بحصول مراده فهو مما لا ينفك عن الندم اه «2».

و لكن يظهر من المحقق الأصفهاني (قدس): اعتبار العزم على عدم العود حيث قال ان العزم و البناء على عدم المعصية غير القصد و الإرادة التي لا يتحقق الا بعد إجماع الرأي و الوثوق بعدم صدور الفعل لئلا يقال ان الوثوق ربما لا يحصل له لمكان غلبة الشهوة و المعصية فلا يثق من نفسه حتى يعزم على عدم العود و استند في ذلك بقوله عليه السّلام في التوبة النصوح:

هو ان يتوب الرجل من ذنب و ينوي ان لا يعود عليه أبدا «3».

______________________________

(1) الوسائل باب 83 من أبواب جهاد النفس ح/ 1

(2) رسالة العدالة/ 335

(3) الوسائل باب 87 من أبواب جهاد النفس ح/ 3- 4

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 139

..........

______________________________

و في خبر أخر في مقام بيان حقيقة التوبة: قال عليه السّلام:

تصديق القلب و إضمار ان لا يعود الى الذنب الذي استغفر منه «1» «2».

قلت: و لا يخفى ان العزم و ان كان غير القصد الا ان الظاهر ان المراد منه

البناء على ترك المعصية الملائم أحيانا مع عدم الوثوق، و العزم على عدم العود ابدا و ان كان معتبرا في توبة النصوح- و هي المرتبة العالية من التوبة- و لكن لا دليل على اعتباره في تمام مراتبها، و لعله الى هذا يشير ما افاده الشيخ (قدس)، فيمكن التوفيق بين النظرين، فيقال غاية ما يعتبر في أصل التوبة هو البناء على ترك المعصية، و اما العزم و التصميم على ترك المعصية ابدأ فغير معتبر فيها و ان كان معتبرا في المرتبة العالية منها و هي التوبة النصوح.

و لعله بما ذكرنا يمكن ان يوجه ما أفاده العلامة الحلي (قدس) «من ان التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية و العزم على ترك المعاودة في المستقبل لان ترك العزم يكشف عن نفى الندم» «3».

فان العزم و البناء على ترك المعاودة كاف في تحقق أصل التوبة، و اما العزم على ترك المعاودة ابدا فغير دخيلة في ذلك و ان كان معتبرا في المرتبة العالية منها فتدبر.

حكم الاستغفار في التوبة

و اما اعتبار الاستغفار فينبغي التنبيه أولا إلى مغايرة التوبة مع الاستغفار لأنه ان كان الاستغفار مأخوذا فيها فيسقط البحث و هو واضح.

ربما يستظهر من بعض الآيات و الاخبار و الأدعية مغايرة التوبة للاستغفار.

اما الآيات فكقوله تعالى وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً

______________________________

(1) الوسائل باب 87 من أبواب جهاد النفس ح/ 5

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 85

(3) كشف المراد/ 263 ط صيدا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 140

..........

______________________________

«1». و قوله تعالى وَ يٰا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ «2».

و قوله عز من قائل وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ

«3».

و قوله تبارك أَ فَلٰا يَتُوبُونَ إِلَى اللّٰهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4».

و اما الاخبار و الأدعية فكخبر ابان بن تغلب قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه الا غفر اللّه له قبل ان يستغفر «5».

و قول الصادق عليه السّلام في الحديث المشهور في تعداد جنود العقل و الجهل:

ان التوبة و ضدها الإصرار و الاستغفار و ضدها الاغترار «6» و قوله الامام السجاد عليه السّلام.

اللهم ان يكن الندم توبة إليك فانا اندم النادمين، و ان يكن الترك لمعصيتك اتابة فانا أول المنيبين، و ان يكن الاستغفار حطة للذنوب فانى لك من المستغفرين «7».

و في المناجاة الاولى من مناجاة الخمسة عشر.

الهى ان كان الندم على الذنب توبة فإني و عزتك من النادمين و ان كان الاستغفار من الخطيئة حطة فانى لك من المستغفرين «8».

و يؤيد ذلك ظاهر عطف التوبة على الاستغفار في الصيغة المكررة في الأدعية

______________________________

(1) هود: 11/ 3- 52- 90

(2) هود: 11/ 3- 52- 90

(3) هود: 11/ 3- 52- 90

(4) المائدة: 5/ 76

(5) الوسائل باب 83 من أبواب جهاد النفس ح/ 40

(6) أصول الكافي ج 1/ 22

(7) الصحيفة الكاملة السجادية دعائه بالتوبة/ 31

(8) مفاتيح الجنان/ 118

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 141

..........

______________________________

و الألسنة و هي استغفر اللّه ربي و أتوب إليه.

تقريب الاستدلال بالآيات و الاخبار لمغايرة الاستغفار مع التوبة واضح.

و مما يستظهر منه اتحاد التوبة و الاستغفار الجمع بين ما دل على ان دواء الذنوب الاستغفار.

كما في خبر السكوني عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

لكل داء دواء، و دواء الذنوب الاستغفار «1» و ما ورد ان التائب

من الذنب يغفر له، و انه لا ذنب له، و انه كفى بالندم توبة الى غير ذلك.

و يوجه حمل التوبة المعطونة على الاستغفار بان المراد منها الإنابة- يعنى التوجه الى اللّه تعالى بعد طلب العفو عما سلف- و هذا متأخر عن الندم الذي هو التوجه اليه تعالى لكونه رجوعا من طريق الباطل و عودا الى الطريق المستقيم الموصل الى جناب الحق تعالى فهي كلها توجهات و اقبالات اليه تعالى فصح إطلاق التوبة التي هي لغة الرجوع، على كل منها.

و قد يطلق على المجموع اسم الاستغفار كقوله أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير الاستغفار قاله في إرشاد من قال بحضرته استغفر اللّه:

«ثكلتك أمك أ تدري ما الاستغفار؟! الاستغفار درجة العليين، و هو اسم واقع على ستة معان: أولها: الندم على ما مضى، و الثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، و الثالث: ان تؤدى الى المخلوقين حقوقهم حتى تلق اللّه عز و جل أملس ليس عليك تبعة، و الرابع ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتعدى حقها، و الخامس: ان تعمد الى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم و ينشو بينهما لحم

______________________________

(1) الوسائل باب 85 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 142

..........

______________________________

جديد، و السادس: ان تزيق الجسم الم الطاعة كما اذقنه حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول استغفر اللّه «1».

فظهر ان لفظة كل من التوبة و الاستغفار ربما تطلق على الأخر بعناية، و ربما تطلق أحدهما على معنى غير ما للآخر.

فبعد ما عرفت ذلك ينبغي ذكر ما افاده شيخنا الأعظم في اعتبار الاستغفار في الفرض و لقد أجاد فيما أفاد

فقال «: ان التحقيق يقتضي ان يقال انه ان أريد بالاستغفار حب المغفرة، و شوق النفس الى ان يغفر اللّه له فالظاهر انه لا ينفك عن الندم، و ان أريد به الدعاء للمغفرة الذي هو نوع من الطلب الإنشائي، ففي اعتباره وجهان، مقتضى إطلاقات الندم عدم الاعتبار لصدقه على غير صورة الاستغفار أيضا كما ان ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله: لا كبيرة مع الاستغفار «2»، و قوله صلّى اللّه عليه و آله دواء الذنوب الاستغفار «3» و قوله ما أصر من استغفر «4» و نحو ذلك، اعتباره «5».

المورد الثاني في تجزئة التوبة و تبعيضها

اختلف شيوخ المعتزلة في جوار التجزئة في التوبة و صحتها من بعض المعاصي و عدمه.

فعن ابى هاشم الجبائي إن الندم لا يصح من قبيح دون قبيح، و استدل لمقالة بأنه يجب الندم على القبيح لقبحه و لو لا ذلك لم تكن مقبولة، و القبيح حاصل في الجميع فاذا اشترك جميع المعاصي في القبيح فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه، بل لأمر آخر يوجد في ذلك دون هذا.

______________________________

(1) نهج البلاغة قصار الحكم/ 417

(2) الوسائل باب 48 من أبواب جهاد النفس ح/ 3

(3) الوسائل باب 85 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

(4) الوسائل باب 85 من أبواب جهاد النفس ح/ 11

(5) رسالة العدالة/ 335

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 143

..........

______________________________

و عن ابى على جواز ذلك قاس ذلك بفعل الواجب و قال في تقريبه انه لو لم تصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الإتيان بواجب دون واجب، و التالي باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة انه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذلك يجب

عليه فعل الواجب لوجوبه فلو لزم من اشتراك القبائح في قبح عدم التوبة في بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الإتيان بواجب دون واجب آخر.

و اما بطلان التالي فبالإجماع إذ لا خلاف في صحة الصلاة ممن أخل بالصوم اه «1».

و الحق جواز التبعيض و التجزئة في التوبة و قد صرح بذلك شيخنا المفيد (قدس) في أوائل المقالات، و قال ان هذا مذهب جميع أهل التوحيد سوى ابى هاشم الجبائي «2».

و قال العلامة الحلي (قدس) في بيانه انه يجوز ان يرجع فاعل القبائح داعيه الى الندم عن بعض القبائح دون بعض و ان كان القبائح مشتركة في الداعي الذي يدعوا الى الندم عليها و ذلك بان يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه، أو التسامح عند العقلاء عند فعله و لا يقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها، و هذا كما في دواعي الفعل فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض بان يترجح دواعيه الى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا الى الندم ثم يقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على ذلك البعض دون الأخر اه «3».

______________________________

(1) كشف المراد/ 264

(2) أوائل المقالات/ 62

(3) كشف المراد/ 265

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 144

..........

______________________________

و بعبارة أخرى أفاده العلامة الشبّر (قدس) ان التوبة عن بعض الذنوب اما ان يكون عن الكبائر دون الصغائر أو بالعكس أو عن كبيرة دون كبيرة، و الكل جائز و ممكن.

اما الأول: فبعد العلم

بأن الكبائر أعظم عند اللّه و أجلب لسخطه و مقته، و الصغائر أقرب الى تطرق العفو فيترك الكبائر دون الصغائر، و ذلك كالطبيب قد يحذر المريض العسل تحذرا شديدا و تحذره السكّر تحذيرا أخف منه على وجه يظهر منه عدم ظهور آثاره.

و اما الثاني: فهو أيضا ممكن لأن المؤمن و ان كان خائفا على معاصيه و نادما على المعاصي التي يفعله الا ان ذلك منه تختلف قوة و ضعفا فيترك النظر إلى الأجنبية أو معصية صغيرة و لكنه لا يمكن ترك معصية كبيرة كشرب الخمر، و السر في ذلك غلبة الهوى بالنسبة إلى شرب الخمر و عدمها بالنسبة إلى الأجنبية.

و اما الثالث: فهو أيضا بمكان من الإمكان لاعتقاده ان بعض الكبائر أشد و أغلظ عند اللّه من بعض أخر فيتوب عن معصية النهب، و قتل النفس و الظلم، و اما البعض الأخر فلا اه ملخصا «1».

و مقتضى إطلاق النصوص و عمومها صحة ما ذكرنا لأن إطلاق قوله صلّى اللّه عليه و آله (الندم توبة) يصدق على الندامة على ذنب مع عدم الندامة على سائر الذنوب، و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله التائب من الذنب كمن لا ذنب له يصدق على من تاب عن ذنب و لم يتب بعد عن سائر الذنوب.

و مما يدل على تجزئة التوبة ان الكافر إذا تاب عن كفر و أسلم: و هو مقيم على الكذب اما ان يحكم بقبول توبته و إسلامه أم لا؟ و الثاني خرق للإجماع لاتفاق المسلمين على اجراء حكم المسلم عليهم و الأول هو المعلوم.

و قد أول المحقق الطوسي و العلامة (قدس سرهما) ما ورد عن أمير المؤمنين

______________________________

(1) الحق اليقين ج 2/ 208

الدر النضيد

في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 145

..........

______________________________

و أولاده المعصومين عليهم السّلام من نفى تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض، بان مرادهم اشتراك جميع القبائح في الداعي الذي يدعوا الى الندم عليها و ان كان يجوز ان يرجح فاعل القبائح داعيه الى الندم عن بعض القبائح دون بعض فقال في وجهه انه لو لا ذلك لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على الكذب مع اتفاق المسلمين على إجراء أحكام المسلمين عليه اه «1».

قلت: و يمكن حمل كلامهم عليهم السّلام على ان مرادهم بذلك التوبة الكاملة فتدبر.

المورد الثالث في حكم التوبة
اشارة

كما لا ينبغي الارتياب في حسن الاحتراز عن الأمراض و المهالك المفوتة لحياة الجسد عقلا و شرعا، بل وجوبه، فكذلك لا ينبغي الارتياب في حسن الاحتراز عن امراض الذنوب و مهلكات المعاصي المفوتة لحياة الأبد و وجوبه عقلا و شرعا بل يمكن استفادة وجوب ذلك بالطريق الاولى.

الوجوه التي يستدل بها لوجوب التوبة
اشارة

و مع ذلك يستدل لوجوب التوبة بوجوه.

منها: دليل العقل

قال شيخنا الأعظم (قدس) الظاهر انه حكم بوجوبها كل من قال بالحسن و القبح العقليين.

و قد أشار المحقق الطوسي (قدس) في التجريد الى دليل العقل و قرره العلامة (قدس) في الشرح بوجهين «2».

الأول: ان التوبة دافعة للضرر الذي هو العقاب، أو الخوف و دفع الضرر واجب و لا يخفى ان هذا قياس من الشكل الأول الذي يكون بديهي الإنتاج ضرورة

______________________________

(1) كشف المراد/ 266

(2) كشف المراد/ 264

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 146

..........

______________________________

ان التوبة دافعة للضرر المحتمل الذي هو العقاب، أو دافعة لخوف ذلك العقاب المحتمل و كل دافع لذلك واجب بحكم العقل، و ليس ذلك إلا التوبة فتجب.

الثاني: انا نعلم قطعا وجوب الندم على القبيح و الإخلال بالواجب.

و قد يقرر ذلك بالشكل الأول أيضا و هو ان التوبة ندم على القبيح أو الإخلال بالواجب، و الندم على ذلك واجب عند كل من قال بالحسن و القبح العقليين.

و قد يناقش: بان الندم على القبيح أو الإخلال بالواجب من لوازم الإسلام و الايمان فمن كان مسلما و مؤمنا يقبح القبيح و يكرهه فاذا اتى بالقبيح و ترك الحسن ليسوئه ذلك و يتأسف عليه فالندم أمر قهري من لوازم الايمان فلا يتعلق به التكليف حتى يقال بأنه واجب و تركه قبيح فالأولى ان يقال انا نعلم قطعا وجوب العزم على ترك معاودة القبيح أو الإخلال بالواجب لقبح عدم العزم على ذلك و الإصرار على ذلك.

و منها: الآيات

كقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً «1».

و قوله عز من قائل تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2».

و قوله تعالى يٰا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ

مِدْرٰاراً «3».

و قوله عز من قال وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ «4».

الى غير ذلك من الآيات.

و منها: الاخبار ربما يستدل لوجوب التوبة بالأخبار، و هي على كثرتها خالية عن الأمر بالتوبة الا نادرا فإنها متعرضة لتفسير الآيات الإمرة بالتوبة، و بيان محبوبية التوبة في الشريعة و بيان فوائدها، و ثمراتها و قد عقد في الوسائل بابا سماه باب وجوب التوبة من جميع الذنوب و العزم على ترك العود أبدا فأورد فيه 16 حديثا و لكن لا يتضمن شي ء منها الأمر

______________________________

(1) التحريم: 66/ 8

(2) النور: 24/ 31

(3) هود: 11/ 31

(4) هود: 11/ 90

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 147

..........

______________________________

بالتوبة إلا ما رواه عن ابن طاوس عن مهج الدعوات عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اعترفوا بنعم اللّه ربكم و توبوا الى اللّه من جميع ذنوبكم فان اللّه يحب الشاكرين من عباده «1».

فينبغي الإشارة إلى جملة من الاخبار المتضمنة للأمر بالتوبة مما وجدناه في الأبواب المتفرقة خصوصا من جامع أحاديث الشيعة الذي أمر بتأليفه أستاذنا العلامة البروجردي (قدس).

كخبر على بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا عن آبائه عن على عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فيه:

توبوا الى اللّه من ذنوبكم و ارفعوا أيديكم بالدعاء الخبر «2».

و خبر على بن على أخ دعبل بن على عن على بن موسى الرضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال:

تعطروا بالاستغفار لا تفضحنكم روائح الذنوب «3».

و خبر سماعة قال:

دخلت على ابى عبد اللّه عليه السّلام فقال مبتدئا: يا سماعة ما هذا الذي كان بينك و بين جمالك؟! إياك ان

تكون فحاشا أو صخابا «4» أو لعانا فقلت و اللّه لقد كان ذلك انه ظلمني فقال ان كان ظلمك لقد أربيت عليه «5» ان هذا ليس من فعالي و لا آمر به شيعتي استغفر ربك و لا تعد قلت استغفر اللّه و لا أعوده «6».

______________________________

(1) الوسائل باب 86 من أبواب جهاد النفس ح/ 6

(2) الوسائل باب 18 من أحكام شهر رمضان ج/ 20

(3) الوسائل باب 85 من أبواب جهاد النفس ح/ 17

(4) الصخاب: بالصاد و السين! الشديد الصوت

(5) أربيت: إذا أخذت أكثر مما أعطيت

(6) جامع أحاديث الشيعة باب 21 من أبواب جهاد النفس ح/ 15 ج: 13/ 431

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 148

..........

______________________________

و خبر أبي حمزة عن على بن الحسين و فيه:.

و استغفروا اللّه و توبوا إليه فإنه يقبل التوبة، و يعفوا عن السيئة «1».

و عن قطب الراوندي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و فيه:.

قال صلّى اللّه عليه و آله لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة و قال صلّى اللّه عليه و آله نعم الوسيلة الاستغفار «2».

الى غير ذلك من الاخبار.

و منها: الإجماع

قال العلامة الحلي (قدس): ان التوبة واجبة بإجماع المسلمين «3» و قال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) ادعى غير واحد كصاحب الذخيرة و شارح أصول الكافي الإجماع عليه بل ادعى هو إجماع الأمة عليه «4».

قلت: يظهر حال الإجماع و موقفه مما ذكرناه غير مرة ان الإجماع في مسئلة تكون عليها وجوه من العقل و النقل لا يكاد يفيد و لا يستكشف به عن رأى المعصوم عليه السّلام.

حكم وجوب التوبة من حيث كونه عقليا أو شرعيا

فبعد ما عرفت وجوب التوبة يقع الكلام في ان وجوبها هل شرعي نفسي أو إرشادي نظير وجوب الإطاعة و حرمة المخالفة؟

قال الشيخ (قدس): «ان وجوب التوبة عقلي محض بمعنى كونه للإرشاد، و ان أمر به الشارع أيضا في الكتاب و السنة، و لكن أو أمرها إرشادية لرفع مفسدة

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة باب 44 من أبواب جهاد النفس/ 56. ج: 14/ 44

(2) جامع أحاديث الشيعة باب 75 من أبواب جهاد النفس/ 57. ج 14/ 335

(3) كشف المراد/ 263

(4) رسالة العدالة/ 135

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 149

..........

______________________________

المعصية السابقة و لا يترتب على تركها عقاب أخر «1».

و بالجملة كما قاله المحقق الأصفهاني (قدس): «حيث ان التوبة لدفع عقاب المعصية الصادرة فهي بهذا العنوان لا معنى لان يكون لها وجوب شرعي مولوي» «2».

و بعبارة اخرى انما وجبت التوبة للتخلص عن المعصية السابقة و وجوب التخلص عن المعصية ليس واجبا شرعيا يترتب على تركها عقاب أخر غير العقاب الذي لم يتخلص منه فهي من قبيل معالجة المريض الذي يأمرها الطبيب فلا يترتب على مخالفتها أمر سوى ما يقتضيه ترك المأمور به مع قطع النظر عن الأمر فإنا لا نعني بالأمر الإرشادي إلا ما لا يترتب على مخالفته

سوى ما تقتضيه نفس ترك المأمور به مع قطع النظر عن تعلق الأمر، و لا على موافقته الا ما يقتضيه فعله كذلك، و ليس من قبيل الأوامر التعبدية التي يأمر بها المولى عبده في مقام الاستعباد، و التعبد ليترتب على مخالفته ثواب الإطاعة زائدا عما تقتضيه نفس ترك المأمور به لذلك فترك التوبة ليس من المعاصي التي توجب العقاب فلا يدخل في المعاصي الشرعية المنقسمة إلى الصغيرة و الكبيرة و ان كان قبح تركها من حيث انه اقامة على العقاب و بقاء عليه قد يصل اليه بحسب قبح المعصية التي يقع عليها.

فتحصل: ان وزان وجوب التوبة وزان لزوم الإطاعة فكما يحكم العقل بوجوب الإطاعة فكذلك يحكم بلزوم الخروج عن تبعة المعاصي الصادرة، فكما لا يكون الحكم بوجوب الإطاعة حكما شرعيا مع قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فكذلك أوامر التوبة.

نعم ان كان البقاء على المعصية و عدم التوبة أحيانا مستلزما لاندراجه تحت الأمن من مكر اللّه فيكون محرما شرعيا بطرو ذاك العنوان.

ثم انه على القول بوجوب التوبة شرعا يمكن ان يقال انه بالنسبة إلى المعاصي التي لم يكفر عنها كالكبائر، أو الصغائر التي أصر عليها، أو الصغيرة من غير المجتنب

______________________________

(1) رسالة العدالة/ 360

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 87

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 150

..........

______________________________

من الكبائر أو غير المبتلى بها، و اما المجتنب للكبائر إذا لم يصر على الصغائر فحيث تكون مكفرة فلا يجب التوبة عنها شرعا.

المورد الرابع في حال الشخص بعد التوبة

الظاهر ان التوبة عن المعصية و الرجوع عنها تزيل حكم المعصية و يبطلها فمن كانت له حالة و كيفية باعثة لترك المعاصي و إتيان الواجبات إذا اتى بكبيرة يمنع عن قبول الشهادة

و ما يجرى مجراه من عدم صحة الاقتداء به في الصلاة الى غير ذلك فاذا تاب عنها تزيل حكم المعصية و تقبل شهادته و يصح الاقتداء به الى غير ذلك من الأحكام.

يشهد لذلك مضافا الى الإجماع و تسالم الأصحاب جملة من الاخبار:

كخبر جابر عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

سمعته يقول التائب من الذنب كمن لا ذنب له، و المقيم على الذنب و هو مستغفر منه كالمستهزئ «1».

و خبر داود بن قبيصة عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له «2» الى غير ذلك.

و لكن وقع الخلاف بين المسلمين في قبول شهادة القاذف إذا أكذب نفسه و تاب صلح فذهبت الإمامية إلى قبول شهادته، و عن الشعبي، و الزهري، و الربيعة، و مالك، و الشافعي، و الأوزاعي و غيرهم انه يقبل اللّه توبته، و لا نقبل نحن شهادته.

و عن طائفة منهم حسن البصري، و شريح، و النخعي، و الثوري و ابى حنيفة و أصحابه انه يسقط فلا تقبل توبته ابدا.

______________________________

(1) الوسائل باب 86 من أبواب جهاد النفس ح/ 8

(2) الوسائل باب 86 من أبواب جهاد النفس ح/ 14

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 151

..........

______________________________

و منشأ الخلاف قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً «1».

و الحق ما عليه الإمامية من ان القاذف إذا تاب و صلح، قبلت توبته و زال فسقه بلا خلاف و قبلت شهادته حكى الشيخ في الخلاف موافقة الصحابة و جملة من التابعين و الفقهاء على ذلك.

يشهد لذلك الكتاب و السنة

المستفيضة و الإجماع بقسميه.

اما الكتاب فذيل الآية المتقدمة حيث قال تعالى: بعد قوله لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً- إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» فإنه يدل على ان القاذف إذا تاب و أصلح يخرج عن الفسق و يجوز شهادته حسبما فصل في محله.

و اما السنة فكخبر ابى الصباح الكناني قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القاذف بعد ما يقام عليه الحد ما توبته؟ قال يكذب نفسه قلت أ رأيت ان أكذب نفسه و تاب أ تقبل شهادته؟ قال نعم «3».

و خبر قاسم بن سليمان قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدا ثم يتوب و لا يعلم منه الا خيرا ا تجوز شهادته؟ قال نعم ما يقال عندكم قلت: يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه و لا تقبل شهادته ابدا فقال بئس ما قالوا كان ابى يقول إذا تاب و لم يعلم منه الأخير جازت شهادته «4».

و خبر يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام قال:

سئلته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحد

______________________________

(1) النور: 14/ 4

(2) النور: 14/ 5

(3) الوسائل باب 36 من أبواب الشهادات ح/ 1

(4) الوسائل باب 36 من أبواب الشهادات ح/ 2

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 152

..........

______________________________

إذا تاب؟ قال: نعم قلت و ما توبته؟ قال يجي ء فيكذب نفسه عند الامام و يقول قد افتريت على فلان و يتوب مما قال «1».

الى غير ذلك من الاخبار.

نعم في خبر السكوني ما ينافي ما ذكرنا فروى عن على عليه السّلام:

ليس أحد يصيب حدا فيقام عليه ثم يتوب الاجازت شهادته الا القاذف فإنه لا تقبل

شهادته، ان توبته فيما كان بينه و بين اللّه تعالى «2».

و لكنه حمل على التقية، و في خبر سليمان بن قاسم شهادة عليه.

فلا اشكال عندنا في قبول شهادة القاذف إذا تاب و أكذب نفسه و ظهر منه العمل الصالح إذا كان له حالة و كيفية باعثة لترك المحرمات و فعل الواجبات.

و سنتعرض المراد بإكذاب النفس فيما يلي و تفصيل المقال يطلب من باب الشهادات.

المورد الخامس في عدم كفاية الندم عن المعصية و البناء و العزم على عدمها في جميع الموارد

و ليعلم ان التوبة كما ذكرنا و ان كانت عبارة عن الندم عن المعصية لكونها معصية و العزم و البناء على عدمها في المستقبل و يسقط العقاب بذلك في الجملة الا انه لا يكتفى بذلك في جميع الموارد فالحقيق بنا الإشارة إلى تبعات المعاصي فنقول:

التوبة تنقسم الى ما هي بين العبد و بين اللّه تعالى خاصة، أو يتعلق به حق الآدمي اما ما يتعلق بحقوقه تعالى فقد لا يستلزم امرا أخر يلزم الإتيان به شرعا كلبس

______________________________

(1) الوسائل باب 36 من أبواب الشهادات ح/ 4

(2) الوسائل باب 36 من أبواب الشهادات ح/ 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 153

..........

______________________________

الحرير مثلا فيكفي في توبته الندم عليه و العزم على عدم العود اليه و لا يجب عليه سوى ذلك.

و قد يستلزم ذلك حقا منه تعالى فتارة يكون امرا ماليا- كالعتق في الكفارة- فيجب الإتيان به مع القدرة و يمكن إدخال الزكاة و الخمس فيه من جهة و ان كان يمكن إدخالهما في حقوق الناس من جهة أخرى فيجب أدائهما مع القدرة أو يصالح عليهما مع حاكم المسلمين حسب ما يراه.

و اخرى يكون امرا غير مالي، فإما يكون غير حد كقضاء الفوائت مثل قضاء صلوات اليومية، و قضاء صوم

رمضان، و الواجب عليه بالكفارة، أو نذر، أو شبهه، فيجب عليه القضاء و إتيان ما وجب عليه، أو يكون حدا كما إذا زنى أو شرب الخمر فقد لا يظهر منه فيجوز للمكلف ان يظهره و يقربه عند الحاكم ليقام عليه الحد، و يجوز ان يستره و يكتفى بالتوبة فلا حد عليه، قال صاحب الجواهر (قدس) انه الاولى.

و اما ان ظهر فان تاب قبل قيام البينة عند الحاكم فيسقط الحد، و الا فيجرى عليه الحد.

و اما ما يتعلق بحقوق الناس فلا بد له مع الندم و العزم على ان يخرج من حق المستحق بنحو.

ففي موارد القصاص فبالنسبة إلى قتل نفس محترمة لا بد و ان يخرج الى المستحق و يمكنه من الاستيفاء، فان لم يعلم المستحق فلا بد و ان يخبر ولى المقتول و يقول له: انا الذي قتلت أباك مثلا و لزمني القصاص فاما ان يقتله أو يعفو عنه بأخذ الدية أو بدونها.

و اما بالنسبة إلى قطع الأعضاء فكذلك فيجب تسليم نفسه للمستحق من المجني عليه أو ورثته ليقتص منه في ذلك العضو أو يعفوا عنه بأخذ الدية أو بدونها.

و في موارد غصب الأموال و نحوها فيردها ان بقيت و يغرم بدلها ان لم تبق أو يستحل من المستحق ذمته منها، و لو كان مصرا نوى الغرامة له إذا قدر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 154

..........

______________________________

و ان لم يخرج من حق المستحق الى ان مات فينتقل الى ورثته فلا بد له من دفعها إليهم، أو إبرائهم منها، و هكذا ينتقل من وارث إلى أخر، فمتى دفع هو، أو أحد ورثته، أو بعض المتبرعين إلى الورثة في بعض الطبقات برء منه.

و

ان بقي إلى يوم القيمة فاختلف الفقهاء في مستحقه على وجوه.

الأول انه لصاحبه الأول، و الثاني انه يكتب لكل وارث مدة عمره، أو عوض الظلمة ثم يكون لآخر وارث و لو بالعموم كالإمام عليه السّلام لان ذلك قضية التوارث لما يترك الميت لعموم الكتاب و السنة، و الثالث انه ينتقل بعد موت الكل الى اللّه تعالى لأنه الباقي بعد فناء كل شي ء و هو يرث الأرض و من عليها.

يرجح الأول لقول الصادق عليه السّلام في خبر عمر بن يزيد:

إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ثم صالح ورثته على شي ء فالذي أخذ الورثة لهم و ما بقي فللميت حتى يستوفيه منه في الآخرة و ان هو لم يصالح على شي ء حتى مات و لم يقض عنه فهو كله للميت يأخذه به «1».

قد يقال ان المراد بالصلح على شي ء في الأول اما على بعض الحق مع إبقاء البعض منه في ذمته، أو الصلح على وجه غير لازم اما لاستلزامه الرباء أو لعدم العلم بالمستحق بمقدار الحق مع علم من عليه الحق به أو نحو ذلك، و الا فلو وقع على الجميع برء منه و ان كان بأقل و هو صلح الحطيطة.

و اما بالنسبة إلى إضلاله فيجب إرشاد من أضله و إرجاعه عما اعتقده بسببه من الباطل إلى الحق ان أمكن.

و اما بالنسبة إلى القذف، و الغيبة فالكلام فيهما يقع تارة في حد توبتهما من حيث أنفسهما و اخرى بالنسبة إلى المقذوف و المغتاب.

اما بالنسبة إلى القاذف فاختلفوا في ذلك فقيل انه لا بد و ان يكذب نفسه فيما قذف سواء كان صادقا في قذفه أم كاذبا، فان كان كاذبا فتكذيبه نفسه مطابق للواقع،

______________________________

(1) باب

5 من أبواب أحكام الصلح ح/ 4

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 155

..........

______________________________

و ان كان صادقا ورى باطنا بما يخرجه عن الكذب في تكذيبه نفسه لعدم كونه كاذبا في نفس الأمر.

و عن المبسوط و السرائر ان حد توبته ان يكذب نفسه إن كان كاذبا و يعترف بالخطاء ان كان صادقا لان تكذيب نفسه مع عدم كونه كاذبا في نفس الأمر قبيح فيكفيه الاعتراف بالخطاء.

يوجه لزوم تكذيب نفسه مطلقا بقوله تعالى الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ الى قوله أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «1» فسمى القاذف فاسقا متى لم يأت بالشهداء على ما قذف به، و للأخبار التي أشرنا إلى بعضها أنفا.

و اما بالنسبة إلى الغيبة فتوبته الندم و التأسف على ما تحمله من الوزر و الاستغفار و لمن اغتابه.

هذا حال القذف و الغيبة من أنفسهما و اما بالنسبة إلى المقذوف و المغتاب، فان بلغهما فلا بد في تفريغ ذمته من تمكين نفسه لهما ليستوفيا حقهما، و ان لم يبلغهما فان أمكنهما الخروج عما ارتكبه بنحو من الأنحاء من دون إيثار الفتنة فلا يبعد لزومه و إلا ففى وجوبه وجهان: من انه حق آدمى فلا يزول الأمن جهته، و في المسالك و اليه ذهب المشهور، و من استلزامه زيادة الأذى و إثارة الفتنة فيكفي البراءة و الاستغفار لنفسه و للمغتاب.

و على الأول فلو تعذر الاستحلال منه بموته، أو امتناعه فليكثر من الاستغفار، و الأعمال الصالحة عسى ان يكون عوضا عما يأخذه يوم القيمة من حسناته ان لم يعوضه اللّه تعالى عنه، و لا اعتبار فيه بتحليل الورثة و ان ورثوا حد القذف.

و ليعلم ان ما ذكرناه في هذا المورد نتيجة

ما استفدناه مما أفاده العلامة الحلي في كشف المراد، و الشهيد الثاني في المسالك، و شيخنا البهائى في الأربعين، و صاحب الجواهر في جواهره و غيرهم مع تغيير و تصرف شكر اللّه مساعيهم الجميلة

______________________________

(1) النور: 24/ 4

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 156

المورد السادس في حال الخلوص من تبعات المعاصي في التوبة

______________________________

بقي الكلام في ان ما ذكرناه من تبعات بعض المعاصي هل هي دخيلة في التوبة شرطا أو جزءا بحيث لو لم يأت بها لما تحقق التوبة، أو ان حقيقة التوبة تتحقق و تصح بالندم عن المعصية و البناء و العزم على عدم عوده و الخلوص من تبعات الذنب ليست دخيلة في ماهيتها و ان كانت معتبرة في كمالها فمن ترك تبعاتها يكون بمنزلة ارتكاب ذنوب مستأنفة؟! وجهان.

ربما يستظهر من بعضهم دخالتها في التوبة و انها من تبعاتها بحيث لو لا الخلوص من تبعات الذنب لما تحققت التوبة فالتوبة عن ذنب خاص لا تتحقق الا بالخروج من تبعاته المخصوصة.

و لكن دقيق النظر يقضى بعدم دخولها في حقيقة التوبة لما عرفت ان حقيقة التوبة هي الندم عن الذنب و البقاء على عدمه و المفروض تحققه فبعد ذلك تسقط العقاب المترتب على ترك واجب أو فعل حرام فتبعات الذنب بمنزلة ذنوب مستقلة يلزم التوبة منها.

فمن تاب عن قتل النفس مثلا فتوبته هي الندم عنه و البناء على عدمه، و ان قصر ببذل القصاص من نفسه إذ هو ذنب أخر، و قد عرفت منا قبول التوبة للتجزية.

نعم كما أفيد: «لو فرض كون التابع من إفراد الذنب الذي فرض التوبة عنه لكان لما ذكر وجه لعدم التوبة حينئذ بدونه كما لو تاب عن ظلم الناس مع وجود ما لهم عنده، فلا

توبة له عن الظلم الا بالخروج عما في يده و إرجاعه إليهم بطريق شرعي و الا فهو باق بعد على الظلم و لعله يمكن تنزيل إطلاق من قال بدخالة الخلوص عن تبعات الذنب على مثل ذلك» «1».

______________________________

(1) الجواهر ج 41/ 112.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 157

..........

______________________________

و بالجملة ما ذكرناه واضح لا سترة فيه و قد صرح بذلك شيخنا البهائي (قدس) في أربعينه حيث قال: «اعلم ان الإتيان بما يستتبعه الذنوب من قضاء الفوائت و أداء الحقوق، و التمكين من القصاص، و الحد و نحو ذلك ليس شرطا في صحة التوبة بل هذه واجبات برأسها، و التوبة صحيحة بدونها و بها تصير أكمل و أتم» «1».

نعم إذا لم يقم بتبعات الذنب بعد إظهار التوبة فلعله يكون ذلك قرينة على عدم تحقق الندم كما انه إذا فعلها بعد ذلك يكون دليلا على تحقق التوبة و صحتها فتدبر.

و ربما يتوهم خلاف ما ذكرنا مما ورد في بعض الاخبار.

كخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

في تفسير قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً «2» ان التوبة يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، ورد المظالم، و استحلال الخصوم، و ان تعزم على ان لا تعود، و ان تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربيتها في المعصية، و ان تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي.

و قريب منه ما في نهج البلاغة و قد سمع عليه السّلام قائلًا يقول استغفر اللّه قال ثكلتك أمك أ تدري ما الاستغفار الخبر «3» و قد ذكرنا الخبر بتمامه/ 141.

حيث يستفاد منهما دخالة الخلوص من تبعات الذنوب في تحقق التوبة،

و نحوهما غيرهما.

و لكن فيه: ان المراد منهما ارادة الفرد الكامل من التوبة لا أصل تحقق التوبة ضرورة ان مجرد الندم و العزم على العدم لا يكفي في جلاء القلب من ظلمات المعاصي

______________________________

(1) الأربعين/ 248

(2) التحريم: 66/ 8

(3) الوسائل باب 87 من أبواب جهاد النفس ح/ 3

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 158

..........

______________________________

و كدورتها بل يلزم محو آثار تلك الظلمات و الكدورات و لا يكاد يحصل الا بمثل ما فيهما، و قد ورد انه ينظر التائب الى سيئاته مفصلة و يطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها فيأتي بتلك الحسنة على قدر ما اتى بتلك السيئة فيكف حضور مجالس المعصية و استماع الملاهي و الأباطيل بالحضور في مجالس الوعظ، و النصيحة و تعلم معالم الدين و استماع القران و الأحاديث و المسائل الدينية، مع وضوح عدم اعتبارها في تحقق التوبة، كما انه لا يعتبر في تحقق التوبة اذابة لحم البدن الذي نبت على السحت، و أذاقه الجسم الم الطاعة كما اذاقته حلاوة المعصية.

و بالجملة هذه الأمور غير دخيلة في تحقق أصل التوبة و ان كانت دخيلة في تحقق مراتبها العالية.

هذا بعض الكلام في التوبة و حكمها و حكم الشخص بعد التوبة، و حال تبعات بعض المعاصي و لها بعض أحكام أخرى مذكورة في كتب الأخلاق طوينا عنها كشحا لئلا يوجب ملال حضار البحث و من يلاحظ رسالتنا هذه، و لئلا يخرج البحث عن طور المسائل الفقهية، و ان أردت تفصيل المقام فعليك بمراجعة الجوامع الحديثية المفصلة، و الكتب الكلامية و الأخلاقية و باللّه الاعتصام.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 159

[مسئلة 24- إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط]

اشارة

مسئلة 24- إذا عرض للمجتهد

ما يوجب فقده للشرائط (1) يجب على المقلد العدول الى غيره.

______________________________

(1) يعني الشرائط المعتبرة في المجتهد حدوثا و بقاءا لا مثل الحيوة التي عرفت حالها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 160

..........

______________________________

أقول: المعروف ان حكم صيرورة المجتهد فاسقا، أو كافرا، أو مجنونا، أو عاميا، حكم موته في وجوب العدول عنه.

صرح بذلك شيخنا الأعظم (قدس) في الرسالة و حكى ذلك عن المحقق الثاني في حاشية الشرائع انه لو عرض للفقيه- العياذ باللّه- فسق، أو جنون، أو طعن في السن كثيرا بحيث اختل فهمه امتنع تقليده لوجود المانع، و لو كان قد قلده مقلد قبل ذلك يبطل حكم تقليده لان العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ و قد خرج عن الأهلية لذلك و كان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان اه «1» يستدل لذلك مضافا الى ظهور الإجماع المركب، بل البسيط بإطلاق معاقد الإجماعات في اعتبار العلم، و العدالة عند العمل من غير فرق بين الابتداء، و الاستدامة و بما أفيد «ان الأمر بتقليد الفقيه العادل مثلا ظاهر في ثبوت الرأي المضاف الى الفقيه العادل حال تعلق العمل، أو الالتزام به و الا كان عملا بغير الرأي، أو برأى غير الفقيه، أو برأى الفقيه غير العادل، و مثله غير قابل للإطلاق لصورة زوال الرأي بالموت، أو الجنون، أو اختلال الفهم، أو لصورة زوال الايمان و العدالة ضرورة ان المطلق لا بد من ثبوته في مراتب الإطلاق و المفروض ان رأى الفقيه العادل هو مورد الأمر بالعمل أو بالالتزام» «2».

و بما روى عن ابى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ ابى القاسم بن روح انه سئل

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 73

(2) رسالة الاجتهاد

و التقليد للمحقق الأصفهاني/ 29

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 161

..........

______________________________

الشيخ «1» عن كتب ابن ابى العذافر «2» بعد ما خرجت اللعنة في حقه فقال الشيخ أقول فيها ما قاله العسكري عليه السّلام حيث سئل عن كتب بنى فضال فقيل ما نصنع يكتبه و بيوتنا منه ملاء؟ فقال عليه السّلام: خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا «3».

فإن أمر الشيخ رضي اللّه عنه بترك رأى ابن ابى العذافر يشمل الفتوى المأخوذة منه المعمولة حال استقامته، و حجية قول الشيخ يعلم بالتتبع في أحواله و فيما ورد في حقه.

ربما يناقش: في الإجماع بأن تحصيل الإجماع التعبدي في أمثال المقام ضعيف جدا خصوصا مع وجود المخالف «4».

و لكنه: قد يقال ان ظاهر الأصحاب أنهم تسالموا على ان المجتهد لو زالت ملكته بجنون أو هرم، أو نسيان لا يجوز تقليده، و كذا لو عرض له كفر أو فسق أو نحوهما لا يجوز تقليده و لم نظفر بمن خالف في ذلك عدا صاحب الفصول فصح القول بان المسئلة اجماعية لان خروج الواحد لا يضر بالإجماع على مبني المتأخرين «5» و كيف كان توضيح المقال يستدعي البحث في مقامين الأول فيما تقتضيه القاعدة و الاعتبار، و الثاني فيما يقتضيه مذاق الشريعة المقدسة.

المقام الأول في مقتضى القاعدة عند فقد المجتهد للشرائط

لا يخفى ان فقد الشرائط على نحوين:

فتارة يكون موجبا لزوال الرأي الموجب لزوال العنوان كزوال العقل، و قوة الاجتهاد، فان المجنون و من زال عنه قوة الاجتهاد لطعن في السن مثلا بحيث

______________________________

(1) الشيخ الجليل الثبت حسين بن روح أحد النواب الناحية المقدسة.

(2) هو كنية محمد بن على الشلمغاني

(3) تنقيح المقال ج 3/ 157

(4) الدروس ج 1/ 168

(5) مدارك العروة الوثقى ج 1/

98

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 162

..........

______________________________

اختل فهمه لا يصدق عليه عنوان الفقيه.

و اخرى يكون موجبا لزوال الوصف مع بقاء الرأي كزوال الايمان، و العدالة.

و مقتضى الأصل العملي في كلا القسمين عدم الحجية لاحتمال دخل الشروط المذكورة في صحة التقليد استدامة كدخلها فيه ابتداء.

و قد أشرنا ان ظاهر الأمر المتعلق بتقليد الفقيه العادل ثبوت الرأي المضاف الى الفقيه العادل حال تعلق العمل و الا كان عملا بغير الرأي أو برأى غير الفقيه، و مثله غير قابل للإطلاق لصورة زوال الرأي بالموت، و الجنون، أو اختلال الفهم، ضرورة ان المطلق لا بد من ثبوته في مراتب الإطلاق، و المفروض ان رأى الفقيه العادل هو مورد الأمر بالعمل.

و لكن ناقش: بعض الأساطين دام ظله: «بان المستفاد مما دل على وجوب الرجوع الى الفقيه، و السؤال من أهل الذكر هو لزوم صدق العنوان عليه حال تعلم الأحكام منه لا حال العمل بفتواه و من هنا قلنا بان جواز البقاء على تقليد الميت هو مقتضى الأدلة اللفظية، و انه لا يحتاج فيه الى الاستصحاب.

و مع قطع النظر عن الإطلاقات يكفينا السيرة العقلائية على العمل بالرأي السابق فيأخذ بها فلا بد من ملاحظة الأدلة المعتبرة الدالة على اعتبار الشرائط المذكورة من العقل و الاجتهاد و الايمان و العدالة فإن كان لها إطلاق يشمل صورة الاستدامة يكون مقيدا للإطلاق و رادعة عن السيرة» «1».

قلت: و لا يخفى انه لا يبعد ان يكون قوله عليه السّلام خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا رادعا عن العمل بفتوى من صار مخالفا و منحرفا.

و من العجيب قوله دام ظله: «ان قوله عليه السّلام ذلك لا يصلح ان يكون رادعا

عن العمل بفتوى من صار مخالفا إذ المراد ان سوء عقيدتهم في أصول الدين لا يضر بأخذ رواياتهم التي رووها حال الاستقامة» «2».

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 169

(2) الدروس ج 1/ 169

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 163

..........

______________________________

بداهة انه كما يستفاد ذلك فكذلك يستفاد منه عدم جواز العمل بارائهم المعمولة عليها حال استقامتهم أيضا و لعله واضح فتدبر.

المقام الثاني في مقتضى مذاق الشريعة المقدسة عند فقد الشرائط

و لقد أجاد بعض الأساطين دام ظله حيث قال:

«ان المعلوم من مذاق الشرع ان من زال عقله، أو علمه، أو عدالته، أو ايمانه المستلزم ذلك نقصه، و تزول مقامه، لا يليق بمنصب الزعامة و المرجعية في الدين، و لا يقاس شي ء من ذلك بالموت فإنه كمال للمؤمن من ورقي له من عالم الى عالم آخر فجواز البقاء على تقليد الميت لا يلازم جواز البقاء على تقليد المجنون، و العامي، أو الفاسق، أو المخالف، و هذا الوجه هو العمدة في اعتبار هذه الشروط حدوثا و بقاءا» «1» فتحصل ان ما افاده الماتن في المسئلة لا غبار عليه بالنسبة الى غير الموت.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 170

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 165

[مسئلة 25- إذا قلد من لم يكن جامعا]

مسئلة 25- إذا قلد من لم يكن جامعا و مضى عليه برهة من الزمان كان كمن لم يقلد أصلا (1) فحاله حال الجاهل القاصر أو المقصر.

______________________________

(1) حسب ما فصلناه في المسئلة السادسة عشر، و تطبيقه على المقام هو انه ان كان تقليده على الموازين المقررة شرعا، فان كان عمله مطابقا للواقع، أو لفتوى من يجب تقليده فعلا فيصح، و لا شي ء عليه، و الا فعليه الإعادة، أو القضاء، إلا إذا قام الدليل على الاجتزاء به كما في غير الخمسة المستثناة من حديث لا تعاد في باب الصلاة بناءا على عدم اختصاصه بالسهو و النسيان- كما لا يبعد- و كذا إذا لم يكن عمله على الموازين و لكن وافق الواقع أو من يجب عليه تقليده فعلا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 166

..........

______________________________

أقول: لا يخفى ان تقليد من لم يكن واجدا للشرائط بمنزلة من لم يقلد لبطلان

المشروط بشي ء بفقدان شرطه، بل لعله من مصاديق عدم التقليد، فعليه يكون حاله حال الجاهل القاصر، أو المقصر، فان كان تقليده لغير الواجد للشرائط عن حجة و دليل- بان علم واجديته للشرائط، أو قامت البينة مثلا عليه- فانكشف خلافه فيكون بحكم الجاهل القاصر و الا فيكون بحكم الجاهل المقصر.

فاذا قول الماتن (قدس) ان حاله حال الجاهل القاصر، أو المقصر إشارة الى ان تقليد غير الواجد على نحوين فتارة يكون عن قصور في ذلك، و اخرى يكون عن تقصير، فلفظة (أو) العاطفة في قوله: كجاهل القاصر أو المقصر للتقسيم، لا للترديد كما لعله ربما توهم.

و قد عرفت في ذيل مسئلة 16 ما هو المختار في اعمال الجاهل بقسميه، و لا بأس بالإشارة الى ما هو المتحصل مما ذكرناه، و هو انه ان كان معذورا في تقليد غير الواجد فان كانت اعماله مطابقة للواقع، أو لفتوى من تكون وظيفته المراجعة إليه فعلا فتصح اعماله و لا شي ء عليه، بل و كذا لو لم يكن معذورا يكتفى بإعماله في الصورتين و لا شي ء عليه.

و اما في صورة عدم المطابقة فتكون اعماله باطلة إلا إذا قام الدليل على الاجتزاء بما اتى به كحديث لا تعاد في باب الصلاة حيث دل قول ابى جعفر عليه السّلام كما في صحيح زرارة لا تعاد الصلاء الأمن خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع و السجود «1»

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب القبلة ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 167

..........

______________________________

على عدم إعادة الصلاة إذا أخل بغير الخمسة المستثناة، إذا لم نقل باختصاصه بصورتي السهو و النسيان، فان كان تقليده لغير الواجد مستلزما لترك جزء أو شرط

غير الخمسة المستثناة فلا يحتاج إلى الإعادة في الوقت و القضاء خارجه، و ان كان الإخلال بالخمسة المستثناة فيحب الإعادة أو القضاء على تفصيل مقرر في محله.

و اما ان قلنا اختصاص لا تعاد بصورتي السهو و النسيان كما ينسب الى المشهور فتجب الإعادة أو القضاء في المفروض.

تفصيله يطلب من غير المقام، و سنتعرض بمناسبة تعرض الماتن (قدس) لمسائل ترتبط باعمال صدرت من المكلف لاعن تقليد، أو لاعن تقليد صحيح، أو عند تبدل التقليد، أو تبدل الرأي و الاجتهاد الى غير ذلك- بعض ماله نفع للمقام فارتقب.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 169

[مسئلة 26- إذا قلد من يحرم البقاء على تقليد الميت فمات]

مسئلة 26- إذا قلد من يحرم البقاء على تقليد الميت فمات و قلد من يجوز البقاء (1) له ان يبقى على تقليد الأول في جميع المسائل (2) إلا مسئلة حرمة البقاء.

______________________________

(1) بالمعنى الأعم الشامل لوجوب البقاء إذا كان الميت اعلم، و وجوب العدول إذا كان الحي اعلم.

(2) بل في جميع المسائل التي عمل بها كما تقدم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 170

..........

______________________________

أقول: تقدم ان المراد بجواز البقاء: الجواز بالمعنى الأعم الشامل للوجوب فان قلنا بوجوب تقليد الأعلم و كان الميت اعلم يجب البقاء، و ان كان الحي اعلم يجب العدول و الا يكون مخيرا.

و قد تقدم أيضا انه بطرو الموت على المجتهد يسقط آرائه عن درجة الاعتبار و لا يتكون صالحة للاحتجاج من غير فرق في ذلك بالنسبة إلى سائر المسائل التي افتى بها أو خصوص مسئلة حرمة البقاء فلا بد للعامي بعد موت مقلده ان يرجع الى الحي الواجد للشرائط فان افتى بجواز البقاء على تقليد الميت فيصح البقاء في جميع المسائل

غير مسئلة حرمة البقاء.

اما صحة البقاء في سائر المسائل فواضحة، و اما عدم الصحة بالنسبة إلى مسئلة حرمة البقاء فلاستحالة شمول فتوى الحي بجواز البقاء لمسئلة حرمة البقاء.

و ذلك لان البقاء على تقليد اما يكون محرما في الشريعة، أو يكون جائزا، و لا ثالث لهما.

فان كان محرما في الشريعة فتكون فتوى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت غير حجة فكيف يمكن إثبات حجية فتوى الميت بها، و ان كان البقاء جائزا فيها ففتوى الميت بحرمة البقاء غير حجة.

و المتحصل من ذلك ان فتوى الميت بحرمة البقاء لا يحتمل ان تكون حجة في الواقع حتى يثبت حجيتها بفتوى الحي فلا يعقل شمول فتوى الحي بالجواز بفتوى الميت بالحرمة و مع عدم شمول فتوى الحي بالجواز لمسئلة حرمة البقاء يتعين ان تكون شاملة لسائر المسائل الفرعية من دون تزاحم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 171

[مسئلة 27- يجب على المكلف العلم باجزاء العبادات]

مسئلة 27- يجب على المكلف العلم باجزاء العبادات و شرائطها، و موانعها، و مقدماتها، و لو لم يعلمها لكن علم إجمالا ان عمله واجد لجميع الاجزاء و الشرائط، و فاقد للموانع صح (1) و ان لم يعلمها تفصيلا.

______________________________

(1) يعني في مقام الإحراز و لا ثالث لهما فلا ينافي هذا ما تقدم من الصحة بمجرد تطابق العمل للواقع، أو الطريق المتعين عليه أخذه و ان لم يعلم ذلك تفصيلا أو إجمالا فما علق في المقام خارج عن مفروض المتن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 172

..........

______________________________

أقول: تقدم في أوائل الجزء الأول من الكتاب: ان لنا علما إجماليا بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة، و تلك الأحكام منجزة علينا، و مقتضى ذلك لزوم تحصيل

العلم بالفراغ منها، و لا يكاد يحصل ذلك الا بالعلم بإجزاء العبادة، و غيرها من الأمور المعتبرة فيها و لولاه لم يحصل له الأمن من احتمال العقاب، و العقل يلزمه بذلك الوجوب: اما لدفع الضرر المحتمل، أو وجوب شكر المنعم حسبما فصلناه فلاحظ و ليعلم انه بعد تمامية البيان من قبل الشريعة و استقلال العقل بلزوم تعلم اجزاء الواجب من باب المقدمة لامتثال التكليف المنجز، و عدم جريان البرائه العقلية أو النقلية لا يكاد يفرق العقل بين كون التعلم مقدمة علمية لامتثال التكليف المنجز، أو مقدمة وجودية له بحيث لا يمكنه الإتيان بالواجب الا بالتعلم، و ذلك كما في الجاهل باللغة العربية فإنه لا يتمكن من الإتيان بالقراءة الا بتعلم اللغة، فالتعلم عند ذلك من المقدمات الوجودية.

و ذلك اما إذا كان التعلم و المعرفة مقدمة علمية لامتثال التكليف فلانة لا إشكال في حكم العقل بلزوم التعلم بعد صيرورة الواجب مطلقا بشرائطه العامة و الخاصة و ذلك واضح.

بل يجب ذلك قبل تحقق الشرط أو الوقت إذا كان المكلف عالما من نفسه عدم التمكن من التعلم بعد الوقت أو بعد تحقق الشرط.

نعم إذا كان بحيث يمكنه التعلم بعد الوقت أو بعد تحقق الشرط فلا يجب التعلم قبلهما، و من هنا لا يتعلم بعض الحجاج واجباتهم في الحج قبل الاستطاعة بل قبل الاشتغال بالمناسك لإمكان تعلمهم حال إتيانهم المناسك فيحصل لهم بذلك العلم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 173

..........

______________________________

بالامتثال.

و حيث ان معرفة الواجب على نحوين فتارة يكون بالعرفان التفصيلي، و اخرى بالعرفان الإجمالي، و غاية ما يقتضيه حكم العقل هو لزوم المعرفة بالأعم من التفصيلي و الإجمالي، و قد تقدم صحة الامتثال

الإجمالي مع التمكن من التفصيلي منه خلافا لمن أبطل عمل تاركي طريقي الاجتهاد و التقليد، و قلنا انه لا يعتبر في العبادة سوى الإتيان بالعمل مضافا اليه تعالى و واضح ان هذا المعنى متحقق في موارد العمل بالاحتياط.

فاذا فرض ان المكلف لو لم يحصل له العلم بإجزاء العبادة و شرائطها يتمكن من الاحتياط و الإتيان بالعمل واجدا لجميع اجزائه و شرائطه و فاقدا لموانعه على وجه يقطع بحصول الامتثال فيصح الاكتفاء بذلك و الى ما ما ذكرنا أشار الماتن (قدس) بقوله (و لو لم يعلمها تفصيلا).

و اما إذا لم يتمكن من الاحتياط اما لضيق الوقت أو لدوران الواجب بين أمرين لا يمكن جمعها في زمان واحد- كما إذا علم إجمالا بوجوب الوقوف في زمان معين في العرفات أو المشعر الحرام- فيجب عليه التعلم قبل وقت الواجب.

هذا إذا كان التعلم و المعرفة مقدمة علمية لامتثال التكاليف.

و كذا إذا كان مقدمة وجودية لذات الواجب كما أشرنا في مسئلة تعلم القراءة فإنه إذا لم يتمكن من الإتيان بالقرائه الا بتعلم اللغة فلا إشكال في وجوبه بعد دخول وقت الصلاة الواجبة عقلا بل شرعا على القول بوجوب المقدمة.

و اما قبل وقت الواجب فان علم بعدم التمكن من التعلم بعد الوقت فيجب قبله أيضا لئلا يستلزم ترك الواجب في وقته مع ان أدلة وجوب التعلم مطلقة غير مشروطة بدخول وقت الواجب أو تحقق شرطه و يستحق العقاب بتركه من غير فرق في ذلك بين كون التعلم واجبا نفسيا أو طريقيا.

اما على الأول: فواضح ضرورة ان العقل يحكم بلزوم التحفظ على التكليف

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 174

..........

______________________________

الفعلي فيجب التعلم نفسا و ان لم تجب

الصلاة بعد.

و اما على الثاني: فكذلك لان العقل كما يستقل بلزوم التحفظ على التكليف الفعلي فكذلك يستقل بلزوم التحفظ على ملاك الحكم الملزم في وقته لان تفويت ملاك الحكم كتفويت التكليف قبيح لدى حكم العقل و موجب لاستحقاق العقاب لما ذكرنا غير مرة ان ملاك الحكم روحه، و ما به قوامه فمعه لا يسوغ له ترك التعلم قبل الوقت أو قبل تحقق الشرط.

و بالجملة مقتضى إطلاق أدلة وجوب التعلم وجوبه سواء كان بعد فعلية الواجب و تحقق شرطه أو قبل ذلك و لكن كان بحيث يستند ترك الواجب في ظرفه الى ترك التعلم من غير فرق في ذلك بين كون التعلم واجبا نفسيا، أو طريقيا.

و قد تقدم بعض الكلام فيما هو الظاهر من الأدلة في وجوب التعلم فلاحظ هذا كله إذا علم المكلف ابتلائه بالواجب بعد فعليته و تحقق شرطه.

و اما من احتمل الابتلاء بذلك قبل ذلك فيجب عليه التعلم، أو يجري في حقه البراءة بقسميها أو خصوص العقلي منها؟ وجوه.

و الأوجه: الوجوب و عدم جريان البراءة بقسميه إذا كان الابتلاء احتمالا عقلائيا و ذلك لما أفيد بأنه لا يكاد يفرق العقل بين صورة العلم بالابتلاء في المستقبل أو احتماله لوحدة الملاك في الجميع و هو وجوب دفع الضرر المحتمل مع عدم الأمن من العقاب على مخالفة التكليف المنجز في ظرفه بتركه التعلم ان لم نقل بعقاب المتجزى و الا فمعاقب على كل تقدير.

و بالجملة كلما وصلت النوبة إلى وظيفة العبد بعد تمامية وظيفة المولى لا سبيل الى البراءة العقلية و في المقام تم نظام الوظيفة من قبل المولى ببيان أحكامه و جعلها في مورد لو فحص المكلف عنها لظفر بها فاذا لا بد للعبد

من القيام بوظيفته في الخروج عن عهدة التكاليف المتوجهة اليه، و ذلك بالفحص عنها في مظانه فلا مجال للبراءة العقلية مع احتمال الابتلاء في المستقبل، و كذا البراءة الشرعية فإن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 175

..........

______________________________

مقتضى إطلاق قوله عليه السّلام: رفع ما لا يعلمون شموله للمقام الا انه لا يكاد يقاوم مع ما دل على وجوب التعلم، و استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي إذا كانت مستندة الى ترك التعلم.

فتحصل: انه فيما إذا احتمل المكلف احتمالا عقلائيا ابتلائه بحكم أو أحكام في المستقبل لا سبيل إلى شي ء من البرائتين، فمقتضى إطلاق الأدلة وجوب التعلم مطلقا بعد دخول الوقت و تحقق الشرط أو قبلهما سواء علم بابتلائه بالواجب في المستقبل أم لا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 177

[مسئلة 28-: يجب تعلم مسائل الشك و السهو بالمقدار الذى هو محل الابتلاء غالبا]

اشارة

مسئلة 28-: يجب تعلم مسائل الشك و السهو بالمقدار الذي هو محل الابتلاء غالبا (1) نعم لو اطمأن من نفسه انه لا يبتلى بالشك و السهو صح عمله (2) و ان لم يحصل العلم بأحكامها.

______________________________

(1) بل يجب تعلم مسائلها و ان لم يكن ابتلائه بها غالبا.

(2) بل يصح و لو لم يطمئن بعدم الابتلاء بهما فاتفق عدم الابتلاء، أو ابتلى فعمل على أحد المحتملات رجاء فاتفق مطابقته للوظيفة المقررة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 178

حكم تعلم مسائل الشك و السهو المبتلى بها

______________________________

أقول: حكى عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) في رسالته العملية: انه حكم بفسق تارك تعلم مسائل الشك و السهو فيما يبتلى به عامة المكلفين.

و لعل الوجه في حكمه بفسقه اما لكون التعلم واجبا نفسيا عنده- و قد نسب اليه (قدس): انه يرى ان التعلم واجب نفسي تهيئي- أو لحرمة التجري بداهة ان تارك التعلم لا يطمأن من نفسه الخروج عن عهدة التكليف بالصلاة مثلا مع مالها من أحكام الشك و السهو مع العلم إجمالا بابتلائه بها عادة.

فمن ترك التعلم يكون متجريا و متهتكا لأمر المولى بترك تعلمه، و ان لم يطرء عليه الشك و السهو لما تقرر في محله ان من أقدم على المعصية يحكم بفسقه و ان لم يصادف الواقع.

و لكن أشرنا فيما تقدم ان وجوب التعلم طريقي لا يترتب على مخالفته غير ما يترتب على نفس التكاليف المقررة، و قد عرفت في المسئلة المتقدمة ما هو الملاك، في تعلم مسائل الشك و السهو و ان حكم العقل بدفع الضرر المحتمل أو شكر المنعم يقضى بالخروج عن عهدة التكليف المتعلق بالصلاة.

و لا يخفى ان وجوب التعلم بعنوان المقدمية لإحراز صحة الصلاة- على القول

بحرمة قطع الصلاة عمدا كما هو المعروف بينهم- واضح لان الخروج عن التكليف بها يتوقف على تعلم مسائل الشك و السهو لعدم تمكنه من قطع الصلاة و استينافها، و لا يجوز له البقاء على أحد طرفي الشك و إتمامها مع الإعادة لاحتمال ان يكون المتعين في حقه هو البناء على الطرف الأخر و قد قطعها بالبناء على عكس ذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 179

..........

______________________________

و بالجملة يحتمل ان يكون ما اتى به ناقصا عن الواجب، أو زائدا عليه و يكون مع الإتيان به قد نقص عن صلاته أو زاد فيها متعمدا و هو موجب للبطلان.

و اما على جواز قطع الصلاة كما ذهب اليه بعض فمقتضى ما تقدم من صحة الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي عدم وجوب تعلم مسائل الشك و السهو، ضرورة أنه يمكنه الامتثال الإجمالي، و الاحتياط بالبناء على أحد طرفي الشك ثم يأتي بها على الطرف الأخر، أو يقطع صلاته و يستأنفها من الابتداء.

نعم في بعض الموارد يتعين عليه التعلم و ذلك فيما إذا لم يمكنه الاحتياط لضيق الوقت و غيره.

ثم ان وجه تقييد الماتن (قدس) وجوب التعلم بالمقدار الذي هو محل الابتلاء غالبا لعله لاستصحاب عدم الابتلاء بها في الأزمنة المستقبلة فينتج عدم وجوب تعلم المسائل المذكورة عليه.

و لكن: يمكن ان يقال بوجوب تعلم المسائل و لو لم نقل بجريان الاستصحاب المذكور بلحاظ اختصاص جريان الاستصحاب في الأمور الماضية، لدلالة الأخبار الدالة على وجوب التعلم- وجوبا طريقيا- ففي كل مورد استند ترك الواجب الى ترك التعلم فيستحق العقاب بذلك على ترك الواجب فلا مناص من الحكم بوجوب تعلم مسائل الشك و السهو حتى مع احتمال

الابتلاء.

فظهران تقييد وجوب التعلم بصورة الابتلاء كما في المتن كأنه غير وجيه.

فتحصل: انه يجب تعلم مسائل الشك و السهو اما لدفع الضرر المحتمل و ذلك في موارد العلم الإجمالي بالابتلاء، أو لإطلاقات أدلة وجوب تعلم مسائلهما لوجوبه في صورة العلم الإجمالي بالابتلاء أو احتمال الابتلاء.

حكم طرو ما لم يبتلى بالشك و السهو

بقي الكلام في قوله (قدس): نعم لو اطمأن من نفسه انه لا يبتلى بالشك، و السهو صح عمله و ان لم يحصل العلم بأحكامها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 180

..........

______________________________

و لا يخفى ما فيه لان وجوب التعلم و استحقاق العقاب على ترك الواجب في أدائه مستندا الى ترك التعلم لا يستلزم ان تكون صحة العمل المأتي به مشروطه بصورة الاطمئنان ضرورة أنه في صورة عدم الاطمئنان إذا اتى بالعمل فاتفق عدم الابتلاء بمسائل الشك و السهو إذا ابتلى بهما فعمل على أحد الاحتمالات فاتفق كونه مطابقا للواقع، أو للحجة يكون صحيحا لما عرفت من الاجتزاء عقلا بالعمل المعلوم كونه مطابقا للواقع أو قامت الحجة على ذلك.

فتحصل: أن الاطمئنان بعدم الابتلاء لا اثر له في الصحة كما تقدم نعم له أثر في نفى العقاب فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 181

[مسئلة 29- كما يجب التقليد في الواجبات و المحرمات]

اشارة

مسئلة 29- كما يجب التقليد في الواجبات و المحرمات (1) يجب في المستحبات و المكروهات و المباحات (2) بل يجب تعلم حكم كل فعل (3) يصدر منه سواء كان من العبادات، أو المعاملات (4) أو العاديات.

______________________________

(1) في غير الضروريات، و اليقينيات منهما.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 181

(2) يعني في الحكم بكونه مستحبا، أو مكروها، أو مباحا فالادعية و الأوراد المنقولة في كتب الأدعية المتداولة، إذا لم يعلم باستحبابها فلا بد لغير المجتهد التقليد في الحكم بالاستحباب، و الا يلزم التشريع المحرم.

نعم لا بأس بالإتيان بها برجاء

المطلوبية.

(3) وجوب تقليد حكم ما يصدر منه بعد العلم بعدم وجوبه، و حرمته غير ظاهر كما سيجي ء منه (قدس) في المسئلة الاتية.

(4) بالمعنى الشامل للسياسيات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 182

لزوم التقليد في كل فعل يصدر من المكلف

______________________________

أقول: لا بد للعامي و من لم يبلغ رتبة الاجتهاد في غير الضروريات و اليقينيات في الحكم بوجوب شي ء أو حرمته أو استحبابه، أو كراهته، أو إباحته من الاستناد إلى الحجة و هي ليست الا فتوى مقلده و مرجع فتواه و الا يكون تخرصا بلغيب بل يكون تشريعا محرما.

و مقتضى العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة هو لزوم الاستناد إلى الحجة في فعل ما يحتمل حرمته و ترك ما يحتمل وجوبه دفعا للضرر المحتمل فلا يجوز له العمل في الصورة الاولى و لا الترك في الصورة الثانية إلا بالتقليد و الاستناد الى فتوى من يكون حجة في حقه.

و كذا يجب عليه الاستناد إلى الحجة و فتوى مقلده في ترك ما يحتمل شرطية شي ء في المعاملة أو فعل ما يحتمل مانعيته.

فاذا علم بعدم حكم إلزامي في البين كما إذا دار أمر فعل بين الاستحباب و و الإباحة، و الكراهة و لم يحتمل الوجوب أو الحرمة فلا يجب التقليد الأمن جهة التشريع و بالجملة إذا احتمل ان يكون ما هو المستحب واجبا واقعا، أو ما هو المكروه أو المباح حراما كذلك فلا بد له من تحصيل المؤمن على ترك ما يحتمل وجوبه أو ارتكاب ما يحتمل حرمته، و واضح انه لا مؤمن لمن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد عند ذلك الا بالتقليد.

و اما إذا جزم بجواز فعل و ان لم يعلم كونه مباحا أو مستحبا، أو مكروها

الدر النضيد في الاجتهاد

و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 183

..........

______________________________

فلا يلزمه التقليد إلا إذا أراد الإتيان به بعنوان الاستحباب، أو الكراهة، أو الإباحة فيجب عليه التقليد و الا يكون الإتيان به بذلك العنوان من التشريع المحرم.

نعم إذا احتمل الوجوب، و حكما من الأحكام غير الإلزامية- كما إذا احتمل استحبابه، أو إباحته، أو كراهته- مع القطع بعدم الحرمة فحيث انه يمكنه الاحتياط و إتيان العمل برجاء الوجوب فلا يتعين عليه التقليد في مقام العمل.

كما انه لو احتمل الحرمة و شيئا من الأحكام الثلاثة مع القطع بعدم الوجوب فحيث انه يتمكن من الاحتياط لا يتعين عليه التقليد في مقام العمل.

نعم فيما إذا احتمل وجوب شي ء أو حرمته، أو إباحته، أو هما و كراهته، أو استحبابه فحيث لا يكون المورد قابلًا للاحتياط يتعين عليه التقليد.

فعلى هذا الأدعية و الأوراد المنقولة في كتب الأدعية المتداولة بين العباد ان علم كونها مستحبة يجوز ان يأتي بها بعنوان كونها مستحبة مستندة اليه تعالى و الا فلا بد من التقليد فيها ممن يصح تقليده و الا يكون من التشريع المحرم نعم لا بأس بالإتيان بها رجاء كما لا يخفى تدبر و اغتنم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 185

[مسئلة 30- إذا علم ان الشي ء الفلاني ليس حراما]

مسئلة 30- إذا علم ان الشي ء الفلاني ليس حراما و لم يعلم انه واجب أو مباح، أو مستحب، أو مكروه يجوز له ان يأتي به لاحتمال كونه مطلوبا و رجاء الثواب، و إذا علم انه ليس بواجب و لم يعلم انه حرام أو مكروه أو مباح له ان يتركها لاحتمال كونه مبغوضا

[مسئلة 31- إذا تبدل رأى المجتهد]

اشارة

مسئلة 31- إذا تبدل رأى المجتهد لا يجوز للمقلد البناء على رأيه الأول. (1)

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 186

..........

______________________________

(1) أقول: يظهر الحال في مسئلة الثلاثين مما ذكرناه في المسئلة المتقدمة عليها فلا نحتاج إلى الإعادة أو ما يقرب منها فلاحظ.

وظيفة العامي بعد تبدل رأى مجتهده

و اما ما يتعلق بمسئلة 31 فنقول الكلام في تبدل رأى المجتهد تارة بالنسبة إلى وظيفة العامي بعد تبدل رأى مجتهده بالنسبة الى ما اتى به على رأيه السابق من حيث الإعادة أو القضاء الى غير ذلك.

و اخرى بالنسبة إلى وظيفته بالنسبة الى ما يأتي به في مستقبل الأمر.

سيأتي الكلام في الجهة الاولى في ذيل المسئلة الثالثة و الخمسين.

و اما وظيفته في الجهة الأخرى فواضح انه لا يجوز البقاء على رأيه السابق بعد انكشاف خطأ رأيه الأول بالرأي الثاني على خلافه فلا تشمله أدلة الحجية بقاءا.

و بالجملة بعد عدم بقاء الرأي السابق و انكشاف الخلاف لا يصلح للاحتجاج لوضوح اختصاص دليل رجوع الجاهل الى العالم بصورة عدم اعترافه بخطائه للواقع.

و بعبارة أوضح بعد تبدل رأى المجتهد يسقط رأيه عن الحجية و لا يصلح للاستناد اليه لا لنفسه و لا لمقلده، و رأيه السابق و ان لم يثبت خطائه للواقع للمقلد كما لم يثبت لديه موافقة رأيه اللاحق له الا انه لا يرى حجية لرأيه السابق و هو واضح.

فاذا يكون رأيه السابق المتبدل، نظير ما إذا أخبر العادل بخبر ثم بعد ذلك قال انى أخطأت في إخباري فكما لا شبهة في عدم شمول دليل حجية خبر الواحد لخبره فكذلك لا تشمل أدلة حجية الفتوى لفتواه السابقة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 187

[مسئلة 32- إذا عدل المجتهد عن الفتوى الى التوقف و التردد]

اشارة

مسئلة 32- إذا عدل المجتهد عن الفتوى الى التوقف و التردد يجب على المقلد الاحتياط، و العدول إلى الأعلم (1) بعد ذلك المجتهد.

______________________________

(1) و قد أشرنا في المسئلة الرابعة عشر تعين الاحتياط في بعض صور المسئلة كما انه يظهر مما علقنا على المسئلة الثانية عشر عدم تعين المراجعة إلى

الأعلم بعد ذلك المجتهد إلا في بعض الموارد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 188

وظيفة المقلد عند تبدل رأى مجتهده الى التوقف

______________________________

أقول: قد أشرنا في ذيل المسئلة الرابعة عشر تعين الاحتياط في بعض صور المسئلة، كما انه يظهر مما علقناه على المسئلة الثانية عشر عدم تعين المراجعة إلى الأعلم عند ذلك إلا في بعض الموارد.

و لا يخفى ان هذه المسئلة مع المسئلة المتقدمة ترتضعان من ثدي واحد، لاعتراف المجتهد بخطاء فتواه السابقة، و انما تفترقان في انه في المسئلة السابقة بعد تبدل رأيه يعترف بمخالفة رأيه السابق للواقع بالفتوى الثانية، و اما في هذه المسئلة و ان كان يعترف بخطاء المستند الا انه لا يعترف بمخالفة الواقع لفرض توقفه في المسئلة و ذلك واضح، فيظهر حال هذه المسئلة مما ذكرناه في المسئلة المتقدمة فلاحظ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 189

[مسئلة 33- إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم]

اشارة

مسئلة 33- إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلد تقليد أيهما شاء (1) و يجوز التبعيض في المسائل (2) و إذا كان أحدهما أرجح من الأخر (3) في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره.

______________________________

(1) تقدم الكلام فيه في المسئلة الثالثة عشر.

(2) و لا يخفى ان التبعيض بعد القول بالتخيير انما هو إذا لم يستلزم التبعيض في العمل الواحد، أو العملين المرتبطين بطلان عمله في نظر كلا المجتهدين، و الا فلا يجوز، كما في مثل ما إذا أفتى أحدهما بوجوب السورة في الصلاة، و كفاية التسبيحات الأربعة مرة واحدة، و افتى الأخر بعدم وجوب السورة، و اعتبار التسبيحات ثلاث مرات، فصلى المقلد بلا سورة مع الاكتفاء بالتسبيحات مرة واحدة فهذه الصلاة باطلة في نظر كلا المجتهدين.

(3) مر الكلام فيه في ذيل المسئلة الثالثة عشر، و لا يخفى ان ما اختاره (قدس) هنا و ما افاده هناك

نحو تخالف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 190

حكم صور تقليد المجتهدين المتساويين في الفضيلة

اشارة

______________________________

أقول: تقدم شقص وافر حول المسئلة ذيل المسئلة الثالثة عشر لا بأس بالإشارة هنا الى المتحصل منه فنقول: المجتهدان المتساويان في الفضيلة اما يتوافقان في الفتوى أو يختلفان فيها سواء وافقت أحدهما للاحتياط المطلق دون الأخرى أو كلتاهما موافقتان للاحتياط أو مخالفتان له.

ثم ان التبعيض في المسائل تارة يكون في أول الأمر- بمعنى انه بعد ما كان مخيرا في تقليد أيهما شاء قبل ان يقلد واحدا منهما- بين ان يكون مقلدا لواحد منهما في العبادات و للآخر في المعاملات، و اخرى عند الأخذ بآراء أحدهما في العبادات و العمل بها لم يكن المعاملات مثلا محل ابتلائه ثم صارت محل ابتلائه، و ثالثة في المسئلة الواحدة- بأن قلد أحدهما فيها تارة و قلد الأخر أخرى- أو في المسئلتين المرتبطتين.

ثم انه على القول بالتخيير في المتساويين في الفضيلة ففي صورة الرجحان لأحدهما هل يتعين الأخذ بفتواه، أولا لكنه حسن، أو يفصل بين المرجحات فكل ما يكون مثل الأورعية في الفتوى يتعين الأخذ به، و اما غيره فالأخذ به حسن فالبحث يقع في جهات.

الجهة الأولى حكم صورة توافق المجتهدين في الفتوى

يجوز تقليدهما معا كما يجوز تقليد أحدهما بعينه- اى يجوز الاستناد إليهما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 191

..........

______________________________

كما يجوز الاستناد إلى أحدهما- سواء كانت فتواهما موافقتين للاحتياط أو مخالفتين له- لإطلاق الأدلة و ذلك واضح، و في الحقيقة تكون فتواهما كخبرين موافقي المضمون في مورد فكما يصح الاستناد إلى أحدهما يصح الاستناد إليهما.

و اما إذا اختلفا من حيث الفتوى فحيث قلنا ان الأصل الاولى و القاعدة الأولية في تعارض الخبرين هو الحكم بتساقطهما و لكن بملاحظة اخبار العلاجية و التسالم بين الأصحاب هو الحكم بالتخيير بين المتعارضين و

بعد إلحاق الفتوى بالخبر للتسالم المذكور يثبت التخيير في الأخذ بأيهما شاء، و لم يفرقوا في التخيير في ذلك بين موافقة أحدهما للاحتياط المطلق دون الأخر أو عدمها.

و ان شئت قلت كما أفيد: لا مجال لإنكار شمول إطلاقات أدلة التقليد للمتعارضين اقتضاء و الا لم يبق تحت إطلاقاتها الا أفراد نادرة لا ينبغي ان تكون هذه الإطلاقات مسوقة لها، فيكون شمول إطلاقات أدلة التقليد لهما نظير إطلاق أدلة حجية خبر الواحد، فان الخبرين المتعارضين مشمولان في حد أنفسهما لأدلة حجية الخبر اقتضاء لا فعلا و لكن يرفع تعارضهما المانع عن فعلية الشمول بالأخبار العلاجية فكذلك هنا إطلاق أدلة حجية الفتوى يشمل الفتوايين المتعارضتين اقتضاء و بضميمة الإجماع و التسالم على التخيير يحكم بالحجة الفعلية لهما على نحو التخيير.

الجهة الثانية حكم التبعيض في المسائل في الأخذ بأيهما شاء

لا يخفى انه عند عدم العلم بمخالفة المجتهدين في الفتوى يجوز للمقلد التبعيض في المسائل بأن يقلد أحدهما في مسئلة و الأخر في مسئلة اخرى فيستند في مسئلة بفتوى مجتهد، و في أخرى بفتوى مجتهد أخر، بل يجوز التبعيض في التقليد في اجزاء عمل واحد، و شرائطه- بأن يقلد أحدهما في عدم وجوب السورة في الصلاة مثلا، و يقلد الأخر في الاكتفاء بالتسبيحات الأربعة مرة واحدة- و هكذا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 192

..........

______________________________

و السر في ذلك هو ان فتوى كلا المجتهدين حجة معتبرة فله ان يستند في اعماله إلى أيهما شاء.

و اما عند العلم بمخالفتهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا فيما يعم به البلوى فبعد ما عرفت شمول إطلاق دليل التخيير للفتويين المتعارضتين فان كان التبعيض في المسائل في أول الأمر بمعنى انه بعد ما كان مخيرا في تقليد أيهما شاء

فقلد أحدهما في باب العبادات و في عرضه قلد الأخر في باب المعاملات فالظاهر انه لا مانع منه إذا المفروض حجية رأيهما له في عرض واحد و اما إذا كان التبعيض بعد الأخذ بفتوى أحدهما في العبادات مثلا و العمل بها و لم تكن المعاملات عند ذلك محل ابتلائه، ثم صارت محل ابتلائه فربما يشكل التبعيض في مثل ذلك بتوهم ان جواز التبعيض فيه مبني على كون التخيير استمراريا- و هو في حيز المنع- لأنه وظيفة من ليس له حجة و من كان متحيرا فبعد الأخذ بفتوى أحدهما خرج عن التحير فلا معنى لدعوى التخيير الاستمراري، و لا مجال لاستصحاب التخيير أيضا لانتفاء موضوعه.

و بالجملة كما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) موضوع التخيير في الخبرين المتعارضين هو المتحير و لا تحير بعد اختيار أحد الخبرين فلا استصحاب لارتفاع موضوعه.

و لكن فيه: ان مقتضى القاعدة بعد شمول إطلاق دليل التخيير لصورة العلم بالمخالفة هو جواز التبعيض في الفرض لان موضوع التخيير هو من قامت عنده الخبران أو الفتويان المتعارضتان و هو بعد الاستناد بأحدهما باق.

و بالجملة مقتضى إطلاق دليل التخيير من حيث الزمان استمرارية التخيير فإنه كما يقتضي ثبوت التخيير في الزمان الأول يقتضي التخيير في الزمان الثاني بلا فرق بين الزمانين.

و لقد أجاد المحقق الخراساني (قدس) حيث قال: «ان قضية الاستصحاب

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 193

..........

______________________________

لو لم نقل بأنه قضية الإطلاقات أيضا كون التخيير استمراريا.

و توهم ان المتحير كان محكوما بالتخيير، و لا تحير له بعد الاختيار، فلا يكون الإطلاق و لا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار لاختلاف الموضوع فيهما فاسد فان التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله و

بمعنى أخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا كما لا يخفى «1».

و قال العلامة المشكيني (ره) في التعليقة بأنه لو كان المراد من المتحير هو من قام عنده المتعارضان فهو محفوظ، و ان كان المراد المتحير في الحكم الواقعي ففيه:

أولا: منع كونه موضوعا في أدلة التخيير.

و ثانيا: انه باق بعد الاختيار أيضا و ان كان المتحير في الوظيفة الظاهرية ففيه.

أولا: منع كونه موضوعا.

و ثانيا: منع كونه قادحا في الاستصحاب بعد كون مبناه على العرف لأعلى لسان الدليل، و لأعلى الدقة و انما يقدح في الإطلاق.

و ثالثا: انه موجود بالنسبة إلى الواقعة البعدية كما لا يخفى» «2».

و اما التبعيض في مسئلة واحدة أو في مسئلتين مرتبطتين فاذا استلزم بطلان عمله في نظر كلا المجتهدين فلا يجوز ذلك كما إذا أفتى أحدهما بوجوب السورة في الصلاة و كفاية التسبيحات الأربع مرة واحدة في الركعتين الأخيرتين و افتى الأخر بعكس ذلك فأفتى بعدم وجوب السورة و اعتبار التسبيحات ثلاث مرات فصلى المقلد بلا سورة مع الاكتفاء بالمرة الواحدة من التسبيحات فهذه الصلاة باطلة في نظر كلا المجتهدين.

و بالجملة كما أفيد: «لا يتمكن من التبعيض في التقليد بالنسبة إلى مركب واحد بان يقلد أحدهما في بعض اجزائه أو شرائطه و يقلد الأخر في بعض أخر كما في

______________________________

(1) كفاية الأصول و هامشها ج 2/ 397

(2) كفاية الأصول و هامشها ج 2/ 397

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 194

..........

______________________________

المثال المفروض.

و الوجه في ذلك ان صحة كل جزء من الاجزاء الارتباطية مقيدة بما إذا اتى بالجزء الأخر صحيحا فمع بطلان جزء من الاجزاء الارتباطية تبطل الاجزاء بأسرها.

و ان شئت قلت كما أفيد: ان صحة الارتباطية

ارتباطية فاذا اتى بالصلاة فاقدة للسورة مع الاكتفاء بالمرة الواحدة في التسبيحات الأربع و احتمل بعد ذلك بطلان ما اتى به لعلمه بأنه خالف أحد المجتهدين في عدم إتيانه بالسورة كما خالف الأخر في اكتفائه بالمرة الواحدة في التسبيحات فلا محالة يشك في صحة صلاته و فسادها فلا مناص من ان يحرز صحتها و يستند في عدم إعادتها إلى الحجة المعتبرة لان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإعادة و بقاء ذمته مشتغلة بالمأموربه، و لا مجتهد يفتي بصحتها لبطلانها عند كليهما و ان كان مختلفين في مستند الحكم بالبطلان لاستناده عند أحدهما إلى ترك السورة متعمدا و يراه الأخر مستندا الى تركه التسبيحات ثلاثا و مع بطلانها عند كلا المجتهدين و عدم افتائهما بصحة الصلاة لا بد للمكلف من إعادتها و هو معنى بطلانها» «1».

الجهة الثالثة في انه على القول بالتخيير في المتساويين في الفضيلة إذا كان لأحدهما مزية هل يتعين الأخذ بفتواه أم لا؟

قد تقدم عدم وجوب تقليد الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة في الفتوى بينه و بين غير الأعلم بل يجوز عند ذلك تقليد أيهما شاء فما ظنك في صورة تساويهما في الفضيلة.

و السر في ذلك هو ان بناء العقلاء غير المردوع عنه على مراجعة أحد المجتهدين

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 306

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 195

..........

______________________________

المتساويين في الفضيلة و لا يقدمون أحدهما على الأخر بمجرد كونه أورع بعد اشتمال كل منهما على ما هو الملاك في رجوع الجاهل الى العالم عندهم بل مقتضى الأدلة اللفظية من الآيات و الاخبار ذلك و لا موجب لتقييدها بالاورعية.

و اما مع العلم بمخالفتهما في الفتوى فاختلفت فتوى الماتن (قدس) في ذلك فأفتى في ذيل المسئلة الثالثة عشر باختيار الأورع، و قال هنا: ان الاولى بل الأحوط اختياره.

و قد تقدم ان

ما يستدل لترجيح الأورعية أمران:

أحدهما: مقبولة عمر بن حنظلة و غيرها من الروايات المشتملة على الترجيح بالاورعية في باب القضاء بدعوى دلالتها على ان اللازم عند المعارضة هو الأخذ بما يقوله أورعهما.

و الثاني: الإجماع على انه عند دوران الأمر في الحجة بين التعيين و التخيير يجب الأخذ بما يحتمل تعينه للقطع بحجيته و الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فاذا كان أحدهما أورع فحيث يحتمل تعيين الأخذ بفتواه فيجب الأخذ به.

و لكن نوقش الاستدلال بالمقبولة و غيرها بأنها واردة في مورد القضاء و المرجح في باب القضاء لا يلزم ان يكون مرجحا في باب التقليد، و التسرية نحو قياس بل قياس نفسه كما نوقش الاستدلال بالإجماع بعدم ثبوته.

و فيه انه يدفع الأول بما يدعى ان كل ما ثبت في باب القضاء يثبت في باب الفتوى فتدبر.

و يدفع الثاني بثبوت الإجماع في كل ما دار الامر بين التعيين و التخيير بل العقل يحكم بذلك.

فاذا كلما شككنا في مدخلية شي ء في الحجية فلا بد من دخالته فيها.

و لكن الذي يسهل الخطب أن الأورعية ليست كذلك لأنه لا مدخلية لها في حجية الفتوى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 196

..........

______________________________

نعم الأورعية إذا كانت من حيث الفتوى فلا بد من الحكم به فالأقوى التفصيل بين الأورعية حيث الفتوى و بين الأورعية في مقام العمل.

الا ان يقال ان الأورعية في مقام العمل غالبا ملازم للاورعية في مقام الفتوى فالأحوط الأخذ بما هو الأورع مطلقا و اللّه العالم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 197

[مسئلة 34- إذا قلد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم]

اشارة

مسئلة 34- إذا قلد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم ثم وجد اعلم من ذلك المجتهد فالأحوط

(1) العدول الى ذلك الأعلم، و ان قال الأول بعدم جوازه.

______________________________

(1) بل الأقوى مع العلم بمخالفتهما في الفتوى ان كانت فتوى الأعلم وجوب العدول، و ان كانت فتواه حرمة العدول فلا يجوز له العدول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 198

حكم من أفتى بحرمة العدول ثم وجد من هو اعلم منه

______________________________

أقول: تقدم منا شقص من الكلام حول مسئلة العدول ذيل مسئلتي العاشرة و الحادية عشر فلاحظ.

ربما يستظهر من المتن انه بصدد بيان ان المكلف إذا قلد مجتهدا يفتي بحرمة العدول مطلقا حتى إلى الأعلم في نفس مسئلة حرمة العدول، و تصويره على مبني الماتن (قدس) في معنى التقليد واضح حيث انه يرى ان التقليد عبارة عن الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين، و ان لم يعمل بعد فالالتزام بالعمل بما فيه يكفى عنه في تحقق التقليد فالمعنى ان من قلد و التزم بالعمل بفتاوى مجتهد يرى حرمة العدول مطلقا فهو مقلد إياه في نفس المسئلة.

و لكن الظاهر انه (قدس) بصدد بيان انه إذا كان مجتهد يفتي بحرمة العدول و لم يكن فيه تعرض للتقليد في نفس مسئلة حرمة العدول فالمكلف حيث كان وظيفته تقليد المجتهد الجامع للشرائط فكما يجب تقليده في سائر اعماله و شئونه فكذلك في نفس مسئلة حرمة العدول، و معنى تقليده فيها هو عدم جواز العدول عنه الى غيره ما دام يكون المجتهد واجدا للشرائط فاعتبار فتاويه و من جملتها- فتواه بحرمة العدول- رهين حجية فتواه.

و حيث ان الماتن (قدس) لم يفتي بلزوم تقليده الأعلم بل احتاط فيه و لا فرق في ذلك عنده حدوثا و بقاءا فبعد مضى برهة من الزمان من تقليد المجتهد الكذائي إذا وجد من هو اعلم منه فحيث ان وظيفته تقليد الأعلم و

لو استدامة فيحتاط بالمراجعة إلى الأعلم لعدم حجية فتوى الأول عند وجدان الأعلم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 199

..........

______________________________

و اما على ما استظهرناه من لزوم تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة فيجب عليه العدول إلى الأعلم.

و السر في ذلك كما أشرنا غير مرة هو استقلال عقل العامي في كل ما دار الأمر عنده بين التعيين و التخيير في مقام الاحتجاج بالأخذ بالتعيين فهذا الارتكاز منه يدعوه الى لزوم دق باب الأعلم و العمل بفتياه فما دام يرى العامي لزوم تقليد الأعلم ابتداء و استدامة يجب عليه العدول في المفروض، فكما لا يجوز تقليد غير الأعلم القائل بحرمة العدول ابتداء فكذلك لا يجوز البقاء عليه عند وجدان من هو اعلم منه.

نعم لو تردد العامي في لزوم تقليد الأعلم بقاءا- بان احتمل تعين البقاء- بحيث احتمل الفرق بين تقليد الأعلم ابتداء و العدول اليه من غير الأعلم فيدور الأمر عنده بين تعينين لأنه في المفروض كما يحتمل تعين الرجوع الى الأعلم يحتمل تعين البقاء على المجتهد الأول فالواجب عليه الاستناد الى كلا المجتهدين مع موافقتهما في الفتوى و العمل بأحوط القولين مع مخالفتهما فيها لاستقلال عقله بان في الاحتياط أمنا من العقاب على كل حال.

فتحصل ان الأقوى هو العدول إلى الأعلم مع العلم بالمخالفة و لكن المتردد لا مناص له الا الأخذ بأحوط القولين.

هذا إذا كانت فتوى الأعلم وجوب العدول.

و اما إذا كانت فتواه عدم جواز العدول فلا يجوز العدول من الأول بل يجب على العامي البقاء على تقليده بمقتضى فتوى الأعلم و لا بد من مراعاتها سعة و ضيقا فقد يعتبر الأعلم في حرمة العدول: العمل بالفتوى، و قد يعتبر فيها

التعلم، و قد يكتفى فيها مجرد الالتزام، فالعبرة بفتواه سعة و ضيقا لا بفتوى غير الأعلم.

هذا ما يقتضيه الاعتبار في المسئلة، و اما ما أفاده العلامة الحكيم (قدس) فغير ظاهر كما ان تشقيقه للمسئلة صورتين كأنه لا يثمر ثمرة و لا يغني من جوع فلاحظ «1»

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 63

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 201

[مسئلة 35- إذا قلد شخصا بتخيل انه زيد فبان عمرا]

اشارة

مسئلة 35- إذا قلد شخصا بتخيل انه زيد فبان عمرا، فان كانا متساويين في الفضيلة، و لم يكن على وجه التقيد صح (1) و الا فمشكل.

______________________________

(1) في صورة عدم العلم بالمخالفة و لو إجمالا، و ان كان على وجه التقييد، بل يصح في صورة العلم بالمخالفة، و لكن إذا كان عمله مطابقا لأحوط القولين، أو تبين كون المبان اعلم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 202

حكم من قلد شخصا ثم تبين خلافه

______________________________

أقول: اختلف انظار الأصحاب في المسئلة فمنهم من يرى صحة التقليد و ان كان على وجه التقييد، و منهم من فصل بين صورتي التقييد و عدمه فيرى انه في صورة التقييد كمن لم يقلد، و بعضهم كالماتن (قدس) أشكل في صورة التقييد، و منهم من يرى عدم الإشكال في عمله إذا ظهر اعلمية عمرو مطلقا و ان كان على وجه التقييد.

و يظهر من العلامة الحكيم (قدس) الإشكال في فرض التقييد ان كان التقليد هو العمل و قد كان المجتهدان متفقين في الفتوى نعم مع الاختلاف فيها، أو القول بان التقليد هو الالتزام يكون الفرض ظاهرا «1».

و لعل وجه الاشكال كما أفيد هو ان العمل عند ذلك يكون مطابقا لفتوى كليهما و لا اثر للتقييد في حقيقة التقليد على هذا المبنى فيكون تقليد عمرو بعينه تقليدا لزيد.

و لكنه: يندفع بان التقليد على المبنى ليس مجرد العمل بل العمل عن استناد الى فتوى المجتهد و الاستناد فعل اختياري قائم بالنفس فان كان للتقليد أثر في المقام فلا فرق فيه بين ان يكون التقليد هو العمل، أو الالتزام و بين ان يتفقا في الفتوى أو يختلفا فيها و ان لم يكن له اثر- كما هو الصحيح- فكذلك على

جميع التقادير اه «2».

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج/ 46

(2) الدروس ج 1/ 18

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 203

..........

______________________________

و ليعلم ان معنى تقليد شخص على نحو التقييد معناه انه لا يريد كما في المثال الا تقليد زيد بخصوصه و لا يقصد تقليد عمرو بوجه، كما ان معنى تقليده على نحو الداعي هو انه إذا كان بحيث لو علم ان من قلده عمرو كان يقلده أيضا و لكن تخيل انه زيد.

و لا يخفى ان تحقق العناوين على ضربين فتارة لا يكاد يتحقق العنوان و المأمور به في الخارج الا بقصده فلو قصد الخلاف يكون مخلا بتحقق العنوان كعنوان الأدائية و القضائية فمن صلى أداء بتخيل دخول الوقت بحيث لو كان عالما بعدم دخول الوقت لما صلاها أو صلاها قضا فاذا انكشف وقوع الصلاة قبل الوقت بطلت صلاته لان الميز بين الصلاتين- الأدائية و القضائية- بالقصد فما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و اخرى لا يكون قصد الخلاف مخلا بتحقق المأمور به كما إذا صلى صلاة الظهر في ساعة معينة من يوم بقيد انه يوم الجمعة بحيث لو لم يكن يوم الجمعة لم يصلى في تلك الساعة فلا يوجب انكشاف الخلاف بطلان الصلاة إذا لا يعتبر في حد المأمور به سوى تحقق عنوان الظهر مستندا اليه تعالى، المفروض تحققه.

و التقليد من قبيل الثاني لأن تحقق عنوان التقليد هو الاستناد الى فتوى المجتهد في مقام العمل و اما قصد انه زيد فلا دخل له في تحققه انما هو في أمر خارج عن ذلك.

ففي صورة تساوى زيد و عمرو في الفضيلة حيث تكون فتوى كل منهما حجة في حقه فبأيهما استند في

مقام العمل يكفي في تحقق عنوان التقليد فيكون التقييد في أمر خارج عن تحقق العنوان.

نعم إذا كان تقليده عمرو بتخيل انه زيد مع العلم باعلمية زيد و العلم بمخالفتهما من حيث الفتوى تفصيلا أو إجمالا فلا يكون تقليده صحيحا و ان كان بنحو الداعي لعدم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 204

..........

______________________________

حجية قول عمرو في هذا الحال و يكون كمن لم يقلد.

فالحقيق: التفصيل بين كون زيد اعلم من عمرو مع بمخالفتهما من حيث الفتوى تفصيلا أو إجمالا و بين تساويه معه في الفضيلة ففي صورة الثاني يصح و ان كان على وجه التقييد و لا يصح في الصورة الاولى و ان كان على وجه الداعي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 205

[مسئلة 36- فتوى المجتهد يعلم بأمور]

اشارة

مسئلة 36- فتوى المجتهد يعلم (1) بأمور (2) الأول ان يسمع منه شفاها الثاني ان يخبر بها عدلان. الثالث إخبار عدل واحد بل يكفي إخبار شخص موثق يوجب قوله الاطمئنان (3) و ان لم يكن عادلا الرابع الوجدان في رسالته (4) و لا بد و ان تكون مأمونة من الغلط.

______________________________

(1) اى يثبت

(2) و من طرق ثبوتها العلم، أو الاطمئنان الحاصل من إخبار جماعة و ان لم يكونوا عدولا، و لا ثقاة، أو غيره.

(3) بل تثبت و ان لم يوجب إخبار الثقة الاطمئنان كما انه تثبت بالاطمينان و ان لم يكن حاصلا من إخبار الثقة.

(4) المؤلفة من شخص نفسه، أو غيره لكن لاحظها المجتهد و أمضاها أو كان المؤلف ثقة مأمونا و ان لم يلاحظها المجتهد و لم يمضها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 206

طرق إثبات الفتوى

اشارة

______________________________

أقول: ذكر (قدس) طرقا لإثبات فتوى المجتهد، و ينبغي ان يضاف إليها طريقا خامسا، و هو الاطمئنان الحاصل بالشياع بين أنديه المتشرعين و غيره.

و كيف كان:

ثبوت الفتوى بالسماع من المجتهد

اما ثبوت الفتوى بالسماع من المجتهد شفاها فواضح لتطابق بناء العقلاء و الآيات، و الأخبار على ذلك بداهة ان بنائهم على ان الطبيب مثلا إذا قال شيئا في علاج مريض لا يسئل عن الدليل على ان ما أخبر به مطابق لتشخيصه و نظره أم لا.

و بالجملة بعد حجية قول الخبير لا يتوقفون في العمل بما يسمعون منه في حكاية ما يخبر به عما يعتقد به.

و كذا قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ان كان من أدلة المقام يدل على حجية قول أهل الذكر و كذا غيره من الآيات.

و كذا الأخبار الواردة في الإرجاع إلى روات الأحاديث و فقهائهم، و الأخبار الواردة في الارجاعات الخاصة مثل الإرجاع إلى زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و زكريا بن أدم و نظرائهم فإنها تدل بوضوح على حجية الأجوبة الصادرة منهم.

و لا يخفى ان كلام الفقيه المسموع منه حجة بظواهر كلامه و ان لم يفد الظن الشخصي بمراده فضلا عن الوثوق و الاطمئنان به بل يكون ظاهر مقاله حجة و لو مع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 207

..........

______________________________

الشك في المراد بل يمكن القول بحجيته و لو مع الظن غير المعتبر بخلافه.

و السر في ذلك كله هو حجية الظواهر مطلقا- ظن فعلا بالمراد أم لم يظن- ظن بالخلاف بالظن غير المعتبر أم لا.

ثبوت الفتوى بإخبار العدلين

و اما ثبوت الفتوى بإخبار العدلين فلما تقدم مفصلا من عموم حجية البينة في جميع أبواب الفقه إلا في موارد خاصة لم تتجاوز عن عدد رءوس الأصابع كما في موارد الشهادة بالزنا و اللواط فاعتبر شهادة أربع رجال عدول، و الشهادة على الميت فاعتبر ضم اليمين بالبينة الى غير ذلك و ما

نحن فيه لم يكن من موارد المستثناة و هو واضح.

ثبوت الفتوى بإخبار العدل الواحد

و اما ثبوته بإخبار العدل الواحد فان قلنا بثبوت الموضوعات كالأحكام بإخبار العدل الواحد فواضح، و اما على المختار من عدم ثبوتها بإخباره فيمكن إثبات الفتوى به و ذلك لان الإخبار عن الفتوى إخبار عما هو من شئون الأحكام الشرعية لأنه في الحقيقة إخبار عن قول الامام عليه السّلام مع الواسطة، و لا فرق في ذلك بين ان يتضمن نقل قول المعصوم عليه السّلام ابتداء و بين ان يتضمن نقل الفتوى التي هي الإخبار عن قوله عليه السّلام لان ما دل على حجية إخبار العدل عن الامام عليه السّلام غير قاصر الشمول للإخبار عنهم مع الواسطة.

و بالجملة الإخبار عن الفتوى داخل في عنوان الإخبار عن الحكم حيث لا فرق فيه بين ان يكون إخبارا عن الحكم الواقعي كما هو شأن الإخبار عن المعصومين عليهم السّلام أو عن الحكم الظاهري المستنبط من الأدلة فتشمله أدلة حجية خبر العادل.

و مقتضى أدلة حجية خبر الواحد عدم اعتبار العدالة في المخبر بل يكفي الوثاقة فخبر الثقة حجة و ان لم يكن المخبر به عادلا بل و ان لم يوجب إخباره الظن الفعلي فضلا عن الاطمئنان لما تقرر في محله ان حجية خبر الثقة بلحاظ افادته الظن النوعي فتقييد الماتن (قدس) اعتبار خبر الثقة بما إذا أوجب الاطمئنان غير وجيه الا ان يراد

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 208

..........

______________________________

بالاطمينان الاطمئنان النوعي فيكون تقييد اعتبار إخبار الموثق بإيجاب قوله الاطمئنان تفسيرا للموثق.

و بالجملة أدلة حجية خبر الواحد تدل على حجية خبر الثقة المفيد للظن و الاطمئنان نوعا أفاد الظن الشخصي فضلا عن الوثوق أم لا

فيثبت فتوى المجتهد بإخبار الثقة مطلقا.

نعم قد تثبت الفتوى بالاطمينان إذا لم يكن من جهة خبر الثقة كما إذا حصل من الشياع أو غيره.

ثبوت الفتوى بالوجدان في الرسالة

و اما ثبوت الفتوى بالوجدان في الرسالة فنقول الرسالة ان كانت بخط المجتهد فيكون وزانه وزان السماع منه شفاها بل اثبت منه كما لا يخفى.

و كذا إذا جمع الرسالة غيره و لكن المجتهد لاحظها و أمضاها.

و السر في ذلك هو عدم الفرق في إخبار الفقيه عما يعتقده و تعلق به رأيه بين ان يتلفظ به، أو يصدق ما يخبر به، أو يكتب به، أو يصدق ما يكتب به و ذلك واضح و كذا إذا جمع الثقة فتاوى المجتهد و دوّنها في موضع لأنه من باب إخبار الثقة و قد تقدم حجية إخبار الثقة و لا فرق في حجية إخباراته بين ان تكون باللفظ أو بالكتابة.

و بالجملة إذا لم تكن الرسالة بخطه و لا بإمضائه يكون من قبل إخبار العدل أو الثقة فلا بد و ان يكون الكاتب موثوقا به، أو يخبر ثقة فإن المكتوب موافق لفتوى المجتهد.

و عند ذلك يكون المكتوب حجة و ان لم يوجب الوثوق الشخصي لما تقدم من ان حجية إخبار الثقة انما هي للظن النوعي لا الشخصي منه فإن الكتابة نوع من الخبر و المناط في اعتبار خبر الثقة هو الظن النوعي.

هذا إذا لم يعلم باشتمالها على الغلط غير المغير للمعنى و لو إجمالا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 209

..........

______________________________

و اما لو علم ذلك إجمالا فإن كانت الأطراف غير محصورة أو كان بعض أطرافها خارجا عن مورد الابتلاء فلا مانع من جريان الأصول و العمل بما فيها، و الا فلا يجوز العمل

بما في الرسالة ما لم ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار من الغلط بحيث يكون الزائد عنه مشكوكا فيه من أول الأمر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 211

[مسئلة 37- إذا قلد من ليس له أهلية الفتوى ثم التفت]

اشارة

مسئلة 37- إذا قلد من ليس له أهلية الفتوى ثم التفت وجب عليه العدول، و حال الأعمال السابقة حال عمل الجاهل غير المقلد (1) و كذا إذا قلد غير الأعلم وجب على الأحوط (2) العدول إلى الأعلم، و إذا قلد الأعلم ثم صار بعد ذلك غيره اعلم وجوب العدول الى الثاني على الأحوط.

______________________________

(1) حسب ما علقناه في المسئلة الخامسة و العشرين.

(2) بل على الأقوى فيها و في الصورة التالية حسب ما فصلنا في المسئلة الثانية عشر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 212

حكم صور العدول من مرجع الفتوى الى غيره

اشارة

______________________________

أقول: ذكر (قدس) في المسئلة صور ثلاث للعدول، و لا يخفى ان التقليد الأول في الصورتين الأوليتين إما يكون على طبق الموازين المقررة في الشريعة- بأن علم، أو قامت البينة مثلا- على أهليته للفتوى، أو انه اعلم فانكشف عدم أهليته لذلك أو انه غير أعلم، أو لم يكن على الموازين.

الصورة الأولى حكم تقليد من لم يكن أهلا للتقليد بعد انكشاف الخلاف

إذا قلد من ليس له أهلية الفتوى في برهة من الزمان ثم التفت الى عدم أهليته لذلك يجب عليه العدول الى من يكون أهلا لذلك، و يكون حال اعماله السابقة حال عمل الجاهل غير المقلد من غير فرق بين كون تقليده السابق على الموازين المقررة أم لا.

و السر في ذلك بعد وضوح بطلان تقليده في الصورتين لعدم وقوع التقليد موقعه نعم فرق بينهما من جهة انه في صورة ما إذا كان تقليده السابق على الموازين كان تقليده محكوما بالصحة ظاهرا و معذورا بخلاف ما إذا لم يكن على طبق الموازين حيث يكون باطلا ظاهرا و واقعا، و غير معذور فحال اعماله السابقة حال عمل الجاهل القاصر في الصورة الاولى، و حال الجاهل المقصر في الصورة الثانية، و قد تقدم حكم عمل الجاهل بقسميه فيما تقدم فلاحظ.

و بالجملة لا يترتب اثر على تقليده السابق في كلتا الصورتين و ان كان في إحديهما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 213

..........

______________________________

مستندا الى معذر شرعي دون الأخرى.

و التعبير بالعدول في المتن بلحاظ الاستناد في مقام العمل الذي رفع منه قصورا أو تقصيرا ضرورة أنه تحقق منه التقليد الا انه لم يقع محله.

فما في المستمسك «من انه تقليد ابتدائي لا عدول» «1» كأنه غير وجيه كما ان ما في التنقيح «من انه في صورة عدم

كون الاستناد الى معذر شرعي يكون من التقليد الابتدائي دون العدول» «2» غير مفيد.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما في الدروس «من حمل ما في المتن- في كون اعماله السابقة حال عمل الجاهل غير المقلد- على ما إذا لم يكن تقليده السابق على الموازين الشرعية، و الا فيدخل في كبرى مسئلة البحث عن اجزاء الحكم الظاهري إذا انكشف خلافه» «3».

توضيح الضعف هو عدم دخول المفروض في مسئلة اجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لأن ذلك فيما إذا كان العمل على طبق ما يكون حجة في نفسه بان كان عمله مثلا مطابقا لفتوى المجتهد الجامع لشرائط الفتوى و لكن كانت فتواه مخالفة للواقع فعند كشف الخلاف تجري مسئلة الاجزاء و عدمه و انى له؟! في المفروض الذي لم يكن المقلد أهلا للفتوى فلم يقع تقليد العامي موقعه غاية الأمر كان معذورا في تقليده السابق إذا كان على الموازين فيكون حاله حال الجاهل القاصر كما انه غير معذور فيما لم يكن على الموازين فيكون حاله حال الجاهل المقصر و بما ذكرنا يظهر ما في التنقيح أيضا فإنه و ان نفى أولا كون المفروض من كبرى مسئلة الاجزاء «4» الا ان مآل كلامه الى كونه منها فلاحظ و تدبر.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 66

(2) التنقيح ج 1/ 317

(3) الدروس ج 1/ 183

(4) التنقيح ج 1/ 316

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 214

الصورة الثانية حكم تقليد من لم يكن اعلم فانكشف الخلاف

______________________________

إذا قلد غير الأعلم فانكشف الخلاف فقال (قدس) في المتن الأحوط العدول إلى الأعلم، و نقول ان تقليده السابق ان كان على طبق الموازين المقررة أولا، فإن قلنا باشتراط تقليد الأعلم- اما فتوى أو احتياطا- فيكون وزان هذه الصورة وزان

الصورة المتقدمة لأن غير الأعلم حسب الفرض ليس واجدا لصحة التقليد. فمن احتاط في مسئلة تقليد الأعلم كالماتن لا بد و ان يحتاط بالعدول إلى الأعلم، و من افتى بلزوم تقليده يفتي بلزوم العدول، و حيث قلنا باللزوم عند المخالفة في الفتوى فنقول بوجوب العدول عند العلم بالمخالفة.

و اما اعماله السابقة فتختلف حسب المشارب في تقليد الأعلم فعلى المختار يعيد الأعمال السابقة المعلوم مخالفتها للأعلم و اما غيرها فلا يجب.

و اما على اشتراط تقليد الأعلم فتوى و احتياطا فيعيد اعماله السابقة لذلك.

الصورة الثالثة حكم من قلد الأعلم ثم صار غيره اعلم منه

إذا قلد الأعلم ثم صار بعد ذلك غيره اعلم منه فاحتاط الماتن (قدس) بلزوم العدول الى الثاني على مبناه في تقليد الأعلم، و على المختار في ذلك يجب العدول عند العلم بالمخالفة في الفتوى بينه و بين من صار اعلم.

و اما اعماله السابقة فصحيح نعم يجرى فيها حديث الاجزاء و عدمه في المسائل التي تخالفها فتوى من صار اعلم من حيث كشف الخلاف الظني.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 215

[مسئلة 38- ان كان الأعلم منحصرا في شخصين و لم يمكن التعيين]

اشارة

مسئلة 38- ان كان الأعلم منحصرا في شخصين و لم يمكن التعيين (1). فإن أمكن الاحتياط بين القولين فهو الأحوط (2) و الا كان مخيرا بينهما

______________________________

(1) و لم يظن، أو لم يحتمل اعلمية أحدهما المعين و الا يتعين الأخذ به

(2) بل هو الأقوى

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 216

حكم انحصار الأعلم في شخصين

______________________________

أقول: مقتضى القاعدة على المختار- من لزوم تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة بين الأعلم و غيره تفصيلا، أو إجمالا- هي انه كما يجب تقليد الأعلم ان كان معلوما شخصا، فكذلك عند تردده بين شخصين مثلا، و لم يمكن التعيين فإن أمكن الاحتياط فلا بد من الأخذ بأحوط القولين قضاءا للعلم الإجمالي، و ان لم يتمكن منه اما لدوران الأمر بين المحذورين- بان كانت فتوى أحدهما وجوب شي ء و فتوى الأخر حرمته- أو لعدم سعة الوقت للجمع بينهما- كما إذا أفتى أحدهما بوجوب قصر الصلاة و الأخر بوجوب إتمامها و لم يسع الوقت لهما- فلا مناص من التخيير حينئذ إذا لم يكن لأحدهما ترجيح على الأخر للعلم بوجوب تقليد الأعلم و هو مردد بين شخصين من غير ترجيح لأحدهما على الأخر فإن كان هناك مرجح لأحدهما للظن باعلميته دون الأخر فالمتعين في حقه الأخذ بفتوى من يظن باعلميته.

هذا ما تقتضيه القاعدة.

و لكن قال سيد مشايخنا (قدس): «ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم وجوب الاحتياط على العامي من دون فرق بين ان يتردد الأعلم- بين اثنين أو عشرة مثلا- و بين غيره من الفروض، و لا تبعد دعوى السيرة على ذلك لندرة تساوى المجتهدين و غلبة حصول التفاوت بينهم و لو يسيرا و شيوع الجهل بالأفضل و فقد أهل الخبرة

في أكثر البلاد و كون بنائهم على الاحتياط في مثل ذلك بعيد جدا» «1».

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 63

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 217

..........

______________________________

و لكن ناقش بعض الأساطين دام ظله فيما أفاده بأن الإجماع التعبدي خصوصا في صورة العلم بالمخالفة و الأعلمية ممنوع، و هكذا السيرة، إذ المورد من الموارد النادرة التي لا يمكن تحصيل السيرة فيها إذا الغالب هو التمكن من تعيين الأعلم و لو بالأمارات الشرعية، كما عليه عمل الأصحاب في عصرنا و ما سبقه من الأعصار «1».

قلت: و الإنصاف ان الاعتبار يساعد ما ذهب اليه دام ظله و اللّه العالم.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 185

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 219

[مسئلة 39- إذا شك في موت المجتهد، أو في تبدل رأيه]

اشارة

مسئلة 39- إذا شك في موت المجتهد، أو في تبدل رأيه أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده يجوز له البقاء الى ان يتبين الحال.

مسئلة 40- إذا علم انه كان في عباداته بلا تقليد مدة من الزمان و لم يعلم مقداره، فان علم بكيفيتها و موافقتها للواقع (1)، أو لفتوى المجتهد الذي يكون مكلفا بالرجوع اليه (2)، فهو، و الا فيقضى المقدار الذي يعلم معه البراءة على الأحوط و ان كان لا يبعد جواز الاكتفاء بالقدر المتيقن.

______________________________

(1) و كذا في صورة احتمال مطابقة الواقع، أو ما بحكمه مع تمشي قصد القربة لعدم إحراز عنوان الفوت حينئذ فيكون شكافى تكليف زائد و الأصل عدمه، نعم في صورة العلم بالمخالفة كذلك إجمالا يتم ما افاده (قدس) من الاكتفاء بالقدر المتيقن، و الأحوط مع ذلك في جميع الصور الإتيان بمقدار يقطع بالبراءة.

(2) فعلا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 220

حكم الشك في موت المجتهد أو تبدل رأيه أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده

______________________________

أقول: المدرك الوحيد في الفروع الثلاثة من المسئلة التاسع و الثلاثين هو الاستصحاب و لا يجب الفحص عما احتمل، لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية.

حكم من علم انه كان في عباداته بلا تقليد في مده و لم يعلم مقدارها

اشارة

اما توضيح الحال في مسئلة الأربعين فيستدعي البحث في مقامين: الأول في أصل وجوب القضاء على من كان حاله ذلك، و الثاني في مقدار الواجب منه على تقدير وجوب القضاء.

المقام الأول في حكم القضاء على من كان في عباداته بلا تقليد
اشارة

إذا علم انه كان في عباداته بلا تقليد في مدة من الزمان و لم يعلم مقداره فله صور ثلاث. لأنه اما يعلم كيفية اعماله السابقة، أولا، و على الأول اما يعلم موافقة اعماله للواقع، أو لما هو في حكمه، أو يعلم مخالفتها له كذلك.

الصورة الأولى حكم ما إذا علم موافقة اعماله السابقة للواقع أو ما بحكمه
اشارة

إذا علم ان إعماله السابقة موافقة للواقع أو ما بحكمه فلا يجب عليه الإعادة في الوقت، أو القضاء خارجه و ذلك واضح لأنه اتى بالواجب الواقعي، أو ما بحكمه من دون نقص- حسب الفرض- و قد حصل منه قصد القربة، و لا موضوعية للتقليد،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 221

..........

______________________________

و المدار تحصيل الأمن من تبعات التكليف الواقعي فإن طابق المأتي به للمأمور به الواقعي، أو ما بحكمه، فيكتفى به.

و بالجملة لا يعتبر في صحة الإتيان سوى الإتيان بالعمل مضافا اليه تعالى و المفروض تحققه فلا تجب الإعادة، أو القضاء.

تبصرة في المراد بما هو بحكم الواقع

اختلف المراد بما بحكم الواقع الذي يلاحظ مطابقة المأتي به إياه فقال بعض منهم أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) هو فتوى المجتهد الذي كان مرجعا حين العمل، و قال بعض أخر منهم الماتن (قدس) هو فتوى المجتهد الذي يكون مكلفا بالرجوع اليه فعلا، و قال ثالث منهم أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله هو فتوى اى واحد من الفتويين (فتوى من يكون مكلفا بالرجوع اليه حين العمل أو فعلا).

و لكل منهم و جهة هو موليها و قد تقدم شقص من الكلام حوله فيما تقدم في ذيل مسئلة السادسة عشر و قد تقدم: ان المختار في المسئلة على القول بالطريقية و عدم القول بالاجزاء هو كون المدار في الحكم بصحة العمل و فساده انما هو مطابقة العمل لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده عند الالتفات دون المجتهد الذي كان يجب تقليده في زمان العمل- إذا كان مغايرا لفتوى من يجب تقليده فعلا- لسقوط فتواه عن الحجية بالموت أو بغيره من الأسباب فمع مطابقة عمله لما افتى به المجتهد الفعلي عند الالتفات يحكم بصحته

كما انه يحكم ببطلانه إذا خالفه.

الصورة الثانية حكم ما إذا علم مخالفة اعماله للواقع أو ما بحكمه

مقتضى القاعدة الأولوية بعد عدم مطابقة المأتي به لما هو المأمور به الواقعي أو ما بحكمه عدم الاجتزاء بما اتى به، فيلزم الإعادة لو علم بذلك في الوقت و القضاء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 222

..........

______________________________

لو التفت به بعد الوقت كما هو الشأن في صورة تبدل الاجتهاد و العدول عن الرأي فإن القاعدة الأولوية فيها عدم الأجزاء فيلزم الإعادة، أو القضاء، و ان كان بين البابين فرق بلحاظ انه في صورة العدول حيث كانت اعماله السابقة مستندة الى الحجة غاية الأمر انكشف خلافه فيمكن القول بالاجتزاء بما اتى به للإجماع و غيره- و ان لم يتم عندنا- بخلاف المفروض حيث انه لم تكن اعماله عن حجة فلا ينبغي الإشكال في لزوم الإعادة أو القضاء.

و بالجملة مقتضى القاعدة الأولية في صورة عدم مطابقة المأتي به للمأمور به و ان كان لزوم الإعادة أو القضاء الا انه ورد في بعض المقامات ما يستفاد منه خلاف القاعدة لقول ابى جعفر عليه السّلام.

لا تعاد الصلاة الأمن خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة و الركوع، و السجود «1».

فقد دل على انه إذا فات من المصلى غير الخمسة المستثناة فلا يجب عليه إعادة الصلاة، و مقتضى إطلاقه شموله للجاهل القاصر، و المقصر غير الملتفت فيشمل المفروض، فمن لم يكن مقلدا في برهة من الزمان و كانت صلواته السالفة على خلاف الواقع، أو ما بحكمه بالنسبة الى غير الخمسة المستثناة فلا يجب عليه الإعادة، أو القضاء.

و لكن هذا على خلاف مذاق المشهور حيث خصوا الحديث بالناسي و الساهي و لكل من المذهبين و جهة هو موليها و لعلنا نشير الى

ما هو المختار في المحمل المناسب فارتقب.

الصورة الثالثة حكم ما إذا لم يعلم مخالفة اعماله السابقة للواقع أو ما بحكمه

يمكن فرض ذلك فيما إذا نسي صورة اعماله و لكن احتمل مطابقتها لأحدهما

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب القبلة ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 223

..........

______________________________

مقتضى القاعدة الأولية هو التفرقة بين الإعادة و القضاء بلزوم الإعادة في الوقت و عدم وجوب القضاء بناءا على كون القضاء بأمر جديد و موضوعه الفوت و هو أمر وجودي- كما هو المختار- و سيجي ء إن شاء اللّه بيانه في محله.

و ذلك اما لزوم الإعادة في الوقت فلقاعدة الاشتغال للعلم باشتغال ذمته بالصلاة فلا بد من الخروج عن عهدة امتثاله لا محالة و حيث لم يحرز بعد فراغ ذمته عما اشغلت به فلا بد من إعادتها حتى يقطع بفراغ ذمته.

و اما عدم وجوب القضاء فلانة حيث يحتمل مطابقة اعماله للواقع أو ما بحكمه و لو من باب الصدفة، و الاتفاق فلم يحرز عنوان الفوت الذي يكون امرا وجوديا الذي يعبر عنه- بالذهاب عن الكيس.

و بالجملة حيث يحتمل ان يكون المأتي به في الوقت مطابقا للمأمور به فلم يقطع بموضوع دليل القضاء و هو فوت الفريضة في الوقت فلا يجب القضاء.

و استصحاب عدم إتيانه في الوقت لا يثبت عنوان الفوت الذي يكون ملازما لعدم الإتيان لان الفوت عبارة عن الذهاب، لا مجرد عدم الإتيان به فإثبات الفوت باستصحاب العدم مثبت.

هذا على المختار من ان القضاء بأمر جديد و كان موضوعه عنوان وجودي و هو الفوت.

و اما لو قلنا بان القضاء بالأمر الأول و ان لزوم الإتيان بالعمل في الوقت من باب تعدد المطلوب فيكفي في وجوب القضاء استصحاب التكليف.

أو قلنا بان الفوت أمر عدمي فيثبت باستصحاب عدم

إتيان الواجب في الوقت فيحرز موضوع دليل القضاء، و ان قلنا بان القضاء بأمر جديد فيثبت أيضا وجوب القضاء.

كما انه إذا فرض الكلام في غير العبادات الموقتة كالحج فيجب إتيانه.

هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية من حيث الإعادة و القضاء على المبنيين من كون وجوب القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول و ان عنوان الفوت أمر وجودي أو غيره

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 224

..........

______________________________

و لكن ربما يصحح الأعمال السابقة بقاعدة الفراغ كما عن المحقق النائيني (قدس) بدعوى ان القاعدة تصحح الأعمال التي اتى بها، أو شك في مطابقتها للمأمور به من غير فرق بين كون منشأ الشك الغفلة عن الجزء أو الشرط حين الشروع جهلا بوجوبها بحيث لو فرض مطابقة المأتي به للمأمور به كان ذلك امرا اتفاقيا حصل بغير اختيار المكلف و إرادته كما في مفروض المقام، أو كان نسيانا للجزء أو الشرط بعد ما كان المكلف ملتفتا حين الشروع الى جميع الاجزاء و الشرائط المحتملة و كان بانيا على الإتيان بالعبادة حسبما هو المفروض في الشريعة.

و حاصل الوجه في مختاره (قدس) هو إطلاق أخبار قاعدة الفراغ و عدم اختصاصها بصورة ما إذا كان ملتفتا حين العمل، و يرى ان الاذكرية الواردة في بعض أخبار القاعدة- بأنه حين يتوضأ اذكر منه حين يشك- انما ذكرت حكمة للتشريع لا علة للحكم بالمضي حتى يدور الحكم مداره ليخرج صورة الجهل بوجوب الاجزاء و الشرائط.

و لكن الإنصاف: عدم استفادة الإطلاق من اخبار القاعدة لظهورها في كونها امضاء لما عليه العقلاء في أعمالهم لا تأسيس قاعدة تعبدية كما يرشد اليه قول الصادق عليه السلام:

في خبر ابن بكير: قال:

قلت له الرجل يشك بعد

ما يتوضأ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك «1».

لأن في التعليل بالاذكرية إشارة إلى انه عليه السّلام ليس بصدد تأسيس قاعدة تعبدية ليؤخذ بإطلاق مقاله بل بصدد إمضاء ما عليه العقلاء في أعمالهم.

و كذا قوله عليه السّلام في خبر محمد بن مسلم:

إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا

______________________________

(1) الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء ح/ 7

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 225

..........

______________________________

و كان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم، لم يعد الصلاة و كان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك «1».

فاذا لا يصح الأخذ بالإطلاق بل اللازم الاقتصار على موارد بناء العقلاء على عدم الالتفات بالشك و هي ما إذا كان منشأ الشك طرو الغفلة عن إتيان الجزء أو الشرط في الحكم بعد الالتفات بذلك حين العمل. هذا أولا:

و ثانيا: ان ظاهر قوله عليه السّلام (حين يتوضأ إلخ) و قوله (حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك) يعطي بأن الاذكرية و الأقربية إلى الحق علة لعدم وجوب الاعتناء بالشك بعد الفراغ، فيدور مدارها وجودا و عدما لا انها حكمة فلا مجال للأخذ بالإطلاق و بما ذكرنا نقيد إطلاق بعض اخبار المقام لو كان له إطلاق كخبر حسين بن ابى العلاء قال.

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت قال حوله من مكانه، و قال في الوضوء تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا أمرك أن تعيد الصلاة «2».

و خبر محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو «3».

و خبره الأخر قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام

يقول كلما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه و لا اعادة عليك «4».

هذا إجمال المقال في القاعدة و تفصيله يطلب من غير المقام.

______________________________

(1) الوسائل باب 27 من أبواب الخلل في الصلاة ح/ 3

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الوضوء ح/ 3

(3) الوسائل باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح/ 3

(4) الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء ح/ 6

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 226

المقام الثاني في مقدار الواجب من القضاء على تقدير وجوبه
اشارة

______________________________

فلا بد من فرض البحث فيما إذا علم بالتكليف المنجز في زمان و شك في مقداره من حيث دورانه بين الأقل و الأكثر و الا فإن رجع الشك إلى أصل ثبوت التكليف فلا اشكال و لا خلاف في ان القاعدة تقتضي البراءة.

و ذلك فيما إذا علم بأنه لم يأت بالصلاة الصحيحة طيلة زمان تكليفه الى اليوم و لكن لم يدرانه مضى من بلوغه شهر واحد أو شهران فالشك في مثله يرجع الى أصل توجه التكليف فالزائد على قضاء صلوات شهر واحد يكون مورد البراءة.

فمحط البحث ما إذا علم في المفروض انه مضى عليه شهر و كان مكلفا في تلك المدة بالصلاة و قد فاتت منه جملة من صلواتها، أو انه قد أتى بالصلاة فيها عن تقليد غير صحيح مثلا و هي مرددة بين الأقل و الأكثر فهل الواجب وجوب قضاء الفوائت بمقدار يعلم معه بالبراءة أو يكفي الإتيان بمقدار يظن معه بالبراءة، أو لا يجب ذلك أيضا بل يجوز الاكتفاء بالمقدار المتيقن؟ وجوه بل أقوال.

نسب الأول إلى المحقق صاحب الحاشية، و الثاني إلى المشهور و ربما ينسب إليهم ذلك إذا كان الإتيان بمقدار يعلم بالفراغ حرجيا، و الثالث الى ثلة من الفقهاء

و هو الحق.

وجوب الإتيان بالقضاء بمقدار يعلم معه بالبراءة و دفعه
اشارة

يستدل للقول الأول بوجهين.

الوجه الأول:

ان مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين و ان كانت البراءة عن وجوب الزائد عن المقدار المتيقن، الا انه محكوم باستصحاب عدم الإتيان بالفرائض المشكوك فواتها في الوقت و مقتضى ذلك لزوم الإتيان بمقدار يقطع معه بفراغ الذمة.

و لكن فيه انه كما أشرنا إليه أنفا ان القضاء بأمر جديد و موضوعه الفوت

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 227

..........

______________________________

و هو أمر وجودي، و لا يكاد يثبت ذلك بالاستصحاب إلا بالأصل المثبت.

الوجه الثاني:

ان مقتضى القاعدة في الدوران و ان كانت البراءة عن الزائد الا ان ذلك فيما إذا تعلق الشك بثبوت تكليف واقعي زائد على المقدار المتيقن و اما إذا كان الشك في وجوب تكليف منجز واصل للمكلف زائدا على القدر المتيقن كما في المقام فهو مورد الاحتياط.

و ذلك لان احتمال التكليف المنجز منجز لأنه مساوق لاحتمال الضرر، و العقل مستقل بدفع الضرر المحتمل- بمعنى العقاب.

و بالجملة الشك في المقام قد تعلق بالتكليف المنجز على تقدير ثبوته لان التكليف كما في مورد الشبهة قبل الفحص و مورد العلم الإجمالي بين المتباينين لان المكلف عند تركه للصلاة، أو إتيانها بغير الوجه الصحيح يحصل له العلم بالفوات فيتنجز عليه التكليف بالقضاء، فاذا شك بعد ذلك في المقدار الزائد يكون شكه في سقوط التكليف المنجز و هو مورد الاشتغال و الاحتياط.

و الحاصل ان من ترك الصلوات و لم يأت بها حسب ما قرر في الشريعة في يوم مثلا يعلم بفوت فرائض ذاك اليوم منه و لزم قضائها فإذا كرر منه ذلك في أيام يعلم بفوات صلوات أيام منه و لزوم قضاء تلك الفوائت، فإذا شك بعد ذلك في ان القضاء

المنجز وجوبه عليه في كل يوم- بعلمه و التفاته- هو المقدار الأقل أو الأكثر فلا بد و ان يحتاط لأن الزائد المشكوك فيه انما هو احتمال تكليف منجز أخر و قد أشرنا ان احتماله مساوق لاحتمال العقاب نظير الشبهة قبل الفحص.

و نوقش أولا: ان بقاء التكليف على صفة التنجيز مشروط بقاء موضوعه و هو العلم فاذا زال يزول التنجز لا محالة كما في الشك الساري و المفروض في المقام زوال العلم و الشك في المقدار فتجري البراءة عن المشكوك فيه «1».

و بالجملة التنجز يدور مدار المنجز حدوثا بقاءا فيحدث بحدوثه كما انه يرتفع

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 191

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 228

..........

______________________________

بارتفاعه كما في الشك الساري لزوال اليقين بالشك الساري و مع زواله يرتفع التنجز و لذا إذا علم بنجاسة شي ء ثم شك في مطابقة علمه و مخالفته للواقع جرت قاعدة الطهارة و لا تعامل معه معاملة النجاسة بوجه إذ لا منجز لها بقاءا.

ففي المقام و المثال المفروض و ان كان علم بوجوب فوات الصلوات في اليوم الأول و لأجله تنجز عليه وجوب القضاء الا انه عند الشك و التردد بين الأقل و الأكثر لا علم له بما فاته من الصلوات و إذا زال العلم زال التنجز لا محالة.

و من ثمة حكموا بالبراءة في رد الأكثر إذا استدان من زيد مكررا و تردد في انه عشرة دراهم أو عشرون مع العلم بتنجز وجوب رد الدين حين استدانته من الدائن و انما تردد بعد وجوبه و تنجز الأمر بالأداء.

و ثانيا: لو سلم و تم ما أفاده في المثال فهو أخص من المدعى لاختصاصه فيما إذا كان التنجز سابقا على

زمان الشك و التردد و لا يجرى فيما إذا كان في زمان التنجز منجزا مع زمان الشك و التردد، كما إذا نام و حينما استيقظ شك في ان نومه استمر يوما واحدا أو انه طال يومين فان وجوب القضاء لم يتنجز عليه الا في زمان الشك و التردد.

و المقام من هذا القبيل لان المفروض انه اتى باعمال عبادي و غير ملتفت بفسادها في ظرف الإتيان بها و انما علم بالمخالفة بعد صدورها و في الوقت نفسه يتنجز عليه وجوب القضاء مرددا بين الأقل و الأكثر.

و بالجملة العلم بوجوب القضاء انما حصل بعد العلم بالمخالفة بفتوى المجتهد فليس التكليف المحتمل مسبوقا بالعلم كي يجري فيه التوهم المزبور.

فتحصل عدم استقامة القول بلزوم الإتيان بالأكثر.

وجوب الاتيان بالقضاء بمقدار يظن معه بالبراءة و دفعه

و اما حديث الاكتفاء بالمقدار المظنون المنسوب الى المشهور فلعله لم يركن الى ركن وثيق لان المقام اما يكون داخلا في الشك في التكليف كما أشرنا أو الشك

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 229

..........

______________________________

في المكلف به، أو بما بحكمه كما استظهره المحقق صاحب الحاشية.

و على الأول لا يجب سوى القضاء بالمقدار المتيقن، و على الثاني يجب القضاء بمقدار يقطع معه فراغ الذمة، فلا موجب للعمل بالظن بعد ما لم يثبت حجيته، و الظن غير المعتبر لا ينجز الواقع مع فرض جريان البراءة كما انه لا يعذر عن مخالفته مع جريان قاعدة الاشتغال.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما ربما ينسب الى المشهور من لزوم ذلك بعد حرجية الإتيان بمقدار يقطع بفراغ الذمة، لأنه إن بنينا على لزوم تحصيل الفراغ اليقيني و عدم جواز الرجوع الى البراءة فالواجب عند استلزام ذلك الحرج الشخصي لزوم الاكتفاء بما لا يكون حرجيا

لا الاكتفاء بالظن فلا عبرة بالظن على هذا التقدير أيضا فتدبر.

و قد يوجه مقال المشهور بان المقام و ان كان من موارد جريان البراءة في نفسها الا انه حيث يكون اجراء البراءة عن الزائد يستلزم كثيرا ما وقوع المكلف في خلاف الواقع فالتزموا بالاشتغال و كم له من نظير، و قد صرحوا بذلك في موارد.

مثل ما إذا شك في الاستطاعة، أو في بلوغ المال حد النصاب في الزكاة، أو شك في أصل الربح، أو الزيادة على المؤنة في الخمس الى غير ذلك، فرأوا ان اجراء البراءة فيها قبل الفحص يستلزم الوقوع في خلاف الواقع كثيرا بالنسبة إلى غالب المكلفين لان موضوعاتها مما لا يحصل العلم بها بغير الفحص- فأوجبوا الفحص فيها.

فلعل المشهور ألحقوا المقام بتلك الموارد نظرا الى ان الرجوع الى البراءة عن الزائد يستتبع فوات القضاء عن جملة ممن هو مكلف به واقعا فالتزموا بالاشتغال فيه.

و لا يخفى ان مقتضى ذلك و ان كان لزوم القضاء بمقدار يتيقن معه بالفراغ لا الاكتفاء بالظن كما هو المشهور الا ان إيجاب ذلك حيث يستلزم العسر و الحرج

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 230

..........

______________________________

فاكتفوا بالظن بالفراغ، و العقل يرى ذلك في كل مورد يعذر فيه الامتثال اليقيني فيحكم بكفاية الامتثال الظني، كما انه إذا تعذر الامتثال الظني يحكم بكفاية الامتثال الاحتمالى.

فتحصل انه يمكن ان يوجه مقال المشهور بأنه مقتضى الجمع بين قاعدتي الاشتغال و نفى الحرج هذا غاية ما يمكن ان يوجه مقالهم.

و لكنه يندفع: بان المدار في قاعدة نفى الحرج هو الحرج الشخصي دون النوعي كما قرر في محله فمتى استلزم الحرج رفع التكليف يرتفع و قد لا يكون الإتيان

بالأكثر الى ان يقطع بالفراغ حرجيا على الشخص كما إذا دار أمر الفائت بين صلوات غير كثيرة لا حرج على المكلف في الإتيان بالأكثر.

و إذا استلزم الإتيان بالأكثر حرجا على المكلف وجب الإتيان به الى ان يكون الزائد حرجيا في حقه.

فالتنزل الى الامتثال الظني بمجرد استلزام الإتيان بالأكثر العسر و الحرج غالبا لا يرجع الى ركن وثيق، و ترك الفحص في الموارد المذكورة ان كان مقرونا بالعلم بالوقوع في خلاف الواقع فيجب و الا فلا دليل على لزوم الفحص و ان وقع في خلاف الواقع.

فبعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف ان الصحيح ان يقال ان القاعدة الأولية فيه من حيث دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين هو البراءة عن وجوب الزائد على القدر المتيقن فيجوز الاقتصار في قضائها بالقدر المتيقن، و يدع قضاء ما شك في فوته و بطلانه.

فظهر مما ذكرنا ان المختار في المسئلة هو انه إذا كانت عباداته بلا تقليد، فان علم كيفيتها، أو احتمل موافقتها للواقع أو ما بحكمه و قد كانت صدرت منه مع قصد القربة- بأن كان غافلا عن التقليد حين العمل- فلا يجب القضاء، و الا فيقضى القدر المتيقن- و هو الأقل- و إن كان الأحوط القضاء بمقدار يعلم معه البراءة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 231

[مسئلة 41- إذا علم ان أعماله السابقة كانت مع التقليد]

اشارة

مسئلة 41- إذا علم ان أعماله السابقة كانت مع التقليد لكن لا يعلم انها كانت عن تقليد صحيح أم لا بنى على الصحة (1)

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 232

حكم الأعمال التي لم يعلم انها عن تقليد صحيح

______________________________

(1) أقول: ظاهر العنوان يعطي بأن منشأ الشك في أعماله السابقة بلحاظ صحة التقليد لا في أعماله بعد فرض صحة التقليد.

و الشك في صحة التقليد تارة من ناحية نفس المكلف، و ان تقليده المجتهد الجامع لشرائط الفتوى هل كان بحجة شرعية أم كان بأهواء نفسانية.

و اخرى من جهة الشك في واجدية المجتهد الذي قلده لشرائط الفتوى و عدمه فان كان الشك في الجهة الأولى فالكلام تارة في نفس التقليد، و اخرى في أعماله السابقة.

اما في نفس التقليد بما انه عمل صدر منه و تصرم فتجري أصالة الصحة في نفس التقليد و يتفرع عليها حرمة العدول منه الى غيره على تقدير حياة المجتهد السابق و جواز البقاء و مشروعيته بعد موته، و يتفرع عليها صحة الأعمال السابقة.

بل الأعمال السابقة مجرى أصالة الصحة و ان لم تكن نفس التقليد مجريها و ذلك واضح.

بل يمكن ان يقال بأنه لا أثر لأصالة الصحة في الأعمال السابقة بعد مطابقتها للحجة المعتبرة حسب الفرض- سواء كان عن استناد إليها أم لا.

فالأعمال السابقة حسب الفرض محرز الصحة وجدانا فلا أثر لأصالة الصحة بالنسبة إليها فيحكم بصحتها، و ان علم بكون استناده الى فتوى المجتهد لم يكن مطابقا للموازين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 233

..........

______________________________

و ان كان الشك من الجهة الأخرى- أي إذا كان الشك في ان المجتهد الذي قلده مستجمع لشرائط أو غير مستجمع لها للشك في اجتهاده، أو ورعه، و عدالته

أو غيرهما من الشرائط فلا مناص فيها من الفحص عن استجماعه للشرائط، و لا يجوز فيها البقاء على تقليده حتى فيما قلده على طبق الموازين الشرعية، كما إذا قطع باجتهاده، أو شهد عليه شاهدان، الا انه بعد ذلك شك شكا ساريا في اجتهاده، و احتمل ان يكون علمه السابق جهلا مركبا أو ظهر له فسق الشاهدين واقعا.

و السر في لزوم الفحص هو الشك في حجية نظر المجتهد و فتواه و مع الشك كذلك لا يحرم العدول كما انه لا يجوز البقاء، فإن أحرز واجديته للشرائط فتصح الأعمال السابقة بلحاظ مطابقتها إياه، و ان أحرز عدمه فلا يقاس به الأعمال السابقة فيدخل في المسئلة المتقدمة من حيث انه تارة يعلم بمطابقه أعماله للواقع، أو ما بحكمه، أو يعلم بمخالفتها إياه، أو يشك فلا يحتاج إلى الإعادة فراجع و لاحظ، و سيجي ء بعض الكلام فيه في المسئلة الاتية.

و بما ذكرنا يظهر ان ما افاده سيد مشايخنا «ان صحة التقليد و فساده انما يكون مجرى للأصول الشرعية إذا كان موردا لأثر عملي و لا يتضح ذلك إلا في فرض عدول العامي عن المجتهد الى غيره مع اختلافهما في الفتوى إلخ» «1» ففي غير محله.

لما أشرنا من جريان أصالة الصحة في نفس التقليد و يتفرع عليه حرمة العدول حال حياة المجتهد السابق، و جواز البقاء، و مشروعيته بعد موته، و يتفرع عليها صحة الأعمال السابقة، بل أعماله السابقة مجرى لأصالة الصحة و ان لم يكن نفس التقليد مجريها فلاحظ.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 68

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 235

[مسئلة 42- إذا قلد مجتهدا ثم شك في انه جامع للشرائط أم لا]

اشارة

مسئلة 42- إذا قلد مجتهدا ثم شك في انه جامع للشرائط أم لا

وجب عليه الفحص (1)

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 236

حكم من قلد مجتهدا ثم شك في جامعيته للشرائط

______________________________

(1) أقول: الشك في جامعية المجتهد للشرائط يتصور تارة مع عدم العلم بسبق اجتماعه للشرائط و ذلك بان قلد مجتهدا حال كونه غافلا عن اجتماعه للشرائط ثم تنبه بعد ذلك فشك في جامعيته لها.

و اخرى مع العلم بتحققها من أول الأمر بحيث كان الشك ساريا.

و ثالثة بعد العلم بتحققها يشك في بقائها فيه.

و في التنقيح تصور صورة رابعة من جهة انه قد يحرز استجماعه للشرائط حدوثا الا انه يقطع بارتفاعها، و عدم استجماعه لها بقاءا لزوال عدالته، أو اجتهاده، أو غيرهما من الأمور المعتبرة في المقلد «1».

و لكنها كما ترى أجنبية عن مفروض المسئلة و قد تقدم ذكرها و ليت شعري ما وجه ارتباطها بمفروض المسئلة الا ان يكون مراده دام ظله عنوان المسئلة بنحو أوسع و ان لم يكن مرتبطا بمفروض المتن فله وجه و يكون حاصله ان من أحرز واجدية مجتهده للشرائط فتارة يشك في جامعيته لها على نحو الشك الساري و اخرى من حيث البقاء و ثالثة يقطع بارتفاعها عنه و لا يخفى ان ظاهر عنوان المسئلة يعطى بإرادة الصورة الثانية و يمكن إدراج الصورة الاولى.

و كيف كان يجب الفحص في الصورتين الأوليتين و اما في الصورة الأخيرة فغير واجب.

اما لزوم الفحص في الصورة الاولى- و هي ما إذا قلد المجتهد غافلا في

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 345

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 237

..........

______________________________

جامعيته للشرائط بحيث لم يحرز حال التقليد اجتماعه للشرائط ثم تنبه و شك فيها- فواضح لأنه لم يكن في تقليده السابق مستندا الى ركن وثيق و حجة مقبولة فهو

و غير المقلد في رتبة واحدة فيجب عليه الفحص بالنسبة إلى أعماله اللاحقة، و اما وظيفته بالنسبة إلى أعماله السابقة الناشئة عن التقليد الكذائي فإن علم مخالفتها للواقع، أو ما بحكمه فيجب عليه قضائها، و الا فعلى ما فصلناه في ذيل مسئلة الأربعين فراجع.

و اما لزوم الفحص في الصورة الثانية- و هي ما إذا قلد مع قيام الحجة على جامعيته للشرائط لكن بعد ذلك شك في استجماعه لها من الابتداء لاحتمال الخطاء في علمه أو لعلمه بفسق الشاهدين- فلانة بطرو الشك يسقط عن الحجية بقاءا لزوال العلم، أو سقوط البينة حسب الفرض عن الاعتبار، و المقلد كما يحتاج إلى الحجة، و المؤمن من العقاب المحتمل حدوثا كذلك يحتاج إليها بقاءا و بعد سقوط المؤمن الحدوثى ليس له الاعتماد عليه بل لا بد له من تحصيل المؤمن.

و لا يخفى ان ما ذكرناه مبني على عدم الدليل على اعتبار قاعدة اليقين، و الشك الساري كما هو المعروف بين الأصحاب- و هو المختار- و اما لو قلنا باعتبار قاعدة اليقين و الشك الساري فيكون حال هذه الصورة حال الصورة الثالثة من حيث عدم لزوم الفحص كما لا يخفى.

و اما عدم لزوم الفحص في الصورة الثالثة، و جواز البقاء له على تقليد من قلده من الابتداء، فللاستصحاب، و ذلك لأنه بعد قيام الحجة على استجماعه للشرائط لو شك في طرو ما يوجب زوالها عنه فيستصحب جواز تقليده الى ان يحرز الخلاف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 239

[مسئلة 43- من ليس أهلا للفتوى يحرم عليه الإفتاء]

اشارة

مسئلة 43- من ليس أهلا للفتوى يحرم عليه الإفتاء (1)، و كذا من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس، و حكمه ليس بنافذ، و لا

يجوز الترافع اليه، و لا الشهادة عنده (2)، و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام (3)، و ان كان الأخذ محقا

______________________________

(1) حرمة الإفتاء من غير الأهل إذا كانت له قوة الاستنباط انما هي إذا وقعت مقدمة لعمل الغير، و الا فمجرد الإفتاء، و الاخبار عن الرأي على الموازين المقررة من المجتهد الفاسق، أو غيره فلا حرمة فيه.

(2) للتوصل بها الى فصل الخصومة.

(3) ان لم يكن المأخوذ شخص ماله، بان كان حقه كليا و كان تعيينه في المأخوذ بحكم الحاكم، و إعطائه، و الا فنفس الترافع اليه، و الأخذ بحكمه حرام دون شخص ماله المأخوذ منه، و لا يبعدان يلحق بالعين الشخصية ما إذا كان المال دينا لا يجوز للمديون تأخيره- بأن كان الدين معجلا، أو مؤجلا حل أجله- إذا كان الدائن مباشرا لذلك، و ان كان مستندا الى حكم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 240

إلا إذا انحصر (4) استنقاذ حقه بالترافع عنده

______________________________

من ليس له أهلية الحكم، فيحل له التصرف في المأخوذ كما يجوز أخذه و تملكه تقاصا بشرائطه التي منها امتناع الغريم عن الأداء، نعم حيث انه لم ينحصر إنقاذ حقه بالاستناد الى حكمه يكون الترافع لديه محرما.

(4) فيما إذا كان المال معتنى به بحيث يكون الصبر عليه حرجيا و ضررا عليه، و الظاهر انه لا فرق في ذلك بين أنحاء الانحصار: من عدم وجدان الشرعي، أو تعذر الوصول اليه، أو تعسره، أو عدم إمكان الإثبات عنده، أو عدم نفوذ حكمه أو نحو ذلك من الضرورات المبيحة للمحذورات

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 241

..........

______________________________

أقول: تعرض المصنف (قدس) في هذه المسئلة أحكاما خمسة في موضوع

من ليس أهلا للفتوى، أو القضاء:

أحدها: حرمة الإفتاء.

ثانيها: حرمة القضاء بين الناس.

ثالثها: عدم نفوذ حكمه.

رابعها: عدم جواز الترافع و الشهادة عنده.

خامسها: حرمة أخذ المال بحكمه، و ان كان محقا إلا إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده.

تحقيق الحال يستدعي إفراد البحث في كل منها فالكلام يقع في طي مباحث

المبحث الأول في حرمة إفتاء من ليس له أهلية للفتوى

اشارة

عدم أهلية المفتي للفتوى تارة بلحاظ عدم صلاحية علمية له بان لم تكن له ملكة الاجتهاد، و ان كان من أهل العلم، و كان واجدا لسائر الشرائط، و اخرى بلحاظ عدم واجديته لسائر الشرائط- بأن كان فاسقا مثلا- و ان كان له ملكة الاجتهاد

حرمة إفتاء من ليست له ملكة الاجتهاد
اشارة

اما حرمة إفتاء من ليست له ملكة الاجتهاد فيستدل لذلك بوجوه.

الوجه الأول:

أنها قول بغير علم و اسناد للحكم اليه تعالى من غير حجة و دليل و حرمته غنية عن البيان و قد دلت الآيات و الاخبار المتظافرة على ذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 242

..........

______________________________

فمن الآيات قوله تعالى آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ «1».

فقد حصر الأمر في شيئين: ما اذن به: و ما هو افتراء، و واضح ان غير الأهل غير مأذون بذلك منه تعالى فلا محال تكون فتواه افتراء منه على اللّه تعالى فيحرم.

و منها قوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ «2».

فاذا كان هذا حاله تعالى مع أشرف بريته إذا تقول عليه- و العياذ باللّه- و قال بما لا يعلم فما ظنك بتقول غيره عليه.

و اما الاخبار فهي من الكثرة بمكان قد عقد لها في الوسائل بابا و اسماه عدم جواز القضاء و الإفتاء بغير علم نشير الى بعضها و نحيل الطالب لجميعها الى الباب المومى إليه.

ففي خبر ابى عبيدة قال:

قال أبو جعفر عليه السّلام من افتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه «3».

و في خبر مفضل بن يزيد (زيد) قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال أنهاك أن تدين اللّه بالباطل و تفتي الناس بما لا تعلم «4».

و قريب منه خبر عبد الرحمن بن حجاج قال:

سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مجالسة أصحاب الرأي فقال جالسهم و إياك عن خصلتين فهلك فيما الرجال ان تدين اللّه بشي ء

من رأيك أو تفتي الناس بغير علم «5».

______________________________

(1) يونس: 10/ 59

(2) الحاقة: 69/ 42- 43

(3) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح/ 1

(4) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح/ 2

(5) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح/ 29

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 243

..........

______________________________

و في خبر موسى بن بكير قال:

قال أبو الحسن عليه السّلام من افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض و ملائكة السماء «1».

و قريب منه خبر إسماعيل بن ابى زياد عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء و الأرض «2».

و في خبر حسن بن أبي شعبة في تحف العقول عن النبي صلّى اللّه عليه و آله:

من افتى الناس بغير علم فليتبوء معقده من النار «3».

الى غير ذلك من الاخبار.

الوجه الثاني:

ان الإفتاء حيث انها اخبار عن الرأي المتعلق بالحكم الشرعي فإذا افتى و لم يكن له رأى واقعا فيحرم اما من جهة الكذب، و اما من جهة اخباره بالالتزام عن الحكم الشرعي إذا لم يكن عنده حجة عليه، فاذا كان له رأى و كان رأيه مستندا الى ما ليس بحجة في حقه شرعا- كالقياس و الاستحسان و نحوهما- فيحرم أيضا لاخباره بالالتزام عن الحكم الشرعي.

الوجه الثالث:

ان الإفتاء من غير الأهل إغواء و إضلال لأدائه إلى وقوع المقلد في خلاف الواقع بالعمل بفتياه.

و لكن فيه: ان مجرد ذلك لا يستلزم ذلك لأنه قد تكون فتواه موافقة لفتوى المجتهد الجامع للشرائط فلا يكون عند ذاك إغواء و ضلالة خصوصا إذا صرح للعامي بان فتواي ليست حجة و انما عليك العمل بفتوى فلان فالدليل أخص من المدعى.

الوجه الرابع:

ان الإفتاء من المناصب المختصة بالمعصوم عليه السّلام فلا يجوز إلا باذنه و واضح ان فاقد الملكة غير مأذون فيحرم عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح/ 31

(2) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح/ 32

(3) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح/ 33

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 244

..........

______________________________

و فيه: بأنه لم يثبت كون الإفتاء من المناصب المختصة بالمعصوم عليه السّلام حتى يحتاج الى الاذن بل مقتضى أدلة اعتبار الأمارات و الأصول عدم كون الإفتاء من المناصب المختصة، بداهة اعتبارها لكل من ورد عليها فكل من ورد عليها و فهم مغزاها يصح الاتكال عليها و الإفتاء بمضمونها و الا فلا.

و ما تقدم من اعتبار بعض الشرائط فإنما هو في حجية فتواه و صحة الاستناد إليها في مقام العمل لا في جواز الإفتاء تكليفا و لأعلى كونها من المناصب المختصة بالمعصوم.

الوجه الخامس:

حكى الإجماع على عدم جواز الإفتاء له عن ظاهر المسالك و جماعة، و قال سيد مشايخنا: «صرح بذلك جماعة من الأعيان مرسلين له إرسال المسلمات» «1».

و ادعى بعضهم الإجماع بقسميه عليه و حكاه عن جماعة كثيره.

و فيه: ان المنقول منه غير حجة و المحصل منه غير ثابت و على تقدير الثبوت يشكل الاستناد اليه مع وجود مدارك أخر في المسئلة فيكون الإجماع مظنون المدرك أو محتمله.

و بالجملة الإجماع الكذائي لا يكون كاشفا عن حجة معتبرة.

فتحصل انه لا إشكال في ان إفتاء من ليس له ملكة الاجتهاد حرام و هو الظاهر من الآيات و الاخبار بل و كلمات الأصحاب بل حرمة إفتائه و ان طابقت رأى المجتهد الجامع للشرائط لان صرف المطابقة لا يخرج فتوى عن

الفتوى بغير العلم فيعمه ما دل على حرمة القول على اللّه سبحانه بغير علم.

حرمة إفتاء من لم يكن واجدا لسائر الشرائط غير ملكة الاجتهاد

و اما حرمة إفتاء من لم يكن واجدا لسائر الشرائط و ان كان له ملكة الاجتهاد.

فربما يستدل لها بالوجوه المتقدمة.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 69

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 245

..........

______________________________

و قد عرفت عدم تمامية بعضها للاستدلال به في غير المجتهد، و بعض منها و ان صح الاستدلال به هناك و لكن لا يتم الاستدلال به للحرمة في المقام لان المجتهد غير الواجد للشرائط بما انه مجتهد يجوز اخباره عن نظره و فتواه لعدم كونه كذبا على الفرض و تكون فتواه مما اذن اللّه به لان ما افتى به حسب نظره و اجتهاده حكم اللّه سبحانه في حقه فلا افتراء في إسناده الحكم الى اللّه تعالى غاية الأمر لا يجوز تقليده و ربما يستشكل في جواز إفتائه فيما إذا علم المجتهد غير الواجد رجوع الغير إليه لأنه إغراء بالجهل و إضلال للسائل فيحرم.

و لكنه يندفع بأنه بعد قيام الحجة لدى المجتهد غير الواجد لا إغراء للجهل بل يرى خلافه جهلا و ضلالة.

نعم ان لم يعرف السائل حكم المسئلة مع العلم بموضوعه (اعنى مع علم السائل بفسق المجتهد المزبور لو جهل ان اعتبار فتوى المجتهد و حجيته مشروط بشرائط منها عدالته) ففي هذه الصورة يجب على المجتهد أعلامه بعدم حجية رأيه لما تقرر في محله من وجوب تبليغ الأحكام للجاهلين.

و بالجملة لا بد له و ان يبين للسائل في الفرض ان الحجة في حقه هي فتوى المجتهد الجامع للشرائط التي منها العدالة إذ لو لا ذلك لكان إفتائه إغراء و إضلال و هو حرام.

و اما إذا

كان السائل عالما بحكم المسئلة بأنه لا يجوز تقليد المجتهد الفاسق مثلا الا انه قامت البينة عنده بعدالة المجتهد المزبور ففتوى من يرى نفسه فاسقا و ان لم تكن حجة واقعا في حق الغير الا انه لا مانع من اخباره بفتواه و نظره و لا يجب عليه ان ينبه السائل بنفسه.

نعم ان كان التصدي للإفتاء ظاهرا في الإنباء عن عدالته كما قد يتفق في بعض المقامات بحيث لو افتى المجتهد بعد السؤال عن مسئلة لكان ظاهره الاخبار عن عدالته و استجماعه الشرائط فيحرم من جهة الكذب لأنه من قبيل إظهار العدالة ممن لا عدالة له.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 246

..........

______________________________

و من ذلك ما يقال انه لا يجوز للفاسقين ان يشهدا الطلاق و ان اعتقد مجرى الطلاق، أو الزوجان عدالتهما لان المرية بحضورهما ترتب على نفسها آثار الطلاق الصحيح و ترى بعد انقضاء العدة انها مخلاة عن الزوج فتزوج نفسها من غيره مع أنها أمرية ذات بعل لبطلان الطلاق.

و لكن ربما يفرق بين المقام و بين الشهادة للطلاق بأنه لا محذور في المقام في اخبار المجتهد الفاسق عن نظره و إفتائه عند علم السائل بحكم المسئلة و ان اعتقد عدالة المفتي لعدم إغراء و إضلال و لا كذب في إفتائه حسب الفرض و لا يجب إرشاد الجاهل بالموضوع بتبليغه.

و اما في باب الطلاق فلا يجوز للفاسقين ان يشهدا بالطلاق و ان اعتقد مجرى الصيغة أو الزوجين عدالتهما.

و لعل السر في ذلك هو ان العدالة المعتبرة في باب الطلاق العدالة الواقعية و المفروض عدمها فلم يكن طلاق صحيح في المفروض، و قد أشرنا أن المرية بحضور الفاسقين عند إجراء صيغة الطلاق

ترتب على نفسها آثار الطلاق الصحيح و بعد انقضاء العدة لعلها تزوج نفسها من غيره مع أنها أمرية ذات بعل، و لعل زوجها بعد طلاقها تزوج أمرية مع ان المطلقة بعد زوجته فيجتمع عنده خمس زوجات، أو كانت المرية أخت المطلقة فيجتمع عنده الأختان، و التفصيل يطلب من مظانه.

المبحث الثاني في حرمة قضاء من ليس له أهلية للقضاء

اشارة

مقتضى الأصل الاولى في جواز القضاء بين الناس و عدمه لمن لا أهلية له في القضاء بما انه فعل من أفعال الشخص هو الجواز و الإباحة لما تقرر في محله ان الأصل في الأشياء الإباحة خلافا لبعضهم حيث يرون ان الأصل فيها الحظر.

و لكن انقلب هذا الأصل إلى حرمة صدور القضاء من كل أحد الا من اذن له فغير المأذون و من شك في مأذونيته لا يجوز له تصدى القضاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 247

..........

______________________________

تشهد لذلك جملة من الاخبار الدالة على ان الولاية على القضاء من المناصب المختصة بالنبي و أوصيائه الكرام صلوات إله عليهم أجمعين.

كقول ابى عبد اللّه عليه السّلام في خبر سليمان بن خالد:

اتقوا الحكومة فإن الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي (لنبي) أو وصى نبي «1».

و قوله عليه السّلام في خبر إسحاق بن عمار عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال لشريح:

يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) الا نبى أو وصى نبي، أو شقي «2».

و قوله عليه السّلام في خبر ابى خديجة:

إياكم ان يحاكم بعضكم الى أهل الجور لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (قضائنا) فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه «3».

و قوله عليه السّلام في خبر ابن الحنظلة:

من تحاكم الى الطاغوت فحكم فإنما يأخذه سحتا و

ان كان حقه ثابتا الى ان قال ابن الحنظلة؟ فكيف يصنعان قال عليه السّلام ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد، و الراد علينا الراد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب صفات القاضي ح/ 3.

(2) الوسائل باب 3 من أبواب صفات القاضي ح/ 3.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 4

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 248

..........

______________________________

الى غير ذلك من الاخبار.

و مقتضى هذه الاخبار خصوصا صحيح ابن خالد هو ان القضاء من المناصب المختصة بالنبي أو الوصي (صلوات اللّه عليهم) و لا تشرع لغيرهم، و حيث انه لا يمكنهم التصدي بأنفاسهم المقدسة للقضاء، و فصل خصومات ربع المسكون بل لم يتصدوا قضاء بلدة واحدة الا و قد نصوا لذلك قاضيا أو قضاة حسب احتياج البلدة، فإذا يكون المراد باختصاص القضاء بهم صلوات اللّه عليهم هو انه لا يجوز تصدى القضاء إلا أنفسهم المقدسة أو من يكون بإذن منهم خصوصا أو عموما، و غير المأذون لا أهلية له للقضاء فيحرم عليه ذلك.

و بما ذكرنا يندفع توهم ان ظاهر صحيح سليمان بن خالد على خلاف ضرورة الفقه لدلالته على اختصاص منصب القضاء للنبي و الوصي مع انه لا ينبغي الإشكال في جواز التصدي لغيرهما في الجملة، و المتيقن منه ما إذا كان المتصدي مجتهدا مطلقا جامعا لجميع الشرائط المعتبرة، توضيح الاندفاع لائح مما

ذكرنا.

و ان أبيت عن ذلك فنقول ان ظاهر الصحيح هو ان ولاية القضاء لم يثبت لغيرهما في عرضهما، لا انه لم يثبت لغيرهما حتى مع إذنهما، و المأذون من قبلهما في طول قضائهما، متفرع على ولايتهما في القضاء فتدبر.

أضف الى ذلك كله دعوى عدم الاشكال و الخلاف في حرمة تصدى قضاء من ليس أهلا له كما في المستمسك و عن المسالك انه موضع وفاق بين أصحابنا، و قد صرحوا بكونه إجماعيا.

يؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه أصالة عدم نفوذ حكم أحد و ان بلغ من الكمالات ما بلغ في قوتي العلمية و العملية بالنسبة إلى غيره، الا إذا انتهى اليه تعالى، و واضح ان غير الأهل لم يكن مأذونا منه تعالى.

و يقرر ذلك بان العقل لا يحكم بلزوم اتباع حكم أحد بما انه حكمه و ان بلغ من الكمالات في قوتي العلمية و العملية ما بلغ، نبيا كان أو غيره بالنسبة إلى غيره.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 249

..........

______________________________

و بعبارة أخرى لا ولاية لأحد على أحد و لا نفوذ لحكمه فيه لأن أفراد الناس خلقوا بحسب الطبع أحرارا مستقلين و هم بحسب الخلقة، و الفطرة مسلطون على أنفسهم، و على ما اكتسبوه من أموالهم باعمال الفكر، و صرف القوى بالتصرف في شئونهم، و أموالهم، و التحميل عليهم ظلم، و تعد عليهم.

و مجرد اختلاف إفراد الناس بحسب الاستعداد و الفضيلة لا يوجب ولاية بعضهم على بعض و تسلطه عليه، و لزوم تسليم هذا البعض له.

نعم يحكم العقل بولاية اللّه تعالى، و سلطنة التامة في جميع شئون الناس لأنه تعالى خالقهم و مالكهم و له السلطنة الكلية الحقة على جميع الخلائق، لان

أزمة الأمور كلا بيده و الكل مستمدة من مدده.

فلله تعالى الخلق و الأمر قال إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفٰاصِلِينَ «1» و قال عز من قائل أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحٰاسِبِينَ «2».

و قال تبارك وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّٰهِ «3».

و قال تعالى فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ «4».

الى غير ذلك من الآيات.

فلله تعالى الولاية التكوينية و التشريعية فسلطنة غيره تعالى و نفوذ حكمه يحتاج الى جعله تعالى، و قد نصب النبي صلّى اللّه عليه و آله للخلافة و الحكومة مطلقا قضاءا كانت أو غيره بقوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «5».

______________________________

(1) الانعام: 6/ 57

(2) الانعام: 6/ 62

(3) الشورى: 42/ 26

(4) الغافر: 40/ 12

(5) الأحزاب: 33/ 62

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 250

..........

______________________________

و قوله عز من قائل وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ «1».

و قال تعالى فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2».

و قال تبارك يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ «3».

الى غير ذلك من الآيات.

ثم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله كان الأئمة المعصومون عليهم السّلام واحدا بعد واحد سلطانا و حاكما على العباد و يكون نفوذ حكمهم من قبل نصب اللّه تعالى و نصب النبي الأعظم بمقتضى الآية المتقدمة، و الاخبار المتواترة بين الفريقين عن النبي المعتضدة بأصول المذهب، و هذا مما لا اشكال فيه.

فعلى هذا لا بد و ان يكون نفوذ قضاء كل

أحد بإذن من الرسول أو الوصي أو و الأئمة صلوات اللّه عليهم و واضح ان المأذون هو الأهل للقضاء و غير المأذون غير أهل لذلك.

فتحصل مما ذكرنا انه لا يجوز لغير النبي و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم تصدى منصب القضاء الأمن كان من ناحيتهم و مأذونا من قبلهم، و واضح ان المأذون من قبلهم بحكمهم في جواز تولى القضاء «4».

فلا بد من ملاحظة أدلة الأذن ليعرف نطاق دلالتها سعة و ضيقا، و ان الاذن هل ثابت المطلق العالم بالقضاء و ان كان علمه مستندا الى التقليد، أو يعتبر الاجتهاد في الأهلية للقضاء وجهان بل قولان.

______________________________

(1) النساء: 4/ 64

(2) النساء: 4/ 68

(3) النساء: 4/ 2

(4) و ليعلم انه يعتبر في القاضي، و المأذون من قبلهم في القضاء أمورا و شرائط، كالبلوغ، و العقل، و العلم، و الايمان، و طهارة المولد، و العدالة، و الذكورة الى غير ذلك من الشرائط، و الذي نحن نتعرضه هنا اشتراط علم القاضي، و الجهات المربوطة بعلمه و اما اعتبار بقية الشرائط فيطلب من كتاب القضاء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 251

..........

______________________________

فعن المحقق القمي (قدس) جواز قضاء المقلد إذا كان عالما بجميع ماله ربط بمسائل القضاء بتقليد صحيح، و عن العلامة النراقي في المستند، و صاحب الجواهر في جواهره موافقته في ذلك بل في الجواهر جواز القضاء من كل مؤمن يحكم بالعدل و القسط، و ان لم يكن عالما بالنحو و غيره.

و لكن عن المشهور اعتبار الاجتهاد في القاضي بل ادعى عليه الإجماع في كلام جماعة من الأساطين منهم الشهيد الثاني من غير فرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار.

و القائلون باعتبار الاجتهاد في القاضي اختلفوا في

اعتبار الإطلاق في الاجتهاد، فذهب بعضهم إلى كفاية التجزي في ذلك، كما ذهب بعض أخر إلى اعتبار الإطلاق فلا يجزى قضاء المتجزى.

و قبل ذكر أدلة الأطراف ينبغي التنبيه على أمر و هو ان قضاء المجتهد المطلق الجامع للشرائط في عصر الغيبة متيقن الاعتبار و انه الأهل للقضاء بعد الأئمة المعصومين عليهم السّلام فيصح قضائه و ينفذ حكمه من غير نكير، و اما غيره من المجتهد المتجزى، أو مطلق المؤمن العارف بموازين القضاء و لو عن تقليد صحيح فمشكوك فيه فان كان لأدلة اعتبار القضاء إطلاق أو عموم فينفذ قضاء الجميع، و الا فإن كان لها إجمال، أو إهمال فيؤخذ بما هو المتيقن.

الوجوه التي يستدل لجواز تصدى مطلق العارف للقضاء و دفعها
اشارة

إذا عرفت ذلك فنقول يستدل لجواز تصدى مطلق العارف للقضاء و ان كان غير مجتهد بوجوه من الأدلة.

الوجه الأول: الآيات المباركات

منها: قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ «1».

فإن إطلاقه يشمل العامي الذي لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، فإذا أوجب اللّه الحكم بالعدل بين الناس فلا بد من نفوذه فيهم و وجوب قبولهم و الإصار لغوا.

______________________________

(1) النساء: 4/ 6

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 252

..........

______________________________

و فيه كما أفاده أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله ان الخطاب في صدر الآية متوجه الى من عنده الامانة لا مطلق الناس و في ذيلها الى من له الحكم فله منصب القضاء و الحكومة لا مطلق الناس أيضا كما هو ظاهر بأدنى تأمل فحينئذ يكون المراد ان من له الحكم بين الناس يجب عليه ان يحكم بينهم بالعدل هذا.

مضافا الى انها في مقام بيان وجوب العدل في الحكم لا وجوب الحكم فلا إطلاق لها من هذه الحيثية.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 252

و يدل على ان الأمر متوجه الى من له الأمر مضافا الى ظهور الآية ما رواه الصدوق بإسناده عن المعلى بن خنيس عن الصادق عليه السّلام قال:

قلت له قول اللّه عز و جل إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فقال عليه السّلام:

عدل الامام ان يدفع ما عنده الى الامام الذي بعده و أمر

الأئمة ان يحكموا بالعدل و أمر الناس ان يتبعوهم «1».

و ليس هذا تفسيرا تعبديا خلاف ظاهر الآية، بل هو ظاهرها لأن الحكومة بين الناس لما كانت في جميع الطوائف شأن الأمراء و السلاطين لا يفهم العرف من الآية الا كون الخطاب متوجها إليهم لا إلى الرعية الذين ليس لهم أمر و حكم «2».

و بالجملة الآية وردت في بيان حكم أخر و هو لزوم الحكم بالعدل في القضاء لا بيان صفة الحاكم حتى يؤخذ بإطلاقها فتدبر.

مع انه لو سلم الإطلاق لها فبلحاظ عدم تصدى القضاء و الحكم من كل أحد فتنصرف الآية الى من كان صاحب الأمر و الحكم و هو غير العامي.

و منها قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «3» و

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 6

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 114

(3) المائدة: 5/ 44

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 253

..........

______________________________

في أية اخرى هُمُ الظّٰالِمُونَ «1» و في ثالثة هُمُ الْفٰاسِقُونَ «2».

تقريب الدلالة أنها بمفهومها تدل على وجوب الحكم بما انزل اللّه و إطلاقها يشمل العامي الذي لم يبلغ مرتبة الاجتهاد.

و فيه أولا: ان الآيات واردة في شأن التوراة و الإنجيل و ذم علماء اليهود و النصارى بأنهم لا يحكمون بأحكام أنزل اللّه إليهم بل يخفونها عن الناس و يكتمونها عنهم و يحكمون بخلاف ما انزل اللّه إليهم و هذا غير حكم الحاكم و القاضي الذي موضوع للبحث.

و بالجملة الآيات بصدد ذم علماء اليهود و النصارى لإخفائهم أحكام اللّه الواقعية و هذا غير حكم الحاكم الذي محط البحث فغاية ما يستفاد منها هي انه يجب على العلماء تبين الأحكام الواقعية

الكلية للناس و لا يكتمونها عنهم كما كتموها علماء أهل الكتاب و انى له و للمقام.

و ثانيا: لو سلم فالآيات بصدد بيان حرمة الحكم بغير ما انزل اللّه لا بيان جواز الحكم أو وجوبه لكل أحد.

و بالجملة لم تكن الآيات بصدد تجويز المراجعة الى كل أحد حتى يؤخذ بإطلاقها و غاية ما يستفاد منها ان من يصلح للحكم و القضاء لو لم يحكم بما انزل اللّه فهو كافر، أو ظالم، أو فاسق.

و ثالثا: لو كان لها إطلاق لو خليت و نفسها و لكن بلحاظ عدم معهودية تصدى القضاء و الحكم في الرعية من كل أحد تنصرف الى من كان صاحب الحكم دون غيره.

مع انه يمكن تقييدها بما سيمر بك من دلالة الاخبار على اعتبار الاجتهاد.

و منها: قوله تعالى:

______________________________

(1) المائدة: 5/ 45- 48

(2) المائدة: 5/ 45- 48

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 254

..........

______________________________

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا «1».

تقريب الدلالة انه يدل على لزوم القيام بالقسط و لزوم الحكم بالعدل و إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين المجتهد و من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد.

يظهر حال الاستدلال بهذه الآية الشريفة مما ذكرناه في الآيات المتقدمة كما يظهر الحال في سائر الآيات التي استدل بها صاحب الجواهر (قدس) ففيما ذكرناه كفاية فلاحظ و تأمل.

و الإنصاف: أن الآيات التي استدل بها صاحب الجواهر (قدس) و غيره اما لا دلالة لها على الحكم و القضاء بين الناس، أو لا إطلاق لها بحيث يمكن الاستدلال بها للمقام، و لو فرض إطلاق لها في حد نفسها لكنها ينصرف الى من كان صاحب الأمر و الحكم بعد

عدم كون القضاء و الحكم في الشريعة من كل أحد، و لو سلم جميع ذلك فيكفي في تقيدها و رفع اليد عن إطلاقها ما سيجي ء مما يدل بوضوح- كمقبولة كمقبولة عمر بن حنظلة و غيرها- على اعتبار النظر و الاجتهاد في القاضي و الحاكم فارتقب.

الوجه الثاني: الاخبار الواردة

منها: خبر ابى خديجة عن الصادق عليه السّلام قال:

إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكوا اليه «2».

تقريب الدلالة انه عليه السّلام جعل من كان من شيعتهم عالما من قضاياهم أو من قضائهم، و واضح ان المراد بالعلم ليس خصوص العلم الوجداني بأحكامهم بل ما يعم الحجة عليها و الا يلزم عدم صحة قضاء المجتهد بداهة ان أكثر استنباطاته ظنية و لذا

______________________________

(1) المائدة: 5/ 7

(2) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 255

..........

______________________________

قد يقال ان العلماء في الحقيقة ظنناء، و المقلد عالم بالحكم بهذا المعنى فيشمله إطلاق الخبر، بل ذكر صاحب الجواهر (قدس) لعل ذلك اولى من الأحكام الاجتهادية الظنية.

و فيه أولا: ان الظاهر من قوله عليه السّلام يعلم شيئا من قضايانا هو العلم بالأحكام الكلية الإلهية و وجه الاستناد إليهم عليهم السّلام مع انه مستند اليه تعالى بلحاظ انهم وسائط في وصول الأحكام الكلية الإلهية إلينا لا الأحكام الجزئية و القضايا الشخصية و القضايا الجزئية التي وقعت بين أيديهم عليهم السّلام لعدم معودية القضاء لغير أمير المؤمنين و السبط الأكبر عليهما السّلام في برهة قليلة، و واضح ان فهم القضايا و الأحكام الكلية الواردة عنهم لم يكن شأن

العامي المقلد كما هو ظاهر.

و ثانيا: ان العامي المتكل الى فتوى الفقيه في مسائل القضاء لا يصدق عليه عرفا انه عالم بقضائهم بل يصدق عليه انه عالم بفتوى الفقيه بقضائهم بلحاظ انها طريق إلى قضائهم.

يظهر هذا بوضوح من مراجعة العرف في سائر موارد استعمال هذه اللفظة فإنهم لا يطلقون العالم بالطب مثلا و الطيب على من سمع جملة من المسائل الطبية من طبب تقليدا، و انما يطلقونه على من علم بها استدلا لا فتدبر.

و ثالثا: بأنه لو سلم فغايته الإطلاق و يكفي في تقيده كما أشرنا ما يدل بوضوح على اعتبار النظر و الاجتهاد كما سيمر بك مفصلا.

و منها: خبر الحلبي قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منا فقال ليس هو ذاك و انما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط «1».

تقريب الدلالة من وجهين:

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 8

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 256

..........

______________________________

الأول: إطلاق قوله رجل منا فإنه يشمل المقلد و ترك الاستفصال دليل العموم و الثاني: حصر عدم الجواز فيمن يجبر الناس بسيفه وسوطه دليل على جواز الرجوع الى غيرهم مطلقا.

نوقش أولا: بأن الظاهر من قوله عليه السّلام ليس هو ذاك هو كون الكلام مسبوقا بسابقة بين المتخاصمين غير منقولة إلينا فلعله كان الخبر مسبوقا بأمر لو كان مذكورا لما فهمنا منه ما يفهم منه فعلا و كلما كان الكلام محفوفا بما يصلح للقرينية يشكل بل لا يصح الاحتجاج و الاعتماد عليه، و كذا لا يكون الظاهر حجة إذا احتف الكلام بما يحتمل صرف الظاهر عن ظهوره.

و بالجملة يشكل

الاعتماد على الإطلاق و ترك الاستفصال بعد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

و ثانيا: انه لم يكن الكلام مسوقا لبيان الترافع الى قضاة المؤمنين ليصح التمسك بإطلاقه بل المتراءى من الخبر النهى عن المراجعة إلى قضاة العامة فلا يصح التمسك بالإطلاق.

و ثالثا: ان الحصر في الخبر إضافي لعدم تمامية الحصر في طرفي القضية لأن مفاد الحصر ان كل من لم يجبر الناس بالسيف و السوط يجوز له الحكم و القضاء، لوضوح ان المخالفين و الفاسقين و من يحذو حذوهم و ان لم يجبروا بالسيف و السوط لا يجوز الترافع عندهم، و ان امام العدل مثل أمير المؤمنين عليه السّلام ان قام بالسيف و السوط يجب إتيانه.

و المترائى من قوله عليه السّلام (ليس هو ذاك و انما هو الذي يجبر الناس إلخ) كناية عن نهى المراجعة إلى قضاة العامة، لا بصدد بيان صحة الترافع و المراجعة الى كل أحد من المؤمنين فلا يستفاد من قوله رجل منا، و لا من الحصر قضية مطلقة، و هو جواز تصدى كل مؤمن لمنصب القضاء، و ان لم يكن مجتهدا عالما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 257

..........

______________________________

و رابعا: انه لو أغمض عما ذكرنا فغايته الاستدلال بالإطلاق و يكفي في تقييده كما أشرنا و سيمر بك بوضوح مقبولة عمر بن حنظلة و غيرها.

و منها: غير ذلك من الاخبار.

الوجه الثالث: الأمر الاعتباري و قد أشار إليه صاحب الجواهر (قدس) و أومى إليه في بعض الكتب و استفدناه من بحث أستاذنا العلامة الخمينى (دام ظله) و حاصله.

هو انه يستدل لصحة الرجوع الى المقلد بان الاجتهاد بهذا المعنى المتعارف- من لدن شيخ الطائفة (قدس) الى زماننا هذا- لم يكن في

الصدر الأول بل المحدثون في الصدر الأول مثل المقلدين الآخذين أحكام اللّه من الفقهاء فهم كانوا يسمعون الأحاديث و الحلال و الحرام من صراح الوحي و يكون قوله عليه السّلام حجة لهم كما هو الشأن في حال أكثر المحدثين في زماننا هذا.

فعلى هذا يكون المتبادر من قوله عليه السّلام ممن روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا غير ما هو المتبادر منها في زماننا و الملاك ملاحظة ذلك الزمان.

و بالجملة ليس المراد مما في المقبولة من كان له قوة الاستنباط بالمعنى المعهود في زماننا بل المراد منه من علم الأحكام بأخذ المسائل من لفظ الامام عليه السّلام أو الفقيه كما هو الشأن في تلك الأزمنة.

و فيه أولا: انه كما يساعده الشواهد و الأدلة و قد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم و لعله يأتي بعضها الأخر هو وجود الاجتهاد و الاستنباط في الصدر الأول و كان في ذلك العصر لمثل زرارة بن أعين، و محمد بن مسلم، و يونس بن عبد الرحمن و نظرائهم موقف عظيم و قد كانوا يميزون الاخبار الغث عن السمين و يعرفون مذاق أئمة أهل البيت عليهم السّلام و يميزون الأخبار الصادرة لبيان الأحكام الواقعية عما صدرت تقية و قضية قول زرارة لمن نقل قول المعصوم:- أعطاه من جراب النورة- شاهد صدق للمقال.

و قد ذكرنا مقال الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس) «انه كان في زمان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 258

..........

______________________________

أئمتنا عليهم السّلام: الزرارية و اليونسية و نحوهم و قد أمروا صلوات اللّه عليهم بالرجوع الى بعض أصحابهم كما أمروا بالرجوع الى يونس بن عبد الرحمن و يحيى بن زكريا و نحوهما

و الظاهر ان المراد الرجوع في الفتوى دون الرواية» «1».

و مما يدل على وجود الاجتهاد في الصدر الأول: ان المنصوبين للقضاء من قبل خلفاء الجور كانوا من الفقهاء الواجدين لقوة الاستنباط كشريح القاضي المنصوب من قبل أمير المؤمنين بقاءا، و ابن ابى ليلى، و ابن شبرمة، و قتادة و أضرابهم.

و بالجملة من تفحص و سبر حال أجلاء الرواة في الصدر الأول يجد ما ذكرناه بل يطمئن انه كان في ذلك العصر فقهاء عارفون بأحكامهم و ناظرون في حلالهم، و حرامهم.

نعم لم تكن مؤنة الاجتهاد لهم بهذه الصعوبة التي بلينا في الأعصار المتأخرة بل كانت سهلة، فهم بلحاظ كونهم عند صراح الوحي و كثير منهم كانوا أهل اللسان يسهل عليهم معرفة الأحكام و النظر فيها من دون احتياج الى كثير من مقدمات الاجتهاد و عدم احتياجهم الى التكلف و بذل الجهد الشديد مما يحتاج إليها في هذه الأعصار مما هي غير دخيلة في تقوم الموضوع و انما هي دخيلة في تحققه، فقيود الموضوع و هي ما عينه المقبولة من الأوصاف كانت حاصلة لكبار محدثي الصدر الأول من غير مشقة، و لفقهائنا مع تحمل المشاق.

و بالجملة العناوين المأخوذة في المقبولة و غيرها: من النظر في حلالهم و حرامهم و عرفان أحكامهم و غير ذلك منطبقة على هؤلاء المحدثين و الرواة كما تكون منطبقة على المجتهدين و الفقهاء من هذه الأعصار فهم مشتركون معهم فيما هو مناط النصب و امتياز المجتهدين في زماننا عنهم انما هو في أمر خارج عما يعتبر في النصب و هو تحصيل قوة الاستنباط بالمشقة و بذل الجهد و تحمل الكلفة في معرفة الأحكام مما لم يكن في الصدر الأول.

______________________________

(1) الحق المبين في تصويب

المجتهدين و تخطئة الأخباريين/ 61

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 259

..........

______________________________

فالقول بأنه لم يكن في الصدر الأول أهل النظر و الاجتهاد موجود و جميعهم نقلة الحديث و الرواية فقط ناش عن قلة الاطلاع بأحوالهم، و اسائة الأدب بساحتهم.

فتحصل: ان قيود الموضوع المذكورة في المقبولة دخيلة في المتصف بالقضاء و هي حاصلة لهؤلاء الرواة و المحدثين من غير مشقة، أو مع مشقة قليلة، و لفقهائنا مع تحمل المشاق و الزحمات الأكيدة، و اما المقلد فخارج عن الموضوع رأسا لعدم صدق الأوصاف عليه، فكما انها غير منطبقة على من لم يطلع على الأحكام الصادرة من قبلهم إلا بالمراجعة إلى الرسالة العملية للمجتهد فكذلك غير منطبقة على من حفظ الأحاديث الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و لكن غير واقفين بمراداتهم غير مائزين غثها عن سمينها غير متمكنين من الجمع بين متعارضاتها و غير قادرين على التوفيق العرفي بين مطلقاتها و مقيداتها و عموماتها و خصوصاتها.

و ثانيا: لو سلم عدم وجود فقيه ناظر في الحلال و الحرام، عارف بالأحكام في الصدر الأول و في عصرهم عليهم السّلام لكن لا يضر بما نحن بصدد إثباته لأن جواز تصدى منصب القضاوة و الحكومة في المقبولة علق على من كان عارفا بأحكامهم و ناظرا في حلالهم و حرامهم على سبيل القضية الحقيقية، أو الطبيعية فمن اتصف بالعنوان في أي عصر و زمان يصح له ذلك و الا فلا و واضح ان العامي و من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد لم يكن ينطبق عليه ذلك.

فظهر انه لم يوجد لنا دليل يصح الركون اليه لما ذهب اليه الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس) من جواز تصدي المؤمن العارف بموازين

القضاء و ان كان عن تقليد بل أشرنا كما سيظهر لك عن قريب جليا قيام الدليل على اعتبار النظر و العرفان في متصديه فارتقب.

و قد عرفت دعوى الإجماع على اعتبار الاجتهاد في القاضي عن جماعة من الأساطين منهم الشهيد الثاني في المسالك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 260

..........

______________________________

و مما يؤيد ما ذكرنا ما أشار الماتن (قدس) في كتاب القضاء من ان البحث في صلاحية العامي لمنصب القضاء بحث علمي مدرسي لا خارجية له بلحاظ ان التفات المقلد الى جميع المزايا و الدقائق و الخصوصيات المتعلقة بالوقائع و ما فيها من الأحكام في غاية البعد بل قريب من المحال «1».

بل لو خلينا و أنفسنا و لاحظنا الخارج نرى انه لا يمكن ان يتصديها كل مجتهد و عارف بالأحكام بل لا بد و ان يكون الأوحدي منهم و قد سمعنا و شاهدنا إن القضاة من الصدر الأول إلى زماننا هذا كان شأن طائفة مخصوصة من العلماء كما هو المسموع و المشاهد من سائر الدول الراقية و الممالك المتمدنة اصطلاحا و اسما.

و لو شك في شمول أدلة النصب للعامي للشك في اعتبار الاجتهاد في صدق عنوان الناظر في الحلال و الحرام، و العارف بأحكامهم و نحو ذلك بلحاظ صدقه على من عرفها و ان كان من طريق التقليد، أو لأجل أن الآيات المباركات ليست بصدد تعيين الحاكم و انما هي بصدد بيان ان القضاوة لا بد و ان تكون بالعدل و القسط فلا مجال للمتمسك بإطلاقها.

أو لأجل ان الاخبار انما وردت في قبال المخالفين للدلالة على عدم جواز الترافع الى أهل الجور و الفسوق، و ان الايمان معتبر في القضاء و اما ان

القاضي يعتبر ان يكون مجتهدا أو يكفي كونه عالما بالقضاء بالتقليد الصحيح أو يعتبر ان يكون رجلا الى غير ذلك من الأمور فليست الاخبار بصدد بيانها بوجه صحيح.

فاذا القدر المتيقن من دليل النصب من قبلهم هو المجتهد دون من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد و هو الخارج عن الأصل الذي أسسناه.

فبما ذكرنا كله ينقدح ضعف رد صاحب الجواهر (قدس) الإجماع المدعى في دليلهم بقوله: «و اما دعوى الإجماع التي قد سمعتها فلم أتحققه بل لعل المحقق

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى ج 2/ 7

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 261

..........

______________________________

عندنا خلافه» «1».

حكم اعتبار مطلق الاجتهاد في منصب القضاء

ثم انه بعد الفراغ عن اعتبار الاجتهاد في منصب القضاء يقع الكلام في كفاية مطلق الاجتهاد فيه حتى يصح تصدى المتجزى لمنصب القضاء، أو يعتبر الاجتهاد المطلق وجهان بل قولان.

و ليعلم أولا ان الاجتهاد قد يطلق و يراد منه استنباط الحكم من أدلته، و قد يطلق و يراد قوة منه الاستنباط و ملكة رد الفروع إلى الأصول فالمجتهد المطلق على الأول هو الذي استنبط جميع الأحكام من أدلتها فعلا، و المتجزي في قباله من استنبط بعض الأحكام من أدلتها فعلا فقط.

كما ان المجتهد المطلق على الإطلاق الثاني هو الذي يكون له ملكة استنباط جميع الأحكام و لو لم يستنبط جميعها و مقابله المتجزى و هو الذي لم تكن له قوة كذلك.

عدم كفاية ملكة الاجتهاد في القضاء

ثم لا يخفى انه لم يوجد في الروايات ما يستفاد منه صلاحية الواجد لملكة الاجتهاد فقط لإشغال منصب القضاء، لان عمدة روايات الباب هي مقبولة عمر بن حنظلة، و روايتا ابى خديجة، و التوقيع الشريف، و واضح ان قوله عليه السّلام: (عرف أحكامنا) في المقبولة، و قوله عليه السّلام: (يعلم شيئا من قضايانا- قضائنا) في رواية ابى خديجة، و قوله: عليه السّلام (و عرف حلالنا و حرامنا) في روايته الأخرى، يدل بوضوح على اعتبار العلم و العرفان الفعلي بالأحكام فلا يصلح للقضاء من له قوة الاستنباط فقط فتدبر.

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 40/ 19

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 262

الإجماع و الاخبار التي استدل بها لاعتبار الاجتهاد المطلق في القضاء
اشارة

______________________________

إذا أتمهد لك هذا فنقول يستدل لاعتبار الاجتهاد المطلق في القاضي مضافا الى الإجماع المدّعى في كلام بعضهم بجملة من الاخبار التي عمدتها قوله عليه السّلام في المقبولة:

ينظران الى من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا «1».

فان المصدر المضاف في الفقرتين الأوليتين، و الجمع المضاف في الفقرة الأخيرة يفيدان العموم فمن كان راويا لجميع أحاديثهم و ناظرا في كل ما يكون حلالا و حراما عندهم و عارفا بجميع أحكامهم يكون منصوبا للقضاء.

و قوله عليه السّلام في مشهورة ابى خديجة.

اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا، و إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى السلطان الجائر «2».

تقريب الدلالة ظاهر مما ذكرناه في المقبولة فإن المفرد المضاف يفيد العموم و بما ذكرنا يظهر دلالة قول مولانا الصاحب جعلني اللّه من كل مكروه فداه في التوقيع الشريف:

و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و انا

حجة اللّه «3».

فالمتصدى لمنصب القضاء، و المنصوب للقضاء لا بد و ان يكون راويا لأحاديثهم في جميع الأحكام بواسطة الروايات المأثورة عنهم و ناظرا في مداليلها و رفع معارضاتها، أو الجمع بينها عارفا بجميع ما يكون حلالا و حراما لديهم، و لا أقل جل ذلك هذا.

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 263

المناقشة في الإجماع و الاخبار

______________________________

قلت: قد يناقش فيما ذكر.

اما في الإجماع فلو سلم تحققه فلا يكاد ينفع في مثل المقام الذي يستدل له ببعض الوجوه لاحتمال ان يكون ذلك مدرك المجمعين فلا يكاد يستكشف رأى المعصوم به.

و اما الاستدلال بفقرات المقبولة فحاصل ما استفدناه من أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله هو ان وقوع الفقرات في مقابل المنع عن الرجوع الى حكام الجور و قضاتهم يمنع عن استفادة العموم لعدم معرفتهم جميع الأحكام بل قلما يوجد له مصداق في الخارج ضرورة انه لو كان فينا، أو فيهم فقيه بارع فإنما استنبط أو يستنبط أكثر المسائل التي يبتلى بها نفسه أو مقلديه و اما استنباط جميع المسائل و الفروع من جميع الأبواب فلا الا من كان له قوة قدسية.

و بالجملة الظاهر من قوله عليه السّلام عرف أحكامنا إلخ المعرفة و النظر الفعليين بأحكامهم و هي غير حاصلة لغير أئمة أهل البيت عليهم السّلام بل غير ممكن حصولها عادة الأمن كانت له قوة قدسية فيكون جعل منصب القضاء لمن عرف، أو يعرف جميع الأحكام لغوا فتكون ذلك قرينة على ان المراد منها عرفان جملة معتدا بها من أحكامهم

هذا أولا:

و ثانيا: لو فرض إمكان المعرفة الفعلية لجميع أحكامهم و وجوده خارجا فلا طريق لنا لتشخيصه بداهة انه لا يمكن الاطلاع على حاله الأمن كان في رتبته أو أعلم منه فلا معنى للأمر بالرجوع اليه.

فلا بد و ان يراد منها غير ما هو المترائى منها بدوا و لكن يجب ان يكون بحيث يصدق عليه انه راو لأحاديثهم، و عارف بأحكامهم، و ناظر في حلالهم و حرامهم، و من تحصل له مقدارا معتدا به منها يصدق عليه انه راو لأحاديثهم و عارف بأحكامهم و ناظر في حلالهم و حرامهم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 264

..........

______________________________

نعم بمناسبة الحكم و الموضوع لا بد و ان يكون عالما بجميع ما وليه لأنه بعد تصديه للقضاء يراجع اليه من جميع النواحي و الأطراف التي يتعارف المراجعة فيها اليه، و واضح انه لم تكن منازعاتهم و مرافعاتهم من سنخ واحد، و نسق فأرد، فلو لم يكن القاضي عارفا بجميع موازين القضاء يلزم الهرج و المرج، و تضييع شئونه و سقوطه بين الناس.

و بما ذكرنا يظهر حال ما في مشهورة ابى خديجة و التوقيع الشريف.

و على هذا يحمل قوله عليه السّلام في صحيحة ابى خديجة قال:

قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام: إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم قاضيا فانى قد جعلته قاضيا فتحاكوا إليه «1».

فإن ظاهرها ان من استنبط قليلا من قضاياهم الصادق على معرفة مسئلة أو مسئلتين مثلا يجوز له تصدى القضاء خصوصا على نسخة (قضائنا) لصدقه على من عرف بعض القضايا الصادرة عنهم في فصل

الخصومات.

المراد بالمتجزى المنصوب للقضاء
اشارة

و قد عرفت انه لا يمكن الالتزام به لما أشرنا أن منازعات الأمة الإسلامية ليست على نسق واحد، فلو لم يكن القاضي عارفا بجميع موازين القضاء يلزم الهرج و المرج و سقوط القاضي من بين الناس.

أضف الى ذلك كما أشرنا أن الأئمة المعصومين عليهم السّلام غير أمير المؤمنين و الامام المجتبى في برهة من الزمان لم يكن لهم بسط يد و خلافة ظاهرية فلم يكن لهم قضاؤه كما كان لهما عليهما السّلام فالمراد بالقضايا بهذه القرينة الأحكام الشرعية الصادرة عنهم فمن عرف و استنبط جملة من الأحكام بحيث يصدق انه عارف بقضاياهم فيجوز

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 265

..........

______________________________

له تصديه للقضاء مع عرفانه بجميع ما وليه.

فظهر و تحقق مما ذكرنا جواز تصدى المجتهد المتجزى العالم بموازين القضاء لمنصب القضاء و يصح له فصل الخصومة و هو المنصوب من قبلهم للقضاء فاذا منصب القضاء مختص بالفقهاء و لاحظ للعامي منه.

فبعد ما تمهد لك ما ذكرنا و عرفت ان العامي غير منصوب من قبلهم صلوات اللّه عليه للقضاء فحان التنبيه على جهتين مترتبتين الاولى في انه هل يجوز للفقيه الجامع للشرائط نصب العامي العارف بمسائل القضاء تقليدا للقضاء أم لا؟ و الثانية في انه لو لم يجز ذلك أيضا فهل يجوز توكيل الفقيه مقلده العارف للقضاء أم لا؟ فالكلام يقع في جهتين.

الجهة الاولى في انه هل يجوز للفقيه نصب العامي العارف بمسائل القضاء تقليدا للقضاء أم لا؟
اشارة

قد يقال بجواز نصب الفقيه الجامع للشرائط: العامي العارف بمسائل القضاء تقليدا للقضاء مستدلا بعموم أدلة ولاية الفقيه.

بتقريب أن للنبي و الوصي صلوات عليهما نصب كل أحد للقضاء مجتهدا كان أو مقلدا إذا كان عارفا بالمسائل بمقتضى سلطنتهما و ولايتهما

المطلقة على الأمة، فكل ما كان لهما يكون للفقيه الجامع بمقتضى عموم ولاية الفقيه.

و بالجملة كما كان للنبي أو الإمام صلوات اللّه عليهما نصب الفقيه الجامع للقضاء يصح لهما نصب العامي العارف بمسائل القضاء و كلما صح لهما صح للمجتهد الجامع، فيصح للفقيه الجامع نصب العامي العارف لذلك بحيث ينفذ حكمه لكل أحد حتى بالنسبة إلى الفقيه الذي نصبه، و يحرم مخالفته.

ذكر ما يوجه لجواز نصب العامي للقضاء و دفعه

و لا يخفى ان هذا الاستدلال يلتئم من مقدمتين لا بد من إثباتهما أما الأولى

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 266

..........

______________________________

فهي إثبات انه يجوز للنبي و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم بسبب الولاية العامة الثابتة لهم بالآيات و الاخبار و ضرورة المذهب نصب كل أحد لمنصب القضاء، و اما الثانية فهي ان كل ما ثبت لهما فهو ثابت للفقيه بأدلة عموم الولاية.

فإذا تمت هاتان المقدمتان فينفذ حكم العامي العارف المنصوب للقضاء من قبل الفقيه الجامع بالنسبة الى كل أحد.

و لكن ردت: المقدمة الأولى بأن مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة هو ان منصب القضاء انما هو للفقيه الواجد لصفات مخصوصة فيستفاد منها انه حكم الهى لا يجوز التعدي عنها.

و بالجملة ارجع الامام عليه السّلام فيها هذا المنصب الى من كان واجدا لصفات مخصوصة فلو كان تصح المراجعة إلى غيره لوجب عليه ان يعينه لأنه عليه السّلام في مقام بيان من يرجع اليه.

و لكن نوقش في دلالة المقبولة بأنها لا تدل الأعلى نصب الامام عليه السّلام الفقيه العادل و اما كون ذلك بإلزام شرعي حتى يستفاد منها ان الفقاهة من الشرائط الشرعية للقضاوة فلا.

و بالجملة النصب فيها و ان كان للفقيه العادل الا انه لا يستفاد منها انحصار المتصف

به فلعل ذلك بلحاظ كونه فردا جليا لا لكونه كذلك شرعا حتى لا يجوز لغيره تصدى القضاء.

و لكن يمكن الاستدلال لذلك بقوله عليه السّلام في صحيح سليمان بن خالد المتقدم:

اتقوا الحكومة فإن الحكومة انما هي للإمام العادل بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي «1».

فإن الظاهر منه انها مختصة بهما من قبل اللّه و لا يكون لغيرهما أهلية لها غاية الأمر أدلة نصب الفقهاء لذلك يكون مخرجة إياهم عن الحصر فيبقى الباقي.

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب صفات القاضي ح/ 3

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 267

..........

______________________________

بل يمكن ان يقال ان الفقهاء بوجه أوصياء لكونهم الخلفاء من قبلهم فيكون خروجهم عنه موضوعا فيصح ان يقال ان الحكومة منحصرة بالنبي، أو الوصي، و يراد منه ما يعم الفقهاء.

و بالجملة حصر الحكومة و القضاء بالنبي، و الوصي يسلب أهلية غيرهما لهما و خروج الفقهاء اما موضوعا أو حكما فيبقى الباقي.

و لك ان تقول انه لم يثبت للنبي، و لا للوصي مع ما لهما من الولاية المطلقة جعل منصب القضاء لكل أحد و ان لم يكن له أهلية لذلك لأدائه إلى الظلم و الجور الى مخالفة اللّه و رسوله.

و ذلك لأنه لو صح لهما جعل منصب القضاء لمن ليس له أهلية لذلك فحيث انه يجب اتباع آراء المنصوب من قبلهم لقوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1».

و حكم القاضي غير الأهل قد لا يكون عن منهاج صحيح، بل على غير موازين الشرع، و الشريعة فيؤيد الى مخالفة اللّه و رسوله، و هو فاسد، فيكون وزان نصبهم غير الأهل وزان قوله تعالى لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلَّا اللّٰهُ

لَفَسَدَتٰا «2» فكما ان وجود الهين في الخارج محال و لكن لو فرض وجودهما فيه لفسدت السموات و الأرض فكذلك لا يجوز للرسول و الوصي نصب غير الأهل للقضاء لأدائه إلى مخالفتهما.

أضف الى ذلك عدم معهودية تصدى العامي للقضاء من لدن زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله الى زماننا هذا بل المعهود بينهم هو تصدى المجتهدين له و ناهيك في ذلك بعض الاخبار كقوله عليه السّلام لشريح: جلست مجلسا لا يجلسه الا نبى أو وصى نبي أو شقي «3» و قوله صلّى اللّه عليه و آله انهم خليفتي الى غير ذلك، فإنه يفهم من ذلك ان هذا حكم الهى مخصوص

______________________________

(1) النساء: 4/ 59

(2) الأنبياء: 21/ 22

(3) الوسائل باب 2 من أبواب صفات القاضي ح/ 2

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 268

..........

______________________________

بالنبي أو الوصي غاية الأمر قام الدليل على جواز تصديه للفقيه فلا يجوز للعامي تصديه و لو شك في أهلية العامي للقضاء لاحتمال شرطية الفقاهة في النصب فتكون شبهة مصداقية لقوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فلا ينفذ حكمه و لا يجب اتباعه هذا كله في المقدمة الاولى.

و اما المقدمة الثانية فقد يقال بعدم تماميتها أيضا لأنه لم يثبت ان كل ما كان للرسول أو الإمام صلوات اللّه عليهما فهو للفقيه ضرورة أنه للنبي صفات و خصائص و أحكام لا يوجد في غيره، و قد تعرضها العلامة الحلي (قدس) في مقدمات نكاح التذكرة فذكر من ذلك ما يقرب ستين امرا مختصة بالنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله «1»، و كذا للأئمة أهل البيت عليهم السّلام خصائص لا يوجد في غيرهم فلم يثبت عموم ولاية الفقيه بمثل

ما كان لهما صلوات اللّه عليهما.

أضف الى ذلك ان المتأمل في المقبولة صدرا و ذيلا يرى بأنها في مقام بيان وظيفة الفقهاء من حيث بيان الأحكام الشرعية عن مداركها و خصوص القضاء و الحكومة.

و لو سلم دلالتها على عموم ولايتهم فلا بد و ان يحتمل على ذلك احترازا عن التخصيص الأكثر المستهجن لان ما كان للنبي أو الإمام (صلوات اللّه عليهما) غير ثابتة للفقهاء كأمر بالجهاد الابتدائي، و تجهيز الجند لذلك، و الولاية على أموال الناس و أنفسهم، و جواز تطليق المرية المزوجة و تغيير بعض الأحكام الى غير ذلك، فلا يجوز التمسك بإطلاقها لما نحن فيه الا بعد تمسك جماعة معتد بها من الأصحاب و لم يتمسك بها في المقام الا بعض المتأخرين ا ه.

و لكن يمكن ان يقال ان خصائص النبي صلوات اللّه عليه و آله و ان كانت كثيرة الا ان أكثرها ليست من شئون الحكومة و سلطنتها على الأمة و ما يكون مرتبطا بسلطنتهم و حكومتهم ليس بكثير بحيث يستلزم التخصيص المستهجن.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء ج 2/ 565

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 269

..........

______________________________

و اما المقبولة فالإنصاف ان القول بأنها في مقام بيان وظيفة الفقهاء من حيث بيان الأحكام الشرعية و القضاة فقط غير وجيه بداهة ان بيان الأحكام ليس من المناصب و لا معنى لجعله، و تخصيصها بالقضاء و الحكم بين الناس لا وجه له، بعد قوله عليه السّلام فتحاكما الى السلطان أو القضاء فإنه شاهد صدق على أعمية المورد لما يكون مربوطا بالحكومة لأن ما يرجع الى السلطان و الولي غير ما يرجع الى القضاة نوعا.

و المنازعة في الدين أو الميراث قد ترجع إلى القاضي

كدعوى ان فلانا مديون و إنكار الطرف، أو دعوى انه وارث و نحو ذلك، و قد ترجع إلى الولاة، و الأمراء كالتنازع الحاصل بينهما لأجل عدم أداء دينه أو إرثه بعد معلوميته و مرجع هذا النحو من المنازعات الأمراء، فإذا قتل ظالم شخصا من طائفة مثلا و وقع النزاع و التشاجر بين طائفتين فالمرجع لرفع النزاع و التشاجر، و رفع الغائلة هو الولاة و لذا قال عليه السّلام فتحاكما الى السلطان أو القضاة و من الواضح عدم تدخل الخلفاء في ذلك العصر بل مطلقا في المرافعات التي ترجع إلى القضاة و كذلك العكس.

فعلى ما ذكرنا كل منازعة يرجع الى القاضي ليحكم بما هو الحق بينهما فاذا تراضيا و أخذا بحكم القاضي فهو و الا فيرجع الأمر إلى الحاكم لإجراء هذا الحكم و إنجازه ففي كل منازعة شخصية جهتان جهة قضائية و جهة حكومية غير ان الثانية في طول الاولى غالبا من غير فرق بين كون المتنازع فيه امرا ماليا أو حقوقيا أو غيرهما.

فظهران السؤال عن مسئلة الدين أو الميراث لا يوجب اختصاص المقبولة بمسئلة قضائية، و قوله عليه السّلام بعد ذلك فتحاكما الى السلطان، أو القضاة شاهد صدق على ما ذكرناه.

و لك ان تفطن مما ذكرناه ان انطباق قول الصادق عليه السّلام: (من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم الى الطاغوت) على الولاة أوضح منه على القضاة بل لو لا القرائن لكان الظاهر منه خصوص الولاة لدخول القضاة من الولاة فيه سيما مع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 270

..........

______________________________

مناسبة الحكم و الموضوع و مع استشهاده عليه السلام بالاية التي هي ظاهرة فيهم في نفسها.

فعلى ما ذكرنا يصح

ان يقال ان مقتضى إطلاق المقبولة انه عليه السّلام بصدد جعل مطلق الحكومة سياسية كانت أو قضائية للفقيه الجامع للشرائط.

شبهة في دلالة المقبولة لنصب الولاية و الحكومة من قبل الامام عليه السلام و دفعها

بقيت هنا شبهة أشار إليها و الى دفعها أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله.

أما الشبهة فهي ان الامام عليه السّلام و ان كان خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ولى الأمر و له نصب الولاة و القضاة لكن لم تكن يده مبسوطة بل كان في سيطرة خلفاء الجور فلا اثر لجعل منصب الولاية لأشخاص لا يمكن لهم القيام بأمرها، و اما نصب القضاة فله أثر في الجملة كما لا يخفى.

و اما دفعها فلوجود أثر في الجملة لجعل الولاية عند ذاك لان جعل المرجع للشيعة يوجب رجوعهم اليه و لو سرا في كثير من الأمور- كما نشاهد بالضرورة- هذا أولا.

و ثانيا: ان لهذا الجعل سرا سياسيا عميقا و هو طرح حكومة عادلة إلهية و تهيئة بعض أسبابها حتى لا يتحير المتفكرون لو وفقهم اللّه لتشكيل حكومة إلهية بل هو زائد على الطرح بعث لهم الى ذلك كما هو واضح.

و الغالب في العظماء من الأنبياء و غيرهم الشروع في الطرح أو العمل من الصفر تقريبا.

فهذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد قام بأعباء الرسالة و لم يؤمن به في أول تبليغة الأعلى بن أبي طالب و زوجته الجليلة فنشر الدعوة عن عزم راسخ و ارادة قوية قدسية، و تحمل المشاق طيلة حياته حتى بلغ الى نشر الإسلام في ارجاء العالم و بلغت عدد المسلمين في الحال أكثر من الميليارد نسمة و سيزيد إن شاء اللّه.

و قد عين صلّى اللّه عليه و آله خلفاء بخصوصهم، و هم أئمة أهل البيت عليهم السّلام و في

طليعتهم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 271

..........

______________________________

على بن أبي طالب عليه السّلام و لكن لم يقبلوا منه الا إفراد لا تتجاوز عددهم عن عدد رؤس الأصابع و كان في نصبهم و تعيينهم مصالح، منها تحقق امة عظيمة بلغت في الحال شيعة أئمة أهل البيت عليهم السّلام أكثر من مأتي ميليون و سيزيد إن شاء اللّه بحيث تفوق جميع فرق المسلمين بل جميع الأديان و يكون جميع العالم تحت راية بقية اللّه الأعظم حجة بن الحسن العسكري جعلني اللّه من كل مكروه فداء اللهم عجل فرجه، و اجعلنا من اتباعه و أنصاره و الذابين عنه.

و بالجملة قد أسس الامام الصادق عليه السّلام بهذا الجعل أساسا قويما للأّمة و المذهب بحيث لو نشر هذا الطرح و التأسيس في جامعة التشيع و أبلغه الفقهاء، و المتفكرون الى الناس و لا سيما الجوامع العلمية و ذوي الأفكار الراقية لصار ذلك موجبا لانتباه الأمم خصوصا الأمة الإسلامية و التفاتهم اليه.

و لو سلم عدم دلالة المقبولة و غيرها على ثبوت الولاية للفقيه الجامع الا انه يكفى لإثباتها من باب كون الحكومة من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بتركها كما سنشير إليه إجمالا و المتيقن منها في عصر الغيبة الفقيه الجامع.

فتحصل مما ذكرنا ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط في إدارة شئون المجتمع، و لكن لا يتم الأمر بهذه المقدمة لجواز جعل الفقيه منصب القضاء للعامي و غير الأهل للقضاء ما لم تنظم إليها المقدمة الاولى و قد عرفت عدم ثبوت ولاية للإمام عليه السّلام نصب غير الأهل للقضاء فما ظنك للفقيه.

فظهر انه لا يصح للفقيه الجامع للشرائط نصب العامي العارف بمسائل القضاء تقليدا للقضاء.

و ليعلم

ان ما ذكرناه في هذه الجهة مقتبس و متخذ مما استفدناه من مجلس درس أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله و ما أورده في الرسائل «1» و كتاب البيع «2»

______________________________

(1) الرسائل/ 117

(2) كتاب البيع ج 2/ 148 إلى 182

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 272

الجهة الثانية في انه هل يجوز توكيل الفقيه مقلده العارف للقضاوة أم لا الفرق بين نصب العامي للقضاء من قبل الامام و بين نصبه من قبل الفقيه و بين وكالته عن الفقيه
اشارة

______________________________

الفرق بين هذا البحث و البحثين المتقدمين في العامي العارف هو ان النظر في البحث الأول هو انه هل يشترط في القاضي الاجتهاد أو يكفي عرفانه بمسائل القضاء و لو تقليدا؟ و مقتضاه على تقدير الثبوت هو ان العامي في عرض المجتهد ينال منصب القضاء.

كما ان النظر في المبحث الثاني هو انه بعد عدم ثبوت منصب القضاء للعامي العارف من قبل الامام عليه السّلام هل يمكن للفقيه الجامع للشرائط جعله له؟ بحيث يستقل العامي بعد جعله في أمر القضاء و له الحكم بما يراء بحيث يجب على الفقيه اتباعه أو لا يمكنه ذلك؟.

و بعد عدم ثبوت النصب له من قبل الامام عليه السّلام و لا من قبل الفقيه يقع الكلام في انه هل يجوز توليه للقضاء من قبل الفقيه وكالة و نيابة عنه؟ بحيث يكون نفوذ حكم العامي الوكيل لكونه حكم الفقيه، و بإجازة منه و بالجملة يكون حكمت و قضيت الذي يقوله العامي هو حكم الفقيه و قضائه الذي وكله.

الاختلاف في جواز وكالة العامي من قبل الفقيه للقضاء
اشارة

و كيف كان اختلفوا في جواز تولى العامي العارف من قبل الفقيه وكالة فقال بعض بالجواز، و ذهب ثلة من الأصحاب إلى العدم و عمدة مستند القولين وجود الإطلاق أو العموم لأدلة الوكالة و عدمه فان كان لها إطلاق أو عموم تعتبر الوكالة في كل شي ء و لا شي ء فتصح وكالة العامي العارف من قبل الفقيه و الا فلا.

و غاية ما يتمسك لذلك أحد أمرين على سبيل منع الخلو.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 273

الأمر الأول بناء العقلاء

______________________________

يقرر ذلك ان الوكالة كالبيع و الصلح و نحوهما من الأمور العقلائية التي استقر بنائهم عليها و تدور معاشهم عليها، و كلما كان كذلك يترتب عليه الآثار المطلوبة منه و لا يحتاج الى شمول إطلاق أو عموم إياه.

نعم لا بد و ان لم يردع عنه الشارع فان ردع الشارع عن طريقة معهودة بينهم كالرباء و القمار و نحوهما فيترك ما بنو عليه و الا فيتبع.

و بالجملة إذا استقر بنائهم على عمل يتبع ما لم يردع عنه الشارع من دون احتياج لترتب الأثر عليه على دليل خاص و بناء العقلاء استقر على توكيل الفقيه مقلده العارف بموازين القضاء، للقضاء و لم يردع عنه فيستكشف رضاه به.

و فيه أولا: انه كما أشرنا ان الأصل عدم نفوذ حكم أحد في حق غيره الا ما دل الدليل عليه و قد تقدم ان المستفاد من الأدلة هو ان القضاء حق للنبي، أو الوصي و الفقيه الجامع للشرائط قائم مقام الوصي أو ما بحكمه.

فاذا يمكن ان يقال ان اخبار الباب و في طليعتها صحيح سليمان بن خالد المتقدم/ 266- تدل على عدم جواز تصدى غير الفقيه للقضاء.

و توهم ان غاية ما

يستفاد من اخبار الباب خصوصا صحيح سليمان بن خالد هي عدم جواز تصدي القضاوة أصالة لغير هؤلاء، و اما تصديه عن قبل من قام مقام الوصي أو بحكمه فلا.

مدفوع بان الظاهر منها ان القضاوة لا بد و ان يكون فعل أحد من هؤلاء مباشرة و واضح ان فعل الوكيل لم ينزل منزلة فعل الموكل حتى يقال ان قضاء الوكيل قضاء موكله بل الفعل حقيقة فعل الوكيل فوض سلطنته اليه.

ان قلت فان لم تصح وكالة العامي عن قبل الفقيه فليجز نيابته عنه و واضح ان اعتبار عنوان النيابة عند العقلاء غير اعتبار عنوان الوكالة، و النيابة هي تنزيل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 274

..........

______________________________

النائب منزلة المنوب عنه فيكون فعل النائب فعل المنوب عنه.

قلت: نعم فرق بينهما لكن من القريب جدا ان يكون مباشرة النبي، و الوصي و الفقيه دخيلة في العمل فيشك في نفوذ قضاء العامي النائب، و الشك في صلاحيته يكفى لعدم نفوذ حكمه.

و ثانيا: انه لم يثبت بناء منهم في تصدى كل أحد و لو كان عاميا للقضاء، و لو ثبت فإنما يصلح دليلا لو ثبت البناء المذكور في عصر الأئمة عليهم السّلام لما أشرنا غير مرة انه لم تدل آية و لا رواية معتبرة على حجية بناء العقلاء حتى يؤخذ بإطلاقها أو عمومها فلا بد في كل مورد من إحراز رضي الإمام المعصوم عليه السّلام به و لو بعدم الردع، و واضح انه يستكشف رضاه إذا كان البناء بمرئي منه و مسمع فالدليل في الحقيقة هو رضي المعصوم عليه السّلام فلا بد من إحراز وجود هذا البناء في عصره عليه السّلام فلو لم يحرز البناء أو ثبت

خلافه فلا يتم الاستدلال.

و من الواضح لدى الخبير ان متصدي القضاء من لدن صدر الإسلام إلى زماننا لم يكن الا طوائف و اشخاص معينين واجدين لبعض المزايا و الخصوصيات و لو ادعى السيرة و البناء على عدم تصدى العامي لمنصب القضاء لم يكن جزافا.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من عدم إحراز قيام السيرة على تصدى العامي.

فتحصل مما ذكرنا ان التمسك ببناء العقلاء لجواز تصدى العامي لمنصب القضاء دون إثباته خرط القتاد.

الأمر الثاني السنة

و ما يمكن ان يستدل منها خبران.

أحدهما: صحيح معاوية بن وهب و جابر بن يزيد جميعا عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

من و كل رجلا على إمضاء أمر من اللامور فالوكالة ثابتة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 275

..........

______________________________

أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها «1».

و الثاني: صحيح هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

في رجل و كل أخر على وكالة في أمر من الأمور و اشهد له بذلك الشاهدين فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر قال اشهدوا انى عزلت فلانا عن الوكالة فقال عليه السّلام ان كان الوكيل أمضى الأمر الذي و كل فيه قبل العزل فإن الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكل أم رضي فإن الوكيل أمضى الأمر قبل ان يعلم العزل أو يبلغه انه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما إمضاء «2».

أقول: الخبران متوافقان من حيث المضمون و غاية ما يستظهر منهما انهما بصدد بيان ان الوكالة فيما يصح فيه الوكالة لو ثبت و تحققت لا تزول و لا ترتفع حتى يعلمه بالخروج منها، و لم يكونا بصدد بيان ان الوكالة جارية في جميع الأمور.

هذا أولا:

و

ثانيا: لو سلم دلالتهما على سريان الوكالة في جميع الأمور فإنما هي بالعموم أو الإطلاق، و صحيح سليمان بن خالد المتقدم مخصص أو مقيد لها، لان الوكيل كما أشرنا يباشر القضاوة و الخبر نهى عنها لغير النبي أو الوصي الشامل للفقيه اما موضوعا أو حكما كما تقدم، و حديث النيابة عن الفقيه قد عرفت حاله.

فتحصل مما ذكرنا في هذا المقام ان القضاوة شأن ثابت للفقيه و المجتهد الجامع للشرائط سواء كان مجتهدا مطلقا، أو متجزيا إذا صدق عليه العارف بالأحكام و الناظر في الحلال و الحرام و نحوهما.

و لا يجوز للعامي العارف بموازين القضاء تصدى القضاء لا أصالة في عرض

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب الوكالة ح/ 1

(2) الوسائل باب 2 من أبواب الوكالة ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 276

..........

______________________________

الفقيه و لا نيابة عنه بحيث يكون منصوبا عاما من قبل المجتهد كما كان المجتهد منصوبا من قبل الامام عليه السّلام بل و لا وكالة عن المجتهد في مورد خاص «1».

المبحث الثالث في عدم نفوذ حكم من لم يكن أهلا للقضاء

قال الماتن (قدس): و حكمه ليس بنافذ.

يدل على ذلك الأخبار المتقدمة الدالة على عدم جواز تصدى غير المجتهد للقضاء فإنها بلازمها تدل على انه لو حكم غير الأهل فحكمه غير نافذ بل يكون حكمه كلاحكم.

و بالجملة قوله عليه السلام في صحيح سليمان بن خالد مثلا: انما هي لنبي أو وصى نبي يدل بأوضح دلالة على انه لو تصداها غير الأهل و حكم بحكم لا يكون حكمه نافذا.

مضافا الى ان مقتضى الأصل الذي أسسناه من قبل هو عدم نفوذ حكم أحد كائنا من كان بالنسبة الى أحد إلا ما دل الدليل على ذلك و هو انما يكون فيما

إذا كان القاضي أهلا للقضاء فغير الأهل باق تحت الأصل.

المبحث الرابع في حكم الترافع لدى غير الأهل للقضاء

اشارة

قال (قدس): لا يجوز الترافع إليه.

أقول: الترافع الى غير الأهل تارة لا يكون لفصل الخصومة شرعا و لزوم التعبد بحكمه بل من جهة تراضى المتحاكمين بقول غير الأهل بحيث لو صدق القاضي المدعى تنازل المنكر عما أنكره كما انه لو صدق المنكر تنازل المدعى عما ادعاه مع بقاء حق الدعوى للمدعي لعدم تحقق الفيصلة، و اخرى يكون الترافع لغاية

______________________________

(1) انتهى ما أوردنا نقله من رسالتنا المسماة بالدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد تقرير ما أفاده أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 277

..........

______________________________

فصل الخصومة و لزوم التعبد بحكمه بحيث لم يكن للمدعي بعد ذلك حق الدعوى و على الثاني فغير الأهل تارة يكون من الشيعة الا انه غير واجد لشرط الاجتهاد أو العدالة مثلا، و اخرى يكون من قضاة الجور أو من قضاة العامة.

توضيح الحال يستدعي البحث من جهات.

الجهة الاولى في الترافع الى غير الأهل إذا لم يكن الترافع لفصل الخصومة

ربما يقال- و لا يبعد- جواز الترافع الى غير الأهل إذا لم يكن الترافع لفصل الخصومة و لزوم التعبد بحكمه بل من جهة تراضى المتخاصمين مع بقاء حق الدعوى للمدعي.

و الوجه فيه هو انه خارج عن موضوع القضاء و مندرج تحت موضوع المصالحة فمجرد الترافع كذلك لو خليت و نفسه جائز الا ان يترتب عليه عنوان محرم مثل الركون الى الظلمة و قد نهى الركون إليهم في قوله تعالى لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ الاية «1» أو تقوية الظلم، أو صيرورته من أعوان الظلمة الى غير ذلك.

الجهة الثانية في حكم الترافع لدى قاضي الشيعة غير المجتهد أو غير العادل

ربما يقال بعدم ثبوت الحرمة الذاتية للترافع اليه بعنوانه الاولى و غاية ما تقتضيه أدلة اعتبار الاجتهاد أو العدالة أو غيرها هو عدم نفوذ حكمه و قضائه و لا ملازمة بين حرمة القضاء على شخص و بين حرمة الترافع اليه و كم له نظير.

و بالجملة الأدلة الخاصة إنما دلت على حرمة القضاء للشيعة غير الواجد لشرائط القضاء، و اما الترافع لديه فلا، خصوصا إذا لم يجعل الحكم و القضاء منصبا و شغلا لنفسه بل تصدى لهما أحيانا.

______________________________

(1) هود: 11/ 113

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 278

..........

______________________________

و لكن يمكن ان يقال: انه يحرم ذلك لكونه من التشريع المحرم لان الترافع لديه إمضاء عملي لقضاوة من تصدى لها ممن لا أهلية له للقضاء، مع انه يصدق عليه اعانة على الإثم.

هذا إذا لم يصدق عليه الركون الى الظلمة كما لعله كذلك في بعض الموارد و اما إذا كان غير الأهل من أعوان الظلمة فالترافع لديه يكون من مصاديق الركون الى الظلمة و هو حرام، مع انه إعانة للظالم في ظلمة، بل لعله يصدق عند

ذاك التحاكم الى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به لأنه بتصديه منصبا خطيرا ليس أهلا له يكون طاغيا خصوصا إذا تكرر منه القضاء.

فلا فرق بين طواغيت المخالفين و الموافقين من جهة حرمة الترافع إليهم.

و ربما يصدق على الترافع لديه بعض العناوين المحرمة الواردة في حديث تحف العقول، كترويج الباطل، و توهين الحق، و تقوية الظلم و سدّ أبواب الأئمة و غيرها «1» كما لا يخفى.

الجهة الثالثة في الترافع الى قضاة الجور أو قضاة العامة

حكى نفى الاشكال في حرمة الترافع الى حكام الجور و قضاة العامة و ان كان في حق للنهى عنه في اخبار مستفيضة و حكى عن المسالك انه كبيرة عندنا.

و بالجملة تدل على عدم جواز الترافع إليهم مضافا الى الوجوه التي تقدم ذكرها في الترافع إلى قاضي الشيعة غير الأهل، الأخبار الناهية عن التحاكم الى حكام الجور و قضاة العامة و قد عقد لها بابا في الوسائل و هو الباب الأول من أبواب صفات القاضي نشير الى بعضها:

ففي خبر ابى خديجة عن الصادق عليه السّلام:

إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن

______________________________

(1) تحف العقول

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 279

..........

______________________________

انظروا الخبر «1».

و في خبر أخر له قال بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام الى أصحابنا فقال:

قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي ء من الأخذ و العطاء ان تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا الخبر «2».

و في مقبول عمر بن حنظلة:

من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم الى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذ سحتا و ان كان حقه ثابتا الخبر «3».

و في خبر ابى بصير قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عز

و جل في كتابه وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ فقال يا أبا بصير ان اللّه عز و جل قد علم ان في الأمة حكاما يجورون اما انه لم يعن حكام أهل العدل و لكنه عنى حكام أهل الجور يا أبا محمد انه لو كان لك على رجل حق فدعوته الى حكام أهل العدل فأبى عليك الا ان يرافعك الى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن تحاكم الى الطاغوت الخبر «4».

و في بعض الاخبار النهي عن مجالسة قضاة الجور كما في خبر محمد بن مسلم قال:

مربي أبو جعفر أو أبو عبد اللّه عليهما السّلام و انا جالس عند قاضٍ بالمدينة فدخلت عليه من الغد فقال لي ما مجلس رأيتك فيه أمس قال جعلت فداك: ان هذا القاضي لي مكرم فربما جلست اليه فقال لي: و ما يؤمنك أن تتزل اللعنة فتعم من في المجلس «5».

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 4

(4) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 3

(5) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 10

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 280

المبحث الخامس في حكم الشهادة عند القاضي غير الأهل

______________________________

لا ينبغي الإشكال في حرمة الشهادة عند قاضي غير الأهل إذا كانت الشهادة بقصد فصل الخصومة: اما لكونها معاونة على الإثم و هي حرام على المختار المشهور بين الأصحاب، و لو نوقشت حرمة المعاونة فلا إشكال في انها إمضاء عملي و رضاء بفعل القاضي المفروض حرمة قضائه فتكون الشهادة محرمة بعنوان أخر غير عنوان الإعانة بل ربما تكون

الشهادة إعانة للظالم في ظلمة و هي محرمة بلا اشكال و لا خلاف، بل ربما تكون الشهادة عنده ركونا إلى الظلمة إذا كان القاضي منصوبا من قبل ولاة الجور، بل كما أشرنا ربما يصدق على الشهادة عنده بعض العناوين المحرمة كترويج الباطل، و توهين الحق، و تقوية الظلم، و سد أبواب الأئمة عليهم السّلام و غيرها، بل قد يقال ان الشهادة عنده تشريع عملي و هو حرام.

هذا إذا كانت الشهادة عنده بقصد فصل الخصومة.

و اما إذا لم تكن بقصده فناقش سيد مشايخنا (قدس) أولا في صدق المعاونة عليه بل قال لا يبعد عدمه فأشكل تحريمها الا من باب الأمر بالمعروف على تقدير اجتماع شرائطه «1».

و لكن فيه: انه لو لم يصدق على شهادته عنوان المعاونة على الإثم الا انه لا إشكال في انها إمضاء و رضاء لعمل القاضي المجرم و قد قرر (قدس) لزوم النهى عنه على تقدير اجتماع شرائطه، بل ربما ينطبق عليه بعض العناوين المحرمة التي أشرنا إليها فيما إذا كانت الشهادة لفصل الخصومة فلاحظ و تدبر.

المبحث السادس في المال الذي يؤخذ بحكمه

اشارة

قال الماتن (قدس) هنا: المال الذي يؤخذ بحكمه حرام و ان كان الأخذ محقا

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 71

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 281

..........

______________________________

إلا إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده اه.

و لكن يظهر منه (قدس) في كتاب القضاء خلاف ذلك لأنه قال لا يجوز الترافع الى قضاة الجور اختيارا و لا يحل ما أخذه بحكمهم إذا لم يعلم بكونه محقا الا من طرف حكمهم، و اما إذا علم بكونه محقا واقعا فيحتمل حليته و يحتمل الفرق بين العين، و الدين حيث ان الدين كلي في الذمة و يحتاج

في صيرورة المأخوذ ملكا له الى تشخيص المديون بخلاف العين إلخ ما ذكره «1».

حكم القاضي بالحق ليس محللا للحرام واقعا و لا محرما للحلال كذلك

قلت و ليعلم أولا ان النص و الفتوى متطابقان ظاهرا على انه إذا حكم القاضي بالحق على موازين القضاء (بالبينات و الايمان) و لكن لم يكن المحكوم له محقا واقعا لا يحل له ذلك فليس حكم الحاكم بالحق محللا للحرام، أو محرما للحلال.

و إليك بعض اخبار الباب.

ففي صحيح هشام بن الحكم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان و بعضكم ألحن بحجيته من بعض فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار «2».

و عن تفسير العسكري عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بين الناس بالبينات و الايمان في الدعاوي فكثرت المطالبات و المظالم فقال صلّى اللّه عليه و آله ايها الناس انما أنا بشر و أنتم تختصمون و لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض و انما أقضي على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشي ء فلا يأخذ به فإنما اقطع له قطعة من النار «3».

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى ج 2 مسئلة 2/ 9

(2) الوسائل باب 2 من أبواب الكيفية الحكم و أحكام الدعوى ح/ 1

(3) الوسائل باب 2 من أبواب الكيفية الحكم و أحكام الدعوى ح/ 2

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 282

أنحاء المال المأخوذ بحكم الحاكم غير الأهل و حكمها

______________________________

إذا تمهد ذلك لك فنقول: المال الذي يؤخذ بحكم من ليس أهلا للقضاء اما يكون عينا شخصيا أو كليا، و على الأول اما يكون المحكوم له محقا أو لا.

قد عرفت في حكم الحاكم بالحق ان حكمه لم يكن محللا للحرام، و لا محرما

للحلال فما ظنك في حكم غير الأهل للمحكوم له مع عدم كونه محقا سواء كان المتنازع فيه عينا شخصيا، أو كليا، أو دينا و لعله واضح.

و اما في صورة محقية المحكوم له و الأخذ للمال فهل المحرم هو الأخذ بحكمه تكليفيا فقط مع حلية التصرف بحكمه مطلقا، أو مع حرمة التصرف فيه مطلقا، أو يفصل بين كون المتنازع فيه العين الشخصي فالأول و بين كونه دينا فالثاني، أو يفصل بين ما إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع الى غير الأهل، و بين عدم الانحصار فيحرم في الثاني دون الأول؟ وجوه بل أقوال.

مقتضى القاعدة فيما إذا كان المتنازع فيه عينا شخصيا كما إذا غصبها أحد، أو أخذها بالعناوين المسوغة كالإجارة و العارية ثم أنكرها هو عدم حرمته و جواز التصرف فيه لأنه بعينه و خصوصياته ماله و ملكه و قد تقرر في محله انه يجوز للمالك أخذ ماله ممن هو عنده بأي وسيلة ممكنة و لو كانت بالحيلة، أو بالقهر و الغلبة، و من تلك الوسائل حكم ذاك الحاكم.

نعم إذا لم ينحصر إنقاذ ماله بالترافع الى من لا أهلية للقضاء يكون الترافع لديه محرما، و لا ملازمة بين حرمة الترافع و حرمة المال المأخوذ بحكمه، ففي صورة عدم انحصار إنقاذ الحق بالترافع اليه و ان كان الترافع لديه محرما، و لكن لا يوجب ذلك حرمة التصرف في عين ماله المغصوب المردود اليه بحكم الحاكم.

و توهم ان رد المدعى عليه المال بحكم الحاكم فهو مكره عليه فيشمله حديث رفع الإكراه عنه.

مدفوع بما تقرر في محله ان حديث الرفع امتنانى فلا يكاد يشمل المقام لان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 283

..........

______________________________

شموله على خلاف

الامتنان لاستلزامه الضرر على صاحب المال و لعله واضح.

و يلحق بالعين الشخصية صورة ما إذا كان المال دينا لا يجوز للمديون حق التأخير بأن كان الدين معجلا أو مؤجلا حل أجله إذا كان الدائن مباشرا لذلك و ان كان مستندا الى حكم من ليست له أهلية لذلك فيحل له التصرف في المأخوذ كما كان يجوز أخذه و تملكه تقاصا بشرائطه التي منها امتناع الغريم عن الأداء و المفروض أحد أنحاء التقاص.

و حيث انه لم ينحصر إنفاذ حقه بالمراجعة إلى الحاكم المذكور يكون الترافع لديه محرما.

نعم لو كان المتصدي لتعيين الدين في ملك المديون هو الحاكم مباشرة، أو تسبيبا- بأن يأمر الدائن بالتعيين- يشكل الحكم بحلية المأخوذ لعدم نفوذ حكمه و عدم انحصار إنقاذ الحق بالترافع لديه هذا ما تقتضيه القاعدة.

استظهار من المقبولة في حرمة المأخوذ بحكم غير الأهل مطلقا حتى في العين الشخصية و دفعه من وجوه

و لكن ربما يقال ان ظاهر مقبولة إن حنظلة هو حرمة المأخوذ في العين الشخصية فضلا عما الحق بها فما ظنك في الدين غير المعجل فان الموصول في قوله عليه السّلام:

و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و ان كان حقه ثابتا «1» ظاهر في نفس المال و حمله على الأخذ خلاف الظاهر.

أضف الى ذلك ما في صدر المقبولة حيث فرض التنازع في الدين أو الميراث فالميراث المقابل للدين ظاهر في العين و حمله على الدين بعيد جدا فتكون حرمة المأخوذة مع كونه مالا له من قبيل الحرمة بالعنوان الثاني.

و مقتضى إطلاق قوله عليه السّلام: و ما يحكم له إلخ عدم الفرق بين كون المأخوذ

______________________________

(1) هكذا في الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 4 و اما عن الكافي فالعبارة هكذا من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا.

الدر النضيد في الاجتهاد

و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 284

..........

______________________________

عينا أو دينا (سواء كان قوله سحتا مفعولا ثانيا لقوله يأخذه، أو حالا لضمير المفعول المستند الراجع الى لفظة (ما) الشامل للدين و العين).

و مورد المقبولة و ان كان المأخوذ بحكم السلطان و القضاة فلا يعم المأخوذ بحكم غيرهم من فاقدي الشرائط.

الا انه يمكن استفادة التعميم من التعليل فيها بقوله عليه السّلام: لأنه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه ان يكفروا به إلخ فإن الظاهر شمول الطاغوت لكل من تصدى القضاء على الوجه المحرم خصوصا إذا تكرر منه القضاء.

و بالجملة تشمل الطاغوت كل طاغ و من لم يكن مأذونا و لو كان من الشيعة غير الواجد للشرائط.

و لكن فيه أولا: ان للسحت كما أفيد و يظهر من مراجعة كتب اللغة «1» إطلاقين في اللغة و العرف.

أحدهما: كل ما لا يحل كسبه كما لعله الشائع من معناه فلا يطلق الا على ما انتقل اليه من الغير على وجه محرم.

و الثاني: ما هو خبيث الذات من المحرمات كالخمر و لحم الخنزير، و اما المحرم الذي لم يكن خبيث الذات فليس بسحت و ان حرم بطرو عنوان عرضي عليه و لذا لا يطلق السحت على الطعام المحلل الذي يفطر به الصائم في شهر رمضان و ان كان إفطاره هذا محرما.

فاذا مال نفسه لا يكون خبيثا و ان حرم أخذه بحكم غير الأهل عند عدم الانحصار و بالجملة لا يصدق السحت بمعنييه على مال نفسه، و مجرد كونه موردا لحكم الجائر بالرد اليه لا يحتمل ان يكون مستلزما لخروجه عن ملكه فلا يكون أخذه من الانتقال المحرم كما انه ليس محرما خبيث الذات و هو واضح.

فعلى هذا لا محذور في الالتزام

بحرمة الترافع إلى أحكام الجور مطلقا في

______________________________

(1) لاحظ لسان العرب ج 2/ 41 و المصباح، و القاموس، و مجمع البحرين و غيرها

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 285

..........

______________________________

الدين و العين كما هي مدلول صدر المقبولة، و بحرمة المأخوذ في الدين و نحوه دون العين الشخصية و ما بحكمها لو عصى و ترافع إليهم بمقتضى هذه الجملة لما أشرنا انه لا ملازمة بين حرمة الترافع و حرمة المأخوذ فلاحظ.

و ثانيا: انه كما أفيد أن شمول الميراث للعين الشخصية انما يكون بالإطلاق و من الجائز حمله على العين المشتركة التي هي في حكم الدين لتوقف الحلية فيها على رضاء الطرفين بالقسمة فلو باشر الحاكم الجائر قسمة الميراث بينهم، أو أمر الغير بذلك لا تنقسم العين بذلك و لا يحل له التصرف في قدر سهمه لخروجها عن الاشتراك بذلك فيكون المأخوذ بحكمه كما في الدين سحتا.

و ثالثا: ان مورد المقبولة هي الشبهة الحكمية و اختلاف الحكمين في حديثهم عليهم السّلام و لذا قال عليه السّلام: الحكم ما حكم به أعدلهما إلخ فلا اثر لدعوى كون مورد المنازعة عينا شخصيا.

أضف الى ذلك ما قد يقال: بأني لم أجد من يفتي صريحا بان المال الذي يؤخذ بحكمه حرام مطلقا حتى فيما إذا كان الأخذ محقا الا الماتن (قدس) في المقام مع انه (قدس) في قضائه في ملحقات العروة ذهب الى تفصيل في الحقيقة أو إشكال فيما كان محقا الى ان تعجب من سيدنا الحكيم (قدس) في المستمسك حيث جعل حرمة المال المأخوذ بحكمه معروفا من مذهب الأصحاب بل لم يكتف به حتى ادعى فيه الإجماع فيا ليت صرح بفتوى الاثنين ليدلنا على إجماعهم اه

«1».

توهم معارضة المقبولة مع موثقة ابن فضال و دفعه

و قد ظهر لك حال دلالة المقبولة على حرمة المأخوذ بحكمهم و لو سلم دلالتها على حرمة المأخوذ فربما يتوهم معارضتها مع موثقة ابن فضال قال.

قرأت في كتاب أبي الأسد الى ابى الحسن الثاني عليه السّلام و قرأته بخطه سئله ما في تفسير قوله تعالى:

______________________________

(1) معالم الزلفى/ 77

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 286

..........

______________________________

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ «1» فكتب بخطه: الحكام القضاة ثم كتب تحته هو ان يعلم الرجل انه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم انه ظالم «2».

و ذلك لأنه يستفاد منها ان الحرام و الباطل هو ما إذا كان المحكوم له بحكمهم ظالما غير محق واقعا فاذا كان محقا فلا يكون المأخوذ بحكمهم باطلا و حراما.

و لكن يجاب عنه: بأن الرواية إنما وردت في تفسير الآية الشريفة الواردة في حرمة أكل مال الغير على وجه الظلم و العدوان لا في بيان موضوع الحرمة مطلقا، و لا مانع من اعتبار الظلم في صدق الباطل دون صدق الحرمة و لو بعنوان أخر فيمكن ان يكون حراما بلحاظ كونه مأخوذا بحكمهم و لو كان محقا.

و قد يقال في رفع المعارضة بينهما بحمل الرواية على حكام العدل.

و لكن يجاب عنه بأنه خلاف ظاهر الآية الشريفة في نفسها و خلاف ما ورد في تفسيرها من ان المراد بالحكام فيها قضاة الجور، و قد تقدّم ذكره في الجهة الثالثة من المبحث الرابع/ 276 فلاحظ.

هذا كله إذا كان المال المتنازع فيه عينا شخصيا أو دينا معجلا، أو مؤجلا حل اجله.

و اما إذا كان المتنازع فيه دينا

مؤجلا قبل حلول اجله فادعاه أحدهما و أنكره الأخر فتحاكما عند من لا أهلية له للقضاء و حكم للمدعي و كان محقا في الواقع فالمال المأخوذ بحكه حرام لان المال الذي اشتغلت به ذمة المنكر بالاستدانة كلي لا يتشخص الا بتشخيص المديون نفسه، و تشخيصه بتشخيص الحاكم الجائر أو الدائن قبل حول اجله تشخيص غير شرعي فليس للدائن أن يتصرف فيه.

______________________________

(1) البقرة: 2/ 188

(2) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 9

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 287

..........

______________________________

و بالجملة بعد ما كان للمديون حق التأخير و لا يكاد يتعين الدين بإجبار الحاكم بالتعجيل في الأداء الحديث رفع الإكراه فلم يطرء عليه ما يوجب دخوله في ملك الدائن.

هذا كله فيما إذا لم ينحصر إنقاذ حقه بالترافع الى غير الأهل من قضاة الجور أو غيرهم.

حكم انحصار إنقاذ الحق بالترافع الى غير الأهل

و اما إذا انحصر إنقاذ حقه بالترافع الى غير الأهل اما لعدم رضي الطرف المقابل الا بالترافع اليه، أو لعدم وجود الحاكم الشرعي، أو لعدم إمكان إثبات الحق عنده الى غير ذلك من الموارد التي لو لم يترافع عند من لا أهلية له لذهب حقه أو ماله فهل يجوز الترافع عنده و يجوز ان يتصرف في المال المأخوذ بحكمه أم لا؟

وجهان بل قولان.

ربما يحكى المنع عن الترافع لديهم و في المستمسك حكايته عن الأكثر بل عن الروضة الإجماع عليه.

و يوجه مقالهم بإطلاق النصوص الناهية عن الترافع لديه و ان الترافع إليه اعانة على الإثم كما عن الكفاية بل طلب المنكر و هو حرام.

و لكن الظاهر جواز المراجعة عند ذاك و حلية المأخوذ بحكمه و حكى عن المستند نسبته الى جمع من الأصحاب.

و الدليل على ذلك حكومة

قاعدة نفى الحرج على جميع ما يتوهم كونه دليلا على الحرمة من إطلاق الاخبار الناهية عن الرجوع الى غير الأهل و عموم حرمة الإعانة على الإثم و طلب المنكر.

مضافا الى ضعف كثير منها لانصراف الاخبار الى صورة التمكن من الحاكم بالحق كما هو ظاهر المقبولة، و رواية ابى خديجة و غيرهما لو لم يكن صريحها، و منع صدق الإعانة و طلب المنكر في المفروض.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 288

..........

______________________________

فحينئذ إذا أجبر الحاكم المديون على الأداء حل للدائن أخذه كما يحل له التصرف فيه و لا يشمله حديث نفى الإكراه لأنه خلاف الامتنان على الدائن.

جواز الحلف كاذبا لحفظ مال نفسه أو غيره

يؤيد ما ذكرنا الأخبار الدالة على جواز الحلف كاذبا لحفظ مال نفسه أو غيره و قد أشار إليها الماتن (قدس) في كتاب القضاء «1».

كخبر زرارة قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام نمر بالمال على العشار فيطلبون منا ان نحلف لهم و يخلون سبيلنا و لا يرضون منا الا بذلك قال فاحلف لهم فهو أحل (أحلى) من التمر و الزبد «2».

و قريب منه أخبار الحلبي، و معمر بن يحيى، و إسماعيل الجعفي، و ابى بكر الحضرمي «3».

و مرسل يونس عن أحدهما عليهما السّلام:

في رجل حلف تقية فقال ان خفت على مالك و دمك فاحلف ترده بيمينك فان لم تر ان ذلك يرد شيئا فلا تحلف لهم «4».

و خبر محمد بن ابى الصباح قال:

قلت لأبي الحسن عليه السّلام ان أمي تصدقت على بنصيب لها في دار فقلت إن القضاة لا يجيزون هذا و لكن اكتبيه شراء فقالت اصنع من ذلك ما بدا لك و ما ترى انه يسوغ لك فتوثقت فأراد بعض الورثة ان يستحلفني انى قد نقدتها

الثمن و لم أنقدها شيئا فما ترى؟ قال احلف له «5».

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى ح 2/ 10

(2) الوسائل باب 12 من أبواب كتاب الايمان ح/ 1 الزبد: ما يستخرج بالمخض من لبن البقر و الغنم.

(3) الوسائل باب 12 من أبواب كتاب الايمان ح/ 8- 16- 17- 19- 3

(4) الوسائل باب 12 من أبواب كتاب الايمان ح/ 8- 16- 17- 19- 3

(5) الوسائل باب 43 من أبواب كتاب الايمان ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 289

..........

______________________________

الى غير ذلك من الاخبار.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في جواز المراجعة إلى قضاة الجور و حلية ما يؤخذ بحكمهم إذا توقف استنقاذ حقه على الترافع لديه خصوصا إذا كان الخصم منهم.

و لا يخفى ان هذا إذا كان الحق معلوما واقعا، و مثله ما إذا كان معلوما في ظاهر الشرع كما إذا شهدت البينة مثلا بأن أباه كان له على فلان كذا، أو مقتضى فتوى مقلده كونه ذا حق، و اما مع عدم العلم واقعا و لا ظاهرا فلا يجوز الترافع إليهم و على فرضه و حكمهم فلا يجوز الأخذ بحكمهم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 291

[مسئلة 44- يجب في المفتي و القاضي العدالة]

اشارة

______________________________

قال العلامة الطباطبائي (قدس): مسئلة 44- يجب في المفتي (1) و القاضي العدالة، و تثبت العدالة بشهادة عدلين، و بالمعاشرة المفيدة للعلم بالملكة، أو الاطمئنان منها و بالشياع المفيد للعلم (2).

(1) قد عرفت ان الأحوط اعتبار المرتبة العالية من العدالة في مرجع الفتوى و يلحق به القاضي المتسع نطاق قضاوته.

(2) أو الاطمئنان، و قد مر ثبوتها بحسن الظاهر عنها علما أو ظنا بالغا حد الوثوق بها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد،

ج 2، ص: 292

اعتبار العدالة في القاضي

______________________________

أقول: اما اعتبار العدالة في المفتي فقد مضى الكلام فيه مستوفى لاحظ ما ذكرناه في ذيل مسئلة الثانية و العشرين.

و اما اعتبارها في القاضي فقال الماتن (قدس) في كتاب القضاء للإجماع، و المنع من الركون الى الظالم «1» إذ هو ظالم لنفسه و لقصوره عن مرتبة الولاية على الصبي و المجنون فكيف بهذه المرتبة الجليلة اه «2».

نوقش: بإمكان تطرق المنع في الإجماع بدعوى ثبوت الاختلاف أولا، و بعدم الحجية ثانيا، و في الآية بأنه لو أريد من الظلم الظلم على النفس و لو في الجملة و لو في العمر مرة أو أكثر فأي عادل يخلو عن ذلك و غاية الأمر ان الفاسق أكثر ظلما منه، و لو أريد من عدم الظلم انتفائه بالمرة فليس هو الا المعصوم عليه السّلام.

نعم قد يقال ان المستفاد من النصوص اعتبار العدالة إذ قد ثبت اعتبارها في الشاهد فكيف بالقاضي، على ان قوله: الحكم ما حكم به أعدلهما مشعر بأن العدالة شرط في القضاء، و يؤيد ذلك ان المقصود من الترافع ليس الا قطع الخصومة و فصل الأمر و هما لا يجامعان بعدم الاطمئنان إلى المنصوب للقضاء اه «3».

قلت: أما المناقشة في الإجماع فالإنصاف انها في غير محله، و لم أجد مخالفا في المسئلة بل اكتفى في المستمسك لاعتبار العدالة بالإجماع فقط، و كيف لا و قد كان

______________________________

(1) يعنى قوله تعالى لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ. هود: 11/ 113

(2) ملحقات العروة الوثقى ج 2/ 5

(3) مرقاة التقي في شرح كتاب القضاء من العروة الوثقى/ 19

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 293

..........

______________________________

نقل الإجماع مستفيضا في كلمات الأصحاب.

فلا ينبغي الإشكال

في تحقق الإجماع في المسئلة نعم يقع الكلام في حجيته في المسئلة التي تجري فيها وجوه عقلية و نقلية، لاحتمال ان تكون تلك الوجوه أو بعضها مستندة الإجماع.

و اما المناقشة في الركون الى الظلمة ففيه ان العادل و من كان له حالة و ملكة نفسانية لاجتناب المعاصي إن ارتكب الذنب أحيانا لا يصدق عليه انه ظالم بل لا يصدق عليه الفاسق ان تاب و الظاهر ان المراد بالركون إلى الظلمة ليس الركون الى مجرد من ارتكب الفسق و المعصية بحيث يكون الاعتماد و الركون على الفاسق محرما بل المراد الركون الى من صار الظلم على الناس امرا عاديا أو غالبيا له فكأنه صار طبيعة ثانية له.

فمجرد التحاكم الى من ارتكب الفسق لا يعد ركونا الى الظالم.

نعم التحاكم الى الفاسق المنصوب من قبل الجائر بحيث صار من أعوانهم يعد من الركون الى الظلمة.

فما في التنقيح: من انه يمكن ان يقال ان التحاكم الى الفاسق من أظهر أنحاء الركون الى الظلمة و قد نهى عنه في الشريعة اه «1» غير مطرد في الترافع الى مطلق الفاسق كما لا يخفى فتدبر.

و كيف كان استدلال الماتن بأولوية مرتبة القضاء على ولاية الفاسق على الصبي و المجنون وجيه ضرورة ان الفاسق إذا قصر عن مرتبة الولاية على الصبي، أو المجنون فكيف بهذه المرتبة العظيمة.

موقف القضاء في الشريعة المقدسة

بل كما في التنقيح: ان القضاء من المناصب التي لها أهمية في الشريعة المقدسة بعد الولاية بل هو من المناصب المختصة بالنبي و أوصيائه صلوات اللّه عليهم

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 365

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 294

..........

______________________________

و هم قد ينصبون شخصا معينا للقضاء و قد ينصبون على نحو العموم، و

لا نحتمل ان يجعل الشارع الحكيم هذا المنصب العظيم لمن هو خارج عن طريقته، كيف و قد اعتبرت العدالة في إمام الجماعة و الشاهد فكيف بالقضاه الذي هواهم منهما هذا و قد ورد فيما رواه الصدوق بإسناده الصحيح عن سليمان بن خالد عن ابى عبد اللّه عليه السّلام اتقوا الحكومة فإن الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصى نبي «1» و من الظاهر ان الفاسق لا يسمح ان يكون وصي نبي اه «2» و كقوله عليه السّلام فيما روى عن الخصال: اتقوا الفساق من العلماء «3».

فتحصل مما ذكرنا ان اعتبار العدالة في المفتي و القاضي مما لا ريب فيه.

كلمة من صاحب الحدائق في اعتبار المرتبة العالية من العدالة في الحاكم الشرعي

بل كما تقدم في ذيل مسئلة الثانية و العشرين مقالا نفسيا من صاحبي الحدائق و المستمسك في ان العدالة المعتبرة في الحاكم الشرعي هي المرتبة العالية فأوردنا ما افاده سيد مشايخنا (قدس) و لا بأس بذكر ما أفاده العلامة البحراني (قدس) هنا فلعله لا تخلو عن فائدة قال:

«العدالة المعتبرة في الحاكم الشرعي- من قاضٍ أو مفت- هي المرتبة العليا فلا يكفى فيهما ما يعتبر في إمام الجماعة، و الشاهد، أو غيرهما ممن يعتبر وجود العدالة فيه لأنه نائب عن الامام، و جالس في مجلس النبوة و الإمامة و متصدر للقيام بتلك الزعامة فلا بد فيه من مناسبة للمنوب عنه مما يستحق به النيابة بأن يكون متصفا بعلم الأخلاق الذي هو السبب الكلى للقرب من الملك الخلاق، و هو تحلية النفس بالفضائل و تخليتها من الرذائل الى ان قال و يكفيك في صحة ما ذكرنا قول أمير المؤمنين

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب صفات القاضي ح/ 1

(2) التنقيح ج 1/ 364

(3)

بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 2/ 104

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 295

..........

______________________________

عليه السلام لشريح يا شريح جلست مجلسا لا يجلسه الا نبى أو وصى نبي، أو شقي «1» ثم ذكر و استشهد لإثبات مدعاه بجملة من الروايات التي يطول بنا ذكرها، و لعل التأمل فيها يقضى بعدم دلالتها على مدعاه بوضوح، و لكن ينبغي ملاحظتها و التسنن بها.

رواية جامعة لكون العلم ذو فضائل كثيرة

و لا بأس بذكر رواية منها للاتصاف بما فيها، و هي ما رواها عن الكافي عن ابى عبد اللّه عن أمير المؤمنين عليهما السّلام انه كان يقول:

يا طالب العلم ان العلم ذو فضائل كثيرة: (فراسة) التواضع (و عينه) البراءة من الحسد، (و أذنه) الفهم، (و لسانه) الصدق (و حفظه) الفحص، (و قلبه) حسن النية، (و عقله) معرفة الأشياء و الأمور، (و يده) الرحمة، (و رجله) زيارة العلماء، (و همته) السلامة، (و حكمته) الورع، (و مستقره) النجاة، (و قائده) العافية، (و مركبة) الوفاء، (و سلاحه) لين الكلام، (و سيفه) الرضا (و قوسه) المداراة، (و جيشه) مجاورة العلماء، (و مآله) الأدب (و ذخيرته) اجتناب الذنوب، (و زاده) المعروف، (و مأواه) الموادعة، (و دليله) الهدى، (و رفيقه) محبة الأخيار «2».

فتحصل أن القضاوة و مرجعية الفتوى ترتضعان من ثدي واحد فكلما كانت سعة المرجعية و القضاء كمية و كيفية أوسع ينبغي ان تكون العدالة المعتبرة فيها أعلى فظهر انه لا بد و ان يكون القاضي محرز العدالة فالمجهول حاله من حيث العدالة كالمعلوم فسقه غير صالح للقضاء هذا كله بالنسبة إلى اعتبار العدالة في القاضي

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب صفات القاضي ح/ 2

(2) الحدائق الناضرة: ج 10/ 508

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 2، ص: 296

عدم انحصار طرق ثبوت العدالة بما ذكر في المتن

______________________________

اما طرق ثبوت العدالة فقد تقدم الكلام فيه مفصلا في ذيل المسئلة الثانية و العشرين فلا نعيده، و لكن نشير الى عدم انحصار ثبوت العدالة بما ذكر في المتن هنا لأنه كما تثبت: 1- بشهادة العدلين 2- و العلم الوجداني الحاصل من اى طريق بالشياع أو بالمعاشرة التامة 3- و الاطمئنان بها من طريق المعاشرة، فكذلك تثبت 4- بحسن الظاهر المفيد للظن البالغ حد الوثوق نوعا و لو لم يحصل فعلا و الاطمئنان الحاصل من المعاشرة و الشياع و ان لم يفد العلم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 297

[مسئلة 45- إذا مضت مدة من بلوغه و شك بعد ذلك في ان أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا]

اشارة

______________________________

قال العلامة الطباطبائي (قدس): مسئلة 45- إذا مضت مدة من بلوغه و شك بعد ذلك في ان أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا، يجوز له البناء على الصحة في أعماله السابقة، و في الاحقة يجب عليه التصحيح فعلا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 298

حكم الشك في ان أعماله السابقة كانت عن تقليد صحيح

______________________________

(1) أقول: الشك في صحة الأعمال تارة تكون ناشئا عن الشك في وجود تقليد صحيح بمفاد كان التامة، و اخرى يكون عن الشك في صحة التقليد مع العلم بوجوده بمفاد كان الناقصة.

ظاهر عبارة المتن هنا الأول، كما ان ظاهرها في مسألة 41 الثاني.

و لا يخفى انهما غير فارقين فيما هو المهم في تصحيح الأعمال السابقة فلا يلائم عنوانهما مستقلا، و قد أضاف هنا حكم الأعمال اللاحقة.

و كيف كان تقدم الكلام مفصلا في تصحيح الأعمال السابقة في مسألة 41، و إجماله أن تصحيح الأعمال السابقة- سواء كانت صلاة أو غيرها- انما هي أصالة الصحة، و قاعدة الفراغ- بناء على انها قاعدة أخرى- فإنهما تصححان أعماله التي اتى بهما لان ذات العمل و ان كانت معلومة الا انه يشك في كيفيتها، و انه اتى بها مستندة الى فتوى من يجب تقليده أم لا فيحكم بصحتها لهما.

و بالجملة كلما كان الشك في صحة المأتي به و مطابقته للمأمور به فأصالة الصحة، و قاعدة الفراغ تصححان العمل المأتي به فلا تجب الإعادة أو القضاء.

حكم الاكتفاء بأصالة الصحة و قاعدة الفراغ في الأعمال اللاحقة

و اما بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة فهل يكتفى بهما في تصحيحها، أو لا بد لها من تقليد صحيح بالرجوع الى فقيه جامع للشرائط وجهان بل قولان.

قد يقال ان القولين مبنيان على ان أصالة الصحة أو قاعدة الفراغ امارة أو أصلا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 299

نظرية المشهور في الفرق بين الامارة و الأصل في حجية اللوازم و الملزومات العقلية و العادية و المناقشة فيها

______________________________

فعلى الأول يكتفى بهما لتصحيحهما بخلاف الثاني و ذلك لما اشتهر بين المتأخرين خلافا لما يظهر من عبارات القدماء في الفرق بين الامارة و الأصل من حجية مثبتات الامارة دون الأصل، فإذا ثبت أمر بأمارة فكما يثبت نص المؤدى و الأحكام الشرعية المتعلقة بها فكذلك تثبت الآثار المترتبة عليها بواسطة اللوازم و الملزومات العقلية، و العادية، و اما إذا ثبت الشي ء بالأصل فلا يترتب عليه الاخصوص الآثار الشرعية المتعلقة به بلا واسطة.

و لهم في إثبات مقالهم تقاريب لا يسعه المقام.

و لكن الذي يقتضيه دقيق النظر هو عدم تمامية الفرق لأنه قد تعتبر امارة لإثبات أمر و لا يكون حجة بالنسبة إلى لوازمها كالظن بالقبلة مثلا حيث جعل الظن بها حجة لغير المتمكن من تحصيل العلم بها فتصح الصلاة نحو القبلة المظنونة فقط، و لكن لا يجوز له ان يحكم بتحقق الزوال إذا وصلت الشمس اليه مثلا الى غير ذلك من الآثار، و اللوازم العادية و العقلية.

نعم ربما تعتبر امارة و تكون حجة بالنسبة إلى لوازمها و ملازماتها كخبر الواحد، و البينة، و الإقرار و السوق، و اليد و نحوها.

بيان المختار في حجية الآثار بالنسبة إلى اللوازم و الملزومات

و الملاك كل الملاك ملاحظة دليل اعتبار الامارة فان كانت حجيتها بلحاظ حكايتها و كشفها عن الواقع فيكون لوازمها و ملازماتها حجة و ذلك مثل خبر الواحد فإن عمدة دليل اعتباره بناء العقلاء، و هم يرتبون عليه جميع الآثار من غير فرق بين الآثار الشرعية و غيرها- كانت مع الواسطة، أو لا مع الواسطة، كانت ملتفتة إليها، أو مغفولا عنها- و الشارع لم يردع عنها بل امضاهم على ما هم عليه فيكون حجة بالنسبة إليها فلذا إذا أقر أحد بإعطاء السم الى غيره و اشربه فلا

إشكال في حكم العقلاء بكونه قاتلا إياه،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 300

..........

______________________________

و ان أنكره، أو ادعى عدم التفاته اليه.

و اما إذا كان نطاق حجية امارة التعبد بمضمونها و مفادها كأصالة الصحة و قاعدة الفراغ بناءا على كونهما أمارة فإن مقتضى اعتبارهما هو التعبد بمفادهما فلا يكون مثبتاتهما حجة.

فعلى هذا ان قلنا بامارية أصالة الصحة و قاعدة الفراغ فغاية مقتضاهما في مفروض المسألة تصحيح الأعمال السابقة و التعبد بذلك فلا يكتفى بذلك لتصحيح الأعمال اللاحقة فلا بد له فيها من تقليد صحيح.

فيكون جريانها في الأعمال السابقة وزان جريان قاعدة الفراغ في تصحيح الصلاة التي شك في صحتها من حيث الطهارة و غيرها فكما يحكم بصحة الصلاة المشكوكة فيها و لكن مع ذلك لا بد له من تحصيل الطهارة في الأعمال اللاحقة المعتبرة فيها الطهارة فكذلك في المقام.

هذا إجمال المقال و تفصيله يطلب من غير المقام.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 301

[مسئلة 46- يجب على العامي أن يقلد الأعلم في مسئلة وجوب تقليد الأعلم، أو عدم وجوبه]

اشارة

______________________________

قال العلامة الطباطبائي (قدس): مسئلة 46- يجب على العامي أن يقلد الأعلم في مسئلة وجوب تقليد الأعلم، أو عدم وجوبه، و لا يجوز ان يقلد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم، بل لو أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم يشكل جواز الاعتماد عليه (1).

فالقدر المتيقن للعامي تقليد الأعلم في الفرعيات.

(1) لا وجه للإشكال، و لا فرق بينه و بين ما تقدم في تقليد الحي في جواز البقاء على تقليد الميت، و قد جزم (قدس) بالجواز هناك و أشكل فيه هنا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 302

حكم العقل بلزوم تقليد الأعلم ليس على وزان حكمه بأصل التقليد

______________________________

أقول: حكم العقل بتقليد الأعلم كحكمه بأصل التقليد فكما يحكم العقل بلزوم التقليد لمن لم يتمكن من الاجتهاد و الاحتياط فكذلك يحكم بلزوم تقليد الأعلم و لكن حكمه من الموردين ليس على وزان واحد و نسق فأرد لان حكمه في أصل التقليد انما هو لاستقلاله لذلك كما تقدم، و انه بحكم فطرته و بداهته فان من لم يتمكن من الاجتهاد و الاحتياط بعد العلم بثبوت أحكام في الشريعة يحكم جزما بالمراجعة الى من يكون خبيرا.

و اما حكمه في تقليد الأعلم فإنما هو من باب الاحتياط و الأخذ بالقدر المتيقن للشك في حجية فتوى غير الأعلم و قد قرر أن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدم الحجية من حيث عدم الاعتبار فلا يكون حكم العقل بلزوم تقليد الأعلم نظير حكمه بلزوم أصل التقليد.

يجوز تقليد غير الأعلم إذا أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم خلافا للماتن

فاذا كان حكمه بتقليد الأعلم من باب الأخذ بالقدر المتيقن فبعد المراجعة إلى الأعلم ان افتى بجواز تقليد غير الأعلم يصح للعامي تقليد غير الأعلم بل هو في الحقيقة تقليد للأعلم لان تقليد غير الأعلم كان بعد المراجعة إلى الأعلم و من ناحيته فيكون اتصاف فتوى غير الأعلم بالحجية بفتوى الأعلم.

و بالجملة العامي في رجوعه الى غير الأعلم بعد فتوى الأعلم بجواز تقليد غير

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 303

..........

______________________________

الأعلم استند الى ما يقطع بحجيته و هو فتوى الأعلم فلا وجه للإشكال فيه كما في المتن كما لا وجه لغيرها من المسائل الأصولية لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام الكلية فهي كمسئلة جواز البقاء على تقليد الميت ترتضعان من ثدي واحد و كلتاهما من قبيل المسائل الفرعية.

فإشكال الماتن (قدس) هنا مع جزمه بجواز تقليد الحي في جواز

البقاء على تقليد الميت غير ظاهر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 305

[مسئلة 47- إذا كان مجتهدان أحدهما أعلم في أحكام العبادات و الآخر أعلم في المعاملات]

مسئلة 47- إذا كان مجتهدان أحدهما أعلم في أحكام العبادات و الآخر أعلم في المعاملات فالأحوط (1) تبعيض التقليد و كذا إذا كان أحدهما أعلم في بعض العبادات مثلا و الآخر في البعض الأخر.

[مسئلة 48- إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأ]

اشارة

مسئلة 48- إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأ يجب عليه إعلام (2) من تعلم منه، و كذا إذا أخطأ المجتهد في بيان فتواه يجب عليه الإعلام.

______________________________

(1) بل الأقوى مع العلم بالمخالفة و لو إجمالا، و مخالفة فتوى غير الأعلم للاحتياط كما مر، و كذا الحال في الفرع الثاني.

(2) إذا كان المخطأ فيه حكما لزوميا- بان كان المنقول تجويز فعل الحرام، أو ترك الواجب مثلا، أو ما بحكمه من تصحيحه ما يكون فاسدا أو بالعكس- و اما إذا كان غير إلزامي، أو كان المنقول موافقا للاحتياط فلا يجب عليه الإعلام بمجرد ذلك إلا إذا طرء عليه بعض العناوين الموجبة لذلك. و كذلك الحال فيما إذا أخطأ المجتهد في بيان فتواه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 306

حكم التبعيض في التقليد إذا كان كل واحد من المجتهدين أعلم من الآخر في باب و الآخر في باب آخر

______________________________

أقول: الفرعان اللذان تعرضهما الماتن (قدس) في مسئلة 47 يرتضعان، من ثدي واحد، و قد تقدم غير مرة ما هو الحق فيهما، و انه يجب على الأقوى تقليد الأعلم في المقامين إذا علم مخالفتهما من حيث الفتوى، و كانت فتوى الأعلم مخالفة للاحتياط.

الأقوال في وجوب إعلام خطإ ناقل الفتوى أو بيان الفتوى

أقول: اختلفوا في وجوب الإعلام و عدمه في مفروض مسئلة 48 على أقوال فعن جماعة وجوب الإعلام مطلقا و عن المحقق الأردبيلي (قدس) التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف قطعا و بين ما إذا انكشف ظنا فاختار الوجوب في الأول دون الثاني، و عن غير واحد التفصيل بين ما إذا كان المخطأ فيه حكما إلزاميا فأفتى خطأ بالاباجة أو نقل الفتوى كذلك، و بين ما إذا كان المخطأ فيه حكما غير إلزامي بان افتى أو أخبر عنه بالوجوب أو الحرمة فاختار وجوب الإعلام في الأول دون الثاني.

لزوم الإعلام إذا كان المخطأ فيه حكما إلزاميا فأفتى أو نقل الفتوى بالإباحة أو الاستحباب أو الكراهة بعض وجوه يستدل بهما للزوم الإعلام

لا يبعد القول الثالث لان الحكم المخطأ فيه ان كان واجبا في الواقع أو حراما كذلك فأفتى بإباحته أو استحبابه أو كراهته، أو نقل الفتوى بذلك خطأ فيكون من صغريات مسئلة تنبيه الغافل و إرشاد الجاهل و موردها كلما كان المكلف غافلا عن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 307

..........

______________________________

الحكم الكلي أو قاطعاً بالخلاف أو غافلا مترددا على نحو يكون جهله عذرا- سنشير قريبا الى وجه تقييد الجهل بكونه عذرا فارتقب- فيجب عليه الإعلام برفع عذر الجاهل و إتمام الحجة عليه.

و هذا الحكم جار في جميع الأحكام الكلية و الموضوعات الخارجية التي علمت من الشرع مبغوضية فعلها أو تركها فيجب ردع فاعلها أو تاركها.

و لا يخفى انه لا يختص وجوب ذلك بخصوص المفتي أو ناقل الفتوى بل يجب الإعلام على كل أحد.

نعم يتأكد الوجوب في حقها بلحاظ صدق التسبيب بالنسبة إلى فعل الحرام أو ترك الواجب بالإضافة إليهما لاستناد العامي في فعله الحرام أو تركه الواجب الى فتوى المجتهد و حرمة التسبيب بالنسبة إليهما ثابتة بحكم العقل و النقل، و التسبيب بالنسبة إليهما

و ان كان بمجرد الإفتاء على خلاف الواقع أو نقله الا انه ما دام جهلهما بالحال يكونان معذورين فاذا ارتفع الجهل بظهور الخطاء يرتفع العذر بقاءا.

و هذا نظير ما إذا أقدم طعاما نجسا لضيف جاهلا بنجاسته ثم علم بالنجاسة حال أكل الضيف فإنه و ان كان معذورا حال تقديم الطعام الا انه حال علمه بنجاسته يرتفع عذره و يجب عليه أعلامه.

و قد يستدل لوجوب الإعلام بحكم العقل بوجوب إرشاد الجاهل و كان القائل به (ره) يترنم بهذا البيت:

اگر بينى كه نابينا و چاه است اگر خاموش بنشينى گناه است

بل قد يقال انه يمكن استفادة ذلك مما تضمن ان الغرض من إرسال الرسل و إنزال الكتب هو قطع اعذار المكلفين و اقامة الحجة عليهم مثل قوله تعالى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلّٰا يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «1».

و يمكن الاستدلال لذلك بالأخبار الدالة على ان كل مفت ضامن و قد تقدم ذكر

______________________________

(1) النساء: 4/ 165

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 308

..........

______________________________

ثلة منها في الجز الأول من هذا الكتاب/ 206- 207 و المتحصل منها ضمان المفتي و عليه عقوبة من عمل بفتياه غاية الأمر انه في مفروض المقام حيث أخطأ في الفتوى من دون تقصير في المقدمات يكون معذورا فاذا علم بالخطإ وجب عليه الإعلام دفعا للعذاب عن نفسه.

و لا يخفى ان الظاهران موضوع هذه الاخبار و ان كان المجتهد و المفتي خلافا لما يظهر من التنقيح من ان المراد بالمفتى مطلق من ينقل الحكم فيشمل المجتهد و الناقل كليهما «1».

الا انه يمكن إلحاق ناقل الفتوى بالمجتهد لوحدة الملاك فمن أخطأ في نقل الفتوى من دون تقصير في

المقدمات يكون معذورا فاذا علم بخطاء نقله يجب عليه الإعلام دفعا للعذاب عن نفسه.

فما في الدروس: من اختصاص ما ذكر بالمفتى، و لا يصح استفادة حكم ناقل الحكم «2» غير واضح فتدبر و اغتنم.

أضف الى ذلك الأخبار الدالة على حرمة الفتوى بغير العلم كما تقدم ذكرها في الجزء الأول/ 158 فإن الفتوى بالإباحة في المقام أيضا من غير علم الا انه كان معذورا فاذا علم خطائه يجب عليه أعلامه.

و قد يذكر وجوه أخر لذلك. و فيما ذكرناه كفاية.

عدم وجوب الإعلام في الجهل غير العذري

و انما قيدنا جهل المكلف بنحو يكون معذورا فلأجل عدم وجوب الإعلام بالنسبة الى من لم يكن كذلك و ذلك فيما إذا كان الجهل مقرونا بالعلم الإجمالي و نحوه لوجوب الاحتياط بالنسبة اليه.

و كذا لو انحصر الإعلام بطريق الخبر الذي لا يكون حجة في نظر السامع فإنه

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 382

(2) الدروس ج 1/ 212

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 309

..........

______________________________

لا يجب الإعلام لعدم ترتب الأثر على أعلامه هذا كله إذا كان الحكم المخطأ فيه حكما إلزاميا- وجوبيا كان أو تحريميا.

عدم وجوب الإعلام إذا كان الحكم المخطأ فيه غير إلزامي

و اما إذا كان الحكم المخطأ فيه حكما غير إلزامي بان افتى المجتهد أو أخبر الناقل بوجوب أو حرمة المباح، أو المستحب أو الكراهة فيمكن ان يقال بعدم وجوب الإعلام بل صرح غير واحد من الأساطين بعدم الوجوب لعدم الدليل عليه عدا ما يتوهم من إطلاق أدلة وجوب تبليغ الأحكام و حفظها عن الاندراس، و لكن لا دلالة فيها الأعلى وجوب تبليغها بنحو يتمكن من الوصول إليها حتى لا يندرس الدين من غير فرق في ذلك بين المجتهد و غيره من المكلفين و اما إيصالها إلى آحاد المكلفين الذي هو المطلوب في المقام و لو بدق أبوابهم فلم يقم على وجوبه دليل و لم يلتزم أئمة أهل البيت عليهم السّلام بذلك فما ظنك بغيرهم لان التبليغ كذلك كان لازما على النبي صلّى اللّه عليه و آله بالمقدار المتمكن منه دون بقية المكلفين. هذا أولا.

و ثانيا: ان ما استدل به لوجوب تبليغ الأحكام من أية النفر «1» و أية الكتمان «2» و الاخبار الدالة على وجوب التبليغ قاصرة عن وجوب تعليم أحكام ترخيصية لان القدر المتيقن منها الأحكام الإلزامية

لو لم نقل اختصاصها بها لما تقدم ان تعلم الأحكام واجب طريقي و الحكمة في الوجوب الطريقي هو التحفظ على المصالح لئلا يفوت، و التجنب عن الوقوع في المفاسد.

فاذا التعليم الواجب انما هو خصوص الأحكام الإلزامية و اما الأحكام الترخيصية- من المباحات و المستحبات و المكروهات- فلا يجب فيها التعلم و التقليد بداهة انه لا مفسدة في ارتكابها أو تركها فاذا لم يجب تعلم أحكام غير إلزامي فلا معنى لوجوب

______________________________

(1) لوضوح عدم صدق الانذار و التخويف على غير الحكم الإلزامي.

(2) لأن الظاهر من أية الكتمان حرمة كتمان ما يكون هدى للناس عن الضلالة و الهلاكة لا مطلق ما أنزله اللّه و ما لم يكن في تركه جهالة و ضلالة كالأحكام غير الإلزامية.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 310

..........

______________________________

تعليمها نعم إذا احتمل الوجوب أو الحرمة يجب التعلم دفعا للضرر المحتمل.

تبصرة

يؤيد ما ذكرنا جريان سيرة الأصحاب الأخيار على عدم البحث و المذاكرة في الأحكام الترخيصية غالبا و عدم افتائهم بها كثيرا بل يشيرون بإتيانها رجاء و احتياطا في كثير من الموارد.

وجوب تعليم الأحكام و حفظها عن الاندراس و لو في غير الأحكام الإلزامية من كل مكلف

و ليعلم ان عدم وجوب الإعلام فيما إذا كان المخطأ فيه حكما غير إلزامي لمن وقع بفتواه أو نقله في خلاف الواقع لا يستلزم عدم وجوب تبليغ الأحكام حتى لا يجب حفظ تلك الأحكام عن الاندراس فإنه كما أفيد: لا يبعد ان يقال بوجوب تعليم الأحكام الشرعية و حفظها عن الاندراس و يتحقق ذلك ببيان الأحكام الشرعية على نحو يتمكن غير المجتهد من الوصول اليه من غير فرق في ذلك بين الواجبات و المحرمات و المكروهات و المستحبات و المباحات، و من غير فرق في ذلك بين المجتهد و غيره من المكلفين.

و اما إيصالها الى كل فرد فرد من آحاد المكلفين و لو بدق أبوابهم فلم يقم على وجوبه دليل و لم يلتزم به أئمة أهل البيت عليهم السّلام فما ظنك بغيرهم و قد أشرنا أن التبليغ كذلك كان لازما على النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بالمقدار الممكن دون بقية المكلفين «1».

و يتحقق بيان الأحكام الشرعية على النحو المزبور على المجتهد بطبع رسالة عملية و نشرها بحيث يتمكن الناس الوصول اليه، أو بجلوسه في بيته و تهيئة للجواب عند السؤال عن الأحكام الشرعية.

فالمتحصل من وجوب الإعلام في هذه المسئلة هو ان يقال انه يجب الإعلام إذا كان المخطأ فيه حكما لزوميا بان نقل اباحة الواجب، أو الحرام مثلا و عند ذلك

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول،

1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 310

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 373

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 311

..........

______________________________

لا تختص الوجوب بالناقل فقط بل يجب على غيره أيضا و ان كان يتأكد الوجوب في حق الناقل.

و اما إذا كان المخطأ فيه حكما غير إلزامي بأن نقل وجوب المستحب، أو نقل ما هو موافق للاحتياط في المسئلة فلا يجب عليه الأعلام بمجرد ذلك إلا إذا طرء عليه بعض العناوين الموجبة.

هذا في نقل الفتوى خطأ، و كذلك الحال فيما أخطأ المجتهد في بيان فتواه فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 313

[مسئلة 49- إذا اتفق في أثناء الصلاة مسئلة لا يعلم حكمها]

اشارة

مسئلة 49- إذا اتفق في أثناء الصلاة مسئلة لا يعلم حكمها يجوز له (1) ان يبنى على أحد الطرفين بقصد (2) ان يسئل عن الحكم بعد الصلاة، و انه إذا كان ما اتى به على خلاف الواقع (3) يعيد صلاته، فلو فعل ذلك و كان ما فعله مطابقا للواقع لا يجب عليه الإعادة

______________________________

(1) بل بناءا على حرمة قطع الصلاة يتعين عليه ذلك ان لم يعلم وجه الاحتياط. و الا فيتعين عليه الأخذ بما هو الأحوط.

(2) بل و ان لم يقصده إذا تمشي منه قصد القربة.

(3) أو فتوى من يقلده فعلا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 314

..........

______________________________

أقول: الكلام في المسئلة طورا على ما نسب الى المشهور من حرمة قطع الصلاة و اخرى على عدمها.

استظهار بعض الأساطين من كلام الشيخ بأنه يرى حرمة قطع الصلاة و دفعه

استظهر بعض الأساطين دام ظله من حكم شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) بفسق من ترك تعلم مسائل الشك و السهو بأنه لو جاز له قطع الصلاة يمكن المكلف حينما عرض الشك في صلاته- من ان يقطع ما بيده و يستأنفها ابتداء- و معه لماذا يجب عليه تعلم المسائل الراجعة إلى الشك و السهو و لما ذا يتصف المكلف بالفسق بترك تعلمهما «1».

و فيه: ان ظاهر فتوى الشيخ (قدس) بذلك بلحاظ انه يجب على عامة المكلفين معرفة أحكام الدين و منها الشكيات و السهويات في المسائل المبتلى بها، و قد أشرنا ان المشهور قائلون بكون وجوب معرفة الأحكام نفسيا، فاذا من ترك التعلم في المسائل المبتلى بها يكون فاسقا، فاستظهاره دام ظله من حكم الشيخ (قدس) بفسق تارك التعلم ان فتواه (قدس) لحرمة قطع الصلاة كأنه في غير محله، و ان كان لا يبعد ان تكون فتواه حرمة قطع

الصلاة لكنه بجهة أخرى فتدبر.

و كيف كان ان قلنا بحرمة قطع الصلاة فإن اتفق في أثناء الصلاة مسئلة لا يعلم حكمها فان علم وجه الاحتياط فيها- كما إذا شك في وجوب السورة في الصلاة مع علمه بأنها لا تضربها إذا اتى بها بقصد القربة رجاء فالظاهر تعين الأخذ بما هو الأحوط

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 377

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 315

..........

______________________________

ضرورة انه بذلك يمكن تصحيح الصلاة و الفراغ منها مع عدم ابتلائه بقطع الصلاة و إطلاق عبارة المتن يعم المفروض أيضا و لذا علق غير واحد من الأساطين على المتن- من جواز البناء على أحد الطرفين- بما إذا لم يكن أحد الطرفين موافقا للاحتياط و الا يتعين الأخذ بما هو الأحوط، فما في الدروس من ان الظاهر ان هذه الصورة خارجة عن مفروض المتن و ان المفروض فيه هو ما كان كل من الطرفين محتمل البطلان «1» غير ظاهر.

و اما ان لم يعلم وجه الاحتياط كما إذا شك حال النهوض الى القيام في انه سجد السجدة الثانية و لم يعلم ان الدخول في مقدمة الجزء المترتب على الجزء المترتب على الجزء المشكوك فيه محقق للتجاوز أو لا بد في صدقه من الدخول في نفس الجزء المترتب عليه فلا بد من البناء على أحد الطرفين و تتيمم الصلاة برجاء مطابقتها للواقع.

اما البناء على أحد الطرفين فواضح بعد حرمة قطع الصلاة و اما تتميمها برجاء المطلوبية فلأنه لو لا ذلك لزم التشريع المحرم.

عدم اشتراط قصد السؤال في البناء على أحد الطرفين

ثم انه هل يجب و يشترط في البناء على أحد الطرفين قصد السؤال عن الحكم بعد الصلاة كما هو ظاهر المتن و صريح بعض الأساطين دام ظله «2»

أم لا يجب كما هو صريح سيد مشايخنا (قدس) «3» قولان.

من حكم العقل بعدم حصول اليقين بالبرائه الا بذلك، و من انه كما تقدم يكفى مطابقة المأتي به للواقع و لو صدفة من غير قصد إذا اتى به بقصد القربة برجاء المطلوبية في خصوص العباديات و في غيرها يكفى مجرد المطابقة و لو لم يكن ملتفتا اليه فضلا عن كونه مقصودا.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 190.

(2) التنقيح ج 1/ 376

(3) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 17

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 316

..........

______________________________

و المترائى في النظر عدم لزوم ذلك في تصحيح البناء على أحد الطرفين لأن غاية ما يقتضيه العقل هي لزوم الإتيان بالمأمور به و مطابقة المأتي به للمأمور به فمن اتى بأحد الطرفين رجاء مضيفا له اليه تعالى غافلا عن ان يسئل عن حكم المسئلة، أو غير بان للسؤال عن حكم المسئلة بعد الصلاة بل يأتي به برجاء المطلوبية و في أثناء الصلاة «1» أو بعدها عرف وجه الحكم و ان ما اتى به موافق للواقع فالظاهر صحة المأتي به إذ الملاك كل الملاك في الصحة كما تقدم غير مرة مطابقة المأتي به للواقع، فما هو الظاهر من المتن و وافقه بعض الأساطين دام ظله- من لزوم قصد السؤال عن حكم المسئلة بعد الصلاة في الحكم بالصحة- غير ظاهر.

نعم القطع بفراغ الذمة حال الصلاة لا تكاد تحصل الا بذلك، فكم فرق بين حكم العقل بلحاظ الوظيفة العقلية حال الشك و بين حكمه في صحة العبادة فتدبر فقد ظهر انه يتعين عليه البناء على أحد الطرفين رجاء لئلا يرتكب قطع الفريضة المحتملة فما يظهر من المتن من جواز البناء على أحد

الطرفين الدال على ان له ان لا يبنى على أحدهما و إبطال الصلاة كأنه غير ظاهر.

هذا كله على القول بحرمة قطع الصلاة كما هو راى الماتن (قدس).

و ان قلنا بعدم حرمة قطع الصلاة فيجوز له البناء على أحد الطرفين سواء كان موافقا للاحتياط أو مخالفا له كما يجوز له قطع الصلاة و استينافها و ان كان الأحوط الأولى البناء على أحد الطرفين خروجا عن شبهة الخلاف.

يكفي في صحة العمل موافقة المأتي به لفتوى من يجوز تقليده

ثم انه يكفى في صحة العمل موافقة المأتي به لفتوى من يجوز تقليده فعلا و ان لم يحرز موافقة العمل للواقع.

______________________________

(1) افرض بأنه اتفاقا كان في المجلس واعظا فذكر المسئلة و بين حكمها فسمعها في أثناء الصلاة، أو تذكر نفسه حكم المسئلة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 317

..........

______________________________

و بالجملة العبرة في الصحة مطابقة العمل للواقع، أو لفتوى من يجوز تقليده فلا تخلو عبارة المتن عن نحو قصور الا ان يراد بالواقع ما يعم الوظيفة الفعلية.

ثم انه على تقدير مخالفة المأتي به للمأمور به هل يجب إعادة الصلاة مطلقا أو يخص وجوب الإعادة بما إذا كان العمل المأتي به فاقدا لجزء أو شرط ركني

يجب إعادة الصلاة على تقدير مخالفة المأتي به للمأمور به مطلقا

لعل الظاهر لزوم الإعادة مطلقا و لا يكاد يصح تصحيحه بقاعدة لا تعاد كما لعله ربما يتوهم.

و السر في في ذلك هو نقصان المأمور به و عدم مطابقته للمأمور به، و مورد القاعدة كما تقدم مختلف فيه بين المشهور و غيرهم فخصه المشهور بالسهو و النسيان و المفروض خارج عنهما و هو واضح، و غيرهم كبعض الأساطين و بعض المشايخ و ان قالوا بالتعميم و لكن خصوها بما إذا كان العمل صحيحا عند الفاعل تقليدا أو اجتهادا بحيث لو لم ينكشف له الخلاف لم تجب عليه إعادته و ليس الأمر كذلك في المفروض لان المكلف يجب عليه الإعادة- انكشف له الخلاف، أو لم ينكشف- لقاعدة الشغل «1»

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 387

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 319

[مسئلة 50- يجب على العامي في زمان الفحص عن المجتهد، و عن الأعلم أن يحتاط]

اشارة

مسئلة 50- يجب على العامي (1) في زمان الفحص عن المجتهد، و عن الأعلم أن يحتاط في اعماله (2).

______________________________

(1) بحكم العقل الارتكازي.

(2) هذا في زمان الفحص عن المجتهد، و اما في زمان الفحص عن الأعلم فيكفي العمل بأحوط أقوال الموجودين، بل يكفي الأخذ بأحوط أقوال من يتردد الأعلم بينهم إذا علم وجود الأعلم، و تحقق المخالفة بين فتواه و فتوى غيره، و الا فيتخير بين الاحتياط و تقليد أيهما شاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 320

يجب على العامي في زمان الفحص عن المجتهد الاحتياط

______________________________

أقول: حكم العقل بوجوب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد بلحاظ عدم حصول الأمن من العقاب الا به لعدم وجود طريق أخر هناك.

و بالجملة العقل بعد العلم الإجمال بأحكام إلزامية في الشريعة يستقل باشتغال الذمة و لزوم الخروج عن عهدتها و لا يحصل ذلك الا بالاحتياط ففي كل مورد احتمل حكما إلزاميا و وظيفة حتمية و لم يعرف المجتهد يستقل عقله باشتغال الذمة بها و لزوم الخروج عن عهدتها و لا يحصل ذلك حسب الفرض الا بالاحتياط تحصيلا للمؤمن من العقاب.

و لا يكفى هناك في الاحتياط الأخذ بأحوط القولين أو الأقوال و ان كان يكفى عند الفحص عن الأعلمية.

و ذلك للشك في اجتهادهم حسب الفرض فلعلهم غير مجتهدين و لم يكن في أقوالهم ما يحرز الواقع به.

فما يظهر من بعض الأعلام منهم سيد مشايخنا قدس «1» و بعض الأساطين دام ظله «2» من كفاية الأخذ بأحوط القولين أو الأقوال في الفرض لا يخلو من مناقشة نعم ان كان في أقوالهما أو أقوالهم ما يحرز به الواقع يجوز الاخد بما هو الأحوط، و لا يخفى ان هذا في الحقيقة احتياطا حقيقيا في المسئلة لا الأخذ

بالأحوط

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 78.

(2) التنقيح ج 1/ 378

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 321

..........

______________________________

منهما أو منها كما لا يخفى فتدبر.

هذا كله في حكم الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد.

تخيير العامي في زمان الفحص عن الأعلم بين التقليد و الاحتياط

و اما وجوب الاحتياط متعينا في زمان الفحص عن الأعلم بالوجه المذكور في زمان الفحص عن المجتهد فمشكل لجواز التقليد في المفروض فهو مخير بين التقليد و الاحتياط، و قد تقدم ان لزوم تقليد الأعلم انما هو في ظرف العلم بمخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم، و لم يحرز وجود الأعلم في بعض الصور، و لم يحرز المخالفة في الفتوى بعد.

فاذا يتخير في زمان الفحص عن الأعلم بين التقليد و الاحتياط الا ان تفرض المسئلة موردا يعلم وجود الأعلم في البين و يعلم وجود اختلاف الفتوى في البين فيتعين عليه الاحتياط عند ذاك فتدبر فيكفي هنا الأخذ بأحوط القولين، أو الأقوال، و لا يجب عليه الأخذ بأحوط الوجوه المحتملة في المسئلة لعلمه بحجية أحد ذينك القولين أو الأقوال في حقه فالعمل بأحوطهما، أو أحوطها مؤمن من العقاب.

ناقش سيد مشايخنا (قدس) بعدم وجوب الاحتياط على العامي في الفرض- و هو صورة الفحص عن الأعلم- و احتمل عموم دعوى الاتفاق على جواز التقليد للفرض اه «1».

قلت: قد عرفت حال لزوم الاحتياط و انه في مورد علم وجود الأعلم و علم مخالفة الفتوى في البين و اللّه العالم.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 78

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 323

[مسئلة 51- المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرف في الأوقاف]

اشارة

مسئلة 51- المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرف في الأوقاف، أو في أموال القصر ينعزل بموت المجتهد بخلاف المنصوب من قبله كما إذا نصبه متوليا للوقف، أو قيما على القصر فإنه لا تبطل توليته و قيمومته (1) على الأظهر.

______________________________

(1) لا ينبغي ترك الاحتياط بالاستيذان من الحي، أو انتصابه من قبله أيضا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 324

أنحاء التصرف في الأوقاف و نحوها

______________________________

أقول: المجتهد و الفقيه تارة يأذن للشخص التصرف في أموال القصّر و الغيّب، أو التصرف في الأوقاف و بكلمة جامعة التصرف في الأمور الحسبة- و هي الأمور التي علم ارادة وجودها في الخارج و لا يرضى الشارع بتركها و لم يعلم وجوده من شخص خاصه.

و اخرى يوكله في ذلك بحيث يستنيبه في التصرف بحيث يكون فعل الوكيل فعلا للموكل.

و ثالثة ينصبه قيما في أموال القصر أو الغيب، أو ينصبه متوليا للوقف.

الفرق بين المأذون و الوكيل و المنصوب متوليا و قيما

و الفرق بينها هو ان المأذون و الوكيل بعد اشتراكهما في جواز التصرف في تلك الأموال كما هو الشأن في الثالث أيضا هو انه اعتبر في الوكالة تنزيل فعل الوكيل في التصرفات منزلة فعل الموكل و لم يعتبر في المأذون ذلك.

و اما الفرق بين الوكيل و المنصوب فهو ان الولاية و القيمومة هو جعل الولاية و السلطنة للولي، و متولي الوقف بحيث يكون بعد جعل الولاية له التصرف مهما رأى الغبطة و المصلحة، و لا يعد أفعاله أفعال المجتهد و ان كان بنصبه و تعيينه.

و بالجملة الوكالة الاستنابة في التصرف بحيث يكون فعل الوكيل فعل الموكل تنزيلا فتدور مدار قابلية الموكل للتصرف وجودا و عدما و لذا لا يتمكن الوكيل من التصرف فيما زاد على مقدار الوكالة بخلاف الولي فإن تصرفه يكون منوطا بالغبطة، و المصلحة في نظره فربما لا ينقدح في ذهن المجتهد ما يفعله الولي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 325

..........

______________________________

و مع ذلك يصح منه ذلك.

هذا كله في الميز بين المأذون و الوكيل و متولي الوقف و القيم على الغيب و القصر.

و لا إشكال في جواز التصرفات منهم في الجملة و لكن الكلام في انه بعد

فوت المجتهد هل ينعزل المأذون أو الوكيل، أو المتولي أو القيم أولا؟

و الكلام تارة في إمكان بقاء ذلك بعد موت المجتهد و اخرى في الدليل على ذلك بعد إمكان البقاء.

إمكان بقاء الاذن و الوكالة و التولية بعد موت المجتهد

أما المأذون فتصوير الاذن في التصرف المستمر الى ما بعد موت المجتهد بمكان من الإمكان و لذا يستدل في مقام الإثبات لعدم بقاء الوكالة بموت الموكل كما سيجي ء بالإجماع و غيره و الا كان الحقيق ان يقال بارتفاعها بموت الموكل.

فما يظهر من سيد مشايخنا (قدس) من انه يرتفع الاذن بالموت «1» غير ظاهر الا ان يريد بذلك عدم دلالة الدليل على ذلك فتدبر.

و اما بقاء وكالة الوكيل فتدور مدار أهلية الموكل للتصرف فمهما جاز له التصرف جاز للوكيل ذلك، و من الواضح انه بالموت أو الجنون يخرج الوكيل عن أهلية التصرف فلا معنى للاستنابة عنه بعد ذلك.

و اما المتولي، و القيم فبما ان الولاية المذكورة نحو سلطنة مفوضة تكون قابلة للبقاء باستعداد ذاتها ما لم يرفعها رافع كعزل المجتهد إياه فمن الممكن بقائها بعد موت المجتهد.

هذا كله في مقام الثبوت.

عدم بقاء الاذن بعد موت المجتهد

و اما مقام الإثبات فقد أشرنا ان تصوير الاذن المستمر الى ما بعد الموت و ان

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 78

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 326

..........

______________________________

كان ممكنا و لكن لا دليل على ذلك في مقام الإثبات و غاية ما يمكن إثباته هو ان نفوذ اذن المجتهد محدود بحياته.

و بالجملة الأمر في المأذون واضح لأنه بموت المجتهد اما ترتفع الاذن حقيقة كما قيل أو لا يمكن إثبات بقائه بالدليل.

الاختلاف في بقاء الوكالة بموت موكله و بيان المختار

اشارة

و اما الوكيل فيمكن توجيه ارتفاع الوكالة بموت موكله بوجهين.

الأول: الإجماع

قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر: (قدس) ان العمدة في بطلان وكالة الوكيل بموت الموكل الإجماع، و قال بمثل ذلك في طرو الجنون و الإغماء له و قال بعدم الفرق عندنا بين طول زمان الإغماء، و قصره، و لا بين اطباق الجنون و أدواره و لا بين علم الوكيل بعروض المبطل و عدمه «1».

و وافقه في ذلك سيد مشايخنا (قدس) «2».

يمكن النقاش في ذلك بعد ثبوت إجماع تعبدي في ذلك بعد تطرق الوجه الأخر و لا أقل من الشك في ذلك فلا يكاد يستكشف من ذلك رأى المعصوم عليه السّلام.

الثاني:

ما أشرنا إليه من ان الوكالة تنزيل فعل الوكيل منزلة فعل الموكل و يكون تصرفاته في المال ببيع أو إجارة أو نحو ذلك منسوبا الى موكله، و من هنا يكون هو المخاطب بالوفاء بالعقد، و من المعلوم سقوطه عن أهلية التصرف بالموت أو الجنون فلا معنى للاستنابة عنه بعد موته و جنونه.

نعم في الإغماء يشكل دعوى خروج المغمى عليه عن أهلية التصرف عرفا فان وزان الإغماء وزان النوم و الغفلة، و لو شك في الأهلية عند الإغماء فيعمه إطلاق أدلة الوكالة ان كان لها إطلاق فيمكن إبقاء الوكالة بالإغماء بالاستصحاب بناء على جريانه في الشبهات الحكمية كما قرر في محله.

______________________________

(1) جواهر الكلام كتاب الوكالة ج 27/ 360- 362

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 78

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 327

..........

______________________________

و اما المتولي و القيم فاختلف في بقائه بالموت فذهب جملة من الأعلام منهم الماتن (قدس) الى عدم بطلان التولية و القيمومة بالموت، و خالفهم في ذلك بعض و احتياط في ذلك ثالث.

الاختلاف في بقاء التولية و القيمومة بعد موت المجتهد توجيه بقائهما بعد موت المجتهد

اشارة

يوجه مقال الماتن (قدس) مضافا الى دعوى الإجماع عليه بقسيمه بوجهين.

الوجه الأول:

ان للمجتهد جعل الولاية لمن نصبه، و جعله متوليا و قيما فقد اعطى منصوبة منصب الولاية، و القيمومة، و المناصب إذا لم تكن مقيدة لا تزول الا بعد العزل كما هو الشأن في سائر مناصب الحكومة، و كما في إعطاء الواقف التولية لشخص فإن التولية و النظارة بعد موت الواقف باقية و الحاكم الشرعي له السلطنة، و الاقتدار على ذلك بمقتضى قوله عليه السّلام في مقبولة عمر بن حنظلة فإني جعلته حاكما «1» و بعبارة اخرى انه من باب إعطاء المنصب فلا وجه و لا معنى لزوال المنصب بموت معطيها و يكون وزانها وزان حكم الحاكم غير القابل للنقض بموته.

و بعبارة ثالثة ان الولاية- بما أنها سلطنة مفوضة- قابلة للبقاء باستعداد ذاتها ما لم يرفعها رافع كعزل المجتهد و اما موته فلا يكون رافعا و لا أقل من الشك فيستصحب

الوجه الثاني:
اشارة

ان المرتكز في أذهان المتشرعة- و يستفاد من النصوص- ان منصب القضاء منصب نيابي فجميع الوظائف التي يؤديها القاضي- من فصل الخصومة، و نصب القيم، و نحو ذلك- يؤديه نيابة عن الامام عليه السّلام فمنصوبه منصوب الامام و لازم ذلك البناء على عدم البطلان بالموت «2».

و ربما يناقش الوجهان.

لكن توضيح المقال يستدعي البحث في مقامين.

الأول: في انه هل للمجتهد جعل الولاية في تلك الأمور الحسبة لأحد

______________________________

(1) مدارك العروة ج 1/ 122.

(2) الدروس ج 1/ 219

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 328

..........

______________________________

بان يجعل التولية و النظارة لشخص على التصرف في الأوقاف، أو في أموال القصر أو الغيب أم لا؟.

الثاني: في انه على تقدير جواز النصب من المجتهد هل يشترط بقاء التولية و القيمومة بحياة المجتهد بحيث ينعزل بموته أو

يبقى بعد موته أيضا؟

و لبعض الأساطين دام ظله كما في تقريري بحثه كلام في كلا المقامين ينبغي ذكرهما و ملاحظتهما فنقول.

المقام الأول جواز نصب المجتهد التولية و القيمومة لأحد
اشارة

فلا يبعد دعوى ثبوت الولاية على النصب للمجتهد بالنسبة إلى تلك الأمور الحسبة كفاك جعل ما ورد في غير واحد من الروايات ان القضاوة و الحكومة للفقيه الجامع للشرائط كقوله عليه السّلام في مقبولة عمر بن حنظلة (فانى قد جعلته حاكما) و قوله عليه السلام في صحيحة أبي خديجة: (فإني قد جعلته عليكم قاضيا) الى غير ذلك من الروايات.

و مقتضى الإطلاق فيها هو ترتب الآثار المرغوبة من القضاء و الحكومة بأجمعهما، أو الظاهرة منهما على الرواة و القضاة و من تلك الآثار تصديهم لنصب القيم، و الولاية و النظارة على القصر، و الأوقاف التي لا متولي لها.

و لا شبهة في ان القضاة المنصوبين من قبل خلفاء الجور كانوا يتصدون لتلك الوظائف و المناصب كما لا يخفى على من لاحظ أحوالهم و سبر سيرهم و سلوكهم في كتب السير و الاخبار.

يشهد لذلك صحيح محمد بن إسماعيل قال:

قلت مات رجل من أصحابنا و لم يوص فوقع امره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله و كان الرجل خلف ورثة صغارا، و متاعا، و جواري، فباع عبد الحميد المتاع فلما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 329

..........

______________________________

أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن إذ لم يكن الميت صير اليه وصيته، و كان قيامه فيها بأمر القاضي، لأنهن فروج قال فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السّلام و قلت له يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصى الى أحد و يخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا فيبيعهن، أو قال يقوم بذلك رجل منا

فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك؟ فقال عليه السّلام إذا كان القيم به مثلك (أو يب) و مثل عبد الحميد فلا باس «1».

و ذلك لأنه شاهد صدق و صريح في ان القضاة كانوا يتصدون لنصب القيم و نحوه من المناصب.

فاذا ثبت ان المجتهد الجامع للشرائط منصوب للقضاء و الحكومة يد لنا ذلك بإطلاقه على ان الآثار الثابتة للقضاة و الحكام بأجمعها، أو الظاهرة منها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط، و لو لا ذلك لكان الاولى ذكرها، و بيان الأمر فيها بأنها انما هو بإجازة المجتهد، أو توكيله، لا بالنصب أو الجعل.

فبالدلالة الالتزامية العرفية بعد ثبوت جعل هذه المناصب للقضاة و الحكام من قبل خلفاء الجور يستكشف جعله عليه السّلام هذه المناصب للمجتهد أيضا و الا كان عليه البيان.

و بالجملة ثبوت الولايات و المناصب لقضاة الجور و لو بزعمهم الفاسد يعطى ثبوت تلك المناصب للقاضي المنصوب من قبلهم عليهم السّلام للملازمة العرفية.

و ان أبيت عن ثبوت جميع تلك المناصب فلا أقل من ثبوت ما يبتلى به الشيعة غالبا و يحتاجون إليه في حياتهم الاجتماعية من نصب القيم و متولي الوقف و نحو ذلك من الأمور الحسبة التي لا يرضى الشارع بتركها.

بل يستفاد من صحيح ابن بزيع إمضاء نصب القيمومة لمثل عبد الحميد و لو كان

______________________________

(1) الوسائل باب 16 من أبواب عقد البيع و شروطه ح/ 2

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 330

..........

______________________________

الناصب من قضاة الجور و حكامهم فاذا صح ذلك من قضاة الجور فما ظنك من جعله من المجتهد الجامع للشرائط.

و لعل ثبوت هذا المقدار من المجتهد الجامع لا ينبغي الكلام فيه، و قد عرفت حكاية دعوى الإجماع بقسميه

عليه.

هذا ما يقتضيه الاعتبار في المقام الأول.

إشكال بعض الأساطين في ذلك و دفعه

و لكن مع ذلك ناقش بعض الأساطين دام ظله فقال ما حاصله:

ان غاية ما تقتضيه المقابلة بين قاضي الامام عليه السّلام و قضاة العامة انما هي جهة القضاء و الحكومة فقط دون غيرها و لو شك في التعميم فالأصل عدمه.

و بعبارة أوضح ليس غير القضاء و الحكومة من سائر المناصب التي منها منصب جعل القيمومة و الولاية على الصغير و الوقف داخلة في مفهوم القضاء أو لوازمها العقلية أو العادية و انما هي بجعل مستقل تحتاج في ثبوتها الى دليل مفقود بالنسبة إلى الفقيه، و هي و ان كانت ثابتة لقضاة العامة الا انه بجعل مستقل من خلفائهم، فقضية المقابلة قاصرة عن إثباتها للفقيه، و كذا قضية رفع الحاجة عنهم في سائر الجهات غير القضاء كنصب القيم على اليتيم لأنه يكفي فيها جواز تصدى الحاكم بنفسه أو تصدى غيره باذنه لما كان منها حسبة و هي تختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى و ليس منها نصب القيم و المتولي لحصول الحسبة بالمباشرة أو التسبيب.

فتحصل انه ليس للفقيه الولاية على النصب لا من نفسه و لا من قبل الامام عليه السلام «1».

قلت: الظاهر ثبوت ذلك لقضاة العامة و قد اعترف بذلك دام ظله و لكنه ادعى ان ذلك منهم بجعل مستقل و ليس ذلك من شئون القضاوة و الحكومة و هو كما ترى و لم يعهد و لم يسمع ان خلفاء الجور جعلوا لقضاتهم و حكامهم مضافا الى جعل القضاوة

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 222

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 331

..........

______________________________

و الحكومة هذه المناصب و قد عرفت من صحيح ابن بزيع استفادة جعل القيمومة

لمثل عبد الحميد، و لعل ذلك أمر لا سترة فيه و قد وافق دام ظله في التعليقة ما في المتن، و ان ناقش في بقاء التولية و القيمومة بعد موت المجتهد.

و لم اعرف من الأعلام المعلقين على المتن ما يوافقه و ليت شعري ما الوجه فيما أفاده في مجلسه الشريف.

هذا إجمال المقال في المقام الأول و لعلنا نتكلم حوله فيما يأتي في مسئلة ولاية العامة للفقيه ما ينفع المقام فارتقب.

المقام الثاني بقاء التولية و القيمومة بعد موت المجتهد
اشارة

ذهب ثلة من الأصحاب إلى بقاء التولية و القيمومة بعد موت المجتهد الناصب له ما لم يتخطأ عما قرر له خلافا لما عن بعض الأساطين دام ظله فقال بعدم البقاء عند ذلك.

أشرنا الى ما يوجه مقال القائلين بالبقاء و حاصل ما يوجه مقالهم وجهان.

الوجه الأول: ان وزان جعل القيمومة أو التولية لأحد وزان جعل الواقف التولية و النظارة لشخص فكما انه لا يكاد ترتفع بموت الواقف فكذلك في المقام فالقيم، و المتولي بعد نصب المجتهد و جعل القيمومة و التولية له إذا لم يكن مقيدة لا تزول الا بعد العزل أو خروجه عن أهلية التصرف.

و بعبارة اخرى ان جعل القيمومة، و التولية من باب إعطاء المنصب و لا معنى لزوال المنصب بزوال معطيها.

و بعبارة ثالثة: ان الولاية بما أنها سلطنة مفوضة تكون قابلة للبقاء باستعداد ذاتها ما لم يرفعها رافع كعزل المجتهد فلا يكاد ترتفع بموته.

و بعبارة رابعة: وزان جعل القيمومة، و التولية وزان حكم الحاكم غير قابل للنقض بموته فكذلك جعله القيمومة و التولية.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 332

..........

______________________________

الوجه الثاني: ان المرتكز في أذهان المتشرعة- و يستفاد من النصوص- ان منصب القضاء منصب نيابي مفوض من الامام عليه

السّلام فجميع الوظائف التي يؤديها القاضي من فصل الخصومة و نصب القيم و نحو ذلك يؤديها نيابة عنه عليه السّلام فمنصوبه منصوب الامام عليه السّلام، و لازم ذلك البناء على عدم البطلان بالموت.

الإشكال في بقاء النصب بعد موت المجتهد و دفعه

قال بعض الأساطين دام ظله: انه على تسليم ثبوت ولاية الفقيه على النصب فالقدر المتيقن- على خلاف الأصل- ثبوت ولايته على النصب الى زمان حياته لا حياة المنصوب و ليس في البين إطلاق يمكن التمسك به لإثبات بقاء ولاية المنصوب الى ما بعد موت المجتهد إذ عمدة الدليل على ولايته كما أشرنا هي قضية المقابلة بين قاضي الامام عليه السّلام و قاضي الجور فهي لو تمت في نفسها فلا بد من ملاحظة سيرتهم في ذلك و لم يعلم انها كانت على بقاء المنصوبين من قبل القضاة حتى بعد خروج القضاة عن الأهلية بموت أو جنون أو انعزال عن المنصب.

و لو ثبت ذلك فلا يمكن الالتزام به في قاضي الإمام عليه السّلام لعدم ثبوت المقابلة من هذه الجهة لو سلمنا المقابلة من جهة أصل الولاية على النصب اه «1».

و فيه: انه قد تقدم أيضا ثبوت الولاية على النصب للقضاة و قد عرفت في وجهه ما ينفعك لثبوت الولاية و القيمومة بعد موت المجتهد لما أشرنا أن وزان جعل الولاية و القيمومة وزان جعل الواقف التولية و النظارة لأحد فكما لا ترتفع بموته فكذلك في المقام.

و قد أشرنا أن وزان جعلهما من جهة وزان إعطاء المنصب و لا معنى لزوال المنصب بزوال معطيها.

و قد تقدم ان وزان جعلهما من وجه وزان حكم الحاكم فكما انه لا ينتقض بموته فكذلك في المقام.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 222- 223

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2،

ص: 333

..........

______________________________

و قد عرفت في الوجه الثاني ان منصوب الفقيه منصوب الامام عليه السّلام لان منصبه منصب نيابي فمنصوبه منصوب الامام عليه السّلام، و قد اعترف دام ظله في خلال مقاله بأنه إذا ثبت ان ولاية المنصوب ولاية من قبل الامام عليه السّلام و الفقيه في نصب القيم و المتولي واسطة في الجعل كانت الولاية ثابتة بعد موت الفقيه أيضا الا انه ناقش في إثبات ذلك «1».

و لكن عرفت ان استفادة ذلك من ارتكاز المتشرعة و النصوص بمكان من الإمكان فلاحظ.

و ان أبيت عن ذلك و شككت في بقاء الولاية بعد موت الفقيه فمقتضى الاستصحاب بقاء السلطنة و القيمومة و التولية بموت الفقيه.

فتحصل مما تقدم ان ما في المتن من انعزال المأذون و الوكيل من قبل المجتهد بموته، و بقاء القيمومة و التولية بموته تمام يمكن المساعدة عليه الا ان الأحوط بعد موت المجتهد الاستيذان، أو الاستنابة من الحي أو انتصابه من قبله أيضا و اللّه العالم بأحكامه

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 223

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 335

[مسئلة 52- إذا بقي على تقليد الميت من دون ان يقلد الحي في هذه المسئلة]

اشارة

مسئلة 52- إذا بقي على تقليد الميت من دون ان يقلد الحي في هذه المسئلة كان كمن عمل من غير تقليد (1).

______________________________

(1) بل كما أفيد: كان كمن قلد بلا تقليد، فان افتى مرجعه الحي بجواز البقاء أو وجوبه صح جميع اعماله، و الا لم تصح الا ما طابقت فتوى مرجعه الحي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 336

حكم من بقي على تقليد الميت من تقليد الحي

______________________________

أقول: تقدم الكلام في انه لا بد لغير المجتهد و الجاهل بالاحتياط ان يستند في اعماله إلى التقليد الصحيح لما قلنا ان التقليد ميزان عقلائي شرعي و قلنا بكفاية تطابق العمل المأتي به للواقع. أو لفتوى من يجب عليه تقليده فعلا و ان كان غير ملتفت اليه.

فالمراد ببطلان عمل تارك التقليد كما تقدم ليس فساد المأتي به و عدم الاجتزاء به بحيث يجب عليه الإعادة، أو القضاء، بل المراد عدم الاجتزاء به في مقام إسقاط التكليف بلحاظ عدم الاستناد الى ركن وثيق، و يكون رهينا بمطابقة الواقع، أو فتوى من يجب عليه تقليده.

و في مفروض المتن حيث انه بعد موت المجتهد ليس له الا الاستناد إليه في مقام العمل فلا بد له من مراجعة المجتهد الحي الأعلم مثلا، فان كانت فتواه جواز البقاء، أو وجوب البقاء على رأى المجتهد الميت صح جميع اعماله. و ان لم يجوز البقاء يصح بالنسبة إلى إعماله التي طابقت فتوى الحي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 337

[مسئلة 53- إذا قلد من يكتفي بالمرة مثلا، في التسبيحات الأربع و اكتفى بها]

اشارة

مسئلة 53- إذا قلد من يكتفي بالمرة مثلا، في التسبيحات الأربع و اكتفى بها، أو قلد من يكتفى في التيمم بضربة واحدة ثم مات ذلك المجتهد فقلد من يقول بوجوب التعدد لا يجب عليه (1) إعادة الأعمال السابقة (2)، و كذا لو أوقع عقدا، أو

______________________________

(1) الضابط الكلي في المقام هو الحكم بالصحة و عدم لزوم الإعادة، أو القضاء في مثل الاكتفاء بمرة واحدة من التسبيحات الأربع مما يعمه عقد المستثنى منه من حديث لا تعاد بناء على المختار من عدم اختصاصه بالسهو و النسيان، و اما في غيره فلا يحكم بالصحة، بل يلزم الإعادة، أو القضاء و ترتيب

آثار الفساد عند تبين الخلاف إلا إذا كانت الإعادة، أو القضاء مستلزما للعسر أو الحرج، أو قام هناك إجماع على الاجزاء، و يمكن الاحتياط لذلك بالبقاء على تقليد المجتهد الأول في مورد الاختلاف.

(2) لكن على الضابط الذي ذكرناه يكون فرق بين مسئلة التسبيحات و مسئلة التيمم، فعدم الوجوب مخصوص بالأولى دون الثانية إلا إذا استلزم العسر أو الحرج.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 338

إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ثم مات و قلد من يقول بالبطلان يجوز له البناء (1) على الصحة، نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني، و اما إذا قلد من يقول بطهارة شي ء كالغسالة ثم مات و قلد من يقول بنجاسته فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحة (2) و ان كانت مع استعمال ذلك الشي ء، و اما نفس ذلك الشي ء إذا كان باقيا فلا يحكم بعد ذلك بطهارته، و كذا في الحلية، و الحرمة، فإذا افتى المجتهد الأول بجواز الذبح بغير الحديد- مثلا- فذبح حيوانا كذلك فمات المجتهد و قلد من يقول بحرمته، فان باعه أو أكله حكم بصحة البيع (3) و اباحة الأكل، و اما إذا كان الحيوان المذبوح موجودا فلا يجوز بيعه و لا اكله و هكذا.

______________________________

(1) لا يحكم بالصحة خصوصا مع الابتلاء بمورده إلا إذا استلزم الحكم بالفساد العسر أو الحرج.

(2) في خصوص الصلوات إذا استعملت الغسالة في رفع الحدث.

(3) بل لا يحكم بصحة البيع، و لا بإباحة الأكل، و غاية ما هناك هو المعذورية في ترتيب آثار صحة البيع و اباحة الأكل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 339

..........

______________________________

أقول: تعرض الماتن (قدس) في هذه المسئلة فروعا

حكم في بعضها بالصحة و في بعضها الأخر بالفساد، و قد تنظر فيها بعض الأعلام من المحشين فلا بد من تحقيق الحال فيها.

الأقوال في الاجتزاء بالإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي

و ليعلم أولا كما حقق في الأصول و عليه أصحابنا الإمامية رضوان اللّه عليهم ان آراء المجتهد في استنباطاته قد تصيب الواقع و قد تخطى كما هو الشأن في القطع الطريقي خلافا لما عليه العامة من القول بالتصويب، فعلى قولهم لا معنى لعدم الاجزاء كما لا يخفى و اما على ما عليه الإمامية فيمكن القول بالاجزاء كما يمكن القول بعدمه.

اختلف آرائهم في الاجزاء بالإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي فذهب ثلة من الفحول الى عدم الاجزاء لو انكشف الخلاف مطلقا و بعضهم الى القول بالاجزاء كذلك، و ثالث فصل بين الموضوعات و الأحكام فقال بالاجزاء في الأول دون الثاني، و رابع التفصيل بين انكشاف الخلاف بالقطع، أو بأمارة أخرى فقال بالاجزاء في الثاني دون الأول، و خامس التفصيل بين القول بكون الأمارات مجعولة على نحو السببية، أو على الطريقية فقال بالاجزاء على الأول، و بعدمه على الثاني، و سادس كما في المتن التفصيل بين المعاملات بالمعنى الأخص- اعنى العقود و الإيقاعات- و بين غيرها من الأحكام الوضعية و التكليفية، فقال بالاجزاء في الأول دون الثاني.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 340

..........

______________________________

تفصيل الأمر يطلب من غير المقام، و اما إجماله فهو ان انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية تارة يكون بالعلم و انه غير مطابق للواقع وجدانا بان يقطع المجتهد مثلا بان فتواه السابقة مخالفة للواقع فالظاهر القول بعدم الاجزاء لعدم امتثال الحكم الواقعي و بقائه بحاله و قد ادعى الإجماع على عدم الاجزاء في

هذه الصورة.

و اخرى يكون بقيام حجة معتبرة على الخلاف، و عليه اما ان نقول بأن حجية الطرق و الأمارات من باب السببية و ان قيام الامارة سبب لحدوث مصلحة في المؤدى أو من باب الطريقية.

و لا يخفى انه على السببية فالقاعدة تقتضي القول بالاجزاء عند كشف الخلاف و لا يهمنا البحث عن ذلك لما هو الحق المحقق في محله من ان حجية الطرق و الأمارات عندنا من باب الطريقية و ان الشارع الأقدس لم يؤسس امارة، بل امضى ما عليه العقلاء.

و غير خفي ان العقلاء يعاملون مع الطرق و الأمارات معاملة العلم من حيث كونه منجزا للواقع على تقدير الإصابة و معذرا على تقدير عدمها.

القاعدة الأولية عند انكشاف الخلاف في موارد تبدل الرأي و نحوها عدم الاجزاء

فإذا القاعدة الأولية عند انكشاف الخلاف في موارد تبدل الرأي، أو العدول من مجتهد إلى أخر أو غير ذلك من الموارد التي يجمعها انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية تقتضي عدم الاكتفاء بما اتى به الا ان يدل عليه دليل على الاجتزاء بما اتى به.

و ذلك لان الصحة انما تنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به فبعد انكشاف الخلاف و ان ما اتى به مخالف للمأمور به لا يكاد يمكن انتزاع الصحة عند ذاك.

ان قلت ان ذلك انما هو فيما إذا انكشف الخلاف بالعلم الوجداني، و اما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 341

..........

______________________________

في المفروض فالاجتهاد السابق كالاجتهاد اللاحق فكما يحتمل ان يكون الاجتهاد الثاني مطابقا للواقع فكذلك الاجتهاد الأول فهما متساويان و ان كان يجب عليه و على مقلديه ان يطبقوا أعمالهم على الاجتهاد اللاحق.

و السر في ذلك هو ان الاجتهاد اللاحق لا يكشف عن عدم حجية الاجتهاد السابق في ظرفه و انما يدل على

ان الاجتهاد السابق ساقط عن الحجية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجيته في ظرفه فالتبدل في الحجية من التبدل في الموضوع و معه لا وجه لبطلان الأعمال المتقدمة المطابقة للاجتهاد السابق.

قلت: ان قيام الحجة الثانية و ان كان لا يستكشف به عن عدم حجية الاجتهاد الأول مثلا في ظرفه الا ان مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من الابتداء و عدم اختصاصه بعصر دون عصر، فالعمل المأتي به على طبق الحجة السابقة باطل لأنه مقتضى الحجة الثانية و معه لا بد من إعادته أو قضائه.

و احتمال مخالفة الواقع و ان كان يشترك فيه الحجتان الا ان هذا ملغى في الحجة الثانية حسب أدلة اعتبارها و غير ملغى في الحجة السابقة لسقوطها عن الاعتبار و مجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالإعادة أو القضاء لأنه لا مؤمن من العقاب الا مع ذلك.

و بما ذكرنا يندفع ما ربما يتوهم في المقام من ان الحكم بعدم الاجزاء مستندا بالحجة الثانية ترجيح بلا مرجح لأن الحجة السابقة كانت حجة في ظرفها كما ان الحجة الثانية حجة في ظرفها فلا موجب لتقديم إحديهما على الأخرى.

توضيح الدفع ان الحجة السابقة قد سقطت عن الحجية في ظرف الرجوع بخلاف الثانية و هذا هو المرجح لها على سابقتها فتدبر.

هذا مقتضى القاعدة الأولية عند العدول من مجتهد إلى أخر أو عند تبدل الرأي فإن كان هنا دليل على الاجتزاء بما اتى به فنقول به و يكون دليلا مخرجا عن القاعدة و الا فلا بد من الالتزام بعدم الاجزاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 342

الوجوه التي يستدل بها للاجزاء فيها و دفعها

اشارة

______________________________

و كيف كان يستدل للاجزاء عند ذلك بوجوه.

الوجه الأول: دعوى الإجماع

بل الضرورة على الاجزاء و ان الأعمال التي اتى بها على طبق الحجة الشرعية صحيحة نعم فيما سيأتي يجب العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.

قال العلامة الكاظميني (ره) و نحن و ان لم نعثر على من ادعى الإجماع الا ان شيخنا الأستاد دام ظله «1» ادعاه اه «2» و ربما حكى عن أستاده المحقق النائيني (قدس) ان القدر المتقين من الإجماع انما هو خصوص العبادات بالنسبة إلى الإعادة أو القضاء و اما في غيرهما فلم يتحقق فاذا غسل ثوبه بالماء مرة و اكتفى بها اعتمادا على الحجة فانكشف له بعد ذلك خلافه وجب عليه غسله.

و كيف كان يتوجه عليه أولا انه إجماع منقول كما اعترف العلامة الكاظميني بأنه لم يعثر على مدعى الإجماع غير أستاده المحقق النائيني (قدس) و قد تقدم غير مرة عدم حجية الإجماع المنقول.

و ثانيا: ان دعوى الإجماع معارض بدعوى الإجماع المحكى عن العلامة، و العميدي، على عدم الاجزاء.

و ثالثا: ان تحصيل الإجماع في مثل هذه المسئلة التي لم يتعرضها أكثر الأصحاب و لم يعثر به مثل الكاظميني في كلماتهم تخرص بالغيب و دون إثباته خرط القتاد.

و رابعا: ان المحصل من الإجماع في مثل هذه المسئلة التي لها مبان مختلفة يعلم أو يحتمل قريبا ان يكون مستندهم وجوه أخر، لا يكاد يستكشف منه رأى المعصوم عليه السلام.

______________________________

(1) يعنى به أستاده المحقق النائيني (قدس).

(2) فوائد الأصول ج 2/ 146 ط النجف الأشرف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 343

الوجه الثاني: دعوى السيرة المتشرعة على الاجزاء

______________________________

بدعوى انه لم يعهد في موارد العدول و التبدل في الاجتهاد اعادة، أو قضاء ما اتى به طيلة حياته و حيث لم يردع عنها في الشريعة فلا مناص من الالتزام بالاجزاء

عند ذلك.

و فيه أولا: ان ثبوت السيرة على الاجزاء مشكل و غاية ما في الباب هي عدم الإعادة في مثل الصلاة فلعله مستند إلى قاعدة لا تعاد لان التخلف بالنسبة إلى الخمسة المستثناة لعله نادر فتدبر.

و ثانيا: انه على تقدير ثبوت السيرة في مثل زماننا لا تكاد تفيد إلا إذا أحرز اتصالها بعصر المعصومين عليهم السّلام و لم يحرز ذلك بل يمكن دعوى عدمه و ذلك لأنه لو كانت عامة البلوى و امرا دارجا لديهم لسألوا عن حكمها و لو في رواية واحدة و لم نجدها فيستكشف من ذلك ان كثرة الابتلاء بها على تقديرها انما حدثت في الأعصار المتأخرة، و لم يكن منها في عصرهم عين و لا أثر فالسيرة على تقدير تحققها غير محرزة الاتصال بعصرهم.

الوجه الثالث: استلزام عدم الاجزاء العسر أو الحرج

المنفيين في الشريعة فان اعادة الأعمال التي اتى بها لمخالفة لفتوى من يقلده فعلا مستلزم للعسر أو الحرج الاكيدين و بالجملة عدم الاجزاء في موارد تخلف الأوامر الظاهرية موجب للحرج أو العسر نوعا فيكون منفيا شرعا.

و فيه: ان الاستدلال بنفي العسر أو الحرج في أمثال المقام ناش من خلط موضوع الحكم بداعي جعل الحكم.

و ذلك لان الحرج و مثله الضرر قد يكون داعيا للشارع الى جعل حكم من الأحكام- كالحكم بطهارة الحديد، و خيار الشفعة الناشئين عن لزوم الحرج أو الضرر في فرض عدمهما- و لو كان ذلك بحسب غالب الأشخاص، فالحكم يكون ثابتا على الإطلاق و لا بأس بكون شي ء داعيا و حكمة لجعل الحكم و لكن لا يدور الحكم مداره، و لكن ذلك لا يكون الا شأن الشارع لا المجتهد الذي شأنه الإفتاء على طبق ما استنبطه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد،

ج 2، ص: 344

..........

______________________________

لأجعل الحكم على موضوع موسع أو مضيق.

و قد يكون الحرج، أو الضرر موضوعا لرفع حكم كما في قوله تعالى وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» فإنه بعد حكومته على سائر الأدلة في قوة ان يقال ان الأحكام المجعولة شرعا ترتفع في موارد الحرج و لما كانت القضايا المجعولة شرعا من قبيل القضايا الحقيقية أو الطبيعية فالأحكام تتعدد بتعدد موضوعاتها فأي موضوع كان الحكم فيه حرجيا يرتفع حكمه و الا فلا.

و ان شئت قلت ان أدلة نفى الضرر أو الحرج ظاهرة في نفى الضرر أو الحرج الشخصيين كما هو ظاهر استدلال الفقهاء في الموارد الشخصية فكل مورد استلزمهما نقول بالاجزاء و الا فلا، و غير خفي انهما غير مطردين في جميع فروض المسئلة فتدبر.

الوجه الرابع: هو انه لو لا الاجزاء لم يبق وثوق بفتوى المجتهد

الذي يستند اليه عجالة لان حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و فيه: ما لا يخفى لأنه استبعاد محض و الاستبعاد لا يسمع في قبال الدليل، و مثل هذا جار في كثير من موارد الأحكام الظاهرية التي يحتمل قيام الإمارة في المستقبل على خلافها.

و هنا بعض وجوه أخر يستدل به للاجزاء و فيما ذكرناه كفاية.

فتحصل مما ذكرنا ان مقتضى القاعدة الأولية في الطرق و الأمارات هو القول بعدم الاجزاء في موارد العدول و موارد تبدل الاجتهاد إلا إذا قام الدليل على الاجزاء، و قد أشرنا إلى عمد ما يوجه به للاجزاء و قد عرفت عدم تمامية شي ء منها على نحو الكلية.

نعم ربما يستلزم القول بعدم الاجزاء العسر أو الحرج الشخصيين كما إذا قلد مجتهدا في طيلة سنين متمادية فمات و كانت فتاواه مخالفة لفتاوى المجتهد الذي تكون الوظيفة المراجعة إليه.

______________________________

(1) الحج: 22/ 78

الدر النضيد

في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 345

..........

______________________________

و قد ورد في خصوص باب الصلاة دليل على عدم الإعادة بالنسبة إلى ترك بعض اجزاء الصلاة و شرائطه و هو صحيح زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: لا تعاد الصلاة الا من خمسة الطهور و الوقت، و القبلة، و الركوع و السجود «1» فمن صلى في برهة من الزمان بلا سوره مثلا مستندا الى فتوى مجتهد، و كذا إذا ترك غير الخمسة المستثناة في الصحيح ثم بعد الرجوع الى مجتهد يفتي على خلاف ذلك فلا يحتاج إلى إعادة الصلاة و لا قضائها بناء على عدم اختصاص لا تعاد بالناسي أو الساهي بل يعم الجاهل القاصر فقد استند في ترك الجزء أو الشرط الى حجة شرعية مخالفة للواقع، و اما ان قلنا باختصاصه بالناسي أو الساهي كما نسب الى المشهور فيلزم الإعادة في المفروض و قد تقدم بعض الكلام في مفاد لا تعاد في بعض المباحث المتقدمة و لعل المتتبع يجد موارد يجتزى بما اتى به غير ما ذكرنا.

إيقاظ

و ليعلم ان محل الكلام في وجوب القضاء انما هو إذا انكشف عند المجتهد الثاني فساد ما اتى به على طبق نظر المجتهد السابق و افتى ببطلانه.

و اما إذا لم ينكشف لديه فسادها بل احتاط في المسئلة و كان مستند حكمه ببطلان الأعمال المتقدمة قاعدة الاشتغال فلا يجب عليه القضاء عند ذلك لان القضاء بأمر جديد و موضوعه عنوان الفوت و مع إتيان العمل على طبق فتوى المجتهد السابق لم يحرز عنوان الفوت بوجه لاحتمال ان يكون ما اتى به مطابقا للواقع فالمرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء.

إذا عرفت ما ذكرنا فحان الشروع الى عنوان الفروع

التي عنونها الماتن (قدس) في هذه المسئلة.

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب الوضوء ح/ 8

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 346

حكم من قلد مجتهدا يرى لزوم التسبيحات الأربع ثلاثا و قد كان قلد من يكتفي مرة واحدة

______________________________

قال (قدس): إذا قلد من يكتفي بالمرة مثلا في التسبيحات الأربع إلخ.

يوجه لعدم إعادة الصلاة المأتي بها بالتسبيحات الأربع مرة واحدة بوجوه و لكن لم يتم بعضها.

منها: الإجماع المحكى على عدم إعادة الصلاة أو القضاء و قد عرفت حكايته عن المحقق النائيني (قدس).

و قد أشرنا عدم تمامية الإجماع في نفسه و عدم حجيته على تقدير تحققه فراجع.

و منها: اجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي.

و قد عرفت عدم تماميته و ان القاعدة في العمل بالطرق و الأمارات عدم الاجزاء الا إذا استلزم الإعادة أو القضاء العسر أو الحرج و هما غير مطردين في جميع الموارد بالنسبة الى جميع الإفراد.

و منها: حديث لا تعاد و قد عرفت متنه أنفا/ 345 و التسبيحات الأربع من عقد المستثنى منه فلا تجب إعادة الصلاة من ناحيتها إذا كان الإخلال بها عن عمد.

و لا يخفى كما أشرنا انه لا يتم الاستدلال بالحديث على ما نسب الى المشهور من اختصاصه بالناسي أو الساهي.

نعم على ما قلنا بشموله لمن ترك غير الخمسة مع عذر و حجة يصح الاستدلال به لان عدم إتيان التسبيحات في المفروض مستند الى فتوى المجتهد الذي كان يقلده فهو معذور في إتيان التسبيحات مرة واحدة فيتم الاستدلال به لعدم الإعادة أو القضاء.

و منها غير ذلك و قد عرفت عدم تماميتها فلا نعيد.

حكم من قلد مجتهدا يرى وجوب ضربتين في التيمم و قد كان قلد من يكتفى فيه بضربة واحدة

و اما قوله (قدس): إذا قلد من يكتفى في التيمم بضربة واحدة ثم مات ذلك

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 347

..........

______________________________

المجتهد فقلد من يقول بوجوب التعدد لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

فلا يخفى انه لا يمكن تصحيح الأعمال السابقة بحديث لا تعاد لان التيمم من الطهارات فيكون داخلا في عقد المستثنى

من لا تعاد الموجب لإعادة الصلاة عند الإخلال به، الا ان يقال ان المراد بالطهارة في عقد المستثنى أصل الطهارة لا ما يرتبط بكيفية حصولها فتدبر.

و تصحيحه بالإجماع المدعى قد عرفت حاله، و اما قاعدة العسر أو الحرج فقد عرفت عدم اطرادها في جميع الموارد فيشكل في هذا الفرع الحكم بعدم اعادة الصلوات التي صلاها مع ذلك التيمم.

حكم من قلد مجتهدا يرى بطلان عقد أو إيقاع و قد كان قلد من يرى صحته

و اما قوله (قدس): لو أوقع عقدا أو إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ثم مات فقلد من يقول بالبطلان يجوز له البقاء على الصحة إلخ.

فلا يخفى انه بعد الإحاطة بما ذكرنا تعرف انه لا يمكن المساعدة على ما ذهب اليه (قدس) بل يجب عليه التدارك بالنسبة إلى الوقائع السابقة إلا إذا استلزم التدارك العسر أو الحرج كما يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني في الأزمنة المتجددة اللاحقة.

حكم من قلد مجتهدا يرى نجاسة الغسالة و قد كان قلد من يرى طهارتها

و اما قوله (قدس): إذا قلد من يقول بطهارة شي ء كالغسالة ثم مات و قلد من يقول بنجاسته فالصلاة و الأعمال السابقة محكومة بالصحة إلخ.

فغاية ما يمكن ان يقال بصحة الصلاة و عدم إعادتها أو قضائها إذا استعملت الغسالة في رفع الخبث و اما إذا استعملت في الوضوء، أو الغسل فحيث انه يكون داخلا في الخمسة المستثناة في حديث لا تعاد فلا يحكم بالصحة إلا إذا استلزم ذلك العسر أو الحرج.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 348

حكم من قلد مجتهدا لا يرى حلية ذبيحة و قد كان قلد من يرى حليتها

______________________________

و اما قوله (قدس): و كذا في الحلية و الحرمة فإذا افتى المجتهد الأول بجواز الذبح بغير الحديد مثلا فذبح حيوانا كذلك فمات المجتهد و قلد من يقول بحرمته إلخ.

فيظهر الحال فيه مما تقدم فلا يحكم بصحة البيع و اباحة الأكل و غاية ما هناك هي انه كان يجوز له الأكل و كان معذورا في ترتيب آثار صحة البيع و اباحة الأكل عليه فظهر لك ان تفرقة الماتن بين العقد الواقع على أمرية يرى المجتهد الثاني بطلانه و بين المثالين الأخيرين- أعني مسئلة الغسالة و ذبح الحيوان- غير وجيه لأنه زعم ان موضوع الابتلاء في الزوجة المفقودة عليها بالفارسية مثلا بعد العدول الى المجتهد الثاني غير باق و حلية الاستمتاع من آثار صحة العقد الفارسي الواقع حال تقليد المجتهد الأول، بخلاف مسئلتي الغسالة و الذبيحة فزعم ان موضوع الابتلاء بعد العدول الى المجتهد الثاني باق و لذا حكم بنجاسة الغسالة و عدم جواز بيع المذبوح و لا اكله مع انه لا فرق بينهما.

لأن طهارة ماء الغسالة و حلية اللحم المذبوح بغير حديد من آثار عدم انفعاله بملاقات النجاسة و آثار ذبحه بغير حديد

و هما واقعتان سابقتان يكون المرجع فيهما تقليد المجتهد الأول كما هو الشأن في حلية الاستمتاع من المرية المعقودة عليها بالفارسية.

ففي جميع الفروع يرجع الى فتوى الأول لاستنادها إلى أمر سابق صحيح في نظر الأول و قلد فيه فعليه فليحكم بطهارة الغسالة و جواز بيع لحم الحيوان الثاني و اكله.

و قد عرفت ان مقتضى القاعدة الأولية بناءا على الطريقية في آراء المجتهد عند كشف الخلاف عدم الاجزاء سواء بقي الموضوع و محل الابتلاء فعلا أولا.

ففي جميع الفروع بعد موت المجتهد الأول و تقليد المجتهد الثاني لا يحل له

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 349

..........

______________________________

الاستمتاع بالمرئة المعقودة عليها بالفارسية كما يحكم بنجاسة الغسالة و حرمة أكل لحم المذبوح و بيعه.

فتحصل ان الحكم بالصحة في الفرع الأول و هو الاكتفاء بتسبيحة واحدة بناء على المختار في حديث لا تعاد وجيه.

و اما في غيره فلا يحكم بالصحة بل يلزم الإعادة أو القضاء ان رأى المجتهد الثاني فساد فتوى الميت إلا إذا استلزم ترتيب آثار الغسالة العسر أو الحرج.

هذا ما تحصل لنا عجالة في هذه المسئلة و اللّه العالم بأحكامه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 351

[مسئلة 54- الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد]

اشارة

مسئلة 54- الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد، أو إيقاع، أو إعطاء خمس، أو زكاة، أو كفارة أو نحو ذلك يجب ان يعمل بمقتضى تقليد الموكل (1) لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين، و كذا الوصي (2) في مثل ما لو كان وصيا

______________________________

(1) في غير الوكيل المفوض، بل في المفوض مع العلم بالمخالفة تفصيلا، أو إجمالا، و الا و لو مع الشك في المخالفة يجوز التطبيق على نفس تكليف الوكيل، و

ليس له الفحص عن تقليد الموكل نعم لو كان العمل على طبق تكليف الميت باطلا بنظر الوكيل لا يمكنه التقرب و الأحوط رعاية ما يتوافقان عليه.

(2) ليس للوصي هنا عمل سوى الاستيجار فيعمل بمقتضى تقليد نفسه في نفس الاستيجار و الصلاة التي يؤتى بها عن الميت عمل الأجير، و حيث انه في مقام تفريغ ذمة الميت فيعتبر في القضاء جميع ما يعتبر في تكليف الميت مع قطع النظر عما يعرض خصوص مباشرة الفاعل فيقصر

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 352

في استيجار الصلاة عنه يجب ان يكون على وفق فتوى مجتهد الميت.

______________________________

ما فاته سفرا، و يتم ما فاته حضرا. نعم فيما يعتبر في الفعل باعتبار عروض العوارض، و باعتبار مباشرة الفاعل فيلاحظ تكليف الأجير فيجب على الاجيران كان رجلا مثلا الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية، و عدم ستر غير عورتيه، و ان كان الميت المنوب عنه أمرية و هكذا فيما إذا لم يكن تكليف الميت باطلا في نظر الأجير كما إذا كان العمل عباديا و رأى الفاعل فساده بحيث لم يمكنه التقرب به، كما إذا كان تكليف الميت جواز الاكتفاء بمرة واحدة من التسبيحات الأربع، و كانت باطلة عند الأجير فلا بد من الأخذ بما هو الأحوط ان أمكن كما في المفروض و الا فتبطل الإجارة و اللّه العالم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 353

اختلاف الأصحاب عند اختلاف الوكيل و الوصي و المستأجر و النائب مع الموكل و الموصى و الأجير و المنسوب عنه في مراعاة تقليد اى منهم

______________________________

أقول: اختلف انظار الفقهاء في فروع المسئلة فبعضهم كالماتن (قدس) يرى انه يجب مراعاة تقليد الموكل في الوكالة، و رعاية تقليد المستأجر في الإجارة و تقليد الميت الموصى في الوصاية، و المنوب عنه في مطلق النيابة.

و بعضهم ذهب الى ان

اللازم رعاية تقليد الوكيل و الأجير و الوصي و النائب و بعضهم فصل بين الوكيل و الأجير و بين الوصي و مطلق النائب فقال بلزوم رعاية التقليدين في الأول و لزوم رعاية تقليد الوصي و مطلق النائب في الثاني.

و بعضهم قال بلزوم رعاية التقليدين في الجميع.

و بعضهم فصل في الوكالة بين صورة كون الوكيل إله لإيجاد الشي ء من دون ان يكون له استقلال في ذلك و بين ما يكون له استقلال في ذلك فقال في الأول بلزوم مراعاة تقليد الموكل و في الثاني بمراعاة تقليد نفسه.

الى غير ذلك من الأقوال.

مقال من العلامة الحكيم في ذلك

يظهر من سيد مشايخنا (قدس): انه لا بد للوكيل ان يعمل بمقتضى تقليد نفسه الا ان يكون هناك قرينة على خلاف ذلك فيعمل بها، و قال في وجهه ما حاصله:

انه لا ينبغي التأمل في أن إطلاق الوكالة يقتضي إيكال تطبيق العمل الموكل عليه الى نظر الوكيل و لو في صورة التفات الموكل الى اختلاف الوكيل معه في التطبيق إجمالا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 354

..........

______________________________

نعم في صورة التفات الموكل الى الاختلاف تفصيلا يمنع عن عموم التوكيل لمورد الاختلاف. و كذا إذا كانت هناك قرينة على تقييد الوكالة بالعمل بنظر الموكل أو كان ما يصلح ان تكون قرينة على ذلك لم يصح عمل الوكيل بنظره المخالف لنظر الموكل.

و اما ان لم يكن كذلك فإطلاق التوكيل يقتضي جواز على الوكيل بنظره، و مجرد التفات الموكل الى الاختلاف غير كاف في تقييد إطلاق التوكيل ففي مقام الإثبات لا مانع من الأخذ بالإطلاق إذا تمت مقدمات الحكمة.

ثم قال (قدس) و كذلك الكلام في الوصي إذ هو كالوكيل من هذه الجهة لأن الوصاية استنابة في

التصرف بعد الممات كما ان الوكالة استنابة في حال الحيوة و قال (قدس) في الاجير انه يجوز ان يستأجر على العمل بنظره كما يجوز ان يستأجره على العمل بنظر المستأجر، أو على العمل بنظر شخص ثالث، و ان كان نظرهما مخالفا لنظره.

و السر في ذلك هو انه يكفى في صحة الإجارة ترتب أثر عقلائي على العمل، و كل ذلك مما يترتب عليه ذلك.

نعم مع علم الأجير ببطلان العمل العبادي لا تصح الإجارة لعدم القدرة على التقرب.

و اما إذا لم يكن العمل عبادة يكون الأجير قادرا على العمل حتى مع اعتقاد البطلان، و كذا لو كان مع احتمال كونه موضوعا للأمر الى ان قال.

هذا حال الإجارة في مقام الثبوت.

و اما في مقام الإثبات فإن كانت قرينة على تقييد العمل بنظر شخص معين تعين العمل عليها و الا كان مقتضى إطلاق الإجارة بنظر الأجير على نحوهما تقدم في الوكيل.

ثم قال (قدس) و من ذلك تعرف حكم الوصي عن الميت في الاستنابة عنه في صلاة أو صيام فإنه ان كانت قرينة على تقييد الوصية بالعمل على شخص معين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 355

..........

______________________________

فالعمله عليها و الا كان مقتضى إطلاقها الاستنابة في العمل المطابق لنظر الوصي.

و كذلك الحال في الوكيل عن الحي في الاستنابة عنه في العبادات التي يجوز فيها النيابة عن الحي فإن مقتضى إطلاق التوكيل ان يكون عمل الأجنبي صحيحا بنظره لا بنظر الأجير و لا بنظر الأجنبي.

و قال (قدس) في خلال كلامه في حكم المتبرع عن الغير في عبادة- كصلاة أو صوم- أو غير عبادة- كوفاء دين- فلا ينبغي التأمل في جواز عمله بنظره حتى مع التفات المتبرع عنه

الى خطأ المتبرع في التطبيق و منعه عن العمل لان عمل المتبرع ليس بأمر المتبرع عنه و لا بإذنه و انما هو منوط بحصول الجهات المصححة للتبرع فاذا علم بحصولها صح من المتبرع و ان كان يخالفه المتبرع عنه و يخطؤونه بنظره التفصيلي انتهى مقاله «1» زيد في علو مقامه.

مناقشة من بعض الأساطين في مقاله

و لكن بعض الأساطين دام ظله ناقش مقاله و وافق الماتن- من حيث انه يجب ان يعمل على طبق نظر الموكل و الموصى- لا الوكيل و الوصي فقال ما حاصله.

ان الوكالة هي الاستنابة في التصرف فهي تسبيب للعمل على يد الوكيل، و بعبارة أخرى الوكالة إيكال الأمر إلى الغير فالموكل أو كل العمل الى وكيله ليقوم مقامه فيه و يعمل عمله فالوكيل وجود تنزيلي لموكله و عمله عمله و من هنا يصح استناد عمله الى الموكل في العقود و الإيقاعات و يكون هو المخاطب بالوفاء بها و يكون قبضه قبض الموكل و معه لا بد للوكيل من ان يراعى الصحة عند الموكل و الا فلم يأت بالعمل الموكل اليه.

و بالجملة بعد ما كان عمل الوكيل عمل الموكل بالتسبيب و وجود تنزيلي له فلا مناص من ان يراعى فيه نظره، كما هو الحال في فعله المباشري لأنه لا فرق في العمل بين المباشرة و التسبيب فلو و كل أحد أحدا في استيجار من يصلى عن أبيه مثلا و كان ممن

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 86

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 356

..........

______________________________

يرى الترتيب في القضاء دون الوكيل لم يجز للوكيل استيجار اجبر للقضاء الا انه يراعى الترتيب فيه.

و من ذلك يظهر الحال في الوصي لأنه أيضا نائب عن الموصى في

تصرفاته فليس له ان يأتي بأعماله حسب نظره و اعتقاده.

و بالجملة الوصية الاستنابة في التصرف بعد الموت فلا بد و ان يستأجر الوصي للنيابة عن الميت في الصلاة أو غيرها من العبادات كالصوم، و الحج من ان يأتي بالعمل على طبق فتوى مجتهد الميت لا مجتهد نفسه، و لا مجتهد الأجير، و ذلك من جهة انصراف الوصية عرفا الى ما يراه الوصي مفرغا لذمته كالوكالة.

و ناقش دام ظله مقاله (قدس) في الأجير بلحاظ ان العمل العبادي الذي يقع مورد الإجارة انما هو العمل الصحيح الموجب لتفريغ ذمة المنوب عنه فاذا فرضنا ان العمل الذي اتى به الأجير عن المستأجر باطلا بنظره فكيف يتمشى منه قصد القربة به و ان كان صحيحا عند المستأجر و المنوب عنه، و مع عدم تمشي قصد القربة لم تصح الإجارة لعدم قدرته على مورد الإجارة و مع ذلك لا تصح إجارته.

نعم لا مانع من صحة الإجارة فيما إذا كان الأجير محتملا لصحة العمل لأنه يتمكن حينئذ من إتيانه رجاء و بما انه صحيح عند المنوب عنه.

فعلى هذا لا يعتبر في مورد الإجارة ان يكون العمل صحيحا عند الأجير بل اللازم ان لا يكون باطلا عنده.

و أفاد دام ظله في المتبرع عن الغير أو الولي كالولد الأكبر بأنه لا مناص من ان يفرغا ذمة الميت بما هو الصحيح عندهما حتى يسوغ لهما الاجتزاء به في تفريغ ذمته- وجوبا أو استحبابا- و ان كان مخالفا للميت و السر في ذلك هو ان التكليف في الابتداء متوجه إليهما و هما محكومان بالصحة و مفرغان ذمة الميت عندهما «1».

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 228 التنقيح ج 1/ 383

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد،

ج 2، ص: 357

كلمة من المؤلف في ذلك

______________________________

إذا عرفت ما حكيناه عن العلمين فنقول:

الظاهر انه لا كلام عندهم في صحة توكيل الغير في إتيان العمل الصحيح بنظر الوكيل كما يصح توكيل الغير في إتيان العمل الصحيح بنظر الموكل.

ففي الأول لا بد و ان يأتي بما يقتضيه تكليف نفسه، و في الثاني لا يجوز له ذلك بل لا بد و ان يأتي بما هو صحيح عند الموكل.

نعم فيما إذا كان مورد الإجارة امرا عباديا إذا علم وجدانا بطلان عمله لا يكاد يصح ان يأتي به على طبق تكليف الموكل و لعله واضح.

و انما الإشكال في انه لو أطلقت الوكالة فهل مقتضى ذلك العمل بنظر الوكيل، أو الموكل؟ و قد عرفت ان لكل من النظرين وجهة هو موليها.

و لا يخفى ان الوكالة على نحوين فقسم منها ما يكون الوكيل آلة لإيجاد مورد الوكالة من دون ان يكون له استقلال أو نظر له فيه خيرا أو شرا كما هو الشأن في العقود و الإيقاعات التي يجريها العلماء فمن و كل عالما في إجراء عقد نكاح، أو بيع متاع مثلا لا معنى لثبوت الخيار له عند ظهور العيب في الزوجة أو المتاع.

و قسم أخر ما يكون الوكيل مستقلا في ذلك فيفعل في الأمور حسب ما يراه وكيلا مفوضا كما هو الشأن في بعض المتمولين حيث يوكلون شخصا في امورات أمواله بحيث لا يلتفتون بعد ذلك الى إعماله بل ربما يذهب الوكيل الى بعض الممالك لانجاز مقصود موكله فالوكيل عند ذلك يفعل فيها ما يشاء بنظره و استقلاله.

و الظاهر انه في القسم الأول لا بد و ان يراعى نظر الموكل و لا معنى لثبوت الخيار مثلا للوكيل فيما إذا كان وكيلا في إجراء

عقد النكاح أو بيع المتاع عند ظهور العيب في الزوجة أو المتاع.

و اما في الثاني فحيث انه وكيل مفوض إليه الأمور يفعل ما يشاء، و لكن حيث ان الوكالة استنابة في التصرف من قبل الموكل و لذا لا يجوز له التطبيق عند العلم التفصيلي بمخالفة تكليفه مع تكليف موكله، فلم يكن فعل الوكيل فعلا أصليا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 358

..........

______________________________

له و ان كان يفعل ما يشاء حسب الفرض.

فعند العلم بالمخالفة تفصيلا، أو إجمالا لا بد من ملاحظة تكليف الموكل.

نعم لو شك في المخالفة فمقتضى إيكال الأمر اليه و تفويض أمر الوكالة إليه هو جواز التطبيق على تكليف نفسه.

و لعله بما ذكرنا يمكن التوفيق بين العلمين فمن حيث ان اعتبار الوكالة استنابة في العمل فلا بد من ملاحظة حال الموكل و من حيث ان الوكيل مفوض إليه الأمور و انه فاعل لما يشاء فمقتضى إطلاق الوكالة هو انه يفعل ما يشاء الا ما علم مخالفة تكليفه تفصيلا، أو إجمالا مع تكليفه فيتبع تكليف الموكل.

و اما الوصي فإن قلنا بأنه استنابة في التصرف بعد الممات كما ان الوكالة استنابة في حال الحياة فوزانه وزان الوكيل، و اما ان قلنا- كما لا يعبد- بان الوصاية هي إعطاء منصب، و احداث أهلية لتولية ما اوصى به بعد موته فملاحظة تكليف نفسه أوضح، بل يمكن ان يقال بوجوب تحرى ما هو واجب عليه بحسب تكليف نفسه و ان علم تفصيلا، أو إجمالا، بمخالفة تكليف الموصى الا ان الأحوط مراعاة التقليدين.

و اما الأجير فقد تقدم من المستمسك و لعله لا خلاف فيه من انه يجوز الاستيجار على العمل بنظر المستأجر كما انه يجوز الاستيجار

على العمل بنظر الأجير و يجوز الاستيجار بنظر شخص ثالث.

و الوجه في ذلك هو انه يكفى في صحة الإجارة ترتب أثر عقلائي على العمل المأتي به و يترتب الأثر في جميع الصور.

نعم كما أشير إليه لا تصح الإجارة فيما إذا علم الأجير فساد العمل العبادي الذي وقع مورد الإجارة لعدم قدرته على التقرب عند ذلك.

و حيث ان مورد الإجارة انما هو العمل الذي يكون موجبا لتفريع ذمة المستأجر و المنوب عنه فلا بد من ملاحظة ذلك في مقام تفريغ ذمة المنوب عنه و المستأجر و الا لا يصح الاكتفاء به في مقام تفريغ الذمة استيجار من يرى فساد رأيه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 359

..........

______________________________

و مخالفة نظره لنظر المستأجر و المنوب عنه بل لا بد من استيجار شخص أخر لا يرى فساده كما لا يخفى.

ثم انه على تقدير مخالفة تكليف المستأجر مع الميت المنوب عنه هل يلاحظ تكليف المستأجر، أو تكليف الميت.

قد يفرق بينما إذا كان القاضي عن الميت بالولاية عنه و ما كان بالوصاية فقال في الأول بجواز الاكتفاء بما يراه الولي صحيحا اجتهادا أو تقليدا، و لو كان مخالفا لنظر الميت أو مجتهده لانصراف الإجارة بما يراه الولي مبرء للذمة، و اما في الثاني فيراعى نظر الميت «1».

و لكن حيث ان الولاية بلحاظ تفريغ ذمة الميت فعند إحراز المخالفة بين تكليفه و تكليف المولى عليه كيف يجوز تفريغ ذمته فلا بد للولي ملاحظة الفتويين و يجب العمل على التقليدين.

و اما التبرع عن الميت ففي الدروس انه يجوز له العمل بما يراه مبرء لذمة الميت «2».

و في التنقيح فان كان المتصدي للتفريغ هو المتبرع، أو الولي كالولد الأكبر

إذا أراد تفريغ ذمة والده الميت عن الصلاة، و الصيام فلا مناص من ان يفرغا ذمة الميت بما هو الصحيح عندهما حتى يسوغ لهما الاجتزاء به في تفريغ ذمته وجوبا أو استحبابا «3».

قلت: لا يخفى انه مع العلم بمخالفة تكليف المتبرع، أو الولي لتكليف الميت كيف يفرغ ذمة الميت، أو ذمتهما بعد مشغوليتهما فلا بد لهما من العمل بالتقليدين أو العمل بما يوافق الاحتياط و الا فالاكتفاء بالإتيان بتكليفهما كما ترى.

لؤلؤة من العلامة الأنصاري في هذا المعنى

يعجبى ذكر ما افاده شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) و لعله يعين و يكشف عن

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 229

(2) الدروس ج 1/ 209

(3) التنقيح ج 1/ 383

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 360

..........

______________________________

بعض إشكالات المسئلة و يرفع غائلة بعض الاختلافات قال:

«يعتبر في القضاء جميع ما كان معتبرا في فعل الميت مع قطع النظر عما يعرض باعتبار خصوص مباشرة الفاعل له فيقصر ما فاته سفرا و يتم ما فاته حضرا، و اما ما يعتبر في الفعل باعتبار عروض العوارض و باعتبار مباشرة الفاعل فلا، و لذا يجب على الفاعل الجهر في أوليي الجهرية لو كان النائب رجلا و الميت أمرية، و يجب الإخفات لو انعكس الفرض، و كذا الكلام في ستر تمام البدن فإنه يجب إذا كان الفاعل أمرية و لا يجب إذا كان رجلا.

و الفرق بين القسمين هو ان القصر و التمام مأخوذان في ماهية الصلاة، و اما الجهر أو الإخفات فإنما هو باعتبار كون المباشر للفعل أمرية يطلب خفض صوتها و ستر بدنها عند الصلاة، أو الرجل لا يطلب ذلك منه، فهما من أحكام خصوص الفاعل لا الفعل، و مثلهما الأحكام الثابتة للفاعل باعتبار العجز و القدرة فإن

المعيار فيها حال المباشر للفعل فيصلي القادر قائماً عمن فات عنه قاعدا و يصلى العاجز قاعدا عمن فاته قائماً و ان كان الأقوى في اولى الاعذار وجوب الاقتصار مع زوال الاعذار.

و في حكم العجر و القدرة العلم و الجهل المعذور فيه موضوعا و حكما كمن جهل القبلة فصلى إلى الجهة المظنونة أو الى أربع جهات مع عدم الظن أو صلى في طاهر كان يعتقده الميت نجسا فان هذه الأمور و أشباهها تلحق باعتبار مباشرته لا باعتبار ذاته.

و من هذا القبيل اختلاف الميت و النائب في مسائل الصلاة فإن العبرة فيها بمعتقد الفاعل تقليدا أو اجتهادا دون الميت حتى لو فاتته الصلاة يعتقدها قصرا كما إذا سافر إلى أربعة فراسخ من دون الرجوع ليومه و اعتقدها الولي تماما لاعتقاده اعتبار الرجوع ليومه في الأربعة وجب القضاء عنه تماما انتهى ملخصا «1».

______________________________

(1) المسئلة الاولى من أحكام القضاء من رسالة القضاء عن الميت/ 341

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 361

[مسئلة 55- إذا كان البائع مقلدا لمن يقول بصحة المعاطاة مثلا]

مسئلة 55- إذا كان البائع مقلدا لمن يقول بصحة المعاطاة مثلا، أو العقد بالفارسي، و المشترى مثلا مقلدا لمن يقول بالبطلان لا يصح البيع بالنسبة إلى البائع (1) أيضا لأنه متقوم بطرفين (2) فاللازم ان يكون صحيحا من الطرفين، و كذا في

______________________________

(1) لا تبعد صحته، و ترتب الأثر عليه من البائع على تقدير تمشي المشترى قصد المعاملة بأن ينشى ء المشترى قبوله قاصدا للشراء و ان لم يمكنه ترتب الأثر عليه بحسب رأيه، أو رأى من يقلده، و كذا في سائر العقود، فكل منهما يعمل بمقتضى تكليف نفسه، نعم ترتيب الأثر من طرف ربما ينجر إلى المنازعة فترفع الى الحاكم لحسم مادتها، لكنه كلام

أخر كما لا يخفى

(2) التعليل عليل لان العقد و ان كان متقوما بطرفين و لا يكاد يتحقق مفهومه الأبين اثنين، الا ان ذلك بالنسبة إلى الحكم الواقعي، و مقام الثبوت، و لا يستلزم ذلك عدم التفكيك في مرحلة الظاهر أيضا، فيصح بالنسبة الى من يرى صحته اجتهادا، أو تقليدا دون الأخر، لان التفكيك

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 362

كل عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه، و مذهب الأخر صحته

______________________________

في الأحكام الظاهرية غير عزيز فترى عملا واحدا صحيحا بالنسبة إلى شخص فاسدا بالنسبة إلى أخر، و شيئا واحدا طاهرا بالنسبة إلى شخص و نجسا بالنسبة إلى أخر. مع ان الحكم الواقعي ليس إلا أحدهما، فالبايع في المفروض لا يجوز له التصرف في المبيع، لما يراه خارجا عن ملكه و يجوز له التصرف في الثمن لما يراه داخلة في ملكه، و اما المشتري فلا يجوز له التصرف في المبيع لأنه بنظره يكون باقيا على ملك البائع و لكن يجوز له التصرف في الثمن لأنه بنظره لم يخرج عن ملكه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 363

..........

______________________________

أقول: إذا اختلف المتعاقدان في شروط صحة العقد فأوقع كل منهما حسب رأيه فهل يصح اكتفاء كل منهما بما يقتضيه مذهبه مطلقا أم لا بد و ان يأتي كل منهما على طبق ما يقتضيه مذهب كليهما مطلقا، أو يفصل بين ما إذا أوقع كل على خلاف رأي الأخر بأن إنشاء البائع العقد بغير صيغة الماضي مثلا مع كونها معتبرة عند المشترى فقبل المشترى بالفارسية مع اعتبارها لدى البائع، و بين ما إذا أوقع أحدهما على خلاف رأى صاحبه دون الأخر كما

هو مفروض المتن فالبطلان في الأول دون الأخر، أو يفصل بين الشرائط فما كان البطلان فيه مستندا الى فعل أحدهما يصح دون ما كان مستندا الى فعلهما، أو يفصل بين كون بطلان رأى الطرف مقطوعا و بين كونه مظنونا بالظن الاجتهادي، أو يفصل بين ما إذا لم يكن قائل بصحة العقد المركب من الإيجاب و القبول الكذائي و بين وجود القائل أو القائلين بصحته فبالصحة في الأخير دون الأول، الى غير ذلك من الوجوه.

و شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس) و ان لم يتعرض لجميع الوجوه التي أشرنا الا انه يظهر منه ان الوجه الأخير اردء الوجوه فلعله بلحاظ ان القول المذكور يؤدى الى الجزم بالبطلان لمخالفته الدليل و الإجماع في المسئلة.

و لكن يتوجه عليه كما أفيد: ان مجرد عدم القائل به لا يلازم ذلك بل لا بد من كونه مخالفا للإجماع و ليس كذلك لان عدم القائل به قد يكون من باب الاتفاق لا من جهة بنائهم على عدم صحته فاذا عدم وجدان القائل بالصحة لا يوجب الجزم بالفساد و من المحتمل القريب ان يكون نظر كل من المتعاقدين صحيحا في نفس الأمر.

و قد يقال: انه يتلو الوجه الأخير في الضعف التفصيل بين القطع بالخلاف

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 364

..........

______________________________

و الظن كما حكى ذلك عن الماتن (قدس) في باب الأجزاء قائلًا بأن دليل حجية ظن المجتهد متساوي النسبة إلى الظنين فاذا ظن بجزئية السورة في زمان و تبدل رأيه ظنا في زمان أخر لم يهدم هذا الاجتهاد اجتهاده الأول و لا اجتهاد غيره اجتهاده لان ظنه حجة في الزمن الأول كهذا الظن نعم لو تبدل الى العلم بالخلاف يهدم

اجتهاده الأول كما ان المجتهد الأخر إذا علم خطأه لا يجوز له ترتيب الأثر «1».

و لكن قد تقدم في ذيل مسئلة 53 ما يتعلق بدفعه و حاصله.

ان قيام الحجة و ان كان لا يستكشف به عن عدم حجية الاجتهاد الأول مثلا في في ظرفه الا ان مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من الابتداء و عدم اختصاصه بعصر دون عصر فيكشف بها بطلان الاجتهاد السابق، أو اجتهاد مجتهد أخر و مع ذلك لا يكون دليل الحجة متساوي النسبة إليهما بل يختص الاجتهاد الفعلي بالحجة دون غيره «2».

و قد وجه البطلان في المتن فيما إذا كان مذهب أحد طرفي العقد بطلانه و مذهب الأخر صحته بان العقد متقوم بطرفين فاللازم ان يكون صحيحا من الطرفين.

و يقال في بيانه بان العقد يتقوم بالطرفين و لا يتحقق مفهومه الأبين اثنين فلا يحكم بصحة أحد الطرفين الا عند الحكم بصحة الطرف الأخر كما هو الشأن في حكمه الواقعي في مقام الثبوت فلا يكون العقد الا صحيحا للمتعاقدين معا أو فاسدا كذلك فلا يقاس باب العقود بكون شي ء واحد كمايع واحد طاهرا بالنسبة الى أحد و نجسا بالنسبة إلى الأخر، فإذا حكم ببطلان المعاملة بالنسبة إلى المشتري كما في مفروض المتن يحكم بفسادها بالإضافة إلى البائع أيضا.

و قد يوجه الصحة في مفروض المتن بان العقد حيث انه متقوم بالطرفين كما أشير فإذا صحت المعاملة بالنسبة إلى البائع في المفروض بحكم بالصحة بالنسبة

______________________________

(1) كتاب بيع أستادنا العلامة الخمينى دام ظله ج 1/ 240

(2) بيع أستادنا العلامة دام ظله ج 1/ 240

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 365

..........

______________________________

الى طرف المشترى.

و لكن لا يخفى ان الوجهين غير

مرضيين لان العقد و ان كان متقوما بالطرفين و لا يتحقق مفهومه الأبين اثنين الا ان ذلك بالنسبة إلى الحكم الواقعي في مقام الثبوت ضرورة انه مع فساد المعاملة واقعا من طرف المشترى مثلا لا معنى لتصحيحها من طرف البائع كما لا معنى لفسادها من أحد الطرفين مع صحتها بالنسبة إلى الآخر، و لكن لا يستلزم ذلك عدم التفكيك في العقد بين الطرفين في مرحلة الظاهر، و فيما إذا كان اختلاف المتعاقدين بالاجتهاد أو التقليد فيجوز ان يكون صحيحا بنظر أحدهما و فاسدا بنظر الأخر و يختلف الآثار بالنسبة إليهما فالبايع في المفروض يجوز له التصرف في الثمن لأنه يراه ملكا له و لا يجوز له التصرف في المبيع لأنه يراه خارجا عن ملكه و اما المشتري فلا يجوز له التصرف في المبيع لأنه بنظره يكون باقيا عن ملك البائع، و لكن يجوز له التصرف في الثمن و ليس التفكيك في الأحكام الظاهرية بعزيز فترى عملا واحدا بالنسبة إلى شخص صحيحا، و بالنسبة إلى الأخر فاسدا، و يكون شي ء واحد بالنسبة إلى شخص طاهرا و بالنسبة إلى الأخر نجسا، كاختلاف المأموم و الامام في صحة الصلاة مع انه يصح الاقتداء بمن يكون اجتهاده مخالفا لرأيه مع ان الحكم الواقعي ليس إلا أحدهما و لا يمكن ان يكون عمل واحد أو شي ء فأرد في الواقع صحيحا و فاسدا أو طاهرا و نجسا.

و لذا ترى ان ثلة من الأعلام المعلقين على المتن منهم أستاذنا العلامة البروجردي (قدس) قال تلازمها في الصحة في الواقع لا يوجب التلازم في الحكم الظاهري فلا يبعد جواز ترتيب آثار الصحة للبائع اه.

قلت: هذا على تقدير ان ينشأ المشتري قبوله قاصدا للشراء و

ان لم يمكنه ان يرتب الأثر.

نعم ترتيب آثار الصحة من طرف دون الأخر ربما يؤدي الى النزاع و المخاصمة فيرفع الأمر إلى الحاكم لفصل الخصومة و حسمها و هو كلام أخر فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 366

..........

______________________________

و لمفروض المتن- و هو ما إذا كان بطلان عقد كل من المتعاقدين المتخالفين مستندا الى عمل الأخر- بعض الكلام تعرض له شيخنا العلامة النصارى (قدس) في كتاب البيع قبل مسئلة المقبوض بالعقد الفاسد و صار معرضا للرد و القبول من المتأخرين كما ان للمسئلة فرع أخر و هو ما إذا كان الاختلاف في تحقق عنوان العقد لبقاء المتعاقدين على صفات الإنشاء إلى أخر العقد فقال الشيخ (قدس) ان اختلافهما في ذلك يوجب فساد العقد بداهة ان فساد العقد من هذه الجهة يسري من أحد الجانبين الى الجانب الأخر هذا إجمال المقال في المسئلة و من أراد تفصيلها فليطلبها من مظانه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 367

[مسئلة 56- في المرافعات اختيار تعيين الحاكم بيد المدعى]

اشارة

مسئلة 56- في المرافعات اختيار تعيين الحاكم بيد المدعى الا إذا كان مختار المدعى عليه اعلم (1) بل مع وجود الأعلم و إمكان الترافع إليه الأحوط (2) الرجوع اليه مطلقا.

______________________________

(1) على الأقوى فيما إذا اختلفا في الحكم، و على الأحوط الاولى في غيره.

(2) الأولى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 368

..........

______________________________

أقول: تنقيح المقال في المسئلة يستدعي البحث في جهات على نحو الإجمال

الجهة الاولى في حكم اعتبار الأعلمية في القاضي

اشارة

إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة فلا إشكال في تخيير المترافعين في الرجوع الى أيهما شاء مع تراضيهما، و مع عدم تراضيهما و اختيار كل منهما واحد منهما كلام نشير إليه في الجهة الثانية.

و اما إذا كانا مختلفين في الفضيلة فهل يتعين الترافع إلى الأفضل و الأعلم مع التمكن، أو يجوز الترافع الى غير الأعلم مع التمكن من الأفضل؟ وجهان لكن عن الأشهر تعين الترافع إلى الأعلم مهما أمكن.

و قبل ذكر أدلة الطرفين لا بد و ان يعلم ان المراد بالأعلمية المبحوث عنها في باب القضاء ليست الأعلمية المطلقة كما هو الشأن في باب التقليد بل المراد الأعلمية في البلد أو ما يقرب منه من البلاد أو القرى مما لا يتعسر إرجاع الترافع اليه.

يظهر من بعض الأساطين دام ظله: ان السر في عدم إرادة الأعلمية المطلقة هو استحالة الرجوع في المرافعات الواقعة في ارجاء العالم و نقاطه على كثرتها و تباعدها الى شخص و هو الأعلم «1».

قلت: لا يخفى ان غاية ما يقتضيه ذلك هو الوقوع في الحرج و العسر الشديدين و اما استحالة ذلك فغير ظاهر كما لا يخفى نعم تصدى شخص واحد للقضاء في

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 447

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و

التقليد، ج 2، ص: 369

..........

______________________________

المرافعات الواقعة في ارجاء العالم لعله خارج عن طاقة البشر و لا يمكن ان يتصديها شخص واحد.

و بالجملة لزوم المراجعة في المرافعات الواقعة في ارجاء العالم الى شخص واحد يستلزم العسر و الحرج الشديدين، بل يستلزم تعطيل الأمور و اختلال نظام المعيشة فالفقيه يشرف على القطع بعدم اعتبار الأعلمية المطلقة في القاضي بل المراد الأعلمية الإضافية و هي الأعلمية بالنسبة الى أهل البلد و ما يقرب منه مما لا يتعسر إرجاع الترافع إليه.

إذا تمهد لك ما ذكرنا نقول لا يبعد جواز المراجعة الى غير الأعلم مع التمكن من الأعلم.

الوجوه التي يستدل بها لعدم اعتبار الأعلمية في القضاء

يستدل لذلك بوجوه عمدتها إطلاقات أخبار النصب.

كمقبول عمر بن حنظلة فإن أبا عبد اللّه عليه السّلام بعد ان نهى التحاكم الى قضاة الجور و حكامهم قال:

ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا الراد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه الخبر «1» فإنه يدل بوضوح على ان من روى حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم و عرف أحكامهم فلا بد و ان يرضوا به حكما و هو المنصوب و المجعول للحكومة و القضاء كان هناك اعلم منه أم لا.

فان كان في خاطرك ريبا فلاحظ ذيله فإن السائل بعد ان فرض اختلاف الحكمين من حيث الاختلاف في حديثهم قال عليه السّلام: الحكم ما حكم به أعدلهما

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 370

..........

______________________________

و أصدقهما

الخبر فإنه أصدق شاهد على صحة المراجعة و الترافع الى غير الأعلم فتدبر.

و كصحيح ابى خديجة عن الصادق عليه السّلام قال:

إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه «1».

فمن علم شيئا وافرا من قضاياهم (كما تقدمت الإشارة إليه سابقا) يصح الترافع لديه كان في الخارج من هو اعلم منه أم لا.

و كصحيح آخر لأبي خديجة قال:

بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام الى أصحابنا فقال قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي ء من الأخذ و العطاء ان تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا و إياكم ان يحاكم بعضكم الى السلطان الجائر «2».

و هو كخبره المتقدم يدل على ان من عرف حلالهم و حرامهم يكون منصوبا للقضاء كان في الخارج من هو اعلم منه أم لا.

و توقيع الشريف:

و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه «3».

بناء على كونه من اخبار المقام بلحاظ أن القضية المتنازع فيها حادثة واقعة

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6

(3) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 9

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 371

..........

______________________________

ترافع أمرها إلى رواة حديثهم فإطلاقه يدل على جواز الترافع اليه، كان هناك اعلم منه أم لا.

الى غير ذلك من الاخبار.

فتحصل ان مقتضى إطلاق أدلة النصب هو إعطاء منصب القضاء لمن كان جامعا للصفات المعلومة و ليس

في شي ء منها الأعلمية.

نعم تلاحظ الأعلمية في مقام الترجيح فيما اختلفوا فيه كما ان الأعدلية و مخالفة العامة، و الاشتهار بين الأصحاب و غير ذلك من المرجحات أيضا كذلك انما ذكرت في مورد الاختلاف لا في أصل القضاء في نفسها.

المناقشة في استفادة عدم اعتبار الأعلمية و دفعها

ربما يناقش في التمسك بالإطلاق من جهتين تارة من جهة عدم المقتضي للإطلاق، و اخرى بعد تسليم الإطلاق لها يكون لها مقيدات.

توضيح المناقشة ان الاخبار المومى إليها في مقام بيان عدم جواز الترافع الى قضاة الجور و حكامهم لا بيان المراجعة إلى قضاتنا، يشهد لذلك ما في مقبول عمر بن حنظلة (من تحاكم إليهم في حق أو باطل إلخ)، و ما في صحيح ابى خديجة: (إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلخ) و صحيحه الأخر (إياكم إذا وقعت بينكم خصومة. أن تحاكموا الى أحد من هؤلاء انفساق. و إياكم ان يحاكم بعضكم الى السلطان الجائر) و واضح ان من شرائط الأخذ بالإطلاق إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام ماله دخل في الحكم و في المقام لم يحرز ذلك بعد.

و لو سلم وجود الإطلاق لها و انها في مقام البيان الا انه هناك ما يصلح لتقييدها.

كذيل المقبول فقد ورد فيه الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في حد نفسه فلو سلم ان لصدره إطلاق في حد نفسه فبملاحظة الذيل يرفع اليد عن الإطلاق و يستفاد اعتبار الأعلمية.

و خبر داود بن الحصين عن ابى عبد اللّه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 372

..........

______________________________

في رجلين اتفقا على عدلين جعلوهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال ينظر إلى أفقههما و

أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت الى الأخر «1».

تقريب الدلالة واضح.

و خبر موسى بن أكيل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال و كيف يختلفان قال حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان فقال ينظر إلى أعدلهما وافقهها في دين اللّه فيمضي حكمه «2».

و كما في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام: لمالك الأشتر.

اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك «3».

و قد ادعى بعضهم الإجماع على وجوب الرجوع الى الأعلم.

و لكن دقيق النظر يعطى عدم تمامية المناقشة من جهتيها.

أما المناقشة في الإطلاق فالإنصاف انها غير واردة و مجرد اشتمال صدر بعض الاخبار عن النهى عن التحاكم الى قضاة الجور و حكامهم لا يوجب عدم انعقاد الإطلاق لذيله فهو عليه السّلام بعد النهى عن المراجعة إلى التحاكم الى قضاتهم و حكامهم تصدى لبيان ما يصلح الترافع لديه و إنكار الإطلاق فيها مكابرة واضحة.

و اما قضية المقيدات فاما ذيل المقبول فإنه:

يدل على الترجيح بالأفقهية فيما إذا ترافع المترافعان الى حاكمين متخالفين

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 2

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 45

(3) نهج البلاغة الكتاب 53

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 373

..........

______________________________

في القضاوة، و أين هذا مما هو محل الكلام؟! من الرجوع الابتدائي الى غير الأعلم، و كذا مورد الخبرين صورة اتفاق الخصمين على رجلين بينهما خلاف لا ما هو محل النزاع من الرجوع الابتدائي الى غير الأعلم.

فتحصل ان مقتضى إطلاقات الأخبار إعطاء منصب القضاء لمن كان جامعا لصفات لم تكن الأعلمية

منها.

نعم الأعلمية أمر تلاحظ في ترجيح الحكم عند الاختلاف كما هو الشأن في في الأعدلية و موافقة العامة أو مخالفتهم أو الاشتهار بين الأصحاب و غير ذلك من المرجحات و كل ذلك انما ذكر إذا اختلف الحكمان في حكم الواقعة، و الأخذ بحكم الأعلم عند ذلك أحرى و اولى هذا أولا.

و ثانيا: ان موردها الشبهة الحكمية و فصل الخصومة فيها اما بالفتوى أو بنقل الرواية و تسريتها في مقام الحكم و القضاء مطلقا حتى فيما إذا كانت الشبهة موضوعية، أو كان الخصمان مجتهدين أو مقلدين لمن هو اعلم منه كما ترى.

و ثالثا: كما أفيد ان اعتبار الأعلمية لو كان معتبرا لم يكن لخلو جميع الاخبار عنها وجه و لم يكن لعدم الإشارة إليه بالمرة معنى سيما مع الخطر العظيم في أمر القضاء هذا كله بالنسبة الى غير ما في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام الى مالك الأشتر و اما هو.

ففيه أولا: انه دل على اعتبار الأفضلية للقضاء و فرق بين عنوان الأفضلية، و الأعلمية لأن المراد بالأفضل هو: المتقدم فيما يرجع الى الصفات النفسانية من الكرم، و حسن الخلق، و سعة الصدر و غيرها مما لعل لها دخل في ترافع الخصمين و سماع دعواهما و هذا غير الأعلمية في الفقاهة و الاستنباط فإذا هي حكم أخلاقي راجحة و لم يعتبرها أحد.

و ثانيا: لو سلم إرادة الأعلم من الأفضل فغاية ما يدل هي لزوم اعتبار ذلك في الوالي و هذا لا يقتضي وجوب اختياره على المترافعين.

و ثالثا: ان الاستدلال به لعدم لزوم المراجعة إلى الأعلم أولى لأن نفس مالك كان أفضل ممن كان في المصر ظاهرا، و مع ذلك قال عليه السّلام: اختر للناس من هو

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 374

..........

______________________________

دونك فيستفاد منه ان الحكم بالاختيار الكذائي ليس حكما إلزاميا.

و رابعا: انه لو تم فإنما هو أمر مختص بالقاضي المنصوب نصبا خاصا من قبل الامام عليه السّلام أو من قبل الوالي المنصوب من قبله و محل الكلام انما هو القاضي المنصوب بالنصب العام هذا.

و اما حديث الإجماع فمحصله في مثل هذه المسئلة غير مفيد فما ظنك بمنقوله.

فظهر عدم تمامية ما استدل به لتعين المراجعة إلى الأعلم بعد تمامية الإطلاقات الواردة في نصب الفقيه و المجتهد الجامع للشرائط كان اعلم من غيره أم لا، كان هناك من هو اعلم منه أم لا، و الأعلمية انما هي مرحجة للحكم لا الحاكم و لا مضايقة في تعين الأخذ بقول الأعلم عند اختلاف الحكمين، و اما في الرجوع الابتدائي فلا

الاستدلال بالسيرة لجواز الترافع الى غير الأعلم و دفع المناقشة فيه

ربما يستدل لجواز الترافع الى غير الأعلم مع التمكن من الترافع الى غير الأعلم بالسيرة المستمرة عند المتشرعة على الرجوع و الإرجاع إلى مطلق العارف بالأحكام بلا ردع من الشارع.

و بالجملة السيرة المستمرة في زمان النبي الأعظم و أئمة أهل البيت صلوات عليهم أجمعين على الرجوع، و الإرجاع إلى آحاد الصحابة و أصحابهم من غير ملاحظة الأعلمية مع اختلافهم في الفضيلة و عدم الإنكار عليهم.

و لكن نوقش أولا: بعدم ثبوت السيرة لأنه لم يعلم ان الرجوع الى غير الأعلم كان مع التمكن من الرجوع الى الأعلم، و لعل عدم ملاحظة الأعلمية مع وجود التفاضل بينهم و بعث صحابي إلى نقطة مع وجود الأعلم بين الصحابة، و أصحابهم بلحاظ ان كل واحد منهم بالنسبة إلى مكان مخصوص لا يكون اعلم منه في ذلك المكان فتدبر و ثانيا: بأنه

لو تم فإنما هو في القضاة المنصوبين من قبل النبي أو الإمام صلوات عليهم بالخصوص و كان باب الحكم معلوما عندهم و انى لكم بإثبات ذلك

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 375

..........

______________________________

في المنصوبين على وجه العموم بإذن عام من أئمة أهل البيت عليه السّلام بقولهم: انظروا الى رجل منكم روى حديثنا و نظر في حلالنا و عرف أحكامنا، و نحوه غيره.

و لكن الإنصاف: ان دعوى ثبوت السيرة على عدم ملاحظة الأعلمية مع وجود التفاضل قريبة جدا و ربما تصدى القضاة في مثل المدينة المنورة- غير النبي و الامام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما مع وجود أنفسهما المقدسة بل و غيرهما ممن هم اعلم من المتصدي للقضاء، و ربما يرسل للقضاء في نواحي المدينة مما يقرب إليها و يمكنهم الترافع الى من هو اعلم، و التفرقة بين المنصوب بالنص الخاص و العام غير ظاهر كما لا يخفى.

و بالجملة من الواضح و لا ينبغي الإشكال في ثبوت السيرة على عدم اعتبار الأعلمية فيهم و لم يرد من المعصومين عليه السّلام ردع عن هذه السيرة و الا لحكى و ظهر امره و بان.

ذكر بعض وجوه يستدل بها للزوم الترافع إلى الأعلم و دفعها

استدل الماتن (قدس) للزوم الترافع إلى الأعلم في كتاب القضاء ببعض أمور أشرنا إلى دفع بعضها أنفا.

و عمدة ما استدل به لذلك انه لو كان لاخبار النصب إطلاق، لكنها مقيدة بالأخبار الدالة على الرجوع الى المرجحات عند اختلاف الحاكمين من الافقهية و الاصدقية و الأعدلية.

مع ان الظن الحاصل من قول الأعلم أقوى نوعا فبالاتباع أحرى فان أقوال المجتهدين كالأدلة للمقلدين.

مع ان مقتضى مذهبا و مبناه (يعنى القائل بالتخيير) قبح ترجيع المفضول على الأفضل هذا.

و لكن عرفت تمامية إطلاق الاخبار

كما عرفت ان مورد الأخبار المقيدة هو ترجيح أحد الحكمين المتفاضلين على الأخر فيما هو محل الكلام من الرجوع الابتدائي.

و اما حديث اقوائية الظن النوعي الحاصل بقضاء الأعلم ففيه:

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 376

..........

______________________________

أولا: انه اجتهاد قبال النص و يتطرق ذلك لو كان الانتخاب راجعا إلينا، و اما إذا نصب الامام عليه السّلام الواقف بجميع المزايا و المصالح- بالنصب الخاص أو العام- قاضيا و لم يلاحظ الأعلمية فيه فمن الممكن بل القريب جدا ان يكون ذلك لمصلحة أو مصالح فائقة على لحاظ الأعلمية.

و ثانيا: قد تقدم في مسئلة تقليد الأعلم ان ذلك ممنوع صغرى و كبرى و قد عرفت عدم اعتبار الأعلمية في مرجعية الفتوى و لم تذكر في شرائط مرجع الفتوى و انما ذكرت عند اختلاف حكم الأعلم مع غيره فتدبر.

و ثالثا: لو سلم ذلك في باب الفتوى بلحاظ أمارية فتوى الفقيه للواقع فإجراؤه في باب الترافع قياس لا نقول به مع وجود الفرق الواضح بين البابين كما لا يخفى و اما قبح ترجيع المفضول على الأفضل ففيه.

مضافا الى انه اجتهاد مقابل للنص نمنع المرجوحية لاحتمال استواء المناط فيهما في باب القضاء بلا دخل للافضلية في ذلك.

مع ان ترك الترافع إلى الأعلم و إرجاعه الى غير الأعلم لا يعد و لا يكون ترجيحا له على الأعلم إذا كان له دواع اخرى فقد تكون المراجعة لديه أسهل من المراجعة إلى الأعلم لكون فراغته أكثر منه، و الوصول لديه أقل زحمة منه الى غير ذلك.

فتحصل ان مقتضى إطلاقات أدلة النصب و غيرها عدم تعين المراجعة إلى الأعلم فيجوز الترافع الى غيره مع التمكن من الترافع إلى الأعلم.

نعم عند اختلاف الحاكمين

يتعين الأخذ بحكم الأعلم.

و لا يخفى ان تصوير تعارض الحكمين كما افاده المحقق العراقي (قدس) فيما إذا حكما دفعة واحدة و الا لو كان الحكمان متعاقبين لا يتصور في المقام تعارض كي يحتاج الى الترجيح لان الحكم الأول ان كان عن ميزان فلا يبقى مجال للحكم الثاني لفصل الخصومة بالأول و الا فلا يسمع حكمه كي تعارض الثاني كما لا يخفى «1»

______________________________

(1) كتاب القضاء/ 15

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 377

حكم الأصل عند الشك في اعتبار الأعلمية

______________________________

و لو وصلت النوبة إلى الشك و احتمل اعتبار الأعلمية في القاضي فقد يقرر الأصل بنحو يصلح الترافع الى غير الأعلم و هو أصالة بقاء أهلية الفقيه الجامع للشرائط للترافع لديه بعد تحقق منصب القضاء له و عدم زواله منه بمجرد وجود من هو اعلم منه «1».

و لكن لا يخفى ما فيه لان مرجع الشك هنا الى جواز الترافع و عدمه و مقتضاه كما ذهب اليه الماتن (قدس) هو عدم نفوذ حكم غير الأعلم مع وجود الأعلم لأن الأصل عدم نفوذ حكم أحد بالنسبة إلى أحد إلا ما دل الدليل عليه لدوران الأمر بين التعيين و التخيير و المتيقن الأعلم فتدبر.

الجهة الثانية في تعيين من بيده اختيار الحاكم إذا كان أحد الخصمين مدعيا و الأخر منكرا

ان قلنا بلزوم الترافع إلى الأعلم فلا معنى لاختيار المدعى، أو المدعى عليه تعيين الحاكم بل يجب عليهما الترافع إلى الأعلم و ذلك واضح.

و اما ان لم يجب ذلك، أو كان هناك مجتهدان متساويين فهل تعيين الحاكم بيد المدعى، أو المدعى عليه وجهان بل قولان.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 377

قال العلامة النراقي (قدس): إذا كان هناك مجتهدان، أو أكثر يتخير فيهما الرعية فالحكم لمن اختاره المدعى و هو المتبع إجماعا له، و لأنه المطالب بالحق و لا حق لغيره أولا. فمن طلب منه المدعى استنقاذ حقه يجب عليه الفحص فيجب اتباعه و لا وجوب لغيره و هذا مما لا اشكال فيه اه «2».

______________________________

(1) مرقاة التقى/ 28

(2) مستند الشيعة ج 2/ 522

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 378

..........

______________________________

قلت: يظهر منه (قدس)

عدم الإشكال في ان تعيين الحاكم بيد المدعى فالكلام حينئذ فيما استدل به لذلك.

اما الإجماع فيشكل الاعتماد عليه لعدم إحراز تحقق الإجماع التعبدي في أمثال المقام حيث يذكر للحكم بعض وجوه أخر يظن أو يحتمل استناد المجمعين عليه فلا بد من ملاحظة سائر الوجوه.

و اما قوله (قدس) لأنه المطالب بالحق و لا حق لغيره أولا فناقش الماتن (قدس) بان كون الحق له غير معلوم، و ان أريد ان حق الدعوى له حيث ان له ان يدعى و له ان يترك ففيه ان مجرد هذا لا يوجب تقدم مختاره إذ بعد الدعوى يكون لآخر أيضا حق الجواب، مع انه يمكن ان يسبق المدعى عليه بعد الدعوى الى الحاكم و يطلبه منه تخليصه من دعوى المدعى فمقتضى القاعدة مع عدم اعلمية أحد الحاكمين هو القرعة إلا إذا ثبت الإجماع على تقديم مختار المدعى اه «1».

قلت: يتوجه على إيراد الماتن (قدس) بان العلامة النراقي لم يرد بقوله:

(لان المدعى هو المطالب بالحق) ثبوت حقيته بمجرد الدعوى حتى يرد عليه انه غير معلوم بل مراده كما هو الظاهر من صدر كلامه ان للمدعي حق الدعوى و طرحها، و هو الذي له ان يدعى و له ان يترك، و الحق في بداية الأمر ظاهرا للمدعي، و له السلطنة على استنقاذ حقه، و ثبوت حق الجواب للمدعي عليه انما هو بعد طرح الدعوى، و هذا كاف في ترجيح مختار المدعى.

و بالجملة كما أفيد: «اختيار تعيين الحاكم من شئون استنقاذ الحق الذي أمره راجع الى المدعى و هو الذي يسمع منه لو رفع امره الى الحاكم و يجب عليه إجابته إجماعا كما في المستند بخلاف المدعى عليه فإنه لو رفع امره الى الحاكم

لا يسمع منه، و لو طلب من الحاكم تخليصه من دعوى المدعى لا يجب على الحاكم اجابته» «2».

______________________________

(1) ملحقات العروة ج 2/ 15

(2) نهج الهدى/ 16

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 379

..........

______________________________

و السر في عدم لزوم اجابة الحاكم إياه هو عدم ثبوت حق للمدعي عليه عند ذاك لان المدعى لا يظلمه و غاية ما يوجبه هو الترافع الى الحاكم الشرعي و يدعوه هناك بالفصل.

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بعض الأساطين دام ظله: من ان مجرد ثبوت حق الدعوى لا يوجب تقدم مختاره لانتقاضه بثبوت حق الجواب للمنكر بعد دعوى الخصم، على انه يمكن ان يسبق المدعى عليه بعد الدعوى الى حاكم و يطلب منه تخليصه من دعوى الخصم اه «1».

توضيح النظر لائح مما ذكرناه فلاحظ.

و ان كنت في شك في كون اختيار تعيين الحاكم بيد المدعى فاستوضح مقال بعض الأساطين دام ظله حيث قال: ان مقتضى بناء العقلاء هو ان طريق إثبات الدعوى بيد المدعى و له ان يختار اى طريق شاء في إثبات دعواه و ليس للآخرين اقتراح طريق خاص عليه و اختيار الحاكم من طرق إثبات الدعوى فيكون بيد المدعى «2».

و بعبارة اخرى: ان إثبات القضية المدعاة انما هو على المدعى و هو الذي يحتاج في ذلك الى إقامة الحجة و الدليل و له ان يحتج عليها بما شاء و يستدل بأي دليل اراده و الاختيار في ذلك اليه و ليس للمنكر ان يقترح له الدليل و يعين له الحجة في استدلاله إلخ «3».

و بالجملة من شئون إثبات الدعوى اختيار الحاكم و مقتضى بناء العقلاء انه يبد المدعي فإذا اختار حاكما وجب على المنكر الحضور عنده

إذا طلبه الحاكم و الا فيجرى في حقه الحكم الغيابي كما هو المعمول به في المحاكم العرفية بين الناس في أمثال عصرنا «4».

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 358

(2) الدروس ج 1/ 225 التنقيح ج 1/ 387

(3) الدروس ج 1/ 225 التنقيح ج 1/ 387

(4) الدروس ج 1/ 236

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 380

..........

______________________________

فظهر مما ذكرنا ثبوت الترجيح للمدعي فلا تصل التوبة إلى القرعة و اللّه العالم.

الجهة الثالثة فيما إذا كان المتخاصمان متداعيين

المتحاكمان تارة يكون أحدهما مدعيا و الأخر منكرا و اخرى يكون كل منهما مدعيا من جهة في موضوع واحد و الأخر منكرا فيه من جهة أخرى (كما لو ادعى كل منهما ما يكون لهما يد عليه).

قد عرفت الأمر في الصورة الاولى و انه لا يجب الترافع عند ذاك إلى الأعلم إلا إذا اختلفا في الحكم.

و اما الصورة الثانية فالظاهر انه يكون لكل منهما الخيار في رفع الأمر إلى حاكم لإثبات دعواه فاذا سبق أحدهما فرفع امره الى حاكم فحكم له كان حكمه نافذا في حق الأخر مطلقا بناء على ما قوينا من عدم اعتبار الأعلمية في الحاكم و القاضي في باب المرافعات.

و لو رفعا أمرهما إلى حاكمين ينفد حكم السابق بالحكم، و لو اقترنا في الحكم فان كان أحدهما اعلم يقدم على الأخر و الا فلم ينفذ واحد منهما لبطلان الترجيح بلا مرجح لكن يظهر من الماتن (قدس): انه لا ينبغي الإشكال في القرعة عند ذاك و اللّه العالم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 381

[مسئلة 57- حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه]

اشارة

مسئلة 57- حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه، و لو لمجتهد أخر إلا إذا تبين خطأه (1).

______________________________

(1) علما أو تعبدا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 382

..........

______________________________

أقول: توضيح الأمر في المسئلة يستدعي البحث في موردين الأول في عدم جواز نقض حكم الحاكم الجامع من أحد مجتهدا كان أم لا. و الثاني اختصاص عدم جواز النقض بما إذا لم يتبين خطأ الحاكم، فعند تبين الخطاء يجوز نقضه.

المورد الأول في عدم جواز نقض حكم الحاكم

يستدل لعدم جواز نقض حكم الحاكم الجامع للشرائط مضافا الى الإجماع المدعى في كلام جماعة بأنه لا إشكال في تشريع القضاء في الشريعة المقدسة و قد دل عليه قوله تعالى وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1» الى غير ذلك من الآيات و الاخبار، و لو لا مشروعية القضاء و فصل الخصومة بحكمه لزم الهرج و المرج و اختلال النظام و لغوية تشريع القضاء و لذا قد يقال انما سمى فصل الخصوصة و حلها قضاء. لأن القاضي يتم أمر الخصومة بالفصل، فليس لأحد بعد ذلك ان يوصله و الا يستلزم لغوية القضاء.

يشهد لذلك بعض الاخبار.

منها قول الصادق عليه السّلام.

في ذيل مقبول عمر بن حنظلة: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم

______________________________

(1) النساء: 4/ 58

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 383

..........

______________________________

يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا الراد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه الخبر «1».

فإنه يدل ظهورا قويا قريبا من النص على ان حكم الحاكم الشرعي

نافذ لا بد و ان يقبل و الرد عليه استخفاف ورد عليهم صلوات عليهم و على اللّه تعالى.

و منها صحيح ابى خديجة قال:

بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام الى أصحابنا فقال قل لهم إياكم ان يحاكم. اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا «2».

و منها صحيحة الأخر قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام. و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه «3».

منها غير ذلك من الاخبار.

و لا يخفى ان حكم الحاكم بأحد الطرفين على موازين القضاء ربما لا يوجب رفع الغائلة في البين بحيث يعتقد الطرفان مطابقته للواقع بل بعد حكمه يرى المحكوم عليه غالبا عدم مطابقة حكمه، أو بينة المدعى للواقع و انه بعد ذي حق فلا بد و ان يشرب في حكم الحاكم نحو موضوعية.

و بهذا يفرق بين حجية فتوى الفقيه و خبر الثقة و بين حجية حكم الحاكم فإن الحجية في الأوليين طريقية محضة بخلاف الأخرى فإن فيها نحوا من الموضوعية لأنه منصب، و ولاية فهو نظير حكم الوالي لازم الاتباع فما دام لم يتبين خطأ في حكمه

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 384

..........

______________________________

لا يجوز نقض حكمه إذا كان صادرا عن الموازين المقررة شرعا و ان رأى مخالفة حكمه مع ما يجتهد، أو يقلد فيه.

نعم إذا علم بان ما حكم به على خلاف الواقع أو تبين قصوره أو تقصيره في الحكم فيجوز نقض

حكمه كما سنشير اليه.

المورد الثاني في جواز نقض حكم الحاكم إذا تبين خطأه في الحكم

اعلم ان المراد بتبين الخطاء في حكم الحاكم هو ما إذا كان الحكم على غير الموازين الشرعية قصورا أو تقصيرا بان استند في حكمه مثلا الى بينة المنكر، أو يمين المدعى، أو شهادة النساء في غير ما يصح فيه شهادتهن، أو حكم بما هو ضروري الخلاف أو على خلاف ما أجمعوا عليه، أو خلاف ما علم من الدين الى غير ذلك من الموارد بحيث يكشف قصوره عن الاستنباط و عدم أهليته للقضاء و لو بالنسبة إلى مورد قضائه، فإذا تبين خطأ حكم الحاكم كذلك فلا مانع من الترافع بعد حكمه الى ذلك الحاكم- إذا لم يخرج بحكمه الأول عن العدالة أو تاب بعد حكمه- أو غير ذلك الحاكم.

و السر في ذلك هو ان الحكم الصادر على غير الموازين المقررة كالعدم فلا حكم حقيقة لينتقض.

و ان شئت قلت ان أدلة نفوذ حكم الحاكم منصرفة عن صورة ما إذا كان الحكم على خلاف الموازين المقررة في الشرع قصورا، أو تقصيرا.

فاذا لا يكون طرح الدعوى ثانيا نقضا للحكم حقيقة بداهة انه لم تنفصل الخصومة واقعا حتى لم يجز نقضه فالاستثناء في الحقيقة منقطع.

نعم ان لم يحرز و لم يعلم مخالفة حكمه للواقع و لكن احتمل مخالفته للواقع فيجب الأخذ به، و لا يجوز نقضه سواء علم خطائه في طريق الحكم بالاستناد- كما إذا حكم اعتمادا على بينة غير عادلة مع اعتقاد عدالتها مثلا- أو في المستند كما إذا اعتمد

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 385

..........

______________________________

على ظاهر خبر لم يعثر على قرينة على خلافه و قد عثر عليه الحاكم الأخر الى غير ذلك.

تنبيه

و ليعلم ان ما ذكرناه- من نفوذ حكم الحاكم و

عدم جواز نقضه إلا في موارد خاصة- لا يوجب تغيير الواقع عما هو عليه، و انقلابه إلى مؤدى الحكم، لأن غاية ما تقتضيه أدلة نفوذ قضاء الحاكم هو ترتيب آثار الصحة على حكمه في ظاهر الأمر من دون ان تمس كرامة الواقع و لا يغيره عما هو عليه بل الواقع باق بحاله.

يشهد لذلك بأوضح دلالة بل أصرح بيان قول الصادق عليه السّلام في صحيح هشام بن الحكم قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان و بعضكم ألحن بحجته من بعض فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار «1».

فإنه صريح في ان القضاء غير مبدل للواقع و ان من حكم له الحاكم بشي ء إذا علم ان الواقع خلافه لم يجز له أخذه.

و قريب منه ما في تفسير الإمام العسكري عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بين الناس بالبينات و الايمان في الدعاوي فكثرت المطالبات و المظالم فقال: ايها الناس انما أنا بشر و أنتم تختصمون و لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض و انما أقضي على نحو ما اسمع منه فمن قطعت له في حق أخيه بشي ء فلا يأخذ به فإنما اقطع له قطعة من النار «2».

فعلى هذا لا يمكننا ترتيب آثار الواقع بحكم الحاكم عند العلم وجدانا أو تعبدا بعدم مطابقة حكمه للواقع من غير فرق بين الشبهات الحكمية و الموضوعية فاذا

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ح/ 1

(2) الوسائل باب 2 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى ح/ 2

الدر النضيد في الاجتهاد

و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 386

..........

______________________________

حكم الحاكم بملكية مال لأحد المتخاصمين وجب عليهما ترتيب آثار ملكية المحكوم له في مرحلة الظاهر فيجب على المحكوم عليه دفع المال الى المحكوم له، و لكن إذا علم المحكوم له انه غير مالك إياه واقعا لا يجوز له ان يتصرف فيه بل يجوز للمحكوم عليه ان يسرقه إذا علم ان المال له، و ان حكم الحاكم غير مطابق للواقع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 387

[مسئلة 58- إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره ثم تبدل رأى المجتهد في تلك المسئلة]

مسئلة 58- إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره ثم تبدل رأى المجتهد في تلك المسئلة لا يجب على الناقل إعلام من سمع منه الفتوى الاولى و ان كان أحوط (1) بخلاف ما إذا تبين له خطائه في النقل فإنه يجب عليه الأعلام (2).

______________________________

(1) لا يترك إذا انحصر نقل فتوى المجتهد به عادة في محل خاص.

(2) إذا كانت الفتوى المنقولة سابقا حكما إلزاميا و مخالفة للاحتياط حسب ما علقناه في المسئلة الثامنة و الأربعين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 388

..........

______________________________

أقول: كون ينبغي للمصنف (قدس) ان يذكر مسئلة 48 المتقدمة و هذه المسئلة، و ما يعنونه في مسئلة 69 في موضع واحد لأنها متقاربة المأخذ و المتأمل فيها و الفاحص عن مستند احداها ينفعه حال البقية و يسهل تناول مأخذ الثلاث في زمان قليل.

و كيف كان تقدم الكلام مفصلا في مسئلة 48 ما هو المختار فيما إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأ أو أخطأ المجتهد في بيان فتواه، و سيجي ء في مسئلة 69 وظيفة المجتهد في إعلام مقلديه إذا تبدل رأيه، و المهم عجالة بيان ما في هذه المسئلة.

تعرض (قدس) فيها لفرعين أحدهما صورة

ما إذا نقل الناقل فتوى المجتهد لغيره ثم تبدل رأى المجتهد، و الثاني ما إذا تبين للناقل خطائه في النقل.

اما عدم وجوب الأعلام على الناقل في الفرع الأول فواضح لأنه قبل عدول المجتهد عن رأيه كان يجوز للناقل ذكر فتواه بل كان يستحب بل ربما يجب له نقل فتوى المجتهد و لا دليل على وجوب الأعلام بتبدل رأى المجتهد في تلك المسئلة، و المقلد و من نقل له الفتوى و ان كان يقع في خلاف الواقع الا انه لم يكن الناقل هو السبب في وقوعه فيه، و لو كان هناك تسبيب فهو من الشارع الأقدس لأنه الذي جعل الفتوى الأولى حجة.

و بالجملة ان الناقل حيث لم يقصر في النقل بل نقل حقا و ذكر صدقا، و لم يقع المنقول إليه في خلاف الواقع بسبب نقله بل بسبب تبدل رأى المجتهد فلا يجب على الناقل أعلام من سمع منه الفتوى.

و توهم وجوب الأعلام للزوم تبليغ الأحكام و إرشاد الجاهل مدفوع بما ذكرناه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 389

..........

______________________________

في ذيل مسئلة 48 و حاصله:

ان غاية ما يقتضيه وجوب التبليغ هو جعل الفتوى الثانية في معرض الناس بحيث يمكنهم الانتفاع بها و اما وجوب إيصاله إلى آحاد المكلفين فلا يجب من شخص الناقل و لا يجب عليه إيصال الفتوى الثانية الى من سمع منه الفتوى الاولى فراجع.

نعم حيث يكون المقلد واقعا في خلاف الواقع فالأحوط الاولى إرشاده.

و اما الفرع الثاني فحيث ان وقوع المقلد في خلاف الواقع مستند الى نقل خلافه، فالماتن (قدس) يرى وجوب أعلامه.

و لكن يمكن ان يفصل بينما إذا كانت الفتوى السابقة المنقولة موافقة للاحتياط فلا يجب الأعلام، و

بينما إذا كانت مخالفة للاحتياط و كانت حكما إلزاميا فيجب الأعلام.

و قد تقدم نظيره، كما يأتي نظيره من الماتن (قدس) فيما إذا تبدل رأى المجتهد فراجع مسئلة 48، و ارتقب مسئلة 69.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 391

[مسئلة 59- إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا]

اشارة

مسئلة 59- إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا (1)، و كذا البينتان، و إذا تعارض النقل مع السماع عن المجتهد شفاها قدم السماع، و كذا إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع، و في تعارض النقل مع ما في الرسالة قدم ما في الرسالة مع الأمن من الغلط.

______________________________

(1) بل يتخير في جميع الفروض الخمسة المسطورة إذا لم يكن لأحدهما ترجيح من غير فرق بين كون التعارض بين فردين من سنخ واحد، أو سنخين، و الا فإن كان أحدهما أوثق مثلا أخذ به من غير فرق بينهما كذلك، هذا إذا كانا ناظرين الى زمان واحد، أو زمانين لم يحتمل تبدل الرأي فيهما و اما إذا كانا ناظرين الى زمانين و احتمل التبدل في الفتوى تعين العمل بالمتأخر لعدم المعارضة بينهما حقيقة، نعم إذا كان ما سمعه من المجتهد قطعي فلا تقاومه النقل، أو البينة كما انه لا يبعد تقديم ما في الرسالة غالبا على السماع منه إذا كانت بخط نفس المجتهد، أو بخط غيره لكن مع أشراف منه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 392

..........

______________________________

أقول: تعرض الماتن (قدس) في المسئلة صورا خمس في تعارض الطريقين فحكم بالتساقط في صورتين منها و هما:

1- تعارض الناقلين في نقل الفتوى.

2- و تعارض البينتين.

و حكم بالترجيح في الصور الثلاث الباقية و هي:

1- تعارض النقل مع السماع عن المجتهد شفاها فقدم السماع.

2- و

تعارض ما في الرسالة مع السماع فقدم السماع.

3- و تعارض النقل مع ما في الرسالة فقدم ما في الرسالة مع الأمن من الغلط و لا يخفى ان الحكم بالتساقط في الصورتين الأوليتين و إطلاق الحكم بالترجيح في الصور الثلاث محل اشكال بل منع فالحري بنا التعرض لجميع الصور و بيان ما هو المختار فيها.

و ليعلم أولا كما تعرضنا تبعا للماتن في ذيل المسئلة السادسة و الثلاثين (36) انه تثبت فتوى المجتهد بأحد هذه الأمور:

1- إما بالسماع من لفظ المجتهد. 2- أو بقيام البينة عليها. 3- أو بالنقل عن المجتهد. 4- أو بوجدانها في الرسالة المأمونة من الغلط.

تقدم الكلام في أصل ثبوت الفتوى بتلك الأمور فلاحظ.

و الكلام في هذه المسئلة بيان حال تعارضها فتقول التعارض تارة يتحقق بين فردين من سنخ واحد- كما إذا أخبرت بينة عن فتوى المجتهد بطهارة عرق الجنب عن الحرام مثلا، و أخبرت بينة اخرى بنجاسته- و اخرى يتحقق بين سنخين من الأمور المتقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 393

..........

______________________________

فلو كان التعارض بين فردين من سنخ فتارة يكونا ناظرين الى زمان واحد بأن أخبرت البنتان عن ان فتواه الفعلي بالنسبة إلى عرق الجنب عن الحرام مثلا كذا و اخرى يكونا ناظرين الى زمانين- بان كانت إحديهما ناظرة إلى فتواه السابقة و الأخرى إلى فتواه الفعلية- اما مع احتمال العدول من الفتوى السابقة إلى اللاحقة أو عدم احتمال العدول فنقول:

ان الأصل الاولى كما قرره شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس) في تعارض الأمارتين التساقط لعدم الترجيح بلا مرجح و لكن بعد ملاحظة قواعد التعارض فاما نقول باختصاص أدلة الترجيح- عند وجود المرجح أو التخيير عند عدمه- بالخبرين المتعارضين فلا تعم

الفتويين كما يظهر من الماتن (قدس) هنا، فلذا حكم في تعارض الناقلين في نقل الفتوى أو البينتين التساقط، أو نقول بعمومية أدلتهما- الترجيح أو التخيير- للمقام- كما لا يبعد- فعليه فاما يكونا ناظرين الى زمانين بحيث احتمل العدول عن الفتوى المجتهد تعين العمل بالمتأخر لعدم المعارضة بينهما الا استصحاب عدم عدول المجتهد عن الفتوى السابقة و هو لا يعارض الدليل.

و اما ان كانا ناظرين الى زمان واحد، أو زمانين و لكن لم يحتمل العدول عن فتواه السابقة فإن كان لأحدهما ترجيح بالنسبة إلى الأخرى- بأن يكون إحديهما أوثق من الأخر مثلا- أولا.

فعلى الأول يؤخذ بذي المزية و على الثاني يتخير.

هذا كله بالنسبة إلى تعارض الفردين من سنخ واحد فاما إذا كان التعارض بين سنخين من الأمور المتقدمة فالصور المذكورة في المتن ثلاث.

الصورة الأولى ما إذا تعارض النقل بالخبر، أو البينة مع السماع مشافهة عن المجتهد

حكم الماتن (قدس) بتقديم السماع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 394

..........

______________________________

و لكن الذي ينبغي ان يقال كما أشرنا في فردين من سنخ واحد ان الأمارتين اما ان تكونا طريقتين الى زمانين متعددين و احتمل العدول عن الفتوى للمجتهد و حيث لا تعارض بينهما في الحقيقة فيتعين العمل بالمتأخرة و حديث استصحاب عدم العدول لا تعارض الامارة كما تقدم.

و ان كانتا ناظرتين الى زمان واحد أو زمانين و لكن لم يحتمل العدول عن فتواه السابقة فيقع التعارض بينهما فتارة لا يحتمل السهو و الخطاء فيما سمعه من المجتهد شفاها، و اخرى يحتمل فيه ذلك فعلى الأول يكون ما سمعه قطعي فلا يكاد تقاومه النقل بالخبر أو البينة فلا بد من التصرف فيه و حمله على السهو و الاشتباه أو الكذب ان أمكن تطرقه فيه.

و على الثاني يؤخذ بما هو

الأقوى و الأوثق منهما ان كان و الا فيتخير بالعمل بأيهما شاء.

الصورة الثانية ما إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع شفاها

حكم الماتن (قدس) بتقديم السماع مشافهة على ما في الرسالة.

و لكن الذي ينبغي ان يقال- كما أشرنا في الصورة المتقدمة- أنهما إما ناظران الى زمانين متعددين احتمل عدول الفتوى فيهما أو ناظران الى زمان واحد، و مثله زمانين لم يحتمل العدول فيهما.

فعلى الأول يتعين العمل بالمتأخر، و الوجه واضح مما تقدم و على الثاني فالرسالة تارة تكون بخط المجتهد أو بخط غيره و لكن كان باشراف المجتهد بحيث راجعها و نظر فيها، و اخرى تكون بخط غيره و كان هناك ثقة أو ثقات جمعوا فتاوى المجتهد كما يتفق كثيرا بالنسبة إلى مجتهد صار زعيما، تكثر المراجعة اليه و لم يمكنه تأليف الرسالة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 395

..........

______________________________

فعلى الأول يمكن القول بتقديم الكتابة على السماع إذا كانت مأمونة من الغلط على نحو تكون حجة لو لا المعارض.

و السر في ذلك هو اضبطية الكتابة من المشافهة لعناية زائدة بالكتابة دون المشافهة، و الإنسان غالبا يهتم و يحتفظ بخصوصيات المطالب و دقائقها عند الكتابة بما لا يحتفظ بها في مكالماته شفاها، و لذا يكون الاشتباهات في المكالمات أكثر منهما في المكاتبات، و لعل هذا هو السر في بناء العقلاء على تقديم الكتابة عليها.

و لا يخفى ان دعوى كون الكتابة كذلك غالبا و ان كان غير بعيد الا ان إثبات ذلك دائما و في جميع الموارد كما ترى.

فما افاده بعض الأساطين دام ظله من تقديم الكتابة مطلقا على السماع شفاها «1» في قبال الماتن (قدس) حيث قدم السماع على الكتابة مطلقا لا يمكن المساعدة عليهما في جميع الموارد فالملاك كل الملاك

الاوثقية، أو الأظهرية و هي مما يختلف بحسب الموارد.

و اما على الثاني- أي إذا كانت الرسالة بخط غيره- فتكون الكتابة وزان النقل بعينه بل هو هو فيجري فيه جميع ما ذكرناه في الصورة الاولى من تعارض النقل بالخبر أو البينة مع السماع مشافهة حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة.

الصورة الثالثة ما إذا تعارض النقل مع ما في الرسالة

حكم الماتن (قدس) بتقديم ما في الرسالة المأمونة من الغلط على النقل و وافقه على هذا بعض الأساطين دام ظله بل قال حيث قدمنا الكتابة على السماع مشافهة يكون تقديم الكتابة على النقل اولى «2».

و لكن ينبغي ان يقال كما أشرنا في الصورتين ان النقل و الكتابة اما ان يكونا ناظرين الى زمانين متعددين احتمل العدول للفتوى منهما، أو ناظرين الى

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 400 الدروس ج 1/ 241

(2) التنقيح ج 1/ 400 الدروس ج 1/ 241

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 396

..........

______________________________

زمان واحد و مثله زمانين لم يحتمل العدول فيها.

فان كانا ناظرين الى زمانين يتعين العمل بالمتأخر و اما على الثاني فالكتابة و ان كانت في الأغلب أوثق و أضبط الا انه ليس كذلك دائما فربما تكون الكتابة أضبط و ربما يكون النقل كذلك، و ربما يتساويان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 397

[مسئلة 60- إذا عرضت مسئلة لا يعلم حكمها و لم يكن الأعلم حاضرا]

مسئلة 60- إذا عرضت مسئلة لا يعلم حكمها و لم يكن الأعلم حاضرا (1) فإن أمكن تأخير الواقعة الى السؤال يجب ذلك (2) و الا فإن أمكن الاحتياط تعين (3) و ان لم يمكن يجوز الرجوع الى مجتهد أخر الأعلم فالأعلم و ان لم يكن هناك مجتهد أخر و لا رسالته يجوز العمل بقول المشهور (4) بين

______________________________

(1) و لا رسالته موجودة.

(2) لا يتعين عليه ذلك بل يتخير بينه و بين الاحتياط ان أمكن.

(3) فيما إذا علم إجمالا مخالفة الأعلم مع المجتهد الأخر في موارد يحتمل كون المقام منهما و الا لا يتعين عليه الاحتياط في المفروض- اعنى ما لا يمكن تأخير الواقعة- بل يتخير بينه و بين الرجوع الى غير

الأعلم و لا يلزم مراعاة الأعلم فالأعلم، و الوجه في ذلك ما أشرنا إليه من عدم لزوم تقليد الأعلم في مثل المفروض.

(4) ان كان الظن الحاصل منه أقوى من غيره كما هو كذلك غالبا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 398

العلماء إذا كان هناك من يقدر على تعيين قول المشهور، و إذا عمل بقول المشهور ثم تبين له بعد ذلك مخالفته لفتوى مجتهده فعليه الإعادة، أو القضاء، و ان لم يقدر على تعيين قول المشهور يرجع الى أوثق الأموات (1)، و ان لم يمكن ذلك أيضا يعمل بظنه، و ان لم يكن له ظن بأحد الطرفين يبنى على أحدهما، و على التقادير جميعها بعد الاطلاع على فتوى المجتهد ان كان عمله مخالفا لفتواه فعليه الإعادة أو القضاء

______________________________

و الا فيؤخذ بما هو الأقوى و ان كان غير ما هو المشهور.

(1) و من قوله أقرب الى الواقع من غيره بان رجع مثلا الى اعلم الأموات و لو بالإضافة إلى المحصورين لتعذر تشخيص الأعلم من الأموات جميعا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 399

..........

______________________________

أقول: صرح الماتن (قدس) في أوائل مسائل التقليد و أشرنا هناك ان الاحتياط في عرض الاجتهاد و التقليد لا في طولهما و ان المتمكن من التقليد أو الاجتهاد، يصح له الاحتياط فعلى هذا لا يستقيم ما افتى به هنا من انه إذا عرضت مسئلة لا يعلم حكمها و لم يكن الأعلم حاضرا يتعين عليه تأخير الواقعة للسؤال بل يتخير بينه و بين الاحتياط الا إذا تعذر الاحتياط فيتعين التأخير و لعل مراده (قدس) التعذر و اللّه العالم.

ثم انه لا يمكن المساعدة لقوله (قدس) تعين الاحتياط ان

أمكن في صورة حضور الأعلم، و ذلك لما عرفت ان المختار في وجوب تقليد الأعلم انما هو عند العلم بمخالفة فتواه مع غيره فلا وجه لتعين الاحتياط في صورة عدم تمكن تأخير الواقعة بل يتخير بين الاحتياط و بين تقليد غير الأعلم إلا إذا علم مخالفة فتوى غير الأعلم مع الأعلم حسبما فصلناه فراجع.

و مما ذكرناه يظهر حال قوله (قدس): (يجوز له الرجوع الى مجتهد أخر الأعلم فالأعلم) لما أشرنا إليه من عدم وجوب تقليد الأعلم عند عدم العلم بالمخالفة بين فتواه و فتوى غير الأعلم.

نعم إذا لم يتمكن من الاحتياط فيما يمكن تأخير الواقعة يتعين الرجوع الى غير الأعلم مع العلم بالمخالفة.

اما قوله: (و ان لم يكن هناك مجتهد أخر و لا رسالته إلخ) فمدركه انسداد باب العلم لاندراج مفروض الكلام تحت الكبرى الانسداد الصغير.

و ذلك لان مقدمات الانسداد تارة تجري في الوقائع العامة و الأحكام الكلية بالنسبة إلى معظم الأحكام فيسمى بالانسداد الكبير، و اخرى تجري في واقعة خاصة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 400

..........

______________________________

و بعض الأحكام، أو بعض الموضوعات فتسمى بالانسداد الصغير، و واضح ان المفروض في المقام واقعة واحدة.

تقريب الانسداد إجمالا هو ان المفروض في المقام هو تنجز التكليف على المكلف فلا بد من الخروج عنه و بابا العلم و العلمي منسدان في حقه و الرجوع الى البراءة فيه محذور و الاحتياط غير متيسر له فينحصر طريق الامتثال للمكلف بالامتثال غير العلمي و العقل يستقل عند تعذر الامتثال التفصيلي بالاكتفاء بالامتثال غير العلمي.

و بالجملة يدور الأمر بعد ذلك بين العمل بالظن أو بالشك أو بالوهم و العقل يحكم باختيار الأول دون الأخيرين.

و بعد تمامية المقدمات

ينتج حجية الظن حكومة أو كشفا على الاختلاف في كيفية تقريب المقدمات.

فحيث ان امتثال الكذائي ليس على نوال واحد بل يختلف فلا تصل النوبة إلى المرتبة التالية بعد التمكن من المرتبة السابقة.

و حيث ان ذهاب المشهور الى طرف يوجب كثير أما قوة الظن بذلك الطرف ذهب الماتن (قدس) بعد عدم التمكن من المراجعة الى غير الأعلم و عدم إمكان تأخير الواقعة إلى جواز العمل بقول المشهور بين العلماء.

و لكن لا يخفى ان في اقوائية الظن الحاصل من قول المشهور مطلقا تأملا.

ثم انه ان لم يكن هناك من يقدر على تعيين قول المشهور قال الماتن (قدس) يرجع الى أوثق الأموات مثلا يرجع الى الأعلم من الأموات من غيره و لو بالإضافة إلى المحصورين لتعذر تشخيص اعلم الأموات جميعا.

و إذا تعذر عليه ذلك يعمل بظنه، و مع عدم الظن له بأحد الطرفين فيعمل بأحد طرفي الاحتمال لأنه الميسور في حقه، و لا يسقط الميسور بالتعذر عن غير الميسور ثم انه على جميع التقادير- من العمل بفتوى غير الأعلم، أو قول أوثق الأموات أو ظن نفسه، أو العمل بأحد الطرفين- إذا تبين بعد ذلك مخالفته لفتوى مجتهده فعليه الإعادة أو القضاء كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 401

[مسئلة 61- إذا قلد مجتهدا ثم مات فقلد غيره ثم مات]

مسئلة 61- إذا قلد مجتهدا ثم مات فقلد غيره ثم مات فقلد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميت، أو جوازه فهل يبقى على تقليد المجتهد الأول أو الثاني؟ الأظهر الثاني (1) و الأحوط مراعاة الاحتياط

______________________________

(1) و حيث ان فتوى الحي بوجوب البقاء في مورد يكون الميت اعلم ففي صورة العلم بالاختلاف من حيث الفتوى، و لو إجمالا يجب البقاء على تقليد المجتهد

الأول، ان كان اعلم من الثاني، و يجب البقاء على الثاني ان كان بالعكس. و في صورة فتوى الحي بجواز البقاء يتخير بين البقاء على الأول أو الثاني، أو العدول منهما الى الثالث.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 402

..........

______________________________

أقول: يوجه ما ذهب اليه الماتن (قدس) في مفروض المسئلة بان تقليد المجتهد الأول قد انقطع بتقليد المجتهد الثاني المفروض صحته، فالرجوع إلى الأول بعد تقليد الثاني ليس من البقاء على تقليد الميت الذي جوزناه بل هو من التقليد الابتدائي الذي منعناه فاذا كانت فتوى المجتهد الثالث وجوب البقاء تعين البقاء على تقليد الثاني، و إذا كان رأيه جواز البقاء تخير بين البقاء عليه و العدول الى الثالث هذا.

و قد يناقش بان هذا مبني على عدم اعتبار فتوى المجتهد الأحق بالنسبة إلى الوقائع السابقة بدعوى ان التقليد الواقع في زمان- كتقليد المجتهد الثاني في المفروض- لا ينتقض بتقليد مجتهد أخر في زمان لاحق لعدم حجية رأي المجتهد الأحق بالإضافة إلى الوقائع السابقة المطابقة لرأي المجتهد في ذلك الزمان.

و لكن التحقيق كما أشرنا في مسئلة 53 يقتضي الانتقاض بناء على مسلك الإمامية من القول بالطريقية، و التخطئة في الطرق و الأمارات فإن القاعدة تقتضي عدم الاجزاء و فتوى المجتهد الثالث و ان كانت متأخرة من حيث الحجية و لكن نطاقها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من الابتداء.

و بالجملة بعد قيام فتوى الحي و ان كان لا يستكشف به عدم حجية فتوى المجتهد السابق الميت في ظرفه الا ان مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من حيث الابتداء كما هو كذلك بالنسبة إلى الانتهاء اتفاقا لعدم اختصاصها بعصر دون عصر ففتوى المجتهد اللاحق معتبرة

بالنسبة إلى الوقائع السابقة كما يكون

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 403

..........

______________________________

كذلك بالنسبة إلى الوقائع الاحقة اتفاقا فالعمل المأتي به على طبق الحجة السابقة باطل.

فعلى هذا الحق كما ذهب إليه جماعة من الأساطين التفصيل بين ما إذا كان مذهب الثالث وجوب البقاء أو جوازه فان كان مذهبه وجوب البقاء فالأظهر البقاء على التقليد الأول و اما ان كان مذهبه جواز البقاء فالبقاء على الثاني.

و الوجه في ذلك كما أفيد هو انه في صورة كون فتوى الثالث وجوب البقاء كان رجوعه الى الثاني بنظره في غير محله و تقليده إياه غير صحيح فيتعين عليه البقاء على الأول بخلاف ما إذا كانت فتواه جواز البقاء فإنه يكون رجوعه الى الثاني بنظره في محله و تقليده إياه من التقليد الصحيح فإذا أراد البقاء على تقليد الميت يتعين البقاء على تقليد الثاني دون الأول لانقطاع تقليده برجوعه عنه الى الثاني بتقليد صحيح فلا يكون رجوعه الى تقليد الأول من البقاء على تقليده بل هو تقليد ابتدائي من الميت «1».

و بالجملة فتوى المجتهد الثالث بوجوب البقاء على تقليد الميت يتصور في مورد يكون الميت اعلم فعلى ما ذكرنا من ان تقليد الأعلم انما هو فيما إذا علم مخالفة فتواه لغير الأعلم فإذا كان المجتهد الأول أعلم من الثاني و الثالث فيجب البقاء على تقليد الأول عند العلم بالمخالفة من حيث الفتوى و كذا إذا كان الأول اعلم بالنسبة الى الثاني فمع العلم بالمخالفة يجب البقاء.

و اما إذا كان الثاني اعلم من الأول ففي صورة العلم بالمخالفة من حيث الفتوى يجب عليه العدول من المجتهد الأول الى الثاني.

و اما إذا كان الحي أعلم من المجتهد

الأول و الثاني فمع العلم بالمخالفة من حيث الفتوى يجب العدول منهما اليه.

______________________________

(1) نهج الهدى/ 19

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 404

..........

______________________________

و إذا لم يعلم بالمخالفة من حيث الفتوى يجوز له البقاء على المجتهد الثاني كما يجوز له العدول الى الثالث كما يجوز له العدول من الأول بالنسبة الى الثاني، و الثالث.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 405

[مسئلة 62- يكفي في تحقق التقليد أخذ الرسالة]

مسئلة 62- يكفي في تحقق التقليد أخذ الرسالة (1) و الالتزام بالعمل بما فيها و ان لم يعلم ما فيها، و لم يعمل، فلو مات مجتهده يجوز له البقاء و ان كان الأحوط مع عدم العلم بل مع عدم العمل، و لو كان بعد العلم عدم البقاء و العدول إلى الحي

______________________________

(1) تقدم ما هو الحق في معنى التقليد و ما فرعه عليه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 406

..........

______________________________

أقول: الوجه فيما ذهب اليه الماتن (قدس) هو ان التقليد عنده عبارة عن الالتزام بالعمل بقول الغير فإذا أخذ الرسالة و التزم بالعمل بما فيها كفى في تحقق التقليد و ان لم يعلم بما فيها فضلا عن العمل به.

و قد تقدم ما هو الحق عندنا في معنى التقليد في المسئلة الثامنة، و قلنا ان التقليد عبارة عن العمل المستند إلى رأي الغير، أو الاستناد الى فتوى الغير في العمل فأخذ الرسالة. أو الالتزام، أو كليهما غير مرتبط بحقيقة التقليد نعم ربما يكون أمثال هذه الأمور من مقدمات تحقق التقليد فعلى المختار لا يصح البقاء على تقليد الميت بمجرد أخذ الرسالة و الالتزام بالعمل بما فيها.

و قد تقدم ان بعض الأساطين دام ظله مع ذهابه

الى ان التقليد عبارة عن العمل المستند الى قول الغير و مع ذلك يرى جواز البقاء أو وجوبه إذا تعلم فتاوى الميت و كان ذاكرا و مستحضرا لها و ان لم يعمل بها أصلا، و أشرنا إلى وجه ما ذهب اليه و الى ما فيه فلاحظ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 407

[مسئلة 63- في احتياطات الأعلم إذا لم تكن له فتوى]

مسئلة 63- في احتياطات الأعلم إذا لم تكن له فتوى يتخير المقلد (1) بين العمل بها، و بين الرجوع الى غيره الأعلم فالأعلم (2)

______________________________

(1) فيما إذا كانت احتياطات الأعلم من جهة عدم المراجعة إلى مستند الحكم و نحوه بحيث لا يخطئ فتوى غير الأعلم، و اما إذا كانت من جهة الخدشة و الاشكال في مستند الحكم بحيث يخطئ فتوى غيره، أو كان للأعلم فتوى بالاحتياط كما في موارد تعارض الأدلة و العلم الإجمالي فلا وجه للرجوع الى غير الأعلم.

(2) إذا علم مخالفة فتوى من هو دون الأعلم مع غيره و الا فلا يجب مراعاة الأعلم فالأعلم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 408

..........

______________________________

أقول: غاية ما يوجه للتخيير في الفرض هي اما بالنسبة إلى جواز العمل بالاحتياط فلما أسلفناه في أوائل الكتاب من جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي و قد عرفت عدم الإشكال في ذلك في غير العبادات و اما في العبادات و ان كان مختلفا فيها الا ان التحقيق كما أوضحناه جواز ذلك، و ان كان العمل بالاحتياط مستلزما لتكرار جملة العمل فلاحظ.

و اما جواز العمل و الرجوع الى غير الأعلم فلانة عالم بالحكم في الفرض لعدم كون الأعلم حسب الفرض عالما بالحكم و الا لما احتاط فيه فله المراجعة الى

من يكون عالما بالحكم و هو في الفرض غير الأعلم.

فتحصل ان المكلف في الفرض مخير بين الاحتياط و تقليد غير الأعلم فلو لم نجوز الاحتياط عند التمكن من الامتثال التفصيلي فيتعين عليه الرجوع الى غير الأعلم، كما انه ان لم نجوز الرجوع الى غير الأعلم يتعين عليه العمل بالاحتياط هذا.

و لكن في المقام كلاما أشرنا إليه في المسئلة الرابعة عشر و حاصله ان احتياطات الأعلم على أقسام.

فقسم منها يكون احتياطه لأجل عدم مراجعته بمدارك المسئلة كما هو حقه لاحتياج المسئلة الى فحص زائد لم يمكنه ذلك عجالة فيكون احتياطه في المسئلة بلحاظ كون الشبهة قبل الفحص و هي مورد الاحتياط.

و قسم أخر بلحاظ الخدشة و الاشكال بمدرك المسئلة و عدم تمامية ما يحتج به غير الأعلم لفتواه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 409

..........

______________________________

و قسم ثالث يفتي بالاحتياط كما في موارد العلم الإجمالي و تعارض الأدلة فالأعلم في الفرض و ان كان غير عالم بالحكم الواقعي الا انه عالم بالحكم الظاهري فيفتى بالاحتياط و ذلك كما إذا سافر إلى أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع من يومه مثلا أو خرج الى ما دون المسافة من محل إقامته الى غير ذلك من موارد تعارض الأدلة مع وجود العلم الإجمالي بوجوب القصر، أو التمام.

فان كان احتياط الأعلم من القسم الأول فحيث انه لم يكن له رأى و لا هو عالم بالحكم فيجوز له المراجعة الى غير الأعلم، و هو عالم بالحكم عارف بالمسئلة حسب الفرض فتشمله أدلة حجية الفتوى، كما يجوز له العمل بالاحتياط فهو مخير بينهما.

و على تقدير الرجوع هل لا بد من مراعاة الأعلم فالأعلم أم لا وجهان.

فبناء على المختار من ان

لزوم تقليد الأعلم انما هو فيما إذا علم تفصيلا أو إجمالا بمخالفة فتوى الأعلم مع غيره، فان علم كذلك يلزم مراعاة الأعلم فالأعلم بالنسبة الى غير الأعلم و الا يجوز تقليد غير الأعلم من دون ملاحظة الأعلم فالأعلم و اما ان كان احتياطه من القسم الثاني فلا وجه للرجوع الى غير الأعلم لان مدرك فتوى غير الأعلم حسب الفرض مخدوش في نظر الأعلم و الأعلم يرى فساد فتواه المستندة الى ما لا يصلح للاحتجاج به.

و بالجملة الأعلم حسب الفرض يرى عدم استقامة فتوى غير الأعلم و يخطئه فيما افتى به فلا يسوغ معه للرجوع الى غيره فيتعين على العامي عند ذاك الاحتياط.

و نحوه بل و اولى منه في عدم جواز الرجوع ما إذا كان الأعلم يفتي بالاحتياط فإنه و ان لم يكن للأعلم فتوى بالحكم الواقعي الا انه عالم بالحكم الظاهري و لذا يفتي بالاحتياط فليس للعامي في الفرض أيضا المراجعة الى غير الأعلم فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 411

[مسئلة 64- الاحتياط المذكور في الرسالة]

مسئلة 64- الاحتياط المذكور في الرسالة اما استحبابي- و هو ما إذا كان مسبوقا، أو ملحوقا بالفتوى- و اما وجوبي- و هو ما لم يكن معه فتوى- و يسمى بالاحتياط المطلق، و فيه يتخير المقلد (1) بين العمل به و الرجوع الى مجتهد أخر، و اما القسم الأول فلا يجب العمل به و لا يجوز الرجوع الى الغير (2) بل يتخير بين العمل بمقتضى الفتوى و بين العمل به

______________________________

(1) في إطلاقه إشكال بل منع يعلم مما علقناه على المسئلة المتقدمة

(2) فيما لم تكن فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط، و الا فإن كانت فتواه موافقة للاحتياط أو كانت فتواه

أوفق بالاحتياط من فتوى الأخر فالجواز لا يخلو عن بعد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 412

..........

______________________________

أقول: و لا يخفى ان إطلاق عنوان المسئلة حيث لم يفرض اعلمية أحدهما و ان كان يعم صورة تساوى المجتهدين من حيث العلم و الفضيلة و لذا وقع الاشكال من العلامة المامقاني (قدس) بأن الأقوى جواز الرجوع الى الغير ما لم يعمل بفتوى الأول مع تساويهما في العلم و التقوى اه الا ان الظاهر ان الماتن (قدس) لم يكن بصدد بيان ذلك حتى يؤخذ بإطلاق كلامه بل بصدد انه على تقدير لزوم تقليد الأعلم- كما صرح به مرارا و بيّنه في المسئلة السابقة- اما يكون للأعلم فتوى في المسئلة أولا فهو بصدد بيان قسمي الاحتياط الوجوبي و الاستحبابي في رأي الأعلم من حيث المراجعة إلى الغير و عدمه فتدبر.

إذا تمهد لك ما ذكرنا فنقول: اما حديث التخيير في الاحتياط المطلق بين العمل بالاحتياط و الرجوع الى المجتهد الأخر فقد أشرنا إليه في المسئلة السابقة، و قد أشرنا الى عدم تمامية التخيير مطلقا فلاحظ.

و اما عدم جواز الرجوع الى الغير في الاحتياط الاستحبابي فلأنه في الفرض يكون للأعلم فتوى في المسئلة و ان كانت فتواه مخالفة للاحتياط و لا يصح مع ذلك الاستناد الى قول غير الأعلم و ان كانت فتواه موافقة للاحتياط.

و بالجملة كما أفيد الرجوع الى غير الأعلم في المفروض و تطبيق العمل على رأيه في مقام الامتثال بعنوان الوجوب أو تركه بعنوان الحرمة مع قيام الحجة على عدم وجوبه أو عدم حرمته يكون نحو تشريع.

هذا ما يتعلق بتوجيه ما في المتن.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 413

..........

______________________________

و لكن

علق عليه ثلة من الأعلام و خصوا عدم جواز الرجوع الى الغير بما إذا كانت فتواه مخالفة للاحتياط و اما إذا وافقت فتواه للاحتياط فيجوز المراجعة إليه هذا.

و لا يخفى ان ما في المتن يتم على مبني الماتن (قدس) و من يرى لزوم تقليد الأعلم مطلقا.

و لكن تقدم منا ان لزوم تقليد الأعلم انما هو إذا كانت فتواه موافقة للاحتياط عند الاختلاف بينه و بين غير الأعلم فعلى هذا نقول في مفروض المتن ان كانت فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط فيجوز الرجوع الى غير الأعلم و لا يصدق التشريع المحرم لأن العامي في الفرض مخير في المراجعة الى اى من الأعلم و غيره.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 415

[مسئلة 65- في صورة تساوى المجتهدين يتخير بين تقليد أيهما شاء]

مسئلة 65- في صورة تساوى المجتهدين يتخير بين تقليد أيهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد (1) حتى انه لو كان مثلا فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة، و استحباب التثليث في التسبيحات الأربع، و فتوى الأخر بالعكس يجوز ان يقلد الأول في استحباب التثليث، و الثاني في استحباب الجلسة

______________________________

(1) الأحوط ترك التبعيض في مثل مفروض المتن، بل لا يخلو ترك التبعيض عن قوة في الموارد التي يحصل له العلم التفصيلي بالبطلان كما إذا كان أمران متلازمان وجودا و عدما كالصوم و إتمام الصلاة، و القصر و الإفطار فلا يجوز تقليد أحدهما في الصوم أو القصر، و الأخر في إتمام الصلاة أو الإفطار.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 416

..........

______________________________

أقول: تعرض (قدس) لمسئلة التخيير في تقليد اى المجتهدين المتساويين و مسئلة جواز التبعيض في تقليدهما في المسئلة الثالثة و الثلاثين.

و السر في إعادتهما هنا

للتنبيه على جواز التبعيض حتى في عمل واحد.

اما حديث التخيير في تقليد اى المجتهدين المتساويين فقد تقدم وجهه في المسئلة و قلنا هناك انه في صورة تساوى المجتهدين من حيث الفضيلة إذا توافقا في الفتوى يجوز تقليد أيهما شاء- اعنى الاستناد إلى أيهما شاء- كما يصح الاستناد إليهما و اما إذا اختلفا من حيث الفتوى فتكون فتواهما بمنزلة الخبرين المتعارضين و مقتضى القاعدة و ان كان هو التساقط الا انه ببركة الاخبار العلاجية نقول بالتخيير ان لم تكن لأحدهما مزية بل الفتوايان في الحقيقة خبران لان كلا منهما يخبر عن الواقع بنظره فتجري فيهما ما يجري في الخبرين المتعارضين.

و لكن بعض الأساطين دام ظله ناقش في دلالة الأخبار العلاجية على التخيير بين الخبرين المتعارضين أولا ثم على تقدير دلالتها على التخيير بين الخبرين المتعارضين لأنعم الفتويين المتعارضين و لذا علق على المتن بلزوم الأخذ بما هو الأحوط.

و لكن تقدم الكلام مفصلا في مقاله و أشرنا الى ما هو الحق و ان القاعدة الأولية و ان كانت التساقط الا ان النص و الإجماع متطابقان على التخيير بين الأمارتين المتعارضتين فلاحظ.

ثم انه على التخيير هل يجوز التبعيض في التقليد مطلقا و لو في عمل واحد أو يخص بما إذا لم تكن في عمل واحد وجهان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 417

..........

______________________________

يظهر من بعض الشراح و المعلقين: عدم جواز التبعيض في عمل واحد و حاصل ما يوجه لهم.

هو ان الصلاة الفائدة لجلسة الاستراحة مثلا المقتصر فيها على تسبيحة واحدة باطلة في نظر كل من المجتهدين فالاقتصار عليها في مقام الامتثال مخالفة لهما معا.

و بالجملة التبعيض في عمل واحد يؤدى الى بطلان العمل بنظر

كليهما، فالصلاة في مفروض المتن تكون باطلة عند كل منهما بلحاظ فقدها الجزء الذي يعتبره أحدهما و لا يعتبره الأخر لأن المفروض أنها فاقدة للجزئين معا فالقائل بعدم وجوب جلسة الاستراحة يرى بطلانها من جهة فقدها جلسة الاستراحة كما ان القائل بعدم وجوب الزائد على التسبيحة الواحدة يرى بطلانها من فقدها جلسة الاستراحة فهي باطلة في نظر كليهما و ان اختلفا في وجه البطلان اه.

و لكنه يندفع الاشكال كما أفيد بأنه بعد البناء على جواز التبعيض في التقليد يمكن تصحيح العمل الواحد حيث انه لم يستند الى قول كل منهما مستقلا بل استند الى مجموع القولين و ضم أحدهما إلى الأخر فيصح، لان كلا من المجتهدين يرى صحة العمل من ناحية ترك ما يراه الأخر معتبرا فإن القائل باستحباب التثليث يرى صحة الصلاة عند الاكتفاء بواحدة، و ان كان الأخر يرى بطلانها من هذه الجهة و و هكذا العكس فاذا قلد من يقول بالصحة كفى في مقام الامتثال و ان كان الأخر يقول بالبطلان لعدم حجية قوله ما لم يختره في مقام التقليد التخييري.

و بالجملة ان المكلف يستند في صحة العمل و عدم وجوب الإعادة إلى مجموع القولين و ضم أحدهما إلى الأخر لا الى كل منهما مستقلا.

نعم ان حصل العلم التفصيلي بالبطلان من ناحية التبعيض فلا يجوز و ذلك فيما إذا كان هناك أمران متلازمان وجودا أو عدما كالصوم و إتمام الصلاة، و القصر

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 418

..........

______________________________

و الإفطار لأن المستفاد من الأدلة الملازمة الواقعية بين وجوب التمام و وجوب الصوم و لزوم القصر و الإفطار إلا في بعض الموارد فلا يجوز تقليد أحد المجتهدين في

إتمام الصلاة، و تقليد الأخر في الإفطار في موارد الخلاف في وجوب القصر و التمام «1».

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 247

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 419

[مسئلة 66- لا يخفى ان تشخيص موارد الاحتياط عسر على العامي]

اشارة

مسئلة 66- لا يخفى ان تشخيص موارد الاحتياط عسر على العامي (1) إذ لا بد فيه من الاطلاع التام و مع ذلك قد يتعارض الاحتياطان فلا بد من الترجيح، و قد لا يلتفت الى إشكال المسئلة حتى يحتاط و قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط- مثلا- الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، لكن إذا فرض انحصار الماء فيه الأحوط التوضؤ به بل يجب ذلك بناء على كون احتياط الترك استحبابيا و الأحوط الجمع بين التوضؤ به و التيمم، و أيضا الأحوط التثليث في التسبيحات الأربع لكن إذا كان في ضيق الوقت، و يلزم من التثليث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت فالأحوط ترك هذا الاحتياط، أو يلزم تركه، و كذا التيمم بالجص خلاف الاحتياط لكن إذا لم يكن معه الا هذا فالأحوط التيمم به، و إذا كان عنده الطين مثلا فالأحوط الجمع و هكذا.

______________________________

(1) بل لغالب طلبة أهل العلم، و ربما يكون ذلك من العامي غير ممكن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 420

..........

______________________________

أقول: تقدم الكلام فيما يرتبط بهذه المسئلة في ذيل المسئلة الثانية عند قوله (قدس) يجب ان يكون عارفا بكيفية الاحتياط أو التقليد فلاحظ.

تشخيص موارد الاحتياط متعسر بل ربما يكون متعذرا

و مقتضى تعليله (قدس) عسرية الاحتياط بلابديه الاطلاع التام هو عدم تمكن العامي من الاحتياط في غالب الموارد، افرض انه إذا لم يكن للمكلف ماء الا بمقدار يصرفه في غسله الواجب، و يكون هناك عطشان، و يكون له فرس يحتاج إليها في سفره محتاجة إلى الماء، و هناك ميت له، محتاج الى الغسل، و في نفس الوقت جنب، و محدث بالأصغر محتاجين الى الماء إذا كانا متعلقين به الى غير ذلك من

الفروض، فأين للعوام؟! و انى له من إحراز الأهمية و الجزم بترجيح أحدهما بالنسبة إلى الأخر، و لو فرض له ترجيح بعض هذه الأمور على الأخر فانى له من الترجيح في جميع الفروض؟! و لك ان تتفطن مما ذكرنا و ترى عدم تمكن ذلك من غالب طلبة أهل العلم إلا الأوحدي منهم.

و لو تنزلنا عما ذكرنا فلا أقل تشخيص موارد الاحتياط على طلبة العلم عسر فلا وجه لاختصاصه كما في المتن بالعامى هذا.

و كيف كان كما في المتن فقد يتعارض الاحتياطان فلا بد من الترجيح و هو موقوف على إحراز مرتبة أهمية كل واحد منها و تمييز الأهم عن المهم، و الاطلاع بباب التزاحم من الأهمية تارة و كونه ما لا بد له بالنسبة إلى ماله البدل اخرى، و كونه حق اللّه تعالى، أو حق الناس ثالثة، و ان القدرة المعتبرة فيه عقلية، أو شرعية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 421

..........

______________________________

رابعة الى غير ذلك من مرجحات باب التزاحم.

و انى لغير الأوحدي من طلبة العلم فضلا عن العوام معرفة ذلك؟

و قد لا يلتفت الشخص إلى إشكال المسئلة حتى يحتاط مع ان الالتفات و التوجه من محققات الاحتياط.

و قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط كالتوضأ بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر حيث وقع الاختلاف في رافعيته للحدث على أقوال فعند ذلك و ان كان الأحوط ترك التوضأ به لكن إذا فرض انحصار الماء فيه يكون الأحوط التوضأ به، بل يجب ذلك في الفرض إذا كان احتياط الترك استحبابيا و ذلك واضح و الأحوط منه الجمع بين التوضؤ به و التيمم.

و أيضا الأحوط التثليث في التسبيحات الأربع لوجود القول بوجوبها لكن إذا

كان في ضيق الوقت و يلزم وقوع بعض الصلاة خارج الوقت لو أتى بها ثلاثا، أو كان له حاجة مهمة لا يمكنه تركها، أو كان له سلس البول يخاف صدوره في الأثناء لو جاء بالثلاثة الى غير ذلك فالأحوط ترك هذا الاحتياط، بل يلزم تركه إذا على منه ذلك و كذا التيمم بالجص فان الأحوط و ان كان ترك التيمم به لاحتمال كونه معدنا خارجا عن عنوان الأرضية أو الترابية لكن إذا لم يكن معه الا هذا فالأحوط التيمم به و ان كان عنده الطين مثلا فالأحوط الجمع بينهما و هكذا سائر موارد تعارض الاحتياط فإنها كثيرة في أبواب الفقه لا يمكن للعوام بل بعض طلبة العلم تحصيله فضلا عن كونه عسرا عليهم كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 423

[مسئلة 67- محل التقليد و مورده هو الأحكام الفرعية]

اشارة

مسئلة 67- محل التقليد و مورده هو الأحكام الفرعية العملية (1) فلا يجري في أصول الدين (2) و في مسائل أصول الفقه (3)، و لا في مبادي الاستنباط (4) من النحو، و الصرف

______________________________

(1) لا اختصاص بذلك، بل يصح في كل ما يحوج المكلف الى دق باب الشرع لتعيين ما هو وظيفته و استعلام حكمه.

(2) و لكن ان حصل له الجزم بالتقليد يكفى له ذلك و ان كان الأحوط الأولى تحصيل البرهان على ذلك.

(3) إذا لم ينفعه ذلك في مقام العمل كما هو الغالب في المقلدين و اما المقلد البالغ مرتبة قربية من الاجتهاد مثلا فيصح منه التقليد في مسئلة أصولية حيث ينقح له المجتهد مجرى المسئلة كما هو الشأن في القواعد الفقهية التي يكون تنقيح مجراها بعهدة المجتهد فيعمل بمقتضاها، و ذلك كما في مثل موارد تعارض الخبرين

المتساويين فيقلد المجتهد في جواز الأخذ بأخذ الخبرين المتعارضين فيأخذ أحدهما الظاهر أو النص في مفاده فيعمل بمقتضاه.

(4) قد أشرنا ان إطلاق منع التقليد فيها لا تخلو عن نظر، و قد يكون المقلد اعرف بكلياتها و قواعدها من المجتهد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 424

و نحوهما و لا في الموضوعات المستنبطة العرفية، أو اللغوية (1) و لا في الموضوعات الصرفة، فلو شك المقلد في مائع انه خمر أو خل- مثلا- و قال المجتهد انه خمر لا يجوز له تقليده نعم من حيث انه مخبر عادل يقبل قوله كما في اخبار العامي العادل، و هكذا، و اما الموضوعات المستنبطة الشرعية كالصلاة و الصوم و نحوهما فيجري التقليد فيها كالأحكام العلمية.

______________________________

(1) الموضوع المستنبط عرفا، أو لغة إذا لم يكن مفهومه بحدوده واضحا مبينا و ان لم يكن بنفسه موردا للتقليد، و لكنه باستتباعه للحكم الشرعي يكون موردا له فالأظهر عدم الفرق في جواز التقليد في الموضوع المستنبط بين كونه شرعيا أو عرفيا، أو لغويا و يكون التقليد فيها بلحاظ استتباع الحكم الشرعي مساوق للتقليد في الحكم الشرعي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 425

..........

______________________________

أ قول: صرح (قدس) بان محل التقليد و مورده انما هو الأحكام الفرعية، و الموضوعات المستنبطة الشرعية فنفى التقليد في أصول الدين، و في مسائل أصول الفقه، و مبادي الاستنباط و الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية و الموضوعات الصرفة.

تقدم الكلام مفصلا في جواز التقليد في الأحكام الفرعية العملية عند بيان مشروعية التقليد قبال الأخباريين فلاحظ، و سيظهر لك حال الموضوعات المستنبطة و المهم في هذه المسئلة ملاحظة الموارد التي صرح الماتن (قدس) بعدم جواز التقليد

فيها و بيان ما هو المختار فيها.

التقليد في أصول الدين

اختلفوا في جريان التقليد في أصول الدين و عدمه على أقوال.

قال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس) ان الأقوال المستفاد من تتبع كلمات العلماء في أصول الدين من حيث وجوب مطلق المعرفة أو الحاصلة من خصوص النظر، و كفاية الظن مطلقا أو في الجملة ستة.

الأقوال في معرفة أصول الدين

الأول: اعتبار العلم فيها من النظر و الاستدلال، و هو المعروف بينهم، و ادعى عليه العلامة في الباب الحادي عشر إجماع العلماء كافة، و ربما يحكى ذلك عن العضدي، و لكن الموجود منه في مسئلة عدم جواز التقليد في العقليات، من أصول الدين، دعوى إجماع الأمة على وجوب معرفة اللّه تعالى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 426

..........

______________________________

الثاني: اعتبار العلم و لو من التقليد، و هو المصرح به في كلام بعض، و المحكى عن آخرين.

الثالث: كفاية الظن مطلقا و هو المحكى عن جماعة منهم المحقق الطوسي و المحقق الأردبيلي، و صاحب المدارك، و ظاهر شيخنا البهائي، و العلامة المجلسي و المحدث الكاشاني و غيرهم (قدس اللّه أسرارهم).

الرابع: كفاية الظن من النظر و الاستدلال دون التقليد، و عن شيخنا البهائي نسبته الى بعض.

الخامس: كفاية الظن المستفاد من اخبار الآحاد و هو الظاهر مما حكاه العلامة في النهاية عن الأخباريين من انهم لم يعولوا في أصول الدين و فروعه الأعلى اخبار الآحاد، و حكاه الشيخ في العدة في مسئلة حجية اخبار الآحاد عن بعض غفلة أصحاب الحديث، و الظاهر ان مراده حملة الأحاديث الجامدون على ظواهرها المعرضون عما عداها من البراهين العقلية المعارضة لتلك الظواهر.

السادس: كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجبا مستقلا لكنه معفو عنه كما يظهر من آخر عدة الشيخ و في مسئلة حجية اخبار

الآحاد اه «1».

صرح المحقق القمي (قدس) بان هذه المسئلة من المشكلات «2».

و قد يقال: كيف يدعى إجماع المسلمين على لزوم النظر و الاجتهاد فيها مع وجود الخلاف الواضح بين الأصحاب، مع ان مورد الإجماع في كلماتهم غير منقح بل يكون أعمى و أصم فهل يرون لزوم النظر و الاجتهاد في جميع مسائل أصول الدين أو بعضها؟ و هل يرون لزوم ذلك بحيث يكون تارك النظر و الاجتهاد كافرا؟! و كيف يدعى ذلك؟! مع ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يكتفى بإسلام، و ايمان من يقر بالشهادتين

______________________________

(1) الأمر الخامس من تنبيهات الانسداد من الفرائد/ 160

(2) قوانين الأصول ج 2/ 164 المطبوع على خط عبد الرحيم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 427

..........

______________________________

و لم يكلفهم بوجوب النظر و الاجتهاد، و لو كان واجبا لنقل و ذكر في كتب السير و الاخبار، و لو في ضمن رواية ضعيفة لتوفر الدواعي، و الاحتياجات، و الثاني باطل فالمقدم مثله و لو كان ذلك لازما فعلى الإسلام و المسلمين السلام لاستلزامه- و العياذ باللّه- خروج غير الأوحدي من العلماء فضلا عن العوام عن ربقة الإسلام.

مسائل أصول الدين على قسمين

و كيف كان كما افاده الشيخ (قدس) ان مسائل أصول الدين- و هي التي يطلب فيها أولا بالذات الاعتقاد باطنا و التدين بها ظاهرا- على قسمين.

أحدها: ما يجب على المكلف الاعتقاد و التدين به بنحو الواجب المطلق فيجب تحصيلها و يكون تحصيل العلم من المقدمات الواجب المطلق كمعرفة اللّه، و صفاته، و معرفة النبي، و الأئمة صلوات عليهم، و المعاد.

و الثاني: ما يجب الاعتقاد و التدين به إذا اتفق حصول العلم به كبعض تفاصيل معرفة اللّه، و النبي و

الأئمة و المعاد.

و لا يخفى ان الفرق بين القسمين و تمييز ما يجب تحصيل العلم به عما لا يجب في غاية الاشكال.

و قد ذكر العلامة (قدس) في الباب الحادي عشر انه يجب على كل مكلف معرفة تفاصيل التوحيد، و النبوة، و الإمامة و المعاد، و استدل لذلك بأمور، و ادعى ان الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإسلام و الايمان مستحق للعذاب الدائم و لكن لا يخفى ان الأمور التي ذكرها لا تدل على وجوبها كذلك، و الحكم بخروج الجاهل بها عن النظر و الاستدلال عن ربقة الإسلام في غاية الإشكال اه «1».

نعم كما افاده المحقق الخراساني (قدس): ان العقل يستقل بوجوب معرفة الواجب تعالى، و صفاته أداء لشكر بعض نعمائه، و معرفة أنبيائه فإنهم وسائط نعمة و آلائه، بل و كذا معرفة الامام على وجه صحيح- يعنى على كون الإمامة كالنبوة منصبا إلهيا يحتاج الى تعيينه تعالى و نصبه- لا انها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين

______________________________

(1) الأمر الخامس من تنبيهات الانسداد من الفرائد/ 160

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 428

..........

______________________________

و هو الوجه الأخر «1».

و الشيخ (قدس) بعد ان استدل بالآيات و الاخبار على الزوم المعرفة- على اشكال في دلالتها كما أشار إليه المحقق الخراساني (ره)- تصدى لبيان المقدار الواجب معرفته و حاصل ما أفاده في ذلك هو:

المقدار اللازم معرفته من أصول الدين

انه يكتفى في معرفة الرب التصديق بكونه موجودا و واجب الوجود لذاته، و التصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم و القدرة و نفى الصفات الراجعة إلى الحاجة و الحدوث و انه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا.

و المراد بمعرفة هذه الأمور ركوزها في اعتقاد المكلف بحيث

إذا سئلته عن شي ء مما ذكر أجاب بما هو الحق فيه و ان لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على السنة الخواص.

و يكتفى في معرفة النبي صلّى اللّه عليه و آله معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به، و التصديق بنبوته و صدقه، و اما اعتبار عصمته فوجهان و يكتفى في معرفة الأئمة عليهم السّلام بنسبهم المعروف و التصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق و يجب الانقياد لهم (إليهم) و الأخذ منهم و في وجوب الاعتقاد بعصمتهم الوجهان و يكفي في التصديق بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله التصديق بما علم مجيئه به متواترا من أحوال المبدء و المعاد.

و يمكن ان يقال ان معرفة ما عدى النبوة و الإمامة و المعاد واجبة بالاستقلال على من هو متمكن منه بحسب الاستعداد و عدم الموانع لعمومات وجوب التفقه، و ان الجهل بمراتب سفراء اللّه جل ذكره مع تيسر العلم بها تقصير في حقهم، و تفريط في حبهم و نقص يجب بحكم العقل رفعه بل من أعظم النقائص.

و بالجملة فالقول بأنه يكفي في الايمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 154

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 429

..........

______________________________

للكمالات المبرء عن النقائص، و بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و بإمامة الأئمة عليهم السّلام، و البراءة من أعدائهم، و الاعتقاد بالمعاد الجسماني غير بعيد بالنظر الى الاخبار و حكم العقل و السيرة المستمرة.

و اما التدين بسائر الضروريات ففي اشتراطه، أو كفاية عدم إنكارها، أو عدم اشتراطه أيضا فلا يضر إنكارها الا مع العلم بكونها من الدين وجوه اقويها الأخير ثم الأوسط.

ثم قال (قدس) ما حاصله انه بعد ما عرفت القسمين

من أصول الدين و ان منها ما لا يجب الاعتقاد به الأبعد حصول العلم، و منها ما يجب الاعتقاد به مطلقا، و لا يجوز العمل في القسم الأول بغير العلم.

لا يجوز الاقتصار على الظن بها مع القدرة على العلم

و اما في القسم الثاني فاجماله فلا ينبغي الإشكال في عدم جواز الاقتصار فيها على الظن مع القدرة على تحصيل العلم، و يجب على العلماء امره بزيادة النظر ليحصل له العلم ان لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحق.

يدل على ذلك الآيات و الاخبار الدالة على وجوب الايمان، و التفقه، و العلم و المعرفة، و التصديق، و الإقرار، و الشهادة، و التدين، و عدم الرخصة في الجهل و الشك، و ضائعة الظن و هي أكثر من تحصى.

و لا ينبغي الإشكال في الحكم بعدم الايمان للقادر المتمكن من تحصيل العلم إذا اكتفى بالظن، و ذلك للأخبار المفسرة للايمان بالإقرار، و الشهادة، و التدين، و المعرفة و غير ذلك من العباثر الظاهرة في العلم، و اما الحكم بكفره مع ظنه بالحق وجهان نعم في الظان بالباطل فالظاهر كفره.

كفاية الاعتقاد بأصول الدين و لو من جهة التقليد

و كيف كان على تقدير اعتبار الجزم هل يكفى ذلك؟ أو لا بد من النظر و الاستدلال وجهان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 430

..........

______________________________

ظاهر الأكثر منهم المحقق في المعارج و العلامة في الباب الحادي عشر الثاني و عدم كفاية الجزم الحاصل بالتقليد.

و لكن الأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد لعدم الدليل على اعتبار الزائد على المعرفة و التصديق و الاعتقاد و تقييدها بطريق خاص لا دليل عليه.

مع ان الإنصاف ان النظر و الاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطن لوجوب النظر في الأصول لا يفيد بنفسه الجزم لكثرة الشبه الحادثة في النفس، و المدونة في الكتب حتى انهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحققين الصارفين لأعمارهم في فن الكلام فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لأجل تصحيح عقائده لتشتغل بعد ذلك بأمور معاشه و معاده

خصوصا و الشيطان يغتنم الفرصة لإلغاء الشبهات و التشكيكات، و قد شاهدنا جماعة قد صرفوا أعمارهم و لم يحصلوا منه شيئا إلا القليل هذا في القادر المتمكن من تحصيل العلم.

حكم غير المتمكن من تحصيل العلم بأصول الدين

و اما غير المتمكن من العلم فالكلام فيه تارة في تحقق موضوعه في الخارج و اخرى في لزوم تحصيل الظن عليه مع الياس من العلم، و ثالثة في حكمه الوضعي قيل الظن و بعده.

و حاصل ما افاده (قدس) في الأول هو انه و ان قيل بعدم وجود القاصر في الخارج الا ان الذي يقتضيه الإنصاف بشهادة الوجدان قصور بعض المكلفين.

و قال في الثاني: الظاهر عدم وجوب تحصيل الظن لان المفروض عجزه عن الايمان و التصديق المأمور به و لا دليل أخر على عدم جواز التوقف- لجواز اعتقاد الواقع على ما هو عليه و ان لم يعلمه بعينه- و ليس المقام من قبيل الفروع من وجوب العمل بالظن مع تعذر العلم لأن المقصود فيها العمل فلا معنى للتوقف فيه و لا بد عند انسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظن.

و المقصود فيما نحن فيه الاعتقاد فاذا عجز عنه فلا دليل على وجوب الظن الذي لا يعنى من الحق شيئا فيندرج في عموم قولهم إذا جائكم ما لا تعلمون فها- اى اسكت.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 431

..........

______________________________

نعم لو رجع الجاهل بحكم هذه المسئلة الى العالم و رأى العالم منه التمكن من تحصيل الظن بالحق و لم يخف عليه إقصاء نظره الظني إلى الباطل فلا يبعد وجوب إلزامه بالتحصيل لان انكشاف الحق و لو ظنا اولى من البقاء على الشك فيه و قال في الثالث انه ان لم يقر

في الظاهر بما هو مناط الإسلام فالظاهر كفره، فإن أقربه مع العلم بأنه شاكّ باطنا فالظاهر عدم إسلامه بناء على ان الإقرار الظاهري مشروط باحتمال اعتقاده لما يقر به- و مع العلم بأنه شاك لا مجرى له.

و في جريان حكم الكفر عليه حينئذ إشكال: من إطلاق بعض الاخبار بكفر الشاك و من تقييده في غير واحد من الاخبار بالجحود.

و على التقديرين فظاهرها ان المقر ظاهرا الشاك باطنا غير المظهر لشكه غير كافر إلى أخر ما افاده.

انتهى حاصل ما افاده الشيخ (قدس) في الأمر الخامس من تنبيهات الانسداد من الفرائد، و السر في إيراد ما افاده- مع طوله- نفاسة ما أفاده في حد نفسه، و جلالة القائل به و عظمته و هو ممن يقتدى به في العلم و العمل، و عدم مراجعة غالب طلبة أهل علم زماننا، الى هذه المباحث من الفرائد، و من أراد ان يشرب من عينه الصافي فليلاحظ الفرائد و ليكن من الشاكرين.

فتحصل: مما ذكرنا كله ان المعتبر في أصول الدين هو اليقين و الاعتقاد و العرفان و نحوها و لا يكاد يتحقق شي ء منها بالتقليد الذي عبارة عن عقد القلب في تلك الأمور على قول الغير، بل كما أشرنا ان هذا هو القدر المتيقن مما دل على ذم التقليد و اتباع قول الغير.

نعم ان حصل من قول الغير العلم و اليقين بأصول الدين- كما لعله الغالب- فالصحيح جواز الاكتفاء به لما عرفت ان المطلوب في الاعتقاديات هو العلم و اليقين بلا فرق في ذلك بين أسبابها، و لا دليل على اعتبار الزائد على المعرفة و اليقين و الاعتقاد و تقييدها بطريق خاص لا دليل عليه و اللّه العالم بحقائق الأمور.

الدر النضيد في

الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 432

التقليد في مسائل أصول الفقه

______________________________

مسائل أصول الفقه هي كبريات آليات لو انضم إليها صغرياتها لاستنتج منها أحكام كليات آليات.

الاختلاف في جريان التقليد في مسائل أصول الفقه

وقع الخلاف بينهم في جريان التقليد في مسائل أصول الفقه فمنهم كالماتن و ثلة من المعلقين ذهبوا الى عدم جريان التقليد فيها.

و منهم من لم ير فرقا بينها و بين المسائل الفقهية في جريان التقليد فيها.

و قد يرى جريان التقليد في بعض مسائله.

فمنهم كسيد مشايخنا (قدس) ذهب الى جريان التقليد فيه إذا فرض وقوعها محلا للابتلاء و لو بتوسط النذر و شبهه.

و منهم من ذهب الى انه قد يتفق التقليد في ذلك كما في مورد تعارض الخبرين و فتوى المقلد بجواز أخذه بأي الخبرين شاء.

و منهم من يرى انه لا محذور في ان يقلد المجتهد في مسئلة من مسائل أصول الفقه فيستنبط منها الأحكام إذا تم عنده باقي المقدمات من فهم الظواهر و تمكنه من الفحص عن المعارض على نحو لا يكون فرق بينه و بين المجتهد في مقام التطبيق فيجوز له ان يعمل بما استنبط و ان لم يجز رجوع الغير اليه.

ما يستدل به لعدم جريان التقليد فيها

يستدل لعدم جريان التقليد فيها مضافا الى دعوى الإجماع كما عن تقريرات الشيخ، انصراف أدلة التقليد عن مسائل أصول الفقه لخروجها عن محل ابتلاء العامي أو لأن التقليد كما تقدم عبارة عن نفس العمل مستندا إلى رأي الغير، أو الاستناد إليه في مقام العمل و لا عمل في المسائل الأصولية بلا واسطة، و لا يجوز العمل بالأصول و الأمارات و القواعد المهمة لمن لا يقدر على تنقيح مجاريها و معرفة معارضاتها و التوفيق بينها.

و لا يخفى ان الظاهر من كلمات الأصحاب ان محل الكلام في عدم جريان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 433

..........

______________________________

التقليد في المسائل الأصولية ليس خصوص العامي المحض حتى يقال بأنه لا ثمرة له

الا في النذر، بل المراد من لم يتمكن من استخراج المسائل الفقهية عن أدلتها إلا باستعانته بالتقليد في بعض جهاتها.

ففي مسئلة الضد مثلا إذا لم يمكنه التصديق بمسئلة الترتب مثلا فاذا توقف استنباط حكم على أمور نقحها و لكن لم يمكنه الجزم بمسئلة الترتب فيقع الكلام في انه هل يمكنه التقليد في مسئلة الترتب و الإفتاء بالمسئلة أم لا بد من تنقيح ما يرتبط بالمسئلة من جميع جوانبها.

بيان المختار في جريان التقليد في مسائل أصول الفقه

و الذي ينبغي ان يقال انه لا مانع من شمول إطلاقات أدلة التقليد لمطلق الأحكام الشرعية الفرعية و الأصولية فلا محذور في ان يقلد مجتهدا في مسئلة من مسائل أصول الفقه فيستنبط منها الأحكام إذا تمت عنده سائر المقدمات: من فهم الظاهر و تمكنه من الفحص عن المعارض على نحو لا يكون فرق بينه و بين المجتهد في مقام التطبيق فيجوز له ان يعمل بما استنبط.

فاذا الواجد لملكة الاستنباط إذا لم يتمكن من استنباط بعض المسائل الأصولية كحجية خبر الواحد مثلا أو الاستصحاب أو التخيير في تعارض الخبرين، أو غيرها يجوز له ان يقلد في تلك المسائل و يستنبط الأحكام الفرعية فهو متوسط بين المقلد الصرف و المجتهد كذلك.

و لك ان تقول ان مقتضى ما دل على مشروعية التقليد التي عمدتها بناء العقلاء في رجوع الجاهل الى العالم عدم الفرق بين المسائل الأصولية و غيرها، و لذا ترى جريان التقليد في شرائط حجية قول المجتهد و قد صرح بها الماتن (قدس) في المسئلة الثانية و العشرين مع انها من المسائل الأصولية.

و يلائم ما ذكرنا ما افتى به الماتن (قدس) في المسئلة الخامسة عشر بوجوب رجوع العامي إلى الأعلم في جواز البقاء و عدمه، و في المسئلة السادسة

و الأربعين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 434

..........

______________________________

بأنه يجب على العامي أن يقلد الأعلم في مسئلة وجوب تقليد الأعلم و يظهر منه (قدس) و من غيره كونهما من المسائل الأصولية فتأمل.

و ان أبيت عن كونهما من المسائل الأصولية لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام الكلية كما أشير إليه في المستمسك ففيما ذكرناه من جريان التقليد في شرائط حجية قول المجتهد كفاية فتدبر «1».

و بالجملة كل ما يحوج المكلف الى دق باب الشارع لتعيين ما هو وظيفته و استعلام حكمه سواء كان أولا و بالذات حكما شرعيا أو مستتبعا له فهو مما يجرى فيه التقليد و كلما لا يكون كذلك لا يجرى فيه التقليد.

نعم كثيرا ما لا تكاد ينتفع التقليد في المسئلة الأصولية في مقام العمل لعدم تمامية مجاريها فعند ذلك لا يكاد يصح التقليد فيه.

فتحصل ان إطلاق القول بعدم جريان التقليد في المسائل الأصولية كالقول بالجريان لا يركن الى ركن وثيق.

فمن نقح له المجتهد مجرى المسئلة الأصولية، أو كان للمقلد عرفان ببعض الموازين الا انه مثلا لا يقدر معرفة ان الأصل الثانوي في تعارض الخبرين التخيير أو التوقف و لكن يمكنه استظهار حكم المسئلة من ظاهر أحد الخبرين، أو افرض انه كان مفاده نصا في المراد فيصح له التقليد فيما لا يقدر معرفته.

يؤيد ما ذكرنا ما يقال ان الغالب في أهل الخبرة الذين هم المرجع في مثل هذه الأمور هو عدم اجتهادهم في جميع ما يرتبط الى تشخيصهم، بل يراجعون في بعضها الى آراء الغير هذا الطبيب و هذا المهندس و هذا الفيلسوف فتريهم في تشخيص ما يرتبط بارائهم و تشخيصاتهم يراجعون الى آراء الغير كثيرا فليكن الفقيه من

أحدهم.

أضف الى ما ذكرنا ان الفقهاء المجتهدين يعتمدون في مقدمات الاستنباط من اللغة، و الصرف، و النحو و المنطق و البلاغة و الرجال و غيرها الى خبراء تلك العلوم

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 104

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 435

..........

______________________________

من غير نكير، و ليس لهم اجتهاد فيها، و قلما يوجد فقيه يكون مجتهدا و ذا رأى في مسائل تلك العلوم، و لو أراد مجتهد الاجتهاد في جميع ذلك لا يكاد يحصل ذلك لغير الأوحدي إلا بعد مضى سنين متمادية قلما يمكن وصول أعمارهم إليها فتأمل.

و بما ذكرنا يظهر ان دعوى انصراف أدلة التقليد عن المسائل الأصولية غير وجيه، و يكون أخذ الشخص نتائج مسائل أصول الفقه عن الأصولي كأخذه معاني الكلمات اللغوية عن اللغوي و الاعراب و البناء عن النحوي و الصرفي غير مضر باجتهاده و تطبيقه الكبريات على الصغريات و استنباط الأحكام الشرعية منها و يصح العمل بما استنبطه و اجتهده بل يصح للغير العمل بفتياه.

تفرقة بعض الأساطين في تقليد المجتهد بين عمل نفسه و بين رجوع الغير اليه و دفعها

و بما ذكرنا يظهر ما عن بعض الأساطين دام ظله كما في تقريري بحثه من انه لا يجوز للغير تقليد من يكون كذلك بلحاظ أن النتيجة تتبع أخس المقدمتين فهو و ان كان مجتهدا في الفروع و متمكنا من استنباطها الا انه مقلد في الأصول و معه ينتهى الحكم الفرعي المستنبط الى التقليد فهو متوسط بين المجتهد و المقلد و لم يقم دليل على حجية النظر في مثله «1».

توضيح النظر لائج مما ذكرنا بعد تعارف بناء العقلاء و سيرتهم على المراجعة في مثل هؤلاء الخبراء و أكثر الفقهاء و المجتهدين كسائر الخبراء لم يكونوا مجتهدين في جميع مبادي الاستنباط و مقدماتها

مع انه يصح المراجعة إليهم بلا نكير فليكن الاستناد الى آراء الأصول في المسائل الأصولية كذلك فيصح الاستناد إليها فيما استنبطه فتدبر.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 250 التنقيح ج 1/ 416

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 436

دفع ظهور الثمرة في النذر و شبهه

______________________________

و اما حديث ظهور الثمرة التي أشار إليها سيد مشايخنا «1».

فنوقش أولا: بأن متعلق النذر لا بد و ان يكون راجحا فأي رجحان يكون في تقليده بان الترتب مثلا ممكن أو محال، أو ان الظاهر حجة أم لا و هكذا.

و ثانيا: انه لا تقع المسئلة الأصولية محلا لابتلاء العامي لأن ما يقع محلا لابتلائه انما هو المسئلة الفرعية فمن نذران يأتي بواجب و كان نظر المجتهد ان مقدمة الواجب واجبة شرعا فاكتفى بإتيان المقدمة (لبر) نذره لم يكن ذلك من التقليد في المسئلة الأصولية بل في المسئلة الفرعية.

استدراك من بعض الأساطين و دفعه

بقي الكلام فيما استدركه بعض الأساطين دام ظله من عدم صغرى للمسئلة و حاصله:

انه لا يكاد يمكن تحقق شخص يكون مجتهدا في الفروع الفقهية من دون ان يكون قادرا على الاستنباط في المسائل الأصولية حتى يصح ان يقال بجواز التقليد فيها و ذلك لان الاجتهاد في الأحكام الشرعية ليس بأهون من الاجتهاد في المسائل الأصولية لأنه إن فرضنا ان الشخص يتمكن من الاستنباط في الفروع و تطبيق الكبريات على صغرياتها فلا مناص من ان يكون متمكنا من الاجتهاد في المسائل الأصولية أيضا و ان لم يتصد لاستنباطها و قد تقدم ان واجد الملكة ليس له التقليد فيما يتمكن من الاجتهاد «2».

و فيه: ان غموضة بعض المسائل و سهولتها مما لا يخفى و قد اعترف دام ظله بإمكان التجزي في الاجتهاد بل تحققه فمن لم يبلغ مرتبة عالية من العلم و كان له قوة ضعيفة من الاجتهاد فيمكنه الفحص عن الأدلة و الاستظهار منها و الجمع و التوفيق

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 114

(2) التنقيح ج 1/ 416

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص:

437

..........

______________________________

بينها و نحوها مما يكون دخيلا في استنباط الحكم الفرعي فإذا كان استخراج حكم مسئلة منوطا بمعرفة مسئلة الترتب، أو مثلا الأمر بالشي ء المقتضي للنهى عن ضده. أو اجتماع الأمر و النهى، أو مقدمة الواجب و نحوها من المسائل الأصولية الغامضة التي يصعب معرفة مغزاها لغير الأوحدي من الفقهاء فحيث انه غير متمكن معرفة مثل تلك المسائل فيقلد المجتهد الفحل فيها مع ملاحظة سائر ما يرتبط باستنباط الحكم الشرعي فيستخرج الحكم الفرعي.

التقليد في مبادي الاستنباط

وقع الخلاف أيضا في جريان التقليد في مبادي الاستنباط من النحو، و الصرف و الرجال و غيرها.

صرح الماتن و ثلة من المعلقين (قدس اللّه أسرارهم) على عدم جريان التقليد فيها و فصل سيد مشايخنا (قدس) بين ما يقع في طريق استنباط الحكم الكلى فلا يجرى فيه التقليد و بين ما يقع في طريق تطبيق الحكم الكلى و تشخيص موضوع الإفتاء و تعيين المأمور به عن غيره كمسائل النحو و الصرف المحتاج إليها في تصحيح القراءة، و الذكر، و الأذان، و الإقامة و صيغ العقود الى غير ذلك فيصح التقليد «1».

توجيه لعدم جريان التقليد فيها مبادي الاستنباط و دفعه

يوجه لعدم جريان التقليد فيها كما عن بعض الأساطين دام ظله بان هذه المسائل ليست مما يرجع فيه الى أهل الخبرة لأنها ترجع إلى إثبات الظهور في الكلام في معنى خاص، و الظهور العرفي لا يثبت بفتوى أحد و من هنا قلنا بعدم حجية قول اللغوي فيما يذكره في تفسير معنى اللفظ «2».

و بالجملة مبادي الاستنباط من الأمور الحسية التي لا يحتاج فيها إلى الدقة و الاستنباط لأنها راجعة إلى إثبات الظهور و لا سيرة على رجوع الجاهل الى العالم

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 104

(2) الدروس ج 1/ 250

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 438

..........

______________________________

في مثلها، فإذا بنى اللغوي أو غيره على ان اللفظة المعينة ظاهرة في معنى كذا بحدسه و اجتهاده لم يجز اتباعه فيه، و من هنا قلنا في محله ان اللغوي لا دليل على حجية قوله و نظره هذا في القواعد الأدبية و كذلك الحال بالنسبة إلى علم الرجال لأن العدالة و الوثاقة من الأمور المحسوسة و الاخبار عنها حدسا ليس بمورد التقليد ابدا «1».

أضف

الى ذلك ان بناء الفقهاء على التعرض لبعض المسائل الأدبية المختلف فيها عند الاستنباط مثل كون (الواو) مثلا لمطلق الجمع أو للترتيب كما عن الفراء في أية الوضوء فرأى الواو فيها للترتيب.

مع انصراف أدلة التقليد عن المجتهد الذي تبع غيره و لو في مسئلة أدبية.

و لو وصلت النوبة إلى الشك و دار الأمر بينه و بين غيره ممن اجتهد في المبادي فمقتضى الأصل التعيين.

قلت: اما ما افاده دام ظله من عدم المراجعة في مثل ذلك الى الأهل الخبرة فمخالف لما هو المحسوس من دراسة الطلاب و تحمل المشاق في معرفتها فتريهم يراجعون الى كتب مثل ابن الحاجب أو الرضى أو ابن مالك و نظرائهم و يستندون الى آرائهم في التلفظ بتراكيب الجمل.

و مجرد تعرض الفقهاء لبعض المسائل أحيانا لإثبات الظهور بعد الشك في المراد لا دليل على عدم اعتنائهم بآراء خبراء الفن و أئمة الأدب عند الخواص.

مع ان الظهور يثبت بفتوى أهل الخبرة فترى ان الشخص يرجع الى أئمة أهل الأدب و يأخذ معنى اللفظ حسبما فسروه و بينوه من غير نكير فربما لا يطمأن بما فسروه، فاذا المجتهد إذا رأى ثلة من اللغويين يفسرون لفظا بمعنى و لم يكن له حجة على خلافهم لم يجز له بناء الحكم الشرعي المعلق عليه على خلاف آرائهم- و ان لم يظن بارائهم- و لم يكن معذورا في مخالفة الأمر إذا اعتذر بأني لم افهم من الأمور ما فهمه العرف و اللغة و لعله واضح لا سترة فيه.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 414

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 439

..........

______________________________

و بما ذكرنا يظهر ان دعوى انصراف أدلة التقليد عن المجتهد الذي يتبع غيره و لو

في مسئلة أدبية خلاف ما يشهده العرف فتريهم يراجعون الى مثله بلا نكير.

و اما التفصيل الذي ذكره سيد مشايخنا فبالنسبة الى عدم جريان التقليد بالنسبة الى ما يقع في طريق استنباط الحكم الكلى فيظهر ضعفه مما ذكرنا في جريان التقليد في المسائل الأصولية.

و ليت شعري أي فرق بينها و بين ما يقع في طريق تطبيق الحكم الكلى فكما يصح التقليد في طريق تطبيق الحكم الكلى فكذلك يصح في طريق استنباط الحكم الكلى فتدبر.

التقليد في الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية، و الموضوعات الصرفة

المراد بالموضوع المستنبط العرفي، أو اللغوي هو الموضوع العرفي أو اللغوي الذي جعل موضوعا لحكم و لم يحده الشارع فاختلف العرف و اللغة في ذلك كالصعيد و الغناء، و الكنز، و الوطن، و الكعب، و الانية، و المفازة الى غير ذلك.

صرح الماتن (قدس) بعدم جريان التقليد فيها، و يظهر من بعض المعلقين جريان التقليد فيها، كما يظهر من ثالث ان عدم جريان التقليد فيها إذا لوحظت بلحاظ نفسها و اما بلحاظ ما يترتب عليها من الأحكام فلا فرق بينها و بين الموضوعات المستنبطة الشرعية، من جريان التقليد فيها.

جريان التقليد في بعض الموضوعات المستنبطة

و لا يخفى ان الموضوع العرفي، أو اللغوي الذي جعل موضوعا للحكم الشرعي تارة يكون مفهومه بحدوده واضحا مبينا لا يحتاج الى النظر و الاجتهاد و اخرى يكون محتاجا إليهما.

و على الأول:- و يعبر عنه بالموضوعات الصرفة- كعنوان الخمر، و الكلب، و الخنزير و إطلاق الماء و إضافته الى غير ذلك من الموضوعات المأخوذة في لسان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 440

..........

______________________________

الأدلة لا مورد للتقليد فيها لوضوحها لدى العامي كالمجتهد فهو و المجتهد فيه شرع سواء و ليس معرفتها متوقفا على البحث و النظر في الأدلة حتى يحتاج الى التقليد فإن أحرزت خارجا يترتب عليها آثارها، و طريق إحرازها أما العلم أو البينة أو غيرهما من طرق إثبات الموضوعات الخارجية.

نعم إذا أخبر المجتهد بمائع انه خمر مثلا يصح الاعتماد عليه من حيث انه مخبر عادل كما في اخبار العامي و هكذا.

و على الثاني: حيث يكون المفهوم منه مشتبها غير معلوم فحيث انه مما لم يعينه الشارع يكون الفقيه و غيره بالنسبة إليه شرع سواء فلا تقليد فيه من حيث نفسه أصلا

كما هو الشأن في سائر الموضوعات العرفية و اللغوية.

الا انه بلحاظ موضوعيته للحكم الشرعي يرجع الشك فيه الى الشك في الحكم الشرعي فيكون المرجع في هذه الموضوعات الى الشك في الشبهة الحكمية التي أمرها بيد المجتهد فيجري فيها التقليد.

و ليت شعري كيف نفى التقليد فيه و لا أظن الالتزام به كيف؟! و قد أدرج الماتن (قدس) و غيره بيان مفهوم هذه الموضوعات في هذا الكتاب و غيره من الرسائل العملية للفتوى و العمل بها و افتى هو و غيره في مثل ان الصعيد هل هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض، أو ان الغناء هل هو الصوت المشتمل على الترجيع أو مع الاطراب، و ان الكنز هل هو مطلق المال المذخور تحت الأرض أو خصوص الذهب أو الفضة منه الى غير ذلك.

فظهران مرجع الشك في الموضوعات العرفية و اللغوية إلى الشك في الأحكام و واضح ان المرجع في الأحكام الشرعية المترتبة على تلك الموضوعات المستنبطة هو المجتهد لأنه من التقليد في الفروع.

التقليد في الموضوعات المستنبطة الشرعية

المراد بالموضوع المستنبط الشرعي هو الموضوع الذي اخترعه الشارع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 441

..........

______________________________

بكيفية خاصة كالصلاة و الصوم و الحج و غيرها.

فان كان الموضوع المجعول معلوما مبينا لا يحتاج الى النظر و الاجتهاد فلا مورد للتقليد، و اما ان لم يكن معلوما بل محتاجا إليهما فيكون موردا للتقليد لأنه لا بد من دق باب الشرع في تعيين مراد الشارع.

نعم بعد معلومية المراد لا يجرى التقليد في مقام تطبيق الكبريات على الصغريات من غير فرق بين كون الموضوع موضوعا شرعيا، أو عرفيا، أو لغويا.

فاذا التقليد في ماهية الصلاة مثلا باجزائها و شرائطها و موانعها لا في تطبيقها

على العمل الخارجي، كما ان التقليد في ان الصعيد مثلا هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض لا في ان هذا مثلا تراب خالص أم لا و هكذا.

و السر في ذلك هو ان تطبيق الكبريات على صغرياتها خارج عن وظيفة المجتهد لأنها أمور حسية يكون المجتهد و المقلد فيها شرع سواء بل ربما يكون العامي أعرف من المجتهد في التطبيقات فلا مورد للتقليد.

نعم يقبل قول المجتهد في التطبيق بلحاظ انه مخبر عادل فان قلنا بثبوت الموضوع الخارجي بإخبار عدل واحد يؤخذ بقوله الا انه لا من باب التقليد بل من جهة حجية خبر الثقة في الموضوعات الخارجية و الا يلزم اعتبار التعدد.

فاذا الفرق بين البابين واضح لا سترة فيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 443

[مسئلة 68- لا يعتبر الأعلمية فيما امره راجع الى المجتهد إلا في التقليد]

اشارة

مسئلة 68- لا يعتبر الأعلمية فيما امره راجع الى المجتهد إلا في التقليد (1) و اما الولاية على الأيتام و المجانين، و الأوقاف التي لا متولي لها، و الوصاية التي لا وصى لها و نحو ذلك (2) فلا يعتبر فيها الأعلمية نعم الأحوط (3) في القاضي ان يكون أعلم في ذلك البلد، أو في غيره مما لا حرج في الترافع اليه.

______________________________

(1) حسب ما علقناه على المسئلة الثانية عشر.

(2) من الحسبيات.

(3) الاولى، نعم إذا كان هناك اعلم منه و اختلفا في الحكم يختار الأعلم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 444

..........

______________________________

أقول: قد عرفت لعله بما لا مزيد عليه ان للفقيه الجامع للشرائط: الإفتاء بما استنبطه من الأحكام الشرعية و قد عرفت مستوفى شرائط المفتي، و قد عرفت عدم اعتبار الأعلمية في حجية الفتوى و انما تعتبر الأعلمية عند ما اختلفت فتواه

مع غير الأعلم و كانت فتوى غير الأعلم مخالفة للاحتياط فلاحظ.

و اما القضاء و فصل الخصومة و رفع النزاع حسب الموازين المقررة في الشريعة المقدسة فقد عرفت أيضا في ذيل المسئلة السادسة و الخمسين مرجعية الفقيه الجامع للشرائط للقضاء و لا يعتبر الأعلمية المطلقة في القاضي من غير نكير و اشكال و الظاهر انه لم يقل به أحد.

نعم الأعلمية الإضافية- اى الأعلمية في بلده أو غيره مما لا حرج في الترافع اليه- و ان قال به ثلة من الأصحاب، و احتياط الماتن (قدس) هناك المراجعة اليه مع إمكان الترافع لديه الا انه قد عرفت ما هو المختار و حاصله.

عدم اعتبار ذلك في الترافع لديه بل يصح الترافع الى كل مجتهد جامع للشرائط و ان لم يكن اعلم من غيره أو كان هناك من هو اعلم منه.

نعم إذا كان هناك من هو اعلم منه و اختلفا في الحكم يختار الأعلم فلاحظ.

و اما الولاية لأمور الأيتام و المجانين كحفظ أموالهم أو بيعها و صرفها في محاوريجهم، و تزويج الصغيرة مع اقتضاء المصلحة، و الولاية على الأوقاف التي لا متولي لها، و الولاية على الوصايا التي لا وصى لها، و مال الغائب المنقطع أثره، و الولاية على الأموات الذين لا ولى لهم، و قبض حصة الإمام عليه السّلام و صرفها في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 445

..........

______________________________

مصارفها المقررة، بل و فوق ذلك من الولاية على مصالح العباد، و سياستهم و ادارة بلادهم.

فهل يعتبر الأعلمية فيها أولا؟ وجهان:

فالمشهور بين أصحابنا منهم الماتن و ثلة من المعلقين العدم، و يظهر من بعض الأساطين دام ظله المناقشة في جواز تصدى الفقيه الجامع للشرائط لها فقال

و الأحوط في مثل تلك الأمور الحسبة- و هي التي لا يرضى الشارع بتركها و لم يعلم مطلوبيته من شخص- عدم التعدي من الأعلم مع التمكن من الوصول إليه لأنه القدر المتيقن من أدلتها التي هي الإجماع و الضرورة.

و الذي دعاه دام ظله الى ذلك مناقشته فيما استدل به لإثبات الولاية للفقيه في عصر الغيبة لغير الفتوى و القضاء هذا ما يستفاد من أحد تقريريه «1».

و يظهر من تقريره الأخر: ان الولاية لم يثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل و انما هي مختصة بالنبي و الأئمة صلوات إله عليهم بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران نفوذ قضائه و حجية فتواه و ليس له التصرف في مال القصر أو غيره مما هو من شئون الولاية إلا في الأمر الحسبى فان الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله و انعزال وكيله بموته و ذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن و حاصل ما أفاده في ذلك.

هو ان الأمور الحسبة على قسمين.

فقسم منهما يكون الأصل الجاري فيها الاشتغال- كما في التصرف في الأموال و الأنفس و الاعراض- و القسم الأخر يكون الأصل الجاري فيها البراءة كما في الصلاة على الميت الذي لا ولى له.

فقال في القسم الأول: ان الأصل عدم نفوذ تصرف أحد في مال غيره، أو نفسه، أو عرضه الا ما علم رضي الشارع به و القدر المتيقن في مثل تلك الأمور

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 252

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 446

..........

______________________________

الحسبة التي لا بد من وقوعها في الخارج هو الفقيه الجامع فله جواز التصرف فيها دون الولاية.

و من هذا القبيل التصرف في

سهم مبارك الامام عليه السّلام لأنه مال الغير و لا يسوغ التصرف فيه الا باذن الفقيه الجامع و ذلك لأنه بعد ما علم عدم وجوب بل عدم جواز دفنه، أو إلقائه في البحر، أو توديعه عند الأمين لاستلزامه تفويت ماله و لا يرضى به عليه السّلام يقينا و علمنا بان التصرف سائغ يقع الكلام في ان التصرف في سهمه عليه السّلام في العلم برضاه هل هو الفقيه الجامع أو غيره و القدر المتيقن منه هو الفقيه الجامع لعدم احتمال اذن الشارع لغير الفقيه دون الفقيه، فلا بد و ان يكون التصرف في سهمه عليه السّلام باذنه.

و لكن استدل دام ظله و رأى اعتبار الأعلمية في متصدي تلك الأمور، مع الفرق بين سهم الامام عليه السّلام و مثل الولاية على مجهول المالك، و مال الغيب و القصر من المجانين، و الأيتام و الأوقاف التي لا متولى لها و الوصايا التي لا وصى لها و غيرها من الأمور الحسبة في ارجاء العالم فرأى اعتبار الأعلمية المطلقة في التصرف في سهمه عليه السّلام، و اما ما في سائر الأمور فالاعلمية الإضافية، و حاصل ما أفاده في اعتبار الأعلمية الإضافية هو.

انه من المستحيل عادة قيام شخص واحد عادى للتصدى بجميع تلك الأمور على كثرتها في الأماكن المختلفة من الربع المسكون، كما ان المراجعة من ارجاء العالم في الأمور الحسبة إلى شخص واحد في مكان واحد من البلدان غير ميسور للجميع.

مع انه لو كانت الأعلمية المطلقة معتبرة لكان اللازم الإشارة إلى اعتبارها، و لو في رواية واحدة مع انه لم يكن فيها عين و لا اثر.

مع انه لم يلتزم به الأصحاب فاعتبار الأعلمية المطلقة غير محتملة بتاتا.

نعم مقتضى القاعدة التي

أشرنا- من عدم نفوذ تصرف أحد في مال غيره أو

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 447

..........

______________________________

نفسه أو عرضه الا ما علم رضي الشارع به- و القدر المتيقن في مثل تلك الأمور عند دوران الامر بين تصدى اعلم البلد و ما حوله من النقاط التي يمكن الرجوع منها الى ذلك البلد في تلك الأمور و بين غيره من الفقهاء هو الأعلم، و الأعلم الإضافي هو القدر المتيقن ممن يحتمل جواز تصرفه في تلك الأمور.

و اما في التصرف في سهم الامام عليه السّلام فحيث انه لا مانع من الرجوع فيه الى الأعلم المطلق و إيصال سهمه عليه السّلام اليه و يمكنه صرفه في محاويج الأمة الإسلامية و لو بوسائط في ارجاء العالم فالأحوط لو لم يكن أقوى اعتبار الأعلمية المطلقة في أخذ سهمه عليه السّلام.

و اما في القسم الثاني: فقال ان الأصل البراءة، لأن الصلاة على الميت المسلم واجب كفائي على كل مكلف و مقتضى الأصل عند الشك في اشتراطها بإذن الفقيه البراءة، فيصح الصلاة عليه بلا اذن من الفقيه اه كلامه ملخصا «1».

قلت: و في كلامه دام ظله مواقع للنظر

منها: ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة فتنحل العقدة- و لعل ثبوتها له في الجملة من الواضحات التي لا ينبغي البحث حولها و البحث الايق ينبغي ان يكون في حدود ولايته، و قد وقع الخلاف بينهم في ذلك فمنهم من لم ير للفقيه ولاية غير ولاية الفتوى و القضاء في عصر الغيبة، و منهم من يرى ان له الولاية المطلقة على أمور المسلمين من بيت المال إلى إجراء الحدود، بل على أنفسهم إذا اقتضت الحكومة التصرف فيهم، فيرى ان للفقيه في الجهات المربوطة كل ما

كان للنبي و الأئمة صلوات اللّه عليهم، و القولان في جانبي التفريط و الإفراط.

و نحن بمناسبة تعرض المصنف (قدس) في هذه المسئلة- لتصدي الفقهاء ولايتهم غير الفتوى و القضاء في عصر الغيبة- ألقينا على الأعزاء الحاضرين مباحث جليلة نفيسة حول مسئلة ولاية الفقيه و حدودها و تعرضنا الأقوال فيها و ما يستدل لها

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 424

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 448

..........

______________________________

و لدفعها. و بيان حدود ولايته المختارة، فصار البحث طويل الذيل بحيث لم يلائم إيرادها في ذيل المسئلة فانقدح في الذهن إيرادها بصورة مستقلة لتكثر نفعها و تعم فائدتها فهيئتها لذلك و سميتها بالحجة العليا في ولاية الفقهاء، و هي هاجزه للطبع، و كان القصد طبعها منضمة بهذا الكتاب الان ان سعة نطاقه، و بعض ما لا يلائم ذكره حال بيننا و بين امنيتنا و الأمور مرهونة بأوقاتها فنستدعى من جنابه تعالى ان يوفقني بمنه و كرمه في المستقبل القريب طبع الرسالة و عرضها بين أنديه رواد العلم انه خير موفق و معين.

و منها: انه قد اعترف دام ظله بثبوت منصب القضاء و الحكم و قد عرفت ان تصدى الأمور الحسبة من شئون القضاء فلا يحتاج الى جعل أخر كما توهم دام ظله و قد تقدم قضية تصدى عبد الحميد أمر الميت فلاحظ، و قد عرفت جواز تصدى الفقيه الجامع للشرائط للقضاء و ان لم يكن اعلم.

و منها: ان مقتضى ولاية الفقيه للأمور ليس تصديه لجميع الأمور بنفسه بل باشراف منه و لو بتفويض كل أمر إلى أهله من الأشخاص و المؤسسات مع رعاية التخصص و الامانة فيهم و يكون هو مشرفا عليهم هاديا لهم مراقبا لهم

بعيونه و أياديه مسؤلا عن أعمالهم لو تساهلوا أو قصروا.

فعلى هذا يمكن أشراف فقيه واحد متضلع أمور حسبة جميع أنحاء العالم و نظارته جسما ذكرنا، و يمكن ان يكون له و كلا، في أنحاء العالم يباشرون تلك الأمور فحديث عدم اعتبار الأعلمية المطلقة للوجه الذي ذكره غير وجيه.

و منها: اشكاله لعدم اعتبار الأعلمية المطلقة بعدم عين و لا اثر لها و لو في رواية واحدة فلو تم اشكاله نقول بعينه التصرف في سهم الامام عليه السّلام فلو كانت الأعلمية المطلقة معتبرة فيه لكان اللازم الإشارة إلى اعتبارها و لو في رواية واحدة مع انه لم يكن فيها عين و لا اثر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 449

..........

______________________________

و منها: قوله دام ظله- انه لم يلتزم الأصحاب بالأعلمية المطلقة في ذلك فلو كان ذلك وهنا في المقال نقول بعينه في التصرف في سهم الامام عليه السّلام فإنه لم يلتزم الفقهاء بالأعلمية المطلقة في أخذه و انما حدث القول بها في اعصارنا المتأخرة لبعض مصالح لا يخفى على اللبيب.

و منها: ان لزوم إيصال سهمه عليه السّلام الى فقيه واحد لعله نحو تضييع لحقوق سائر الفقهاء العدول كما لا يخفى و يوجب ان تكون اياديهم مغلقة على أعناقكم.

و منها: قوله دام ظله: ان القدر المتيقن في صرف سهم الامام عليه السّلام مع العلم برضاه عليه السّلام هو الفقيه الجامع أو الأعلم ففيه انه مع العلم برضاه عليه السّلام في صرفه في مورد لا يحتاج إلى إذن الفقيه فضلا عن كونه اعلما مع انه خلاف ما حكى عنه دام ظله في كتاب الخمس فلاحظ كتاب الخمس.

و بالجملة إذا علم رضي الإمام عليه السّلام صرف حصته

المباركة في مورد فلا يحتاج إلى إجازة الفقيه كما هو الشأن في التصرف في أموال غيره عليه السّلام.

و منها: ان القدر المتيقن في صرف سهمه عليه السّلام هو صرف في جهة أو جهات يكون أقرب الى نظره الشريف و شيمته المرضية و مراداته الانيقة فقد يكون ذلك من فقيه واجد للشرائط غير معروف فضلا عن المعروف فما ظنك من الأعلم و ربما يرى انه قد لا يراعى من الأعلم بلحاظ كثرة ابتلائه و هجوم مراجعاته و ضعف مزاجه الجهات المقتضية لإحراز رضي الإمام عليه السّلام مأة بالمائة في إيصال سهمه الى الموارد المقررة و اللّه هو الموفق و المعين.

إذا أحطت خبرا بما ذكرناه ظهر لك ضعف ما افاده سيد مشايخنا فإنه (قدس) ناقش في دلالة الأدلة على إثبات الولاية للفقيه و قال ان العمدة في إثبات الولاية هي ما دل على كون المجتهد قاضيا و حاكما الظاهر في ثبوت جميع ما هو من مناصب القضاة و الحكام له معللا بان ثبوت ولاية المجتهد فيه انما تكون من جهة العلم بإذن الشارع في التصرف، أو عدم رضاه بتركه و إهمال الواقعة، لكن الدليل المذكور لما كان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 450

..........

______________________________

لبيا تعين الاقتصار على المتيقن و هو ولاية الأعلم عند التمكن منه كالاقتصار على المتيقن و هو ولاية المجتهد عند التمكن منه فالعمدة إذا في عدم اعتبار الأعلمية ظهور الإجماع عليه اه «1».

توضيح النظر لائح مما ذكرناه في كلام بعض الأساطين دام ظله.

و قريب من مقالهما ما في كلام غيرهما من الأعلام يظهر حاله مما ذكرنا في مقالهما.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 106

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 2، ص: 451

[مسئلة 69- إذا تبدل رأى المجتهد هل يجب أعلام المقلدين أم لا؟]

مسئلة 69- إذا تبدل رأى المجتهد هل يجب أعلام المقلدين أم لا؟ فيه تفصيل، فان كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فالظاهر عدم الوجوب، و إن كانت مخالفة له (1) فالأحوط الأعلام بل لا يخلو عن قوة

______________________________

(1) و كانت الفتوى حكما إلزاميا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 452

..........

______________________________

أقول: يظهر وجه حكم المسئلة مما ذكرناه في ذيل المسئلة الثامنة و الأربعين و حاصله:

اما عدم وجوب الأعلام إذا كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فواضح و اما وجوب الأعلام فيما إذا كانت الفتوى السابقة مخالفة للاحتياط فلأجل ان إبقاء المقلدين على غفلتهم و عدم إعلامهم بتبدل رأيه يعد تسبيبا منه في وقوعهم بخلاف الواقع بقاء و ان كان قبل تبدل الرأي معذورا.

و بالجملة ابقائهم على فتواه السابقة إغراء منه إياهم في الجهل، و إيقاع إياهم في الجهالة فيكون الوزر عليه فالأحوط الأعلام بل لا يخلو عن قوة.

و لا فرق في ذلك بين كون سكوت المجتهد عن الإعلام إمضاء لها و بين ما لم يكن كذلك خلافا لما عن بعض الأساطين دام ظله ففرق بينهما و قال:

إذا كان سكوت المجتهد عن الإعلام إمضاء لها- كما إذا فرضنا ان المقلد يترك السورة في الصلاة بمحضر منه و هو لا يأمر بإتيانها- فيجب الإعلام لأنه إغراء بالجهل و يكون الوزر عليه، و اما إذا لم يكن كذلك فلا دليل على الوجوب لاستناده في الفتوى السابقة إلى الحجة و استناد المقلد بقاء اما الى اعتقاده عدم تبدل رأى المجتهد أو الى الاستصحاب و ذلك لا يوجب نسبته الى المجتهد ما لم يكن سكوته إمضاء للفتوى السابقة اه «1».

و ذلك لأنه في كلتا

الصورتين يعد عرفا وقوع المقلدين في خلاف الواقع تسبيبا منه و موجبا لوقوعهم في خلاف الواقع بقاء و ان كان الأمر فيما إذا كان بمرأى منه أفحش فتدبر.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 253

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 453

[مسئلة 70- لا يجوز للمقلد إجراء أصالة البراءة]

مسئلة 70- لا يجوز للمقلد إجراء أصالة البراءة، أو الطهارة، أو الاستصحاب في الشبهات الحكمية (1)، و اما في الشبهات الموضوعية فيجوز (2) بعد ان قلد مجتهده في حجيتها مثلا إذا شك في ان عرق الجنب من الحرام نجس أم لا ليس له إجراء أصل الطهارة لكن في ان هذا الماء أو غيره لاقته النجاسة أم لا يجوز له إجرائها بعد ان قلد المجتهد في جواز الإجراء.

______________________________

(1) ان لم يمكنه تشخيص موارد الأصول و الفحص عن المعارض كما هو الغالب في المقلدين، فان تمكن من ذلك بان كان له مرتبة من العلم فلا مانع من إجرائه بالنسبة إلى تكليف نفسه و قد تقدم.

(2) و ان كان إجراء الأصل بعد الفحص في مثل الموضوعات التي يكون إجراء الأصل فيها قبل الفحص موجبا للوقوع في خلاف الواقع كثيرا كالشك في حصول الاستطاعة أو النصاب أو غيرهما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 454

..........

______________________________

أقول: اما عدم جواز اجراء المقلد أصالة البراءة أو الطهارة أو الحلية، أو استصحابهما أو غيرهما في الشبهات الحكمية فلان إجراء الأصول الحكمية مبني على عدم الدليل الاجتهادي في مورده و المقلد عاجز عن ذلك، و مشروط بعدم وجود أصل حاكم هناك و المقلد غير عارف به، و منوط بالفحص عن الأدلة و هو غير قادر عليه.

و بالجملة إجراء الأصول العملية في الشبهات الحكمية مشروط بالفحص و اليأس

عن الدليل الاجتهادي و الأصل الحاكم في مورده و المقلد عاجز عن ذلك كله و المشروط ينتفي بانتفاء شرطه.

فلو فرض مقلد امكنه تشخيص موارد الأصول و امكنه الفحص عن المعارض كما إذا كان من أهل العلم- فيصح له إجرائها.

و قد تقدم الكلام في حكم التقليد في المسئلة الأصولية في ذيل المسئلة السادسة و الستين ماله نفع للمقام فلاحظ.

هذا في إجراء الأصل في الشبهات الحكمية.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 2، ص: 454

و اما إجراء الأصل في الشبهات الموضوعية فحيث انه لا يجب فيها الفحص للإجماع و لا يجرى فيه شي ء من المحاذير الجارية في إجراء الأصول الحكمية فيجوز له إجرائها من دون مراجعة المقلد في ذلك نعم لا بد و ان يكون ذلك بعد ان قلد المجتهد في جواز الاجراء و حجيتها و بيان موردها و لعل ذلك واضح إلى النهاية.

نعم في جريان الأصل في بعض الموضوعات المشتبهة و ان كان مشروطا بالفحص- و هو كل ما كان إجراء الأصل فيها قبل الفحص موجبا للمخالفة الكثيرة- كالشك

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 455

..........

______________________________

في حصول الاستطاعة و النصاب في الزكاة و نحوهما الا انه مع لزوم الفحص في مثل هذه الموضوعات لا يستلزم اى محذور في إجرائه لان منشأ الشك فيها اشتباه الأمور الخارجية فيحاسب أمواله و بعد المحاسبة و الفحص إذا بقي الشك تجري أصالة البراءة كما لا يخفى و هذا بخلاف الشبهات الحكمية فإن منشأ الشك فيها هو فقدان النص، أو إجماله،

أو تعارضه و هو عاجز عن البحث و الفحص عنه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 457

[مسئلة 71- المجتهد غير العادل، أو مجهول الحال لا يجوز تقليده]

مسئلة 71- المجتهد غير العادل، أو مجهول الحال لا يجوز تقليده (1) و ان كان موثوقا به في فتواه، و لكن فتواه معتبرة لعمل نفسه، و كذا لا ينفذ حكمه و لا تصرفاته في الأمور العامة و لا ولاية له في الأوقاف و الوصايا، و أموال القصر، و الغيب

______________________________

(1) اى لا يصح الاستناد إليه في مقام العمل و يكون عمله كالعمل بلا تقليد نعم في مجهول الحال مثلا لو استند اليه في مقام العمل فانكشف كونه عادلا يصح الاجتزاء بما اتى به، و هكذا الكلام في القاضي و متولي الأمور الحسبة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 458

..........

______________________________

أقول: الوجه فيما افاده (قدس) واضح لما تقدم من اشتراط العدالة في مرجع التقليد و القاضي، و المتولي للأمور العامة و الحسبة فلا بد من إحرازها في كل واحد منهم فعند إحراز عدمها هناك، أو عدم إحرازها لا يترتب عليه شي ء من الأحكام المذكورة.

و معنى عدم الجواز عدم صحة استناد المقلد بها في مقام العمل و يكون عمله كالعمل بلا تقليد، فعند عدم الإحراز في مجهول الحال مثلا لو استند اليه في مقام العمل و اتى به فانكشف كونه عادلا يصح الاجتزاء بما عمل به، و كذا القاضي المجهول إذا حكم بحكم فانكشف عدالته يكون حكمه نافذا، و كذا الكلام في التولية في الأمور العامة و الحسبة فتدبر.

و اما حجية فتواه بالإضافة إلى عمل نفسه فلا يعتبر ان يكون عادلا فيكون ما استنبطه حجة بينه و بين اللّه تعالى و يصح تطبيق

عمله على ما استنبطه، و السر في ذلك هو شمول إطلاق أدلة الأحكام للفاسق كما يشمل العادل.

و بالجملة أدلة الواقع و العمل بالطرق المجعولة، أو المنجعلة في عمل المكلف نفسه غير مشروط بإسلامه نعم الإسلام شرط في صحته كما ان الفسق مانع عن قبول العمل لقوله تعالى إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اللّٰهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1».

______________________________

(1) المائدة: 5/ 27

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 459

[مسئلة 72- الظن بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفى]

مسئلة 72- الظن بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفي في جواز العمل الا إذا كان حاصلا من ظاهر لفظه شفاها، أو بلفظ الناقل (1)، أو من ألفاظه في رسالته (2)، و الحاصل ان الظن ليس حجة إلا إذا كان حاصلا من ظواهر الألفاظ (3) منه أو من الناقل.

______________________________

(1) إذا كان موثوقا به

(2) المأمونة من الغلط

(3) أو من طريق معتبر فله الحمد و المنة تمت التعليقة على مسائل التقليد من كتاب العروة الوثقى ليلة الأحد سادس شهر ذيحجة الحرام من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و ست و تسعون (1396) هجرية قمرية و انا الراجي رحمة ربه محمد حسن المرتضوي اللنگرودي عفى عنه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 460

..........

______________________________

أقول: اما عدم الكفاية في العمل بالظن فلما تقرر في محله من ان الأصل حرمة العمل بالظن عقلا، و شرعا الا مادل الدليل على اعتباره بالخصوص.

و مما دل على خروجه عن الأصل و دلت السيرة القطعية على العمل به هو الظن الحاصل من ظواهر الألفاظ- سواء كان حاصلا من لفظ المجتهد شفاها، أو من رسالته المأمونة من الغلط أو من لفظ الناقل مشافهة إذا كان موثوقا به، أو كتابة إذا كانت مأمونة من

الغلط.

فالظن ليس حجة في مورد من الموارد إلا إذا كان حاصلا من ظواهر الألفاظ أو من طريق معتبر.

هذا آخر ما أردنا تسويد الأوراق فيما يتعلق بشرح فروع التقليد من كتاب العروة الوثقى المسمى بالدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد و ما توفيق الا باللّه و له الحمد و الشكر على ما وفقنا لإتمامه كما وفقنا للشروع فيه، و قد وقع الفراغ من تسويده ليلة السبت خامس شهر ذيحجة الحرام من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و ست و تسعون (1396) هجرية قمرية.

و له الشكر على ما وفقني لتحريره بعد مضى سنين متمادية فربما أضفت على ما سودته، أو أسقطت عنه، و ربما قدمت بعض المطالب أو أخرته، و على اى حال صار ما سودته و حررته بحمد اللّه بصورة يكون بين يديك فان كان مقبولا فهو من فضله و كان الفراغ من تحريره في عبد اللّه الأكبر يوم كمل فيه دين اللّه و هو عيد غدير خم و هو يوم الاثنين ثامن عشر شهر ذيحجة الحرام من سنة ألف و أربعمائة واحد عشر (1411) هجرية قمرية و من لطيف التصادف تقارن ختام طبع الكتاب مع عيد غدير خم من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 2، ص: 461

..........

______________________________

سنة 1412 فنشكر اللّه على هذه الموهبة فلله الحمد أولا و آخرا كتبه بيمناه الداثرة الراجي رحمة ربه المتمسك بولاية أمير المؤمنين و أولاده المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين السيد محمد حسن المرتضوي بن فقيه أهل البيت المدافع عن حريمهم بحيث لم يأخذه في ذلك لومة لائم آيت اللّه العظمى السيد مرتضى الحسيني اللنگرودي تغمده اللّه بغفرانه، و كان الفراغ منه في حرم

أئمة أهل البيت عش آل محمد قم المحمية، كما كان البدء فيها اللهم صنها عن الحوادث و الآفات، و أرجو من فضله تعالى ان يتقبل بضاعتي المزجاة بقبول حسن و ان يجعله من حسنات أعمالي، و ذخيرة لي و لوالدي يوم فقرنا و فاقتنا، و يوفقني لطبع سائر الاجزاء من شرحنا المبسوط على كتاب القيم العروة الوثقى انه خير موفق و معين آمين يا رب العالمين، و كان الفراغ من طبع هذا الجزء في أوائل العشر الثالث من شهر ذيحجة الحرام من سنة 1412 ه ق.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.